
كان وسيما كصباح ربيعي , أنيقا كباقة ياسمين يحضنها كأس بلوري , له حضور يشبه كثيرا حضور الفل في البساتين ..يلبس بذلة باج , أضفت عليه وجاهة . وكان حذاؤه يحاكي البذلة في اللون والنسق . وعندما تحدث خلت أنّ صوته قد انحدر من صالونات الشعراء . كان رقيقا كملمس الحرير , شفيفا كزرقة السّماء تحت صفحة الغدير , عذبا كهمس النسيم . رأيته حين زرته مع زميلتيَّ في مكتبه . فتملكني شيىء ما فيه . كانت القاعة واسعة ,يتوسطها مكتب فخم .قد صففت فوقه في نظام أوراق وأقلام . و على يمينه مكتبة صغيرة ضمت كتبا وملفات . يقابل المكتب كرسيان قد شغلتهما زميلتيَّ . أمّا أنا فقد اخترت الجلوس على كرسي كان يتسع لشخصين , اتخذ مكانه في مؤخرة القاعة , فكان موقعي بمثابة البحر يحضن بذراعيه المدينة في صمت .
الساعة تشير إلى الثانية و نصف بعد الزوال . وكانت عيون السماء مازالت تذرف دمعا خفيفا تتقاطع فيه مع أشعة الشّمس التي خرجت للتوّ من مخبئها . فوقفت المدينة عارية على الصخر .تجفف جسمها من حبات المطر . داخل قاعة المكتب كان الهدوء يلف المكان . جلست وزميلتيَّ و الصمت جارنا .ننتظر أن يتفرغ إلينا بعد أن رحب بنا . فاجأنا صوته حين كنّا نقلب أبصارنا في أرجاء القاعة . ودون أن يحول عينيه عن الملف الذي بين يديه قال : ما الذي يمكن أن أخدم به الأستاذات الكريمات ؟
ابتسمت إحدى زميلتيَّ و بعد أن رمقت الأخرى ردّت : نرغب في الانسحاب من الدورة التكوينية في الإعلام الآلي , أنا و زميلتي (مشيرة إلى إلهام) . يرفع رأسه يتأمل كل منهما بنظرة تملؤها الدهشة .ثمّ راح يستفسر عن الأسباب بعد أن عاد إلى تفحص الأوراق التي بين يديه . تردّ الأستاذة نفسها بصوت مشبع بالغرور : إنه من اليسر على أي أحد استخدام الحاسوب دون حاجة إلى أستاذ أو تكوين .لذلك فإننا نلتمس من سيادتك أن تعفنا منه . ران الهدوء وقتا قصيرا , انشغل فيه بترتيب بعض الأوراق داخل ملف أصفر .
يدخل المكتب رجل طويل , عريض المنكبين , لغته الفصحى , يرمقنا بنظرة خاطفة و هو يلقي السلام ,ثمّ سرعان ما تحول عنا . يقترب منه يحييه تحية خاصة يقرنها بذكر إسمه .."أحمد" إسمه إذن قلت في نفسي , ثمّ رحت أتأمل لباقته وحسن حديثه الذي لم يحرمهما ضيفه . تسرب بداخلي إحساس رقيق يشبه الطيف الهزيل في صباح شتوي .
ما يلبث أن يزيد ضياءً كلما رفع "أحمد " عينيه نحوي.سحب ورقة من درج مكتبه , وراح يسجل إسميْ زميلتيَّ عليها بعد أن علّق على طلبهما بقوله : يوحي طلبكما للوهلة الآولى أنكما خبيرتان في التعامل مع الحاسوب .لم يعارض غرور الآولى توقعاته ,أمّا الثانية فقد تعللت بكثرة انشغالاتها , فالبيت والأولاد ..كانت روح الشكوى تثقل لغة زميلتي . و كان بروح الطبيب العارف يخفف الآه معتمدا على أداة الواجب . كانت حكمته تصوره شيخا تقلب مع الأيام في حجر واحد ,فباحت له بمكنونات أقفالها , و أسرّت له بأقفال جواهرها .لمّا استوقفني فراغ الحديث بينهم .أدركت أنّه شاب في أزهى عقود عمره .قد استحى الشيب أن يطل من مفرقه .
- و أنت أستاذتي هل ترغبين في الانسحاب أيضا ؟ يقتحم صوته خلوتي .
- بالعكس أنا بحاجة إلى ما يحي علاقتي بالحاسوب . تنعش إجابتي شيئا ما بداخله , فيتورد وجهه رضا من موقفي . فتح معي الحديث عن متعلقات التسجيل , وفتحت قلبي أمام عينيه . عينان يشعان بالوقار , يضمهما وجه ملائكي قد انعطفت عنه كل آيات المكر والخداع .
الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل . يطاردني الأرق ..أحس بالخوف . لست أدري إذا ما كنت أخاف من الحلم أم أنني أخاف عليه . أنحني على مكتبي يتلعثم القلم بين أصابعي .أصرّ على فعل الكتابة.. يحبس أنفاسه .. أرمي به .. لا شيىء أريده الليلة أن يقف في وجه الحلم . ينفجر الأمس في وجهي : أنت لم تشفي بعد من طعنة الأمس . من بعيد يأتي صوتك يا أمال يلومني فيقول : أراك تتجردين من ثوبك للمرة المليون ..حافية القدمين تحاولين جمع زبد البحر ..أعرض عنك ..أحتمي بفعل الكتابة .. يستعصي القلم الثاني ..أرمي به ..في بحر الحبر أجر قلمي المثقل بالخيبات ..أعتصر ذاكرتي ..قال الأستاذ المحاضر : إنّ اللغة أبلغ وسيلة للتواصل لكنها قاصرة جدا في المجال العاطفي .!
تشهق الفرحة بداخلي .إذن أنا لست بحاجة أن أكتب قصتي . يكفي أنني أعيش إحساسي . و يتهادى صوتك يا أمال : إلى متى و أنت ببراءة الملائكة ؟ تحلمين ..تؤمنين بالفاعل المستتر في حين أن كل المتعلقات صامتة . أعرض عن صوتك يا أمال . فأنا أعرف موقفك من أحلامي . منذ أيام الجامعة و أنت لا تستأنسين لأحلامي , تصفينها بصفة البكر و أنها لم تُفطم بعد ..
كل يوم أربعاء كنت أسترق النظر إلى مكتبه . ألتقط نبرات صوته كلما مررت بمحاذاة مكتبه . و كان هو يترصد وقع أحذيتي .يطارد صوتي يلاحقني إلى قاعة الدرس
.-: من فضلك يا استاذ تعال وانظر القرص عندي لا يعمل . يعقب الأستاذ بعد أن يسحب القرص بقوله : لم يعد القرص صالحا . هناك من عبث به . كان أحمد إلى جانبي يسمع تعليق الأستاذ بعدها أخفض رأسه وحياني ثمّ انعطف على الأستاذ يحدثه وعيونه لم تعتقني . . يخلفني اهتمامه قاربا دون مجاديف و المرفأ بعيد .و انا وحيدة لا أقوى على التجديف..
زحفت الساعة نحو الرابعة و النصف مساء بعد الأشهر الثلاثة معلنة عن نهاية فترة التكوين . شبت الفوضى داخل قاعة الدرس .اختلطت الأصوات في مختلف أروقة المركز .دخل أحمد قاعة الدرس و كعادته بعد أن حيّّ الجميع اقترب مني ..يختلط صوته بصوتك يا أمال ..تتعالى قهقهاتك .ترحلين و يتبدد صوته معك ..