نزلت الدرج بخطوات متثاقلة خلعت نعليها واتجهت مباشرة نحو البحر متخذة موقفا على أطرافه، كان المكان خاليا عدا صياد جالس على صخرة وصنارته ملقاة في البحر وهو بين الفينة والأخرى ينظر إلى السماء متمتما بالدعاء،وعلى مقربة منه رسام وضع لوحته على عمودين خشبيين يتحين لحظة الغروب ليبدعها عليها.
وقفت وعيناها الناعستان شاخصتان في الأفق ومياه البحر تداعب قدميها اللتين أتعبهما الوقوف طول اليوم بالمصنع،فهي نشأت في أسرة تعترف بحق المرأة في الخروج للعمل بل إن والدها وإخوانها الثلاثة تخلوا لها عن كامل مسؤوليتهم وأصبحت هي ولي أمر أسرتها،لم تتمكن من اكمال تعليمها واضطرت للخروج للعمل صغيرة،خادمة في المنازل لتقضي طفولتها وجزءا من شبابها متنقلة من منزل لآخرومن معاناة لأشد،وأخيرا استطاعت أن تجد لنفسها بعد عدة وسطات ودفع للرشاوي عملا في مصنع من مصانع السمك المنتشرة في المدينة يضمن لها أجرة شهرية تكفي مستلزمات البيت،دخان والدها،ودواء والدتها المقعدة نتيجة إصابتها بمرض في عمودها الفقري كان سببه آلة خياطة عكفت عليها طول الوقت بل طول العمرورافقتها من منزل والدها إلى منزل زوجها وبرزقها اليسير تربى إخوانها ومن بعدهم أبناؤها. إلا أن الأجرة كانت لا تكفي أحيانا مما يضطرها للسلف من أجل دفع غرامة مالية عن أحد إخوانها في تهمة سكر علني،إعتداء، أوحيازة مخدرات.
كانت أمها تخبرها دائما وهي تطعمها أو تناولها الدواء:
-لقد لامني والدك كثيرا عندما أنجبتك فقد كان ينتظر مولوده الذكر الأول وهاأنت الآن لولاك لمتنا جوعا وهاهم إخوانك لا فائدة ترجى منهم .
لم تكن تدري هل كانت أمها تقول لها هذا الكلام احتفاءا بها أو مواساة لها ، لكنها كانت قد اعتادت على كلام أمها كما اعتادت على حياتها وكان الشيء الوحيد الذي يكسر روتين هذه الحياة هو انتقالها إلى عالم أحلامها الجميل والمليء بالأمل والذي تتزوج فيه رجلا يعوضها سنوات الحرمان وتربي فيه أبناءها على ضرورة العمل وتذهب فيه بناتها إلى المدرسة ومن بعدها الثانوية ومن بعدها الجامعة ومن بعدها……..أحلام رافقت غروب الشمس لتعود مع اشراقتها في الصباح،وعادت حاملتها إلى عالمها الواقعي بعد أن غادرت البيت وغادر الصياد بدوره بعد أن ضمن أخيرا رزق عياله ولم تبق إلا صورة هذه الحالمة على لوحة الرسام الذي ربما وجد في قوامها النحيل وملابسها الرثة موضوعا للوحته.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني ; 09 / 08 / 2009 الساعة 13 : 12 AM.
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
رد: الحالمة
أختي ناديىة
لا أدري كيف غفلت عيني عن هذه المقطوعة الجميلة .. ربما كان هناك سهو .. لكني و أنا أراجع موضوعات القصص ، انتبهت إلى هذه لألج إلى عالم جميل من الأحلام .. رغم أن فيه من الواقع الشيء الكثير ..
وقفت أمام اللوحة التي كان ينتظر الصياد اقتناصها عند الغروب فإذا أنا أمام لوحة أجمل .. لوحة فيها من الحيوية ما يجعلها متألقة .. فهي قد ضمت حالمة ومعها كل أحلامها ..
مزيدا من الإبداع أختي ..
ولك كل المودة و التقدير .
التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني ; 20 / 09 / 2009 الساعة 13 : 03 AM.
عروبة شنكان - أديبة قاصّة ومحاورة - نائب رئيس مجلس الحكماء - رئيسة هيئة فيض الخاطر، الرسائل الأدبية ، شؤون الأعضاء والشكاوى المقدمة للمجلس - مجلس التعارف
-لقد لامني والدك كثيرا عندما أنجبتك فقد كان ينتظر مولوده الذكر الأول وهاأنت الآن لولاك لمتنا جوعا وهاهم إخوانك لا فائدة ترجى منهم ..
ملامح الجاهلية يبدو أنها لم تغادر واقعنا بعد لكنك وظفتها جيدا أخت نادية في سردك الذي جاء متناسقا قريبا من الحقيقة.
تقبلي تحيتي و تقديري
الأستاذة نادية :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,
سردك للقصة سلس ومتناغم و هادئ .. وواقعي في نفس الوقت .. فالمرأة أو الفتاة التي تتحمل مسئولية أسرة بكاملها موجودة ومنتشرة في عالمنا العربي .. تحياتي وتقديري