[align=center][table1="width:100%;background-image:url('http://images2.layoutsparks.com/1/185984/vintage-floral-smoking-lady.jpg.gif');background-color:burlywood;border:4px double burlywood;"][cell="filter:;"][align=justify]
فعلا لا أدري لماذا يحضر الآن ومن بين كلّ الوجوه وجه جدتي محملا بكل الطيبة والحب والأصالة ورائحة شوارع وبيوت وبساتين حيفا .. لماذا يحضر الآن وقد كبر العمر وشاب الشعر ومضت على رحيلها سنوات وسنوات ؟؟.. لماذا يحضر الآن بعد أن صار القلب يذكر البلد فتدمع العين وتأبى الجفون إلا أن تنطبق على ذكريات ساخنة سمعناها فصارت جزءا من العمر والصور التي لا تبرح ؟؟.. لماذا يا جدتي تأتين الآن وتصرين على أن تطلي عليّ بوجهك الجميل المعبر فتفتحين باب الطفولة التي كدنا لكثرة ما كابدنا من غربة وحنين وعذابات ننساها على أرصفة العمر ونمضي يتامى دون طفولة ننتسب إليها ؟؟..
لكن آه يا جدتي من طفولة فرشتْ غطاء رأسك على اليدين قبل أن تضعيه وتخرجين به وبي إلى الأسواق البعيدة لتعودي محملة بما يقوم بأود أسرة مؤلفة ربما من عشرين شخصا أو أكثر .. تحملين ما ثقل وتكاد الأنة تخرج من القلب وأنت التي كنت من قبل في حيفا تطلبين فتأتي الأشياء إليك ما أن تحركي شفتيك ؟؟..تغير الزمان والمكان يا جدتي وصار عليك أن تحملي الطعام لأسرتك بعد أن سرقوا حيفا كما سرقوا كل حبات القلب الفلسطينيّ.. تغير الزمان والمكان بعد أن أتوا من آخر الدنيا وحولوا الأمان إلى أسى ودمع وغصة في الحلق .. بيد تحملين ما تحملين من أغراض يضمها كيس كبير ، وباليد الأخرى تمسكين يد هذا الصبي الذي ما كان يعرف من طرابلس / لبنان شيئا ذا شأن .. كان يظنّ انه أتى مع أمه كي يزور الجدة والأخوال من دمشق ..كان البحر يمتعه..ورائحة الأسواق الشعبية تسرقه ..والوجوه الأليفة تبهجه.كان يمشي إلى جانب جدته فرحا ، وما كان يعرف أنّ الأسرة التي صارت في ألف بلد ، كانت من قبل في بلد واحد اسمه فلسطين، ومدينة واحدة اسمها حيفا .. لماذا أتى وجهك الآن يا جدتي ؟؟..هل يحمل جديدا يريد أن يقوله للطفل الذي شاب ومضى به الزمن وآه من طول الزمن الذي مضى ؟؟..
ربما هي الذكرى يا جدتي ..ذكرى حضورك في البال وأنا أعبر أحد شوارع دمشق اليوم .. لا أدري لماذا لمحتُ امرأة لا تكاد تختلف عنك بشيء .. وللصدفة المحضة ربما كانت تحمل أغراضها وتمضي نحو بيتها القريب أو البعيد لا أدري ..شيء واحد نسيته وهو أن تمسك يد هذا الطفل الذي تخشى أن يتركها ويركض لاهيا عابثا .. صدقيني تمنيت أن أقترب منها وأن احمل ما تحمل أو أن تمسك يدي حتى نعبر الشارع معا..هل كانت ستفهم عندها أنّ وجه جدتي يسكنني وأنني رأيته فيها بكل ملامحه وأصالته؟؟..
أقول ربما .. وربما يا جدتي نخترع الأسباب كي نبقى دافئين قرب من نحب..نتذكر بألف طريقة وطريقة حتى لا يغيب هؤلاء الذين كانوا ذات يوم آمنين مطمئنين في بلدهم فأتت وحوش غريبة شردتهم بعيدا عن الشارع والدار .. لكن هل يغيب هؤلاء ؟؟..
كيف لهم أن يغيبوا وهم من أعطونا الذاكرة فاشتعلت بهم وبالبلد ؟؟.. كيف لهم أن يغيبوا بعد أن زرعوا في قلوبنا أشجار حيفا فحملناها حتى صارت بطول أعمارنا وقاماتنا وحنيننا وأغنياتنا وأمنياتنا؟؟.. كيف لهم أن يغيبوا وصورة كل واحد منهم تأبى الرحيل إلا عبر الشرايين في أجسادنا والكريات في دمائنا..؟؟.. نعم يا جدتي هاهو وجهك يطل من بين كل الوجوه ضاحكا باسما رائع الملامح ، وهاهي يدك تمتد لتمسك يد هذا الطفل الذي شاب ، فتأبى الشمس إلا أن تضحك ليوم جديد ..
طلعت سقيرق
[/align][/cell][/table1][/align]