خبطت على صدرها بكفها لما أتاها النبأ . اتهمت زوجها : - أنت المسئول . فلينتقم الله منك. صامتًا تابعها وهي تسب وتلعن . تملأ وعاء بالماء . تزفر بضيق وهي تتعجل الماء المتدفق من فوهة الطلمبة . تصب الماء على رأسها . يخرج عن صمته : - لم تجف الحناء بعد . تواصل غسل الحناء عن شعرها ، وتعيد اتهام الرجل : - أنت المسئول . محمود بن بهانة الغلبانة سيموت بسبب طيارتك يا بوطيارة . لا يحب رائحة الحناء . هي تحبها وتلجأ إليها كثيرًا . تتحدث دائمًا عن فائدة الحناء لعلاج أوجاع الرأس كما أنها سنة عن الرسول ( ص ) . يرغب في إغاظتها : - ليسا الصداع والسنة يا وطفة . - أفتنا أفادك الله . - الشعر الأبيض يا وطفة تريدين إخفاءه خلف لون الحناء . يدرك أنه أفلح في إغاظتها فيواصل : - عجينة الحناء فوق رأسك تذكرني بأمك حينما وضعت الطين فوق رأسها يوم استشهاد أخيك . - عقبال ما أشيل الطين عليك يا سعيد يا بن بهانة . تنطقها وهي تسدل الثوب الأسود . تغطى رأسها بشال أسود أيضًا . يسألها : - إلى أين ؟ - إلى المستشفى لأكون بجوار هنية . ابنها الوحيد فوق ثلاث بنات سيموت بسببك . ليته ينجو وترحل أنت . - وهل تحلو لك الحياة بدوني ؟ - لا تحلو إلا بدونك . - تكذبين . - أتعرف ؟.. لن ألبس الأسود عليك إلا يومين فقط . يضحك فيزداد غيظها : - أتعرف يا سعيد ؟ . بماذا تذكرني ؟ أنت مثل الساقية التي لا تدور . أتذكر بتوع السينما حينما صوروا فيلمًا في أرضنا . لم يجدوا الساقية التي يريدونها فأرضنا الآن نرويها بالمكن . يومها صنعوا ساقية من الخشب والكرتون . ساقية كده وكده لا تدور ولا تجلب الماء . أنت يا سعيد تذكرني بهذه الساقية . * * * كالعادة تغلبه فيلزم الصمت . ولما تنتهي تصفق الباب خلفها بشدة ويحبو سعيد صاعدًا إلى السطح ..
- 2 – - - - سعيد الكسيح لا عمل له . في طفولته أصابه المرض فأتلف ساقيه . لم يذهب إلى المدرسة . إستعاض الأب بشيخ الكتاب . يأتي الشيخ كل يوم قبل المغرب بساعة . يكون سعيد قد عاد من الحقل . ينزله الأب من فوق الكارو . يحبو داخلاً البيت . تغسل له الأم يديه ووجهه . تغير جلبابه ويجلس منتظرًا قدوم الشيخ . * * * حفظ سعيد سبعة أجزاء من القرآن في زمن قياسي لكن غلظة صوته قضت على حلمه بأن يصير مقرئًا للقرآن . فقد حماسه لما أدركه اليأس فلم يكمل حفظ الجزء الثامن ، فأضاع على البيت فرحة حفل ختم القرآن ، وأضاع على الشيخ الجبة الصوفية التي وعده الأب بها . * * * أقلع الشيخ عن عادته في الحضور لكن سعيدًا واصل الرجوع من الحقل قبل المغرب بساعة أو يزيد . لم يعد ينتظر الشيخ . يحبو صاعدًا الدرج الحجري . لا يدخل الحجرات إلا عند النوم . يقضي الوقت منذ الغروب وحتى إنتصاف الليل في ذلك المربع بين السور الخشبي للسلم والحجرات . مربع طول ضلعه أربعة أمتار . بيسمونه " الحصير " .. مساحته هي مساحة عالم سعيد . يرقد سعيد فوق الحصير شاخصًا إلى الحقل.. فمن أين تأتي ؟ خاصة تلك التي تسميها أمه " وز عراقي " تظل في طيرانها صامتة حتى تصبح فوق البيت . ترى سعيدًا فتناديه . يمد ذراعيه كما لوكانا جناحين . يحاول تقليد الصوت لكن الوز العراقي يواصل رحلته ولا يأبه لرد سعيد . يفكر أن يقلل المسافة بينه والطيور . فليصعد إلى السطح . يحبو باتجاه السلم الخشبي . يمسك بأولى الدرجات محاولاً الاستناد عليها ليقوم ، لكنه لا يستطيع . لا يصل أبدًا للدرجة التالية مهما حاول . يرمق السطح بأسى . ينادي الطيور التي لم تعد في سمائه . يحبو مبتعدًا عن السلم . يعود لرقاده فوق الحصير شاخصًا نحو السماء . * * * يسأله الأب ساخرًا عن عدد النجوم فيرد بتقليد صياح الوز العراقي . تندب الأم حظها فالابن الذي رجته من الدنيا فقد عقله بعد ساقيه . تبخره وترقيه فلايكف . تهمس في أذنها جارة باسم جارة أخرى لم يفلح ابنها في حفظ أية من القرآن . تأتي الأم بقطعة كبيرة من شيء تدعوه " شبة " وتأتي بورقة ومقص . تقص الورقة على شكل عروسة . من صدر جلبابها تنزع إبرة وتثقب الورقة ثقوبًا بعدد الجارات اللائي رأين سعيدًا ولم يصلين على النبي . تمتليء الورقة بالثقوب . فتوقد الأم النار . تحرق الشبة . يتسلى سعيد بمتابعة الشبة المحترقة في تحولاتها . تتخذ أشكالاً عدة ، وترى الأم في كل شكل صورة لحاسدة محتملة . تكمل الأم علاجها ، فتحرق العروس الملأى بالثقوب ثم تمسك برمادها تعجنه مع بقايا الشبة المحترقة ، وترسم بها على جبهة سعيد صلبانًا بينما شفتاها تتمتمان بـ " قل أعوذ برب الفلق .. "
- 3 –
اقترح الأب أن يزوج سعيدًا ، فاختارت الأم " وطفة " . إعترض الأب : - ألم تجدي إلا بنت الكلاف . - ما لها ؟ - أصلها مثل وشها . ردت بحسرة : - الجميلة بنت الأصول لن تقبل بسعيد زوجًا. * * * رفض سعيد الزواج . بكى ورفض العودة من الحقل . سألته الأم عن السبب فطلب بيتًا في الخلاء . رضخ الأب و بنى حجرة واحدة بجوار الحقل . الدرج الحجري يقود سعيدًا مباشرة إلى السطح ، فلا يغادر إلا حينما تلهبه شمس الظهيرة بينما وطفة تعمل في الحقل أو ترعى دجاجاتها في البيت . لا عمل لسعيد إلا مراقبة الطيور ومناداتها . حتى تلك الطيور الورقية يناديها . أحبها وصاحب صناعها . علموه فصنع لنفسه واحدة . أعجبته فصنع غيرها . أتقن صنع طائرات الورق فأشتهر بها . أشارت عليه وطفة : - ما دمت قد أفلحت في شيء فلماذا لا تكسب منه ؟
- 4 –
-
- - يتعجب سعيد لأمرها . شجعته على صنع الطائرات بغرض بيعها وهاهي تلومه الآن . ما ذنبه لو مات محمود بن هنية . يحبو سعيد صاعدًا الدرج . لم يزل الجو ساخنًا لكنه لا يهتم . في الركن أدوات صناعته . يشرع على التو في صنع طائرة كبيرة ، بطول البوصة كلها . يتخيل الشكل فيفرح . ستكون طائرة ليس كمثلها طائرة . سيفاجيء بها وطفة . سيمد الطائرة بكل مالديه من خيط ويطيرها حتى مستشفى البندر لتراها وطفة وهنية ومحمود . الهواء يحمل الطائرة وسعيد يرخي لها الخيط . تعلو الطائرة وتبتعد . ينتشي سعيد ويصيح كالوز العراقي . تبعد الطائرة وتصغر . تبعد وتشد الخيط بقوة . يرقب سعيد طائره ويتمنى لو كان هو الطائر . آه لو ينظر – ولو لمرة واحدة – إلى البيوت والحقول من فوق . يرى السطح صغيرًا ووطفة لا تبين . يصيح مقلدًا كل الطيور . بينما طائره يبتعد ويشده ، يناديه .. يحرك ذراعيه كما لوكانا جناحين . يحبو باتجاه حافة السطح . طائره يشده .. يناديه . يناديه .. ولا يملك سعيد إلا أن يلبي النداء ...
أحمد رجب شلتوت أبو النمرس – الجيزة .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني ; 09 / 12 / 2008 الساعة 47 : 08 PM.
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
رد: طائر وحيد
[align=justify]
الأستاذ أحمد رجب شلتوت.. تحياتي
أهلاً وسهلاً بك في منتديات نور الأدب
ولكن الرجاء ياسيّدي أن تنتبه للتصنيف وبأنك تنشر في المكان الصحيح خصوصاً وأن العناوين واضحة جلية ليس فيها أي لبث.
منتديات الأدب أدناه باسم " واحة الأدب " وفيها منتدى القصة القصيرة حيث يفترض نشر قصتك، أما هذا المنتدى تحديداً كما هو اضح لك من اسمه" أوراق الشاعر طلعت سقيرق" أي خاصة فقط بالشاعر طلعت سقيرق من قصة وشعر إلخ..
سأقوم بعد اطلاعك بنقل قصتك إلى منتدى القصة في واحة الأدب
وشكراً وأهلاً بك
[/align]
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
رد: طائر وحيد
[frame="1 10"]
[align=justify]
تحياتي أستاذ أحمد..
بشأن الخطأ البسيط لا بأس حصل خير .
في المرة الأولى لم يسعفني الوقت بقراءة القصة واكتفيت بالاطلاع السريع، لذا عدت اليوم خصيصاً لقراءتها
والحقيقة أنها أعجبتني جداً ، نص ممتاز وأسلوب تصويري مميز.
عشت مع سعيد مأساته التي فجرت فيه رغبة ملحّة للانعتاق من سجن إعاقته والانطلاق من خلال طيارة ورقية
لعلها في النهاية كانت جواز السفر لحتفه وانعتاقه من جسد مكبل بهذا الموت الجزئي لساقيه والذي حرمه أن يكون مثل باقي الناس
شكراً لك على هذا النص وننتظر منك المزيد أهلاً وسهلاً بك مر أخرى
[/align]
[/frame]
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
رد: طائر وحيد
أخي أحمد
مررت متأخرا لأقرأ قصتك فأعجبتني طريقة السرد والمنحى الذي نحته حبكتها ..
تشاء الأقدار أن تكون نبوءة وطفة تصدق على سعيد بدل محمود ابن بهانة أو هنية ( لا أدري أي الإسمين أصح )
نهاية قد تكون ذات مأساة مركبة بالنظرإلى سقوطه المحتمل مع الأمل الذي يهدهد صدره في أن يحقق بطائرته الجديدة حلمه بأن يصل بها إلى أبعد مدى ..
أحييك أخي وأنتظر المزيد من أعمالك .