راهن العالم الإسلامي/الفصل 3/تنوُّع ثقافات المسلمين من التكامل إلى التشظي
[align=justify]تَنَوُّع الثقافات في العالم الإسلامي، من التكامل إلى التشظِّي...
نظراً لتنوُّع العالم الإسلامي تنوُّعاً كبيراً، كما سبَقَت الإشارة، واشتماله على مختلف الأعراق والبيئات الطبيعية، خصوصاً بعد انتشار الإسلام خارج الإطار العربي، واكتسابه صفة العالمية، كان من الطبيعي أن تتنوَّع ثقافات المسلمين، بِقَدْرِ تنوُّع أعراقهم والبيئات التي يعيشون فيها، وهو ما يلحظُه الباحث بيسـر لدى معاينته لمجتمعاتهم وما يَسُودُها من عادات وتقاليد وأعراف، وما يتحكَّم بأهلها من منظومات أخلاقية، وما يدور على ألسنتهم من حِكَمٍ وأمثال، وما ينطقون به من لغات، وما يتوارثونه من آداب وفنون ومعتقدات شعبية..
فعرقياً، كانت للعرب ثقافتهم الخاصة، وما تزال، كما للفرس والأكراد والبربر والشـركس والأذريين والطاجيك والتركمان والأوروبيين وغيرهم من أبناء الأعراق الأخرى الكثيرة التي يضمُّها العالم الإسلامي...
ودينياً، تبرز مؤثرات الوثنية والإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها، بوضوح، في ثقافات سكان البلدان الإسلامية، على اختلاف أعراقهم وبيئاتهم...
ومذهبياً، لا تخفي رموز أيِّ مذهب إسلامي أو غير إسلامي حضورها في نتاجات أدبائه وفنانيه، أو في الأمثال والحكم التي تشيع على ألسنة أتباعه...
وعقيدياً، نلاحظ أَنَّ أطروحات العقائد المختلفة التي وَفَدَتْ على العالم الإسلامي قديماً، والأيديولوجيات التي وَفَدَتْ عليه حديثاً، واعتنقها عدد من أبنائه، قد دخلت في ثقافاتهم، لتتمظهر واضحة، ليس في سلوكهم وطرائق تفكيرهم فحسب، بل حتى في إبداعاتهم الفكرية والأدبية والفنية..
وطبقياً، كان للموقع الطبقي، وما يزال، أثره البيِّن في نتاجات من يمثلونه، في مختلف المجتمعات والعصور، بدليل تَميُّز النمط الثقافي للطبقة الغنية، عن النمط الثقافي للطبقتين الوسطى والفقيرة، سواء كان المنتمون إلى أيٍّ منهما تجاراً أم عمالاً أم مهنيين أم فلاحين أم من أيِّ شريحة مجتمعية أخرى..
وهكذا، لابدَّ أن يجد الباحث، في ثقافات العالم الإسلامي، نفسَه في مواجهة بانوراما كبيرة متنوِّعة من الثقافات لكلٍّ منها سماتها المميِّزة التي تصنع خصوصيتها المستقلة. لكنه لابدَّ أن يلاحظ أيضاً أنَّه على الرغم من استقلالية كلٍّ من هذه الثقافات المتنوِّعة بخصوصيتها، وجودَ قاسم مشترك أعظم بينها جميعاً، وهو الإسلام، بقطعِ النظر عن الموقف منه، سواء كان معه أم ضده...
ومن الإسلام العربي الأصل والجذور واللسان، ينبثق قاسم مشترك آخر هو اللغة العربية الفصحى التي اجتازت كلَّ الحدود، لتكون لغةً رئيسة لعدد كبير من المسلمين، أو لغة ثانية، لها قداسة كبيرة، لمن تَبَقَّى منهم متمسكاً بالإسلام، لأنَّها لغة القرآن/كتابه المقدس الوحيد، ولغة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وما صحَّ عنه من أحاديث شريفة، تُعَدُّ المصدر الثاني، بعد القرآن، لتعاليم دينه(1)..
وقد استطاع الإسلام والعربية أن يُذيبا الكثير من الفوارق بين المسلمين، وأن يُوفرا لتنوُّعهم، في مختلف الميادين، قدراً من التجانس والتكامل الإيجابي.. وقد ظلَّت هذه الاستطاعة أزماناً طويلة بين مدٍّ وجزر، تَقوى كلما تمسَّك المسلمون بمبادئ دينهم والتزموا بتعاليمه، وتتضاءل كلما ضَعُفَ تمسُّكهم بهذه المبادئ والتعاليم وقلَّ التزامهم بها؛ إلى أن تلاشت تلك الاستطاعة، أو تكاد، في راهننا المعاصر، بعدما نجح أعداء المسلمين في تمزيق الروابط العقيدية والسياسية والجغرافية والفكرية التي تُوَحِّدهم، خصوصاً بعد انهيار مفهوم الإسلام كرابطة جامعة؛ ذلك أنَّ انهيارها أدَّى إلى زيادة تَحَوُّلُ التنوُّعِ الثقافي للمسلمين المعاصرين إلى تَشَظٍّ سلبي زاد في تمزيق نسيج وحدتهم، لاسيما بعد غياب دور الإسلام كمؤثرٍ فعال في حياة الكثير من أتباعه، على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم، وحلول مُؤَثِّرات وروابط بديلة مكانه، تُعَدُّ القومية من أبرزها..
فبعد انهيار نظام الخلافة الإسلامية الذي كانت الدولةُ العثمانية، على الرغم مِمَّا شَابَ أُخرياتها من مساوئ، آخرَ نماذجه الواقعية، لعب استيقاظ، أو إيقاظ، النزعات القومية، دوراً هاماً جداً في إضعاف إحساس المسلمين بانتمائهم إلى عقيدة واحدة توحِّدُهم جميعاً، على اختلاف أعراقهم وقومياتهم ولغاتهم، هي الإسلام؛ وبضعف انتمائهم إلى الإسلام، بل مغادرة أعداد كبيرة منهم دائرتَه، إلى ما اعتنقوه من أيديولوجيات ومذاهب فكرية وضعية ودعوات قومية، كان بديهياً أن يتراجع اهتمام أولئك المغادرين باللغة العربية، لأنَّهم لم يعودوا مضطرين إلى تَعَلُّمها، بعدما تخلوا عن الإسلام كمُعتَقَدٍ لا يمكن لأتباعه أن يُؤَدُّوا الكثير من فرائضه إلا بها.
ثم زادت حركات الإحياء القومي التي نَحَتْ، في كثير من البلدان الإسلامية، منحى التطرف، في إبعاد مسلميها عن العرب ولغتهم وثقافتهم. وكان هذا بديهياً، لأنَّ هذه الحركات ما كانت لتستطيع إيقاظ اللغات والثقافات القومية التي تتعصَّب لها، دون إبعاد أقوامها عن الإسلام وعن العربية التي كانت لغة نبيه، صلى الله عليه وسلم، ولغة قرآنه.. ولعلَّ من اللافت أَنَّ ظهورَ تلك الحركات وتطرفَها، خلال القرنين التاسع عشـر والعشـرين، قد رَافَقَا مَدَّ الاستعمار الأوروبي الذي اجتاح العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه..
كما أنَّ من اللافت أيضاً، بل المثير لكثيرٍ من التساؤل والاستغراب، أنْ يبدأ التطرُّفُ القومي من تركيا، ثم أن يبلغَ ذروته فيها بعدما كانت، إلى ما قبيل انهيار الخلافة العثمانية، القاعدة الجغرافية والبشـرية الأهم لهذه الخلافة.. إذ لم يكتفِ القوميون الأتراك الذين انقلبوا على الخلافة العثمانية ذات الطابع الإسلامي، بمحاربة الانتماء إلى الإسلام فحسب، وإلغاء كل ما يمتُّ إليه بصلة من ملبس وسلوك(2)، بل ذهبوا أبعد من ذلك، حين حاولوا فرضَ لغتهم وثقافتهم على الولايات العثمانية كافة، والعربية منها بشكل خاص، ضمن ما عُرف، في حينه، بحملة (التتريك) التي أعتقدُ أنها كانت واحدةً من أهم الأسباب التي استدعت ردَّ فعل عربي مضادّ تمثَّل بالدعوة إلى إحياء العربية وثقافتها القديمة.. وقد بلغت حملة تركيا الأتاتوركية على العربية أوجها بإلغاء استخدام الحروف العربية في كتابة اللغة التركية ومطبوعاتها، وإحلال الحروف اللاتينية محلها، إلى اليوم...
ولم يكن ردُّ الفعل على سياسة التتريك عربياً فقط، بل شمل جميع مَن ظلَّ الإسلامُ يوحِّدهم ثقافياً، لقرون، تحت عباءة الخلافة الإسلامية، عرباً كانوا أم غير عرب، فَرَاحَ أبناء كلِّ قومية يدعون إلى إحياء لغتهم وتراثهم الثقافي المكتوب بها، وإلى استخدامها في إبداعاتهم الحديثة... وهكذا، انفرط عقد الثقافة الإسلامية الواحدة التي كانت العربيةُ لغتَها الأولى والأهم، فصارت ثقافات مختلفة مُتباينة بلغات مختلفة.. وما زال عامل التشظي القومي فاعلاً فيها، حتى أحالها، في النهاية إلى شظايا ثقافية ذات ألوان قومية تفتقر إلى التجانس والانسجام اللذين كانا يميزانها في ظلِّ انتمائها جميعاً إلى الإسلام، ذلك الرابط الأهم الذي كان يشدُّها إلى بعضها مُبدِعاً من تنوُّعِها تكاملاً غنيّاً منسجماً ورائعاً...
[/align]
[align=justify]الهوامش
(1) وبهذا الصدد، مازال المسلمون، في أوزبكستان مثلاً، يتحدثون بالعربية الفصحى، كما يذكر الدكتور محمد المنسي قنديل، في بحثه القيم عن راهن أوزبكستان، والمنشور في كتاب مجلة العربي، بين عدد من أبحاث أخرى، بعنوان (المسلمون من آسيا إلى أوروبا/أزمة الهوية والنزاع العرقي)، الكتاب (34)، 15/10/1988، الطبعة الأولى، الكويت، ص: /136/.
(2) وبهذا الصدد، يُذكَر أن الحكومة التركية، وبإيعاز من أتاتورك، أمرت عام 1925 بخلع الطربوش ووضع القبعة، وبخلع الحجاب عن رأس المرأة التركية، مسلمة كانت أو غير مسلمة، هذا فضلاً عن أمرها بإغلاق المساجد وزوايا الدراويش وتكاياهم.. [/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|