[د. منذر أبوشعر]

‏ يُعدُّ هربرت جورج ويلز H.G.Wells (ت: 1946 م) الروائي البريطاني، أحد روَّاد كُتَّاب روايات الخيال العلمي؛ ففي عام (1895 م) نُشِرت روايته الأولى: آلة الزمن The Time Machine‏ التي حظيت بنجاح كبير بين القراء، وتتحدث عن عالِم انتقل عبر الزمن إلى المستقبل البعيد سنة (802,701 م)، ليجد أن مستقبل البشرية سيكون مظلماً جداً، لاختلال المسافة الطبقية بين الأغنياء والفقراء؛ وليظهر من جرَّاء ذلك جنسان من البشر: (الأيلو)، و(المورولوك)؛ فأحفاد الأغنياء وهم (الأيلو)، المنعمون، بسبب تطورهم عبر الزمن، صاروا جنساَ غبياَ ضعيفاً، لفقدان حاجتهم إلى القوة أو الذكاء أو الإبداع أو الابتكار؛ وأحفاد الفقراء وهم (المورولوك) تحولوا إلى جنس همجي، أو حيوانات أشبه بالعناكب، لا يمتُّون إلى البشر بصلة: يسكنون تحت الأرض، ويعملون، ويكدون كما كان يحيا آباؤهم وأجدادهم؛ فاستغلهم (الأيلو) وكانت لحومهم غذاء لهم، إلى أن اختطف أحد (المورولوك) أحد (الأيلو) فأكله منتقماً لقومه. وتقول الرواية: إن السبب في الذكاء والنشاط البشري، يكمن في الظروف التي تجعل النشيط والقوي والماهر يعيش، بينما الضعيف يموت. وما حضارتنا اليوم إلاَّ بناء متهالكاً لن يلبث في النهاية أن يسقط فوق رؤوس صانعيه، ويدمرهم.
** ** **
وفي عام (1896 م) نُشرت روايته الثانية: جزيرة الدكتور موروThe Island of Dr. Moreau وتحكي عن إدوارد بريدنيك، الرجل الذي وجد نفسه بعد غرق سفينته في جزيرة الدكتور مورو، العالِم المجنون الذي ابتكر حيوانات شبيهة بالإنسان. وقد تناولت الرواية عدداً من الموضوعات الفلسفية: كالألم، والقسوة، والمسؤولية الأخلاقية، وهوية الإنسان، والتدخل البشري في الطبيعة.
وبعد صدورها جرى نقاش وحوارات في الأوساط المثقفة، حول الانحطاط الأخلاقي في العلم، وحول تشريح الحيوانات الحية؛ فتم تشكيل عدة مجموعات لمعالجة هذه المسألة، وأنشيء الاتحاد البريطاني لإلغاء التشريح على الحيوانات الحية.
** ** **
وفي عام (1897 م) نُشرت روايته: الرجل الخفي The invisible man وتتحدث عن خطورة العلم إذا افتقر إلى الحس الإنساني. فتحكي عن العالم غريفين، الذي كرس نفسه لأبحاث البصريات، فيخترع وسيلة لتغيير معامل الانكسار في الجسم إلى معامل الهواء بحيث يمتص ويعكس أي ضوء، وبالتالي يصبح غير مرئي. وبالفعل ينجح غريفين في تجربته بعد أن يطبقها على نفسه، لكنه يفشل في عكس المفعول.
** ** **

وفي عام (1898 م) نُشرت روايته: حرب العوالم The War of the Worlds وتحكي عن غزو كائنات مريخية للأرض.
** ** **
وفي عام (1901 م) نُشرت روايته: أوائل الرجال على سطح القمر The First Men in the Moon‏ وتُعتبر تنبؤاً في أساليب ريادة الفضاء.
** ** **
وقد كتب ويلز أيضاً روايات ليست من صنف الخيال العلمي، أو سرد المغامرات، مثل روايته: "الحب والسيد لويشام" وتحكي عن الفشل في المدينة، ونشرت في عام (1900 م)، و"كيبس" وتحكي عن الثروة الموروثة، ونشرت في عام (1905 م).
** ** **
وعلى مثل ذلك المنوال كانت روايته "أرض العميان"The Country of the Blind‏ التي كتبها عام (1904 م)، بعد روايته "الحب والسيد لويشام"، وقبل روايته "كيبس". وسنتناولها بشيء من التفصيل:

● تحكي "أرض العميان"The Country of the Blind‏ عن مجموعة من المهاجرين من بيرو República del Perú غرب أمريكا الجنوبية فروا من طغيان الإسبان سنة احتلالها عام (1532 م)، فتحدث أثناء فرارهم انهيارات صخرية في جبال الأنديز، تلك السلسلة الجبلية الواسعة الممتدة على طول الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، فيُعزل القوم الفارُّون في واد مجهول؛ ثم ينتشر بينهم نوع غامض من التهاب العيون يصيبهم جميعاً بالعمى، ويُرجعون سبب ذلك إلى انتشار الخطايا بينهم. وفي عزلتهم تلك، لم يزرهم أو يمرُّ بهم أحدٌ، فهم ما غادروا واديهم قط، لكنهم ورَّثوا أبناءهم العمى جيلاً بعد جيل. وذات يوم، يتسلق المستكشف (نيونز) جبال الأنديز مع مجموعة من البريطانيين، لكن رغم خبرته في تسلق الجبال، تنزلق في الليل قدمه ليسقط من أعلى نحو مسافة شاسعة، بحيث لم يعد يرى مَنْ معه الوادي الذي سقط فيه، وما خطر في بالهم أنه سقط في وادي العميان الأسطوري.. لكن الرجل لا يموت؛ لأنه سقط فوق وسادة ثلجية حفظت حياته.
وعندما بدأ المشي على قدمين متألمتين رأى أن البيوت التي تملأ الوادي ألوانها فاقعة متعددة بشكل غريب، ولم تكن لها نوافذ.. فخطر له أن من بنى هذه البيوت لا بد أنه أعمى كخفاش.. فراح يصرخ، وينادي الناس، لكنهم لم ينظروا نحوه.. فتأكد أنهم عميان فعلاً.. وأن هذا هو بلد العميان الذي كان يسمع عنه، فخطرت في ذهنه المقولة الشهيرة: في بلد العميان يصير الأعور ملكاً، وهو ما يشبه قولنا: (أعرج في حارة المكرسحين). وراح يشرح لهم من أين جاء.. جاء من بوغوتا Bogotá العاصمة حيث يبصر الناس..
وهنا ظهرت مشكلة. فما معنى (يُبصر)؟!
وراحوا يتحسسون وجهه، ويغرسون أصابعهم في عينيه.. فبدت لهم عيناه عضواً غريباً جداً. ولمَّا تعثر أثناء المشي لإصابة قدميه من جرَّاء سقوطه، قرر الجميع أنه ليس على ما يرام، وأن حواسه ضعيفة، بل هو يقول أشياء غريبة، فقرروا أخذه لكبيرهم.
وهنا يدرك نيونز أنهم يعيشون حياتهم في ظلام دامس، فلقد مر على العميان خمسة عشر جيلاً، وبالتالي صار عالمهم هو الأقرب إلى الأساطير؛ وأنَّ لهم فلسفتهم عن الكون الذي يحيط بهم: فهم يتكلمون عن الحيوانات والأشياء المحيطة التي تعرفوا عليها بحواسهم الباقية، لكن كل تعريفاتهم كانت ناقصة.
فلم يشكَّ في أنه بلغ المكان الذي سيكون فيه مَلَكاً.. وأنه سيسود هؤلاء القوم بسهولة تامة، لكن الأمر سيظل صعباً.. فهم يعرفون كل شيء بآذانهم.. يعرفون متى مشى على العشب أو الصخور. وكذلك كانوا يستعملون أنوفهم ببراعة تامة.. وراح يحكي لهم عن جمال الجبال والغروب والشمس.. فكانوا يصغون له باسمين، ولا يصدقون حرفاً ممَّا يقوله. ولمَّا رأى المدعو / بدرو قادماً من بعيد قرر أن يريهم أهمية البصر.. فقال لهم: بدرو سيكون هنا حالاً.. أنتم لا تسمعونه ولا تشمون رائحته لكنني أراه. فبدا عليهم الشك، وراحوا ينتظرون. لكن لسبب ما قرر بدرو أن يغير مساره ويبتعد !
فراح يحكي لهم ما يحدث أمام المنازل، فطلبوا منه أن يحكي لهم ما يحدث بداخلها: - ألست تزعم أن البصر مهم ؟!
فحاول مراراً إقناعهم بأنهم عميان، وبأن هناك نعمة تسمى البصر يفتقدونها، لكنهم لم يصدقوه واعتبروه مجنوناً !
ثم يحاول نيونز مراراً الفرار منهم، لكنه لم يستطع أبداً، وفي كل مرة كان يضطر للعودة إليهم بعد تعب وجوع ليقر بخطأه ويضع نفسه تحت تصرفهم.
وكانوا طيبين القلب حقاً، وقد تقبلوا وجوده بينهم ببساطة. وذات يوم، صادف نيونز فتاة عمياء منهم، وكانوا يعتبرونها قبيحة لأن وجهها مدبب ولها أهداب طويلة، مما يخالف فكرتهم عن الجمال ! بينما هو ولأنه مبصر فقد استطاع أن يعرف أنها أجمل فتيات الوادي على الإطلاق.
فأحبها بصدق، وتقدم لخطبتها.. لكن أسقط في يد أبيها: فهل يرضى أبوها بالمجنون الذي هبط عليهم من غير موعد ؟! أم يرفضه ويترك ابنته القبيحة - في رأيهم - بلا زواج ؟!
لذلك طلب الأب مشورة حكماء الوادي.. وكان رأيُ الحكماء قاطعاً.. فالفتى عنده شيئان غريبان منتفخان يسميهما (العينين)، وجفناه يتحركان وعليهما أهداب.. ويبدو أن هذا العضو المريض قد أتلف مخه. فلا بد من إزالة هذا العضو الغريب ليسترد الفتى عقله. وبالتالي يمكنه أن يتزوج من الفتاة.
وبالطبع ملأ الفتى الدنيا صراخاً.. فهو لن يضحي بعينيه بأي ثمن.
فترتمي الفتاة على صدره، وتبكي، وهي تهمس في أذنه: ليتك تقبل.. ليتك تقبل ! فالعمى صار شرطاً ليرتفع المرء من مرتبة الانحطاط ليصير مواطناً كاملاً. وقد قبل نيونز أخيراً بهذا الشرط، لكنه أراد أن يستمتع في آخر أيامه مع حاسة البصر.. فخرج ليرى العالم للمرة الأخيرة: رأى الفجر يغمر الوادي بلونه الساحر.. فأدرك أن حياته هنا لطخة آثمة.. الأنهار والغابات وزرقة السماء والنجوم.. كيف يفقد هذا كله من أجل فتاة.. بل كيف ولماذا استطاعوا إقناعه بأن البصر شيء لا قيمة له بالرغم من أن هذا خطأ قاتل؟!
فيتجه إلى حاجز الجبال، وهي مدخنة حجرية تتجه لأعلى.. ويقرر أن يتسلقها، وكانت الشمس غاربة، وهو الآن بعيدٌ جداً عن بلد العميان.. وقد نزفت كفاه، وتمزقت ثيابه، لكنه كان يبتسم.. ويفر من الغباء، ويتعلم أن ليس بالضرورة أن تكون الأغلبية على الحق، وأن الموت في سبيل الحق وحيداً خيرٌ من العيش مع القطعان الضالة.
** ** **
نعم، فعندما تصبح أنت العاقل الوحيد في زمن الجنون.. والمتعلم الوحيد في زمن الجهل.. والمبصر الوحيد في أرض العميان.. فإنك محكوم عليك بأن تشقى وأن يكيلوا إليك الاتهامات بالجنون والتهور والخيانة والعمالة.. فإمَّا تستسلم وتصبح مثلهم، وإمَّا أن تبقى في عذاب أبدي مقيم.
ألم يتهم الناس الأنبياء المرسلين بالجنون؟! وألم تعدم أوربا مكتشف كروية الأرض واتهمته بالهرطقة؟!
إن" أرض العميان " تلقي بظلالها على كثير من الأحداث حولنا، فنسأل الله أن نكون من المبصرين دائماً.