الحداثة وتغير الشكل
[align=justify]
تطور القصيدة في الشعر العربي وغيره يأتي من خلال تغير الشكل لا المضمون.. إذ لانستطيع أن نراهن على حركة تستطيع أن تأتي بالجديد من خلال المحمول أو المضمون، كون المضمون واحداً في كل زمان ومكان، والحركة التي تحدث فيه إنما تكون بإضافة ما يستجد من أمور لم تكن معروفة من قبل، وهذا لايمكن أن يشكل تطوراً أو تغييراً أو انقلاباً على المضمون السابق.. لكن لي اعتقاد ما يرى أن حركة الشكل المتغيرة تشد معها إليها تغيراً في بنية الموضوع إضافة إلى الصور وكل ما هو مرتبط بالبلاغة، مما يجعل المضمون في هيئة أخرى، لاتشبه ما سبق.. وطبيعي القول إن طريقة التناول هي الجديدة دائماً، فالجدة تنبع من خلال التركيز على مسار الفكرة أو الموضوع.. إن موضوعة »حب الوطن« واحدة، لكنها متجددة من خلال البناء العام والذي تتبعه أشياء كثيرة، أولها أو أساسها الشكل الخارجي.. فالشكل قادر على فرض سيطرة غريبة مهيمنة تضم إليها الذات المبدعة والصور والانفعالات والترتيب الكلامي ووقع الموسيقى والعلو أو الهمس في الصوت وهكذا..
حين انتقل الشعر من البيت كشكل معتمد، إلى التفعيلة كشكل جديد، صار للشعر قدرة على الامتداد دون ترك متكأ إجباري كانت قافية البيت تقف عنده، لتكون نهاية المقطع متكأ.. طبيعي في مثل هذه الحالة أن يرى القارئ والمبدع معاً إلى جديد مغاير ما كان يعرفه من قبل.. وإذا كان المضمون واحداً رغم اتساعه وتعدده، فإنه ظهر بحلة جديدة لم تكن معروفة، والحلة سحبت وأضافت إليها تغيراً في بنية الصورة وتركيب الجملة ولون الموسيقى.. وبشكل طبيعي كان هناك تغير في كتلة المشاعر والانفعالات التي انفتحت على نسق جديد لم يكن معروفاً في البيت العمودي.. أخذت المشاعر هنا مساحة أكبر كي تتمدد دون انطفاء قسري تفرضه نهاية البيت، أو لنقل دون إلزام بالتوقف ثم المتابعة.. فالمحطة في التفعيلة مرتبطة بنهاية مقطع ما.. ونهاية المقطع غير مقيدة.. حيث يستطيع الشاعر أن يطيل ويمضي بمشاعره في مقطع يتيح له حرية الامتداد حتى يشعر بضرورة التوقف معلناً إشباع أو ارتواء مشاعره مما أراد قوله. لذلك اختلف طول المقاطع وتغير، وكان لكل شاعر طريقة أو أسلوب مقطعي إن صحت التسمية.. فالمقطع يدل على النفس وتنفس المشاعر، وهذا ما أتاحته قصيدة التفعيلة باقتدار..
قصيدة النثر أرادت أن تغير في بنية الشكل من خلال إسقاط القيد الموسيقي والتركيز على شكل داخلي ينبع من نسق الإيقاع في الجملة والصورة.. فبدا الموضوع مغايراً في تشكله جراء تغير في الثوب الخارجي أو الشكل.. وكان التوجه إلى شكل الداخل رجراجاً ينوس بين النجاح والفشل.. وكان الأولى أن يتوجه الانتباه إلى كل ما يفرضه الشكل الجديد من تغيرات في البناء الداخلي.. الشعر في حالة قصيدة النثر يحتاج إلى تعويض يخفف قضية تجاوز الموسيقى، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى عبقرية فذة تحققه، كي تكون قصيدة النثر متفوقة..
أعتبر أن قصيدة السطر الواحد، أو ما أسميه القصيدة الدافقة، أقرب الأشكال قدرة على مداخلة منطقة الإبداع عند الشاعر وملاصقتها مباشرة. فهي قصيدة تبدأ مع أول كلمة ولاتتوقف إلا عند آخر كلمة.. هذا يعني انتفاء وجود المقاطع، انتفاء وجود النقاط والفواصل وغيرها، انتفاء وجود القافية التي تنهي مقطعاً ما لأن القصيدة كلها مقطع واحد، انتفاء وجود أي شكل من أشكال التقسيم لأن القصيدة مفتوحة بشكل مطلق على تدفق الكلمات من خلال التواصل مع تفعيلة ما.. لكن صعوبة هذا الشكل تتبدى في الكتابة والقراءة معاً، إذ يحتاج الكاتب كما القارئ إلى نفس طويل لمعايشة قصيدة تنفتح على المطلق دون أي مجال للتوقف.. وصعوبة هذا الشكل للقصيدة أنه يفتح مجالاً لتكرار بعض المفردات.. أما نفس وذات وإحساسات الشاعر فصورتها جد واضحة في مثل هذا النوع من كتابة القصيدة.. وطبيعي أن يجد الشعراء صعوبة في تقبل هذا الشكل كمنجز حديث متطور لأنه يحتاج إلى تجاوز كل شيء مما كان في الذاكرة الشكلية السابقة.. فهل نعتبر هذا التطور في شكل القصيدة قابلاً لاحتواء قصائد جديدة يكتبها شعراء من هنا وهناك؟؟.. أقول ربما هناك عدة أسباب تقف في وجه ذلك، إضافة لما ذكرته..
تطور القصيدة لايقف عند حد.. لكن السعي للتطور والتطوير يحتاجان إلى إبداع وعمل وتفكير بالجديد.. وأعتقد أن أكثر الشعراء مالوا لمعايشة الموجود أو القالب الجاهز، فهو لايحتاج إلى تعب وجهد والكثير من إعمال الفكر.. الشكل الجديد تطوير، والتطوير لايأتي بقفزة في الفراغ، ولايأتي هكذا دون مقدمات.. كل شيء جديد يحتاج إلى مقدمات واجتهاد، وتعود اللجوء إلى القوالب الجاهزة مريح لكنه عادي بكل التعاريف.. فهل نبحث عن الجديد، أم نبقى في حيز الموجود شعرياً حتى لانتعب أنفسنا.؟؟
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|