[align=justify]
1 الأذان رتبة سُنيِّة انتخب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بلالاً لنداوة صوته. ولم ينقل لنا أحدمن الصحابة ممن سمعه يؤذن تلك المدة المتطاولة أنه حكى هذه اللثغة في حرف الشين، ولوكانت فيه لتوفرت الدواعي على نقلها، فإن مثلها لا يُسكت عنه.
وأول من تكلم عن لثغة بلال، ابن قدامة المقدسي (عبد الله بن أحمد، ت: 620 هـ أحد علماءالمذهب الحنبلي)، حيث ذكر كراهة اللحن في الأذان، واستثنى من هذه الكراهة ما إذا كان المؤذنألثغ لثغة لا تتفاحش، فيجوز حينئذ أذانه استناداً إلى ما روي أن بلالاً كان يقول في أذانه: أسهد،يجعل الشين سيناً (المغني 2 / 90 ) فذكر القصة بصيغة: روي، وهي من صيغ التمريض فيالحديث الشريف، تطلق فيما كان له أصل وإسناد لكنه ضعيف لا تقوم به حجة.
لذلك انتقده علماء الحديث لقوله (روي)، مع أن القصة لا أصل لها في شيء من كتب السنة، فهي من الكذب، وموضوعة يقيناًُ. قال المزي (يوسف بن عبد الرحمن،ت: 742 هـ / 1341 م):اشتهر على ألسنة العوام ولم يرد في شيء من الكتب.وقال ابن كثير (إسماعيل بن عمر، ت: 774هـ / 1372 م): ليس له أصل ولا يصح. وقد ترجم بلالاً غير واحد بأنه كان حسن الصوت حسنه.
وقال القاري (علي بن سلطان محمد، ت: 1014 هـ / 1605 م) ليس له أصل ( انظر: الجدالحثيث في بيان ما ليس بحديث لابن كثير (إسماعيل بن عمر القرشي، ت: 774 هـ / 137م ) رقم 70، المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للسخاوي (محمدبن عبد الرحمن ، ت: 902 هـ / 1496 م) 582، جزء في عدم صحة ما نُقل عن بلال بن رباح رضي الله عنه من إبداله الشين في الأذان سيناً، لمحمد بن محمد الخضيري (ت: 894 هـ / 1488م) ط، دار البشائر الإسلامية، الغمَّاز على اللمَّاز في الأحاديث المشتهرة للسمهودي (علي بن عبدالله، ت: 911 هـ / 1505 م) 128، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي (عبدالرحمن بن أبي بكر، ت: 911 هـ / 1505 م) 498 رقم 209، تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث لابن الديبع الشيباني الزبيدي (عبد الرحمن بن علي، ت: 944هـ / 1537 م) 40 و 92، تذكرة الموضوعات لمحمد طاهر بن علي الفتني الهندي (ت: 986 هـ/ 1578 م) رقم 101، الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة رقم 76 و239 والمصنوع فيالحديث الموضوع رقم 159 كلاهما لعلي بن سلطان القاري (ت: 1014 هـ / 1605 م)، إنسان العيون في سيرة المأمون وتعرف بالسيرة الحلبية لعلي بن إبراهيم الحلبي (ت: 1044 هـ / 1634
م) 2 / 142 باب بدء الأذان ومشروعيته، متابعاً ابن قدامة).
** ** **
والحديث الموضوع يعرف بأمرين: بالعقل والنقل؛ فبالنقل: يعرف بالنظر إلى أسانيده، فإن لم يكنله أصلاً، أي: سنداً، يُحكم عليه بوضعه, أو بمخالفته للأحاديث الصحيحة, أو غير ذلك.
وبالنقل: يُعرف بالنظر إلى معناه.
وعليه، فقول العوام: سين بلال عند الله شيناً، إنما حُكم بوضعه من جهتين: الأولى بالعقل: فمعلوم أن بلالاً أول مؤذن أذن في الإسلام، فكيف يختار رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصاً لايستطيع الكلام للأذان؟
والثانية: مخالفة القصة للأحاديث الصحيحة، ففي حديث الصحابي عبد الله بن زيد الأنصاري (ت: 32هـ) وإسناده صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: قم مع بلال فألق عليه مارأيت فليؤذن به، فإنه أندى منك صوتاً (مسند ابن حنبل 15881، سنن الترمذي 174، سنن أبي داود 421 و430، سنن ابن ماجة 698)، فدلَّ الحديث أن صوت بلال كان ندياًّ، أي عالياً ممتداًفي حُسن، وإلاَّ لما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم للتأذين.
2 وبلال بن رباح، صحابي جليل من السابقين بالإسلام، يقال له: بلال ابن حمامة، وهي أمه، من مولدي مكة من بني جُمَح، وزوجته: هالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف.وقد عُذب في الله تعالى كثيراً بعد إسلامه على يدي أبي جهل (عمرو بن هشام المخزومي)، وأمية بن خلف الجُمحي (قتل كلاهما في معركة بدر سنة 2 هـ)، وكان على ذلك صابراً محتسباً، يقول: أحدٌ أحد. قال سعيد بن المسيَّب (المخزومي، ت: 94 هـ ، من أكابر التابعين، عالم المدينة): كان شحيحاً على دينه، وكان يُعَذب، فإذا أراد المشركون أن يقاربهم، قال: الله الله . وقال ابن إسحاق (محمد بن إسحاق القرشي، ت: 151 هـ): كان أمية (بن خلف) يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على ظهره (سيرة ابن هشام 1 / 262 )، فاشتراه أبو بكر رضي الله عنه فأعتقه، وكان عمر بن الخطاب يقول:أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا (الطبقات الكبير 3 / 174، الاستيعاب 1 / 178، الإصابة 1 / 165، سير أعلام النبلاء 1 / 347).
وكان بلال مؤذناً مع ابن أم مكتوم (عبد الله ابن أم مكتوم، ت: 15 هـ ابن خال السيدة خديجة)، أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم طول حياته حضراً وسفراً، وقيل: إلاَّ يوم أذن أخو صُداء، وصُدَاء: حي من اليمن، ففي حديث الصحابي زياد بن الحارث الصُّدائي (ت: 68 هـ)، أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، كان في بعض أسفاره، فاعتشى الرسول صَلَّى الله عليه وسلم واعتشيت معه - يعني سار أول الليل - وكنتُ رجلاً قوياً، فجعل أصحابه يتفرقون عنه ولزمتُ غَرْزَه، فلما كان في السَّحَر قال: أذِّن يا أخا صُدَاء، قال: فأذَّنت على راحلتي. (والغرز: ركاب الرَّحل، يكون من جلد مخروز، يُعتمد عليه في الركوب، وهو كالسرج للخيل. ولزم غرزه: سار في ركابه، لم يتخلف عنه). وفي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب (ت: 74 هـ): كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فطلب بلالاً ليؤذن فلم يوجد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فأذن، فجاء بلال بعد ذلك، فأراد أن يقيم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنما يقيم من أذن (وكلاهما إسناده ضعيف، والحديث ضعيف، انظر: ضعيف ابن ماجة رقم 152، ضعيف أبي داود رقم 82 و 102، ضعيف الترمذي رقم 32، الضعفاء الكبير للعقيلي 2 / 105، السنن الكبرى للبيهقي 1 / 399 ).
** ** **
ابن السوداء:
3 وقع في قول أبي ذر الغفاري (جندب بن جنادة، ت: 32 هـ) لبلال:يا ابن السوداء، تخليط شديد، فظن بعضهم أن البخاري (محمد بن إسماعيل، ت: 256 هـ) أخرجه في صحيحه. والخطأ منشأه حديث أبي ذر الذي أخرجه البخاري (30) (2545)، ومسلم (1661) (40)، وأحمد بن حنبل (21432)، من طريق التابعي الثقة واصل بن حيان الأحدب (ت: 120 هـ) عن الصحابي المعرور بن سويد الأسدي (ت: 99 هـ)، قال: لقيت أبا ذر بِالربذة (شرق المدينة المنورة، تبعد عنها 170 كم)، وعليه حُلَّة وعلى غلامه حُلَّة، (والحُلَّة: الرداء والقميص وتمامها العمامة، ولا يزال الثوب الجيد يقال له في الثياب حُلَّة، وكل ثوب جيد جديد تلبسه غليظ أو دقيق، يقال لكل واحد منهما على انفراده حُلَّة)، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، ولْيُلْبسْه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم.
وأخرجه البخاري (6050)، ومسلم (1661) (38)، (39)، من طريق آخر عن طريق الأعمش (سليمان بن مهران، ت: 148 هـ ، من تابعي علماء الكوفة الثقات)، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، قال: رأيت عليه بُرْدًا، وعلى غلامه برداً، فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كانت حُلَّةً، وأعطيته ثوباً آخر، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجميةً، فنلت منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: أساببت فلاناً ؟ قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه ؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية. قلت على حين ساعتي: هذه من كبر السن. قال: نعم، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أَخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه.
وأخرجه أبو داود (5157) من طريق الحافظ جرير بن حازم الأزدي (ت: 170 هـ )، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، قال: رأيت أبا ذر بالربذة وعليه بُرْد غليظ وعلى غلامه مثله، قال: فقال القوم: يا أبا ذر، لو كنت أخذت الذي على غلامك فجعلته مع هذا فكانت حُلَّةً وكسوت غلامك ثوباً غيره، قال: فقال أبو ذر: إني كنت ساببتُ رجلاً وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى رسول الله فقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية. قال: إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله.
فالحديث ليس فيه أن الرجل المسبوب بلال بن رباح، ولا في قول أبي ذر: يا ابن السوداء، أنه عنى بلالاً، ومع ذلك جزم أغلب العلماء أنه بلال، وإن ذكر بعضهم ذلك بصيغة التمريض، وذلك من بابة منهج المحدثين في تساهلهم مع الرواية التاريخية، فهم يكثرون من الأخبار المرسلة والمنقطعة مما لا يتصل بالعقيدة والشريعة. قال ابن مهدي (عبد الرحمن بن مهدي البصري، ت: 197 هـ ، وكان لازم الإمام مالك بن أنس (الأصبحي، ت: 179 هـ) فأخذ عنه كثيراً من الفقه والحديث وعلم الرجال فبرع في معرفة الأثر وطرق الروايات وأحوال الشيوخ وأبى الرواية إلا عن الثقات): إذا روينا محمد النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شدَّّدنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال (فتح المغيث 1 / 284 ).
** ** **
عمدة من قال إن بلالاً هو ابن السوداء في حديث أبي ذر:
قال ابن بطال (علي بن خلف البكري، ت: 449 هـ): روى الوليد بن مسلم، عن أبي بكر، عن ضمرة بن حبيب، قال: كان بين أبى ذر وبين بلال محاورة، فعيَّره أبو ذر بسواد أمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أحسب أنه بقى في صدرك من كبر الجاهلية شيء. فألقى أبو ذر نفسه بالأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: والله لا أرفع خدي من التراب حتى يطأ بلال خدي بقدمه. فوطأ خده بقدمه (شرح صحيح البخاري 1 / 87 ) وهذا مرسل ضعيف، فضمرة بن حبيب الحمصي (ت: 130 هـ): تابعي ثقة، لم يحضر القصة. وأبو بكر: هو ابن عبد الله بن أبي مريم الغساني (ت: 156 هـ)، ضعيف، سُرق بيته فاختلط، وله علم وديانة. قال ابن بطال: وما أخاله - أي حديث مسلم بن الوليد- يصح. وقال ابن حجر (أحمد بن علي العسقلاني، ت: 852 هـ): وروى ذلك الوليد بن مسلم منقطعاً (فتح الباري 1 / 86 ). وفي متن رواية الوليد بن مسلم نكارة، وهي قوله: والله لا أرفع خدي من التراب حتى يطأ بلال خدي بقدمه، فوطأ خده بقدمه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ضرب الوجه، كما في حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه (صحيح البخاري رقم 2559، صحيح مسلم رقم 2612)، وفي رواية: إذا ضرب أحدكم، وفي رواية: فليتق الوجه، وفي رواية: فلا يلطمن الوجه (صحيح مسلم رقم 2612)، قال النووي (يحيى بن شرف، ت: 676 هـ) قال العلماء: هذا تصريح بالنهي عن ضرب الوجه؛ لأنه لطيف يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة، وأكثر الإدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها، وقد يشوه الوجه، والشين فيه فاحش؛ لأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره ومتى ضربه لا يسلم من شينٍ غالباً (شرح صحيح مسلم 16 / 165 ). ووطأ بلال خد أبي ذر بقدمه، ما هو إلا ضرب للوجه.
وأخرج حديث الوليد بن مسلم البيهقي (أحمد بن الحسين، ت: 458 هـ) في (شعب الإيمان رقم 4772))، ومن طريقه ابن عساكر (علي بن الحسين، ت: 571 هـ) في (تاريخ دمشق 10 / 464) من طريق أبي عبد الملك، وهو علي بن يزيد (الألهاني ت: 130 هـ)، وهو ضعيف ليس بثقة، متروك الحديث. قال البخاري (محمد بن إسماعيل، ت: 256 هـ): منكر الحديث.وقال يحيى بن معين (ت: 233 هـ شيخ المحدثين، من أكابر علماء الجرح والتعديل): علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، أحاديثه ضعاف كلها.
وظاهر حديث أبي ذر، يشعر أن الرجل المذكور كان عبداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث في آخر الحديث على الإحسان إلى الرقيق، والرفق بهم، وأطلق عليه أنه من إخوانه لقوله صلى الله عليه وسلم: إخوانكم خولكم؛ فهو أخ في الدين.
** ** **
4 ولم يؤذن بلال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة زار فيها المدينة، فبكى الناس لأذانه، وحُق لهم البكاء. وتوفي وله بضع وستون سنة، في طاعون عمواس سنة 18 هـ على الصحيح، ودفن بباب الصغير بدمشق، ولم يعقب، أي لم يترك عقباً وهو الولد.
وله عدة قبور في دمشق: في داريا بمقبرة خولان، وفي مسجد سيدنا بلال شرقي دمشق، وفي مقبرة باب الصغير وهي أصح ذلك. وقيل: دفن في مقبرة باب كيسان نهاية شارع ابن عساكر، وقيل: دفن بحلب عند باب الأربعين. وقال ابن حبّان (محمد بن حبان البستي، ت: 354 هـ): وسمعت أهل فلسطين يقولون: إن قبره بعمواس (الثقات 3 / 28 )، وعمواس: تقع في منطقة اللطرون في فلسطين، جنوب شرق الرملة، وتبعد عن يافا حوالي 30 كم. وذكر ابن بطوطة (محمد بن عبد الله الطنجي، ت: 779 هـ / 1378 م) أنّ قبره في تركيا في مدينة صنوب الساحلية (هي اليوم: سينوب أقصى شمال تركية من جهة البحر الأسود)، قال: بسفحها قبر الوالي الصالح الصحابي بلال الحبشي، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر (أدب الرحلات 307 ).[/align][align=justify][/align][align=justify][/align]