المساء الذي مضى
[align=justify]
أتدري يا شحرور لاشيء في الدنيا أغلى من اللحظة التي في يدك، من اللحظة التي تعيشها بكلِّ أبعادها ووقعها ودقّاتها.. فادخل فيها قدر استطاعتك ولا تتركها تفرّ من بين أصابعك قبل أن تتذوق طعمها وأن تراقصها حتى الذهول والدهشة..!!.. لا تستغرب يا شحرور الغندور ولا تركبك الدهشة، فأنت تعلم علم اليقين، أنني لا أهذي ولا أركب مركب المزاح في مثل هذه الأمور، والأولى يا صاحبي أن تخبر الشباب، وكلّ الشحارير الغنادير، أنّ اللحظة الهاربة لا يمكن أن تعود، ولا يمكن أن تضع خطوة في الزمن الذي يأتي، لذلك أدعوك وبحة الرجاء في صوتي إلى معانقة زمنك حتى العظم والنخاع، كن في كل ثانية، في كل دقيقة، في كل نسمة هواء، ولا تدر ظهرك ليومك مدعياً أنك تفكر في الغد، فيومك يا صاحبي هو أساس غدك ودرجة العبور إليه، وحين تسقطه من الحساب، يختل ميزان وجودك، فلا تكون في زمنك الذي تعيشه الآن، ولا في حيوية الزمن الذي سيأتي..
تظنّ يا شحرور أنّ الشيب الذي غزا مفرقي هو الذي يدفعني إلى المناداة بالقبض على جمرة الحاضر، لأنني خائف، أو مرتعش القلب من انفلات عجلة الأيام وضياع السنوات كسقوط حلم أو تحطم أمنيات..!!.. ربما يا شحرور في ظنك بعض الصواب، وهذا أدعى لرفع الصرخة أعلى، فالشباب أحوج ما يكون إلى نداء ترتفع قامته معبرة عن ضرورة القبض على جمرة الزمن الذي يعيشون والاستفادة من كلّ لحظة، لأنّ زمنهم زمن البناء الحقيقي ليومهم وغدهم.. والمشكلة يا صاحبي أنّ زمن الشباب سريع النبض والوثوب والغليان.. لحظاته يا صاحبي تومض ومضاً، لأنها في عمر الشباب. وما أروع أن يعيش كلّ واحد من هؤلاء الشباب زمنه كما يجب، ليكون في كلّ قطرة أو نبضة من نبضاته شجرة خضراء حلوة الثمر..
إياك يا شحرور أن تهزأ صائحاً: وهل يختلف زمن الشباب عن زمن سواهم، ما دامت الساعة ستين دقيقة عند الجميع، ومادام النهار أربعاً وعشرين ساعة عند هذا وذاك؟؟!!.. إياك يا صاحبي، لأنني لا أتحدث عن الزمن الميكانيكي الآلي، بل حديثي كما تدري وتعلم عن الزمن كشعور وإحساس ومعايشة.. فالساعة ساعة، لكنها لا تكون في معناها عند من يستفيد منها ويعيشها ويداخل كلّ لحظة من لحظاتها، كمن لا يأبه لها ويعيش ظلاً من ظلالها، أو خطاً لا معنى له على هامشها.. الساعة عند شخص ما قد تكون إبداعاً وفرحاً وحياة وحيوية، بينما قد تكون عند شخص آخر مللاً قاتلاً وتثاؤباً وندباً للحظ.. فهل يتساوى هذا الزمن مع ذاك؟؟ ظلم وأي ظلم يا صاحبي أن نقول بتشابه الأزمان عند الجميع!! لذلك طلبت منك بإلحاح أن تخبر الشباب وكل الشحارير الغنادير بضرورة الاستفادة من الزمن والتداخل في كل لحظة من لحظاته..
أرجوك لا تهز رأسك مستنكراً قبل أن أكمل حديثي.. قد أخمن أنك تقول في نفسك، وهل نطلب من الشباب الابتعاد عن نبض زمنهم المليء بالفرح والغليان، ليكون زمن عمل وجد؟؟ وسأقول لك يا بن الشحارير الغنادير: صبراً فما إلى هذا أشرت، ولا إليه قصدت.. فأنا أرفض أن يترك الشباب نضارة وحلاوة أعمارهم، لأن في ذلك مخالفة لطبيعة الأشياء.. أنا يا صاحبي أدعوهم للفرح والمرح والتسلية، كما أدعو سواهم، في أي عمر من أعمارهم كانوا، فلكل عمر جماله وروعته ورونقه وبهجته، وأبله ذلك الذي يطيل النظر إلى الخلف متحسراً على ما كان، لأنه بعد حين، سيطلق تنهيدة حسرة على زمنه الذي ضاع في النظر إلى الخلف، وهكذا تمضي السنوات في تحسر وراء تحسّر..!!.. والأجدى أن يعيش كل إنسان حلاوة الزمن الذي هو فيه، ولن يفهم حقيقة وصدق ما أقول إلا هؤلاء الذين عودوا الذات على تذوق حلاوة كل وقت.. ولن أدعي أنهم قلة.. لكن أدعو الجميع إلى معرفة حلاوة كل زمن حتى لا نأسف على ما فات.. أعرف يا شحرور أنني استطردت كما كان يفعل الجاحظ وسواه.. وسأعود إلى النقطة التي تركتها متعمداً، لا ناسياً كما تظن حضرتك..!!..
ليعش جيل الشاب في كلّ ما يريد من فرح ومرح ولهو، هذا حقه الطبيعي، لكن هذا لا يعني نسيان أو تناسي ضرورة وضع الخطوات البناءة على طريق الحياة.. أرأيت يا شحرور الغندور إلى أي شيء أردت أن أصل؟؟ لقد كان قصدي منذ البداية أن نعيش الحياة كاملة، أن نأخذ الزمن كاملاً، أن ندخل كل نبض العمر، ولا يتم ذلك بأخذ طرف وترك طرف، لأنها معادلة لا تصح نتيجتها إلا بصحة فهم طرفيها.. هكذا هي الحياة يا شحرور.. وهكذا هو الزمن.. وفهمنا للأشياء ولجمالها وروعتها ورونقها، يصل بنا إلى نتائج رائعة.. كن زمنك.. وليكن زمنك ملء يديك.. عندها تستطيع أن ترى جمال الحياة وروعتها.. وتستطيع أن تكون مع العدل ضد الظلم، ومع الصدق ضد النفاق والكذب، ومع الضوء ضد العتمة والغبش.. هكذا يا صاحبي يكون المساء الذي مضى، والنهار الذي مضى، ملك يدي، لأنني عشت لحظاته وما تركتها تتسرب من بين أصابعي دون أي معنى..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|