التسجيل قائمة الأعضاء اجعل كافة الأقسام مقروءة



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 138,680
عدد  مرات الظهور : 163,194,572

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > جمهوريات نور الأدب > جمهوريات الأدباء الخاصة > مدينة د. منذر أبو شعر
مدينة د. منذر أبو شعر خاصة بكتابات وإبداعات الدكتور منذر أبو شعر

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 27 / 10 / 2021, 25 : 12 AM   رقم المشاركة : [1]
د. منذر أبوشعر
محقق، مؤلف، أديب وقاص

 الصورة الرمزية د. منذر أبوشعر
 





د. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: سوريا

حقيقة التلبُّس madness


تقوم مسائل "أصول الدين" في العقيدة على جانبين: جانب فكري، وآخر قطعي. فالجانب الفكري: هو كل مسألة غيبية، أو غير غيبية، أتت نتيجة فهْم عالم من علماء المسلمين عبر العصور، أو نتيجة وضْع اجتماعي، أو عرف قائم.
أي هو تفكيرُ عالمٍ مسلم مجتهد مؤهل، في فهم نص صحيح ليس صريحاً في دلالته، يُعرف بظني الدلالة، مثل تعريف الإيمان وحقيقته، ومثل التفريق بين النبي والرسول، وهل خضر ولقمان وذو القرنين أنبياء أم لا؟
والجانب القطعي: هو كل مسألة غيبية جاءت عن طريق نص صحيح صريح، لا تحتمل إلاَّ فهماً واحداً واضح الدلالة، ولذلك وجب الإيمان به والتسليم له، ومثاله أركان الإيمان: كالأيمان بالرسل، والجنة والنار، والملائكة؛ ويُتبع بعضُ كتبِ العقيدة عقب الحديث عن هذا الركن وتفاصيله الكلامَ عن الجن، لأنه يشترك مع الإيمان بالملائكة في جانب خفائهما عن أعين الناس، وكلاهما من المخلوقات الموجودة في الكون كـ "كونيات". والكونيات في العقيدة: هي التي تتحدث عن الإنسان والملائكة والجان وقانون السببية في الكون.
= فكما أن الناس لا يرون الملائكة رغم وجودها، فكذلك لا يرى الناس في الأصل الجان رغم وجوده، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ ـ الأعراف 27 ـ، ولذلك سُمّيت جاناً لخفائها عن الناس.
= فالإيمان بوجودهم قطعي من قطعيات الدين، للنصوص الدالة على ذلك.
لكن هل الجن يتلبس الإنسان، ويُفقده وعيه، ويتصرف فيه، ويقوده كما يشاء، ويكون الإنسان مُساقاً دون حَوْل ولا إرادة؟
** ** ** ** **
وقبل عرض الرأيين المعروفين في هذه المسألة، ننبه: أنَّ حالة التلبس، بهذا المفهوم، تختلف عن حالات السحر، وإن نُسبت جميعها إلى الشيطان أو الجان أو هاروت وماروت.
كما أنَّ المسألة غيبية عقائدية، فلا بد من دليل صريح في القرآن الكريم أو السنة النبوية لتبني موقف منها.
** ** ** ** **
وبدراسة أدلة الفريقين: المؤيد والمعارض، يتضح أنَّ نتائج المسألة عند كلاهما ظنية بحتة، بمعنى عدم وجود آية أو حديث مباشر وصريح، ينص على "إنه يتلبس الجن بالإنس"، أو ينص على عدمه: "لا يتلبس الجن بالإنس"، وإن كان الحق أقرب للفريق الثاني.
= ولذلك كان اختلاف العلماء حول هذه المسألة حسب أفهامهم للآيات والأحاديث ذات الصلة الواردة في الباب، وإنْ رأى كل فريق أنَّ موقفه وفهمه مصرح به في الأدلة التي رآها.
** ** ** ** **
أدلة الرأي الأول: الإثبات:
1- ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ ـ البقرة 274 ـ، أي يمكن للشيطان أن يتلبس بالإنسان.
2- ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ ـ ص 41ـ
3- ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ ـ الزخرف 36 ـ. 4- ﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا﴾ ـ الأنعام 128 ـ، فيُفهم من «استمتع بعضنا ببعض» الدليل على التلبس.
5- قال ﷺ، وإسناده صحيح: "ما منكم من أحد إلاَّ وقد وُكّل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك؟ قال: وإياي، إلاَّ أنَّ الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلاَّ بخير".
6- وقال ﷺ، وإسناده صحيح: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، وهو من حديث السيدة صفية بنت حيي قالت: كان النبي ﷺ معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني ـ أي يرجعني إلى منزلي ـ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلمَّا رأيا النبي ﷺ أسرعا، فقال النبي ﷺ: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إنَّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أنْ يقذف في قلوبكما شراً. أو قال: "شيئاً".
** ** ** ** **
أدلة الرأي الثاني: النفي:
تلبّس الجان بالإنسان وصرعه له وتحكمه فيه خرافة راجت بين المسلمين بفعل الموروثات الشعبية التي يتناقلها الناس من غير بحث ولا تدقيق؛ وانتشرت بين الناس من غير أن يكون لها مستند شرعي لا من القرآن الكريم ولا من السنة الصحيحة.
فالأدلة التي يستدل بها القائلون بدخول الجان في الإنسان، وتلبسه به وصرعه له، فالصحيح منها غير صريح في الدلالة على ذلك، وبعضها ضعيف لا يصلح للاحتجاج به. لذلك اختلطت فيها الأوهام بالحقائق؛ وغدتْ، لتداولها عبر الأجيال، كأنها من مسلمات الدين، وقطعيات العقيدة، وهي في حقيقة الأمر ليست كذلك، إنما هي آراء تناقلها اللاحق عن السابق.
وتفصيل ذلك:
1- قوله تعالى: ﴿ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ ـ البقرة 274 ـ، لا يُفهم منه أنَّ أكْلَ الربا والتعامل معه فيها معنى سيطرة الجن على الإنس والتلبس به، إذ لا علاقة بين الآية وبين التلبس؛ لأنَّ المراد بقوله تعالى ﴿ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ هو ما ذهب إليه الرازي في التفسير أنه مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَآئفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ ـ الأعراف 201 ـ، وذلك لأنَّ الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله؛ فهذا هو المراد من مس الشيطان، أي (الوسوسة)؛ فمن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة المَلَك يجره إلى الدين والتقوى، فتحدث له حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، وهذا هو التخبط الحاصل بفعل الشيطان.
= فالآية تتحدث عن حالة الجزع والهلع التي تصيب المرابين نتيجة تمزقهم الوجداني بين معرفتهم بحرمة ما يرتكبونه، وفي الوقت نفسه جشع نفوسهم في تحصيل المردود المادي عن طريق الربا، فتسيطر عليهم حينها حالة التخبط.
وذكر القفال فيه وجه آخر، وهو أنَّ الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا. وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء، أن يضيفوه إلى الشيطان، كما في قوله تعالى: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ ـ الصافات 65ـ.
2 ـ وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ ـ ص 41 ـ إنمَّا بيَّنه بقوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، فأسند المس إلى الضر، والضر هو النصب والعذاب.
= فالباء تحمل على معنى السببية، أي النصب والعذاب مسببين لمس الشيطان إياه، أي: مسني بوسواس سببه نصب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النصب والعذاب عنده، ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك.
= فالشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر في مكرر آيات القرآن؛ وليس النصب والعذاب من الوسوسة، ولا من آثارها.
= فالآية ليست لبيان تلبّس الشيطان بنبي من أنبياء الله معصوم؛ بل هي أدب الخطاب
بنسبة الشر إلى الشيطان والخير إلى الله، بدليل قول النبي نفسه في آية أخرى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾. قال ابن عاشور: في قول أيوب ﴿أني مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذابٍ﴾ كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه، بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه، فطلب العصمة من ذلك، على نحو قول يوسف عليه السّلام: ﴿وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين﴾ ـ يوسف 33ـ. وتنوين «نصب وعذاب» للتعظيم أو للنوعية، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله.
وقال الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب": «الشيطان لا قدرة له البتّة على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، والدليل عليه وجوه:
الأول: أنَّا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان، ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات، فقد حصل بفعل الشيطان، وحينئذٍ لا يكون لنا سبيل إلى أنْ نعرف أنَّ مُعطي الحياة والموت والصحة والسقم، هو الله تعالى.
الثاني: أنَّ الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم لا يخرب دورهم، ولم لا يقتل أولادهم.
الثالث: أنه تعالى حكى عن الشيطان أنه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ ـ إبراهيم 22ـ فصرَّح بأنه لا قدرة له في حق البشر إلاَّ على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، وذلك يدل على قول من يقول إنَّ الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض والآفات.
فإن قال قائل: لم لا يجوز أنْ يقال إنَّ الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكنْ على وفق التماس الشيطان؟ قلنا فإذا كان لا بد من الاعتراف بأنَّ خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى، فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك؟ بل الحق أنَّ المراد من قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة والخواطر الباطنة كان يلقيه في أنواع العذاب والعناء».
3 ـ وقوله: ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ ـ الزخرف 36 ـ، أي: نجعل له شيطاناً يغويه فهو له قرين.
وكم هو فرق بين الصحبة وبين التلبس، ثم أنَّ الآية في الكافر وليس المؤمن ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾.
4 ـ وقوله: ﴿اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا﴾ ـ الأنعام 128 ـ، فهل يستمتع الأنس بالتلبس؟!
= إنما استمتاع الإنس بالجن أنَّ الرجل في الجاهلية كان إذا نزل أرضاً يقول: "أعوذ بكبير هذا الوادي"، أو إنَّ انتفاعهم بهم أنهم دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها، وهذا هو المعنى الأقرب، فاعتذروا من ذلك يوم القيامة.
وأمَّا استمتاع الجن بالإنس، فهو ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم، فأطاعوهم واستجابوا لوسوستهم، وخالفوا أمر ربهم. أي انتفع كل فريق من صاحبه باللذة العاجلة التي أوردته إلى سوء المصير. قال الإمام الطحاوي في "شرح الآثار": «الناس إنما أمروا بالاستعاذة من الشيطان، فيما جعل له سلطان عليهم - وهي الوسوسة - لتحبيب الشر وتكريه الخير وإنساء ما يذكرون وتذكير ما ينسون. وأمَّا إعثار دوابهم وإهلاك أموالهم، فلا سبب له فيها». فلم يجعل الله لإبليس سلطاناً يقهر به بني آدم ويجبرهم على المعاصي. وإنما يوسوس لهم ويدعوهم للمعاصي فيطيعونه. ولو احتج علينا الجاني بأنَّ الشيطان كان قد ركبه وسيطر عليه وقت الجريمة، لما قبلنا ذلك منه. ولو كان الشيطان قادراً على الصرع، فلماذا لا يصرع جميع المؤمنين ويصرف همته إلى العلماء والزهاد وأهل العقول مع شدة عداوته لهم، ولماذا لم يغصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويفشي أسرارهم، ويزيل عقولهم؟
كل ذلك ظاهر الفساد.
= فإنْ قيل إنَّ الشيطان لا يتمكن إلاَّ من ضعفاء الإيمان؛ فلماذا لم يشك الكفار المعاصرون من احتلال الجن لأجسامهم؟ هل سمعتم بملك أو رئيس اليوم قد احتل
الجن جسمه وصار يتخبط به ويتكلم على لسانه؟
5 ـ وحديث: "ما منكم من أحد إلاَّ وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك؟ قال: وإياي، إلاَّ أنَّ الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلاَّ بخير"، فالحديث لا يدل على أن كل إنسان متلبس حتى النبي ﷺ، إنما يدل على وسوسة الجن للإنسان؛ وأنَّه كما يوجد رقيب عتيد من الملائكة يحفظه بدون تلبس، فكذا القرين يوسوس بلا تلبس.
6 ـ وحديث: "فإنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" فإنه في الوسوسة وسوء الظن وفق سياق الحديث، ولا شيء غير ذلك، لأن رسول الله ﷺ خشي أن يوسوس الشيطان لهما ويقذف في أذهانهما سوء ظن، فوضَّح لهما أن التي معه صفية بنت حيي. فهو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه.
= فعموم وظيفة الشيطان، هي: الوسوسة، والتزيين، والإغواء، والإغراء، أي هي في التزيين العقلي لا في العمل الذي قد يأخذ طابع التلبس، وهذا ما سيقرُّ به إبليس يوم القيامة: ﴿إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ ـ إبراهيم 22 ـ.
= وما قصة سيدنا آدم في الجنة مع الشيطان إلاَّ أكبر دليل على ذلك؛ فلا سبيل له للسيطرة القهرية أو القسرية على الإنسان. قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ ـ الحجر 42 ـ، فكيده ضعيف: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾ ـ النساء 76 ـ لأنه لا يتجاوز الدعوة إلى الشر وتزيينه، ولا مجال آخر له على الإنسان. وقال ﷺ، وإسناده صحيح: الحمد لله الذي رد كيده في الوسوسة (مسند ابن حنبل 2097، سنن أبي داود 5112).
7 ومن الأدلة التي يستدلون بها حديث المرأة السوداء الصحيح، حين قالت للنبي ﷺ "إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي"، فيرونه صريحاً في الدلالة على إثبات صرع الجني للإنسي.
فمن أين جاءوا بأنَّ الصرع المذكور في الحديث هو بسبب الجن؟ وهل في الحديث ما يدل عليه من قريب أو بعيد؟
إنَّ المرأة حينما اشتكت للنبي ﷺ قالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي، فقال: إنْ شئتِ صبرتِ ولكِ الجنَّة، وإن شئتِ دَعَوتُ الله تعالى أن يعافيك. فقالت: أصبر، وقالت: إنّي أتكشفُ فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها.
فليس فيه ما يفهم منه أن صرعها كان بسبب الجن، والصرع مرض معروف، فما علاقة ذلك بالجن؟ وهل يصح لو أنَّ صرعها كان بسبب الجن (كما فهموا منه) أنْ يتركها الرسول ﷺ للجني يتلاعب بها دون أنْ يرشدها إلى ما تدفع به شر صرعه إياها؟
8 وورد في حديث التثاؤب الصحيح: إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، فإنَّ الشيطان يدخل مع التثاؤب؛ فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع.
فلو حملنا هذا الحديث على ظاهره، وقلنا بأنَّ الشيطان يدخل في الإنسان في تلك الحالة المذكورة فماذا يترتب على ذلك الدخول؟ هل يوجد نص يثبت أنه في حال دخوله أعطي من القدرة ما يصرع به الإنسان ويتحكم فيه ويسيطر عليه؟
قال ابن العربي المالكي: قد بينَّا أنَّ كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته؛ وأنَّ كل فعل حسن نسبه الشرع إلى المَلَك لأنه واسطته. والتثاؤب من الامتلاء، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان. والعطاس من تقليل الغذاء، وينشأ عنه النشاط، وذلك بواسطة المَلَك.
وقال النووي: أضيف التثاؤب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه. والمراد: التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك، وهو التوسع في المأكل.
وقوله: ”فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع” أي: يأخذ في أسباب رده؛ وليس المراد به أنه يملك دفعه، لأنَّ الذي وقع لا يرد حقيقة. وقيل: معنى (إذا تثاءب) أي: إذا أراد أنْ يتثاءب. ويؤيد كراهته مطلقاً، كونه من الشيطان، لما فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة.
9 في الحديث الصحيح، أن جنيَّاً قتل فتى من المسلمين في عهد رسول الله ﷺ (صحيح مسلم 2236)، وحاول قطع الصلاة على رسول الله ﷺ فخنقه ﷺ (صحيح 461، 1210، صحيح مسلم 541)، وجاء للرسول ﷺ وهو في الصلاة بشهاب من النار ليجعله في وجهه (صحيح مسلم 542)، وسرق طعاماً من أبي هريرة (صحيح البخاري 2311، 3275).
والجواب: إنَّ الجن بإمكانها التشكل على شكل مخلوقات أخرى، كالأفاعي وكالإنس أيضاً. وعندما تتشكل بأشكال مخلوقات غيرها، يجري عليها نفس القوانين الفيزيائية والطبيعية التي تجري على تلك الأجسام. فيمكن عندها رؤية الجني الذي تشكل في إحدى صور غيره. ولو كان الجني باقياً على شكله الأصلي الجني، لاستحال على أي بشر أن يراه. قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ـ الأعراف 27 ـ. فالجن ترانا، ونحن لا يمكن أنْ نراهم. فإذا تشكلوا على أشكالنا، رأينا أشكالهم البشرية (وليس الجنية) وجرت عليهم النواميس الطبيعية التي تجري على البشر.
ولم ينكر أحدٌ أنَّ الجني بإمكانه أنْ يتشكل بشكل أنسي ويؤذي ابن آدم، كما يؤذي ابن آدم الآدمي الأخر. فهذا لا خلاف فيه. لكن أين هذا من تلبس الجني لجسد الإنسي، وسيطرته عليه، وتكلمه بلسانه؟! وشتان ما بين الأمرين.
10 وفي الحديث الصحيح: «خَمِّروا الآنية، وأَوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، وَاكْفِتُوا صبيانكم عند العشاء فإنَّ للجن انتشاراً وخَطفة؛ وأطفئوا المصابيح عند الرُّقاد (النوم) فإن الفُوَيْسِقَةَ (الفأرة) ربما اجترَّت الفتيلة فأحرقت أهل البيت».
وهذا الحديث فيه أنَّ شياطين الجن تنتشر في الليل، وقد تتشكل بشكل حيوانات مؤذية أو بأشكال بشرية فتؤذي بني آدم؛ أو أنها قد تدل دواب الأرض على إيذاء البشر. قال ابن حجر في الفتح: «والأصل في جميع ذلك يرجع إلى الشيطان، فإنه هو الذي يسوق الفأرة إلى حرق الدار».
على أنَّ البعض توهم معنى الحديث بأنَّ الجن تخطف البشر في الليل! واستشهدوا بقصة طويلة رواها العراقيون، باختلاف ألفاظهم، من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلاً، عن عمر بن الخطاب: أنَّ رجلاً من قومه، من الأنصار، خرج يصلى مع قومه العشاء، فسبته الجن، ففُقد، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب فقصت عليه القصة، فسأل عنه عمر قومه فقالوا: نعم خرج يصلى العشاء ففُقد. فأمرها أنْ تتربص أربع سنين. فلمَّا مضت الأربع سنين أتته فأخبرته، فسأل قومها، فقالوا نعم، فأمرها أنْ تتزوج. فتزوجتْ، فجاء زوجها يخاصم فى ذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته. فقال له: إنَّ لي عذراً يا أمير المؤمنين. قال: وما عذرك؟ قال: خرجتُ أصلي العشاء فسبتني الجن، فلبثتُ فيهم زماناً طويلاً، فغزاهم جنٌّ مؤمنون، أو قال مسلمون شك سعيد، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، فسبوا منهم سبايا فسبوني فيما سبوا منهم، فقالوا نراك رجلاً مسلماً ولا يحل لنا سبيك. فخيروني بين المقام وبين القفول إلى أهلي، فاخترتُ القفول إلى أهلي، فأقبلوا معي؛ أمَّا بالليل فليس يحدثوني، وأمَّا بالنهار فإعصار ريح أتبعها. فقال له عمر: فما كان طعامك فيهم؟ قال: الفول، وما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما كان شرابك فيهم؟ قال: الجَدَف. قال قتادة: والجَدَف ما لا يخمر من الشراب، وقال ابن سِيده: الجَدَف: نبات يكون باليمن تأكله الإبل فتجزأ به عن الماء، وقال كُراغ: لا يُحتاج مع أكله إلى شُرْب ماء. قال: فخيَّره عمر بين الصداق وبين امرأته. وزاد مطر الوراق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " قضى عمر رضي الله عنه في المفقود: تربص امرأته أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ثم تربص بعد ذلك أربعة أشهر وعشراً ثم تزوج ".
وهذا الأثر أخرجه ابن أبي الدنيا في هواتف الجان، والبيهقي في السنن الكبرى (7 / 445)، وغيرهم باختصار، بإسناد ظاهره الصحة. وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير. وقال ابن عبد البر: هذا خبر صحيح من رواية العراقيين والمكيين، مشهور، وقد روى معناه المدنيون في المفقود إلاَّ أنهم لم يذكروا معنى اختطاف الجن للرجل، ولا ذكروا تخيير المفقود بين المرأة والصداق، وإنما ذكرناه ههنا من أجل تخمير أواني الشراب والطعام وهي لفظة لم أرها في هذا الحديث في غير هذا الإسناد (التمهيد 12 / 183). وجاءت هذه الأسطورة في مرسل يحيى بن جعدة (قاص مكة) مختصرة جداً، وهي أجدر أن تكون من القصص التي تحكيها الأمهات لأطفالهن لتخيفهن من الخروج ليلاً.
نعم، للقصة أصل صحيح وهو حكم عمر في المفقود، رواه ثقات المدينة بالإسناد المتصل، بغير تلك الخرافات. قال ابن عبد البر في "التمهيد" ـ وذكرنا قوله قبل قليل ـ: «وقد روى معناه المدنيون في المفقود، إلاَّ أنهم لم يذكروا معنى اختطاف الجن للرجل». وابن أبي ليلى لم يسمع من عمر شيئاً ولم يره، قال: «ولدت لست سنين بقين من خلافة عمر».
11 وفي حديث السيدة عائشة، قالت: حدث رسول الله ﷺ نساءه ذات ليلة حديثاً، فقالت امرأة منهن: يا رسول الله، كأنَّ الحديث حديث خرافة؟ فقال: أتدرين ما خرافة؟ إنَّ خرافة كان رجلاً من عذرة أسرته الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهراً طويلاً، ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة.
أخرجه ابن حنبل (24716)، والترمذي في "الشمائل" (240)، وأبو يعلى في مسنده (4442)، والبزار (كشف الأستار 2475)، وغيرهم، وهو حديث ضعيف؛ لضعف مجالد بن سعيد، والاختلاف عليه في وصله وإرساله؛ لذلك قال الدارقطني: والمرسل أشبه بالصواب (العلل 3635).
وله طريق آخر عن السيدة عائشة، ذكره الحافظ في "الإصابة" (2 / 232) في ترجمة خُرافة العذري، بإسناد ضعيف منقطع بين عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود والسيدة عائشة.
ولذلك اشتهر بين أهل العلم أنَّ خرافة اسم رجل من عذرة استهوَتْه الجن؛ فكان يحدِّث
بما رأى، فكذَّبوه وقالوا: حديث خرافة، وأجروه على كلّ ما يكذبونه من الأحاديث، وكان مثلاً يُضرب عند سماع ما لا يُعرف صحَّته. قال الخليل بن أحمد: "والخرافة: حديث مستملح كذب، وخَرَّفْتُ فلانًا: حدَّثتُه بالخرافات". حتى قيل للأباطيل والتُّرَّهات: الخرافات (ربيع الأبرار 4 / 350).
12 في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «ما من مولود يولد، إلاَّ والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه، إلاَّ مريم وابنها». ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم ﴿وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم﴾ ـ آل عمران 36 ـ (صحيح البخاري 3044، 4274، صحيح مسلم 2366).
والصواب أنَّ هذا المسَّ لا علاقة له البتة بالصرع والجنون. قال ابن حجر: ظاهر الخبر أنَّ إبليس مُمَكَّنٌ من مَسّ كل مولودٍ عند ولادته، لكنْ من كان من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المسُّ أصلاً؛ وقد استثنى من المخلصين مريم وابنها، فإنه ذهب يمس على عادته، فحيل بينه وبين ذلك. فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين (فتح الباري 12 / 405)، ولا يُفهم من هذا أنَّ نخس الشيطان يلزم منه إضلالُ المنخوس وإغواؤه، فإنَّ ذلك ظنٌّ فاسد، فكم قد تعرَّض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك يعصمهم الله مما يرومه منهم.
= فإيذاء الشيطان للمولود عند ولادته هو خاصٌّ بوقت الولادة فقط، ولا يتعدى لغيره. ولنا أن نسأل: لو أنَّ الشيطان قدر على نخس الإنسان وإيذائه في كل وقت، فلم لا يصرع جميع المؤمنين؟ ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان؟ ولم لا يغصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويفشي أسرارهم، ويزيل عقولهم؟ ـ وأشرنا إلى هذا مراراً.
واحتج القائلون بأنَّ الشيطان يقدر على هذه الأشياء بدليل أن الشياطين في زمان سليمان بن داود -عليهما السلام - كانوا يعملون الأعمال الشاقة، على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات.
والجواب عنه: إنَّ قدرتهم على ذلك لا تعني قدرتهم على صرع الإنسان. وأنه تعالى كلفهم في زمن سليمان، فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال، وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام.
13 في حديث أبي موسى الأشعري، وهو حديث صحيح، قال: قال رسول الله ﷺ: فناء أمتي بالطعن والطاعون. فقيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهداء.
أخرجه ابن حنبل في مسنده (19546)، وأبي يعلى في مسنده (4664، 7226)، والحاكم في المستدرك (1 / 50)، والبزار (كشف الأستار 3039، 3040).
والوخز: الطعن لا يبلغ العصب، وهو كالنخس، ليس بنافذ. وقال المناوي: وصف ﷺ طعن الجن بأنه وخز لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر، فيؤثر في الباطن أولاً ثم يؤثر في الظاهر، وقد لا ينفذ (فيض القدير 4 / 287)، وهذا خلاف طعن الإنس فإنه يؤثر أولاً في الظاهر ثم قد ينفذ إلى الباطن، وقد لا ينفذ.
ومعلوم أن الطاعون له جرثومة معلومة تصيب الغدد البلغمية وتسبب الوفاة. فأراد ﷺ بالطاعون: الجراثيم أي (الميكروب)، وهي أحد أنواع الجن. ففي حديث أبي ثعلبة الخشني، وإسناده صحيح، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الجن على ثلاثة أصناف: صنف كلاب وحيات، وصنف يطيرون في الهواء، وصنف يَحُلُّون ويظعنون (صحيح ابن حبان 6123، المستدرك للحاكم 2 / 456)، فالجن في الحديث هم الجن من الصنف الثاني الذي حدده الرسول ﷺ في قوله: يطيرون في الهواء.
14 في حديث أبي اليسر كعب بن عمرو السَّلمي، الصحيح، قال: «كان رسول الله ﷺ يقول: اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم، والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً».
(مسند ابن حنبل 15563، سنن أبي داود 1552، سنن النسائي 5531).
قال الخطابي: «استعاذته ﷺ من تخبط الشيطان عند الموت هو: أن يستولي عليه عند مفارقته الدنيا، فيضلّه ويحول بينه وبين التوبة؛ أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله؛ أو يوئسه من رحمة الله تعالى؛ أو يكره الموت ويتأسف على حياة الدنيا، فلا يرضى بما قضاه الله من الفناء والنقلة إلى دار الآخرة، فيختم له بسوء، ويلقى الله وهو ساخط عليه»، وواضح جداً من الحديث أنَّ هذا عن الوسوسة النفسية لا غير.
15 في الحديث، وهو صحيح بمجموع طرقه، أن رسول الله ﷺ كان يستفتح في صلاته: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه ونفثه». (مسند ابن حنبل 11491، سنن أبي داود 775، سنن الترمذي 242).
روي الحديث مرفوعاً موصولاً ومرسلاً وموقوفاً.
والاستعاذة: لها عدة معانٍ تدور حول الالتجاء والاستجارة والاحتماء والتحرز والالتصاق، يعني: أعتصم وألتجأ إلى الله تعالى؛ وقال ابن جُزي: العوذ هو الالتجاء إلى الشيء في أصل معناه، يعني: أستجير بالله وأتحرز به وأمتنع به من المكروه، وألوذ به. وبعض أهل العلم يُفرق بين العوذ واللوذ، يقولون: العوذ يكون بالالتجاء من المكروه، واللوذ في المرغوب والمحبوب، قال ابن كثير: العياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب الخير (تفسير ابن كثير 1 /114)؛ لكن هذا ليس محل اتفاق فبعض أهل العلم يقول إنهما بمعنى واحد.
وجاء الفعل أعوذ بالمضارع دون الماضي إذ معناها الطلب؛ لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلاَّ بالمستقبل، فهي كالدعاء؛ والداعي إنما يريد أمراً لا يتعلق إلاَّ بالمستقبل. والباء في أعوذ بالله: هي للاستعانة، يعني: مستعيناً بالله. وجملة أعوذ بالله جملة خبرية، أي هي صيغة خبرية؛ أي هو مُخبر أنه يستعيذ بالله، لكنه من جهة المعنى طالب من الله تعالى أن يُعيذه.
والهمْز: الغمز، كالعصْر والضغط. أي أستجير بك ربي من خنق الشيطان، وخَطَراته
التي يُخْطِرها بقلب الإنسان.
والنفخ: فُسر بالكِبر.
والنفث: نفخٌ لطيف يكون في الرُّقْية ولا ريق معه، وقد يكون بقليل من الريق؛ فإنْ كان معه رِيق فهو التَّفْل. وفُسر بالشِّعر المذموم في الحديث، لأنه يُنفث من الفم، وفسره بعضهم بالسحر لقوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ ـ الفلق 4 ـ، فالساحر ينفُث في عُقَد الخيط حين يَرْقي عليها.
= فالمُستعيذ يلجأ إلى الله تبارك وتعالى، ويعتصم به من شر الشيطان، ووساوسه وكيده وخواطره وإضلاله، ويسأل ربه العِصمة منه. ولا علاقة لذلك بالتلبس من أيّ وجه.
16 في حديث عثمان بن أبي العاص، أنه اشتكى إلى النبي ﷺ ما يفسد عليه خشوعه في صلاته، فأصبح لا يدري ماذا يقول فيها، فقال له: "ذاك الشيطان، ادنه، فدنوت منه فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال: اخرج عدو الله". فعل ذلك ثلاث مرات. وفي رواية الحسن، قال: ذاك شيطان يقال له خِنْزب (مسند ابن حنبل 17440، سنن ابن ماجة 2874).
والحديث بهذا اللفظ لا يصح، فيه انقطاع، وفيه زيادة، فأخطأ من صححه. وتمام روايته في صحيح مسلم (468): أنَّ النبي ﷺ قال له: «أُمَّ قَوْمَكَ». قلت: «يا رسول الله، إني أجد في نفسي شيئاً». قال: «ادْنُهْ». فجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري بين ثديي، ثم قال: «تحوَّل»، فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: «أُمَّ قومك. فمن أَمَّ قوماً فليخفف، فإنَّ فيهم الكبير وإنَّ فيهم المريض وإنَّ فيهم الضعيف وإنَّ فيهم ذا الحاجة. وإذا أحدكم صلَّى وحده، فليُصلّ كيف شاء».
وفي باب آخر، قال: أتى عثمان بن أبي العاص النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله، إنَّ الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها علي». فقال رسول الله ﷺ: «ذاك شيطان يقال له خِنْزب. فإذا أحسسته، فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً». قال: «ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني» (صحيح مسلم 2203).
قال الإمام النووي: «وقوله "أجد في نفسي شيئاً"، قيل: يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له بتقدمه على الناس، فأذهبه الله تعالى ببركة كف رسول الله ﷺ ودعائه. ويحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوساً، ولا يصلح للإمام الموسوس». والوسوسة غير التلبس. والشيطان إنما كان يحول بينه وبين صلاته، بمعنى: جعل بينه وبين كمال الصلاة والقراءة حاجزاً من وسوسته المانعة من رُوح العبادة وسرّها، وهو الخشوع. وقد قالوا إنَّ السبب في التلبس هو بعد الإنسان عن الله وكثرة الذنوب والمعاصي؛ وعثمان صحابي وإمام قومه، فهل مثل هذا يتلبسه الشيطان؟!
= وأمَّا دخول الشيطان إلى ابن آدم ليوسوس له في صدره، فهي حقيقة قرآنية لا نقاش فيها. إنما أن يصير الشيطان هو المسيطر الكامل على الجسد، وهو الذي يتكلم ويتحرك ويحس، فهذا من الخرافات. ولو صح لادعى المجرم أنه وقت الجريمة كان الشيطان قد تلبسه، فهو غير مسؤول عن جسمه!
17 ونحوه حديث يعلى بن مرة الثقفي، قال: سافرت مع النبي ﷺ فرأيت منه شيئاً عجباً.. أتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين. فقال رسول الله ﷺ: أدنيه. فأدنته منه، فتفل في فيه وقال: اخرج عدو الله، أنا رسول الله (مسند ابن حنبل 17282، 17283، 17284، 17297، 17302، 17306، 17308، الطبراني في المعجم الكبير 17340، مصنف ابن أبي شيبة 19561، 23077، 23100، 31133، وغيرهم، بأسانيد وطرق متعددة لا تخلو كلها من مقال، وجزم ابن حزم بتضعيفه لانقطاعه، وأخطأ من صححه بمجموع طرقه).
** ** ** ** **
وقد يقول القائل: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف نفسر هذه الظواهر التي نراها ونسمعها والتي تبين صرع الممسوس، ونطق الجن على لسانه في بعض الأحيان حديثاً بلغة غير لغته، أو فراره من قراءة الراقي خاصة عند قراءة القرآن؟
فنقول: هذه ظاهرة سببها اعتلالات نفسية وأعراض ذهانية أو حتى وجدانية (كالاكتئاب أو الانشراح المفرط، والهلوسات السمعية والبصرية)، جميعها أعراضٌ مرضية معروفة عند الأطباء النفسيين، توجب العلاج عندهم، وغالبها هي من باب التخيل الذي يُصور للمريض النفسي مخزون ثقافات ومجموع ذكريات محيطه الجمعية، ولا يحتاج هذا المريض إلاَّ للعقاقير والأدوية النفسية.
= وظاهرٌ تماماً أنَّ المبالغة في الخوف من الجن أمرٌ متوارث؛ فهو في تراثنا وثقافتنا؛ لذلك تجده بين جميع طبقات المجتمع، المتعلمين وغير المتعلمين، والفقراء والأغنياء. = ومن قطعيات الدين أن الدعاء سلاح المؤمن، وأذكار الصباح والمساء الثابتة خير ما يحمي الإنسان ويحفظ به نفسه، ليس من الجن فحسب، بل من شر كل دابة الله آخذ بنواصيها، ومن شر الإنس، ومن شر ما نعلم، وما لا نعلم ومن شر كل ما في الأرض، وما في السماء ومن شر كل ما خلق الله، ومن شر هوانا وأنفسنا.


نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع د. منذر أبوشعر
 تفضل بزيارتي على موقعي الشخصي

http://drmonther.com
د. منذر أبوشعر غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 27 / 10 / 2021, 38 : 01 PM   رقم المشاركة : [2]
بشرى كمال
كاتب نور أدبي ينشط
 





بشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant futureبشرى كمال has a brilliant future

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: حقيقة التلبُّس madness

شكرا على ما قدمته لنا من معلومات عن التلبس.
تحياتي
بشرى كمال غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 27 / 10 / 2021, 53 : 03 PM   رقم المشاركة : [3]
د. منذر أبوشعر
محقق، مؤلف، أديب وقاص

 الصورة الرمزية د. منذر أبوشعر
 





د. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: سوريا

رد: حقيقة التلبُّس madness

الأستاذ الأديب بشرى كمال:
عطرٌ مرورك، وبحسن إصغائك، أكسب عزم دأب متابعة.
فالشكر كل الشكر لك، والدرب ما زلنا نسير فيه.


توقيع د. منذر أبوشعر
 تفضل بزيارتي على موقعي الشخصي

http://drmonther.com
د. منذر أبوشعر غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 27 / 10 / 2021, 55 : 03 PM   رقم المشاركة : [4]
د. منذر أبوشعر
محقق، مؤلف، أديب وقاص

 الصورة الرمزية د. منذر أبوشعر
 





د. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: سوريا

رد: حقيقة التلبُّس madness


ليس شرطاً إن أحببتَ إنساناً أنْ توافقه على الدوام فيما يرتئيه ويذهب إليه.
والأستاذ عدنان عجلوني أبو ياسين أحد أبرز مشايخ دمشق، أحببت منه صدق توجهه، وعالي ألق شفافية روحه، وعالي هدوئه، وعالي جمال دأبه.
ولمَّا قرأ ما كتبتُ عن «التلبس» أرسل إليَّ هذه الملاحظة:
قرأتُ المقال وجزاك الله خيراً، ولكنني خرجت بنتيجة أنَّ الجن فعلاً يتلبس بالإنسان الشارد عن حمى الرحمن لغفلته عن الذكر والاستعاذة.
فالإنسان الغافل، المتلبس بالمعاصي، التارك للطاعات القولية والعملية، هو الذي عنده نقاط الضعف التي تُمكّن الجن من السيطرة عليه.
والجن الشيطاني الكافر يهمه إضلال الناس المؤمنين غير المطبقين لمقتضيات إيمانهم، فيتمكن منهم بقدرة الله بالإضلال والتلبس، بسبب اختيارهم لطريق الضلال والغفلة، فيزيدهم الله ضلالاً بأسبابٍ منها تولي الشيطان..
أمَّا المؤمن المفعل لإيمانه بالطاعات القولية والعملية، فهو محميٌّ بها من تلبس الشيطان ومعصومٌ منه بإذن الله.
ومن أول المقال وأنا أنتظر الكلام عن الحالات المتواترة المشاهدة بتكلم الجني على لسان الإنسي بصوت ولغة وطريقة مغايرة لطبيعته ولغته ونبرة صوته، وفسرها الكاتب بأنها أحوال نفسية معروفة! فأية حالة نفسية تجعل الإنسان يتكلم بلغة غير لغته، وبنبرة غير صوته المعروف؟
هذا كلام غير مقنع.. والله أعلم.
توقيع د. منذر أبوشعر
 تفضل بزيارتي على موقعي الشخصي

http://drmonther.com
د. منذر أبوشعر غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
التلبُّس, حقيقة, madness


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
دقيقة واحدة محمد جوهر الخاطـرة 5 23 / 06 / 2025 31 : 12 AM
حقيقة محمد جوهر الخاطـرة 5 17 / 06 / 2025 44 : 04 PM
بيان حقيقة رشيد الميموني شرفة البوح وبيت العائلة النورأدبية 2 10 / 09 / 2021 20 : 11 PM
Love madness and grwat doctors. عبداللطيف أحمد فؤاد Stories 2 03 / 06 / 2015 10 : 12 AM
حقيقة ناهد شما نورالأسرة، التربية والتعليم وقضايا المجتمع والسلوك 8 22 / 01 / 2015 39 : 12 AM


الساعة الآن 53 : 03 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|