الحقيقة
الحقيقة
إنني أعيشُ في بيئةٍ صعبةٍ للغاية، أكادُ أرى شمسَ النَّهارِ، أنفاسي تَحظَى بالقليلِ مِن نقاءِ الهَوَاءِ، التلَّوثُ حولي يُبعثِرُ أفكاري ويضغطُ عَلَى إرادتي لِأستسلِم لِحُلمِ الْهُرُوبِ مِن لظى واقِعٍ مُتفحِمٍ!
لم يدُر بِخُلدي أن أمتلِك حقيبة سَفرٍ تَحتَ أي ظرفٍ، حملُ الحقائِب بِشكلٍ عام لا يستهويني، مُتعتي مُلاحقةُ مُرتكبي جرائِم الإبتعاد عن الوطن، وتوثيق يومياتهم في الغُربة، عبر الفضائيات أو مِن خِلالِ ماأسمعُ مِن حولي عن حكاياتِهم.
الحَياةُ هُنا مَرَاراً، والحَياةُ هُناك فِرارٌ، أن تمتلِك جواز سَفَرٍ، وتعدَّ أيام إقامتِك، والمُتبقي بصفحاتِ جوازك، أن تعثُر على ماوى، وصُحبةٍ، ومِقعدٌ دافئٌ، نبضٌ يُشعِرُك بالحياة، وناسٌ غير أولئك النَّاس الذين ابتعدت عنهم، لِأجل اتقاءِ شرِهِم.
أن تنعُم بالسَّلامِ غاية مطالِبك كإنسانٍ، أن تشعُر بالإنسانيةِ، وبالوئامِ، أن تصحو على لحنِ نشيدك الوطني، يبعِثُ من جُدران مدارِسٍ مُجاورةٍ، أن تقودك خُطواتك إلى مرافئِ الأمانِ، فَتَنعُم بالرَضا،إذاً أنت إنسان..
أُصِبتُ بِخيباتِ أملٍ عديدة، عِندما انتظرتُ عودة التَّيار الكهرُبائي لساعاتٍ طويلة، صدمتني لائحةُ الأسعارِ مرات ومراتٍ
لكنني تشبثتُ بالحياةِ هُنا، وراهنتُ على البقاء.
بعد غياب والدي عن الدار لِأيامٍ طويلةٍ، تسلمتُ زِمام الأمورِ التي كان أصعبها تأمينُ أنبوبة الغاز، التي جعلتني أشعرُ بصبينةٍ، أن لاتستطيع تأمين محروقاتٍ لعائلتك أمرٌ جلل، يحتاج لِمُراجعةِ قواعِدِ الرجولةِ!
اِنتظرت عبثاً أن أكون رجُلاً، أطلتُ الوقوفَ أمَامَ منافِذِ مَنحِ جوازاتِ السفرِ، وانتظرتُ أطول أمام حجز تذاكِر الطَّيران، يبدو أنني على وشك أن أكون رجُلاً!
هاقد أمنتُ الحَقيبة، قمتُ بِرصِ ملامحي أسفلها حتى لا يلمحُها مُفتشوا المطاراتِ، وفوقها وضعت كُل ما سأحتاجهُ مِن ملابسٍ قُطنيةٍ، وعلى أطرافِ الحَقيبةِ وزعتُ همومي، وقبل أن أُغلِقُها تركتُ صوراً، رُبما لو نَظَرَ إليها المُفتش، أعفاني مِن كُل سؤالٍ!
غادرتُ أروقة المَدينَة، في هدأةِ ليلٍ شُحت النُّجومُ فيه، لم أشعر بأن المسافة طويلة، سُرعان ما توقفت بي سيارةُ الأجرة، وسُرعان ما توجهتُ إلى صالةِ المطار، إنها التي تضجُ حياةً مُتناقِضةً على الدوام، مابين مشاعرالوداع، ومشاعِرُ الغبطةِ باللقاءِ، فواصِلُ أمل بأن يكون كُل شيء على مايُرام.
لم يتمكن مفتشُوا المطارِ مِن رصدِ ملامحي التي أخفيتُها في الحقيبةِ، وكذلك مُضيفةُ الطائرة الجميلة، التي رحتُ أُحدِقُ في تفاصيل أنوثتها المرسومةِ بدقة في ملامِحِ وجهِها، نجحت بِخداعِها لم تلحظ مدى رجولتي المنقوصة، ومدى صمتي الذي فسرتهُ لباقةً وحِكمةً. بدأت الطائِرةُ بالإقلاع عِند النظرة الثانيةِ مِن وداعِ وجهِ مدينتي ليفيض دمعُ الوجدِ، وتنفجرُ كُل الملامحِ التي أخفيتُها، لقد شعرت بِرجولتي، وبهويتي، وبوجودي، وبأَن الإنسان بلا وطنٍ لن يكون إنساناً.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|