المؤرخ الدكتور نقولا زيادة
مؤرخ ومفكر عربي كبير ،يعود أصله إلى مدينة الناصرة في فلسطين، ترك عشرات الكتب في التاريخ العربي والإسلامي، بالإضافة إلى العديد من الكتب المترجمة من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية، فاستحق بذلك أن يعد " شيخ المؤرخين العرب "
وهو يتقن اللغات اليونانية، واللاتينية، و الألمانية ، والإنكليزية، بالإضافة للغة العربية.
· ولد نقولا زيادة في ( 2 – كانون الأول – 1907 ) في حي باب المصلى أحد أحياء منطقة الميدان في مدينة دمشق ( سورية ) لأبوين فلسطينيين.
· وكان والده موظفًا في قسم الهندسة في الإدارة العامة لسكة حديد الحجاز التي كان مركزها دمشق.
· التحق في بداية تعليمة بمدرسة "الفرير" في دمشق، وبعد فترة انتقل إلى مدرسة إنجيلية أخرى ولم تفارقه عناية والده؛ وكان ذلك سببا في تعلمه السريع للقراءة والكتابة، عند بداية الحرب العالمية الاولى، وكان عمره آنذاك 8 سنوات.
· في العام 1917 وعلى إثر وفاة والده، انتقلت أسرته إلى مدينة الناصرة حيث كان يقيم خاله الذي تعهده بالرعاية،لكن خاله مات في انفجار قنبلة ألقتها طائرة بريطانية آنذاك، فاضطرت أمه للبحث عن عمل كي تعيل العائلة ومالبثت أن وجدت عملاً في مدينة جنين (في فلسطين ) فانتقلت الأسرة إلى هناك.
· في العام 1919 تم افتتاح تم افتتاح مدرسة حكومية في جنين فالتحق نقولا بها.
· وفي العام 1921 تم قبوله ليتعلم في دار المعلمين الابتدائية في القدس، حيث بقي هناك ثلاث سنوات تخرج على إثرها في العام 1924، فعمل لعدة أسابيع في مدرسة الناصرة ثم انتقل بعدها ليدرس في ترشيحا ( قضاء عكا – فلسطين ) وعمل هناك سنة واحدة.
· في الفترة بين عامي ( 1925 – 1935 ) عمل مدرساً في مدرسة عكا الثانوية.
· وفي العام 1935 حصل على بعثة لدراسة التاريخ القديم في جامعة لندن فقضى ما يقرب من( 4) سنوات في أوروبا، منها حوالي 6 أشهر في جامعة ميونيخ بألمانيا ، حصل بعدها على شهادة البكالوريوس في التاريخ القديم وذلك في العام 1939.
· ثم عاد نقولا زيادة إلى القدس حيث عمل مدرساً في الكلية العربية بالقدس في الفترة بين (1939 – 1947 ) وخلال هذه الفترة وتحديداً في العام 1943 أصدر كتابه الأول ( رواد الشرق العربي في القرون الوسطى ).
· وفي العام 1947 سافر إلى لندن لكي يحصل على درجة الدكتوراه حيث ظل هناك عامين أعد فيهما لرسالته وكانت بعنوان ( سورية في العصر المملوكي الأول )
· وفي العام 1950 قدم رسالته ونال درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة لندن.
· بعد احتلال فلسطين لجأ إلى بيروت ، فعمل أستاذاً مساعداً ثم أستاذاً للتاريخ العربي بالجامعة الأمريكية في بيروت، وذلك في الفترة بين ( 1949 – 1973 )
· وفي العام 1973 انتقل إلى جامعة ( القديس يوسف ) في بيروت أيضاً حيث عمل فيها مشرفأ على رسائل الدكتوراه في التاريخ العربي ، وبقي في عمله هذا حتى العام 1991.
· كما عمل الدكتور نقولا زيادة أستاذاً زائراً وذلك في:
1. جامعة هارفرد : ( 1957 و 1962 ).
2. الجامعة اللبنانية : ( 1974 – 1981 ).
3. الجامعة الأردنية: ( 1976 – 1978 ).
4. كما عمل استاذاً زائراً لمدة قصيرة في جامعة عين شمس ( مصر )، و في جامعة الكويت، و في الجامعة الإسلامية في الهند، و في جامعة زاريا في نيجيريا.
· وفي العام 1991 تقاعد نهائياً من التدريس ليتفرغ للكتابة.
· وفي العام 2002 حصل على وسام الاستحقاق السوري تقديراً لجهوده العلمية.
· وفي مساء يوم الخميس ( 27 – تموز – 2006 ) توفي نقولا زيادة في بيروت ، عن عمر ناهز التاسعة والتسعين.
مؤلفات الدكتور نقولا زيادة:
للدكتور نقولا زيادة أكثر من ( 51 ) عملاً مطبوعاً ، أربعون كتابا باللغة العربية وستة كتببالانجليزية وتسعة كتب مترجمة من الانجليزيةإلى العربية وكتاب مترجم من الألمانية إلى العربية اسمه (تاريخالعرب،)وقد صدرت أعماله الكاملة في ( 23 ) مجلداً عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في بيروت عام 2002.
ومن مؤلفات المؤرخ نقولا زيادة نذكر :
1) رواد الشرق العربي في العصور الوسطى : القاهرة – 1943.
2) وثبة العرب : القدس – 1945.
3) صور من التاريخ العربي : القاهرة – 1946.
4) شخصيات عربية تاريخية : يافا – 1946
5) صور أوربية : القدس – 1947.
6) عالم العصور الوسطى في أوروبا : القدس – 1947.
7) العروبة في ميزان القومية : بيروت – 1950.
8) Syria and lebanon، سورية ولبنان: دراسة باللغة الإنكليزية – 1957.
9) الحسبة والمحتسب في الإسلام : 1963.
10) صفحات مغربية : 1966.
11) قمم من الفكر العربي الإسلامي : بيروت – 1987.
12) الجغرافيا والرحلات عند العرب : بيروت -1987.
13) شاميات، دراسات في الحضارة والتاريخ : بيروت – 1989.
14) أفريقيات، درسات في المغرب العربي والسودان الغربي : بيروت 1991.
15) لبنانيات، تاريخ وصور : بيروت – 1992.
16) أيامي ( سيرة ذاتية ) : بيروت – 1992
17) مشرقيات في صِلات التجارة والفكر : بيروت – 1998.
18) في سبيل البحث عن الله :بيروت - 2000.
19) المسيحية والعرب : بيروت – 2001.
20) بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة : للمؤلف ولتر كيغي – ترجمة نقولا زيادة – دار قدمس للنشر – 2002.
21) الفكر اليوناني والثقافة العربية، حركة الترجمة اليونانية - العربية في بغداد والمجتمع العباسي المبكر : للمؤلف ديمتري غوتاس – ترجمة نقولا زيادة – مركز دراسات الوحدة العربية - 2003.
22) تاريخ البشرية : للمؤلف أرنولد توينبي – ترجمة نقولا زيادة – الدار الأهلية للنشر والتوزيع – لبنان – ط4 – 2003.
23) عربيات دراسات عربية تاريخية حضارية: دار رياض الريس – بيروت
بالإضافة لكتبه:
24) الرحالة العرب
25) أبعاد الثورة العربية الكبرى
26) قصة الاستعمار في العالم العربي
27) متوسطيات، تجارة وحياة فكرية
28) فروسيات ، السياسة والدين
وغيرها .........
من مقالات الدكتور نقولا زيادة:
تعاطي الشعر:
ما أكثر ما كنت أُسأل ولا أزال أُسأل هل نظمت شعراً. وكانت الأجوبة دائماً لا لم أحاول. وعندئذ يأتي السؤال الآخر ولماذا؟ هل لأنك أنت مؤرخ؟ كان جوابي دائماً الشعر لا يرتبط نظمه بالعمل الذي يقوم به المرء. هناك شعراء كبار هم أطباء وتجار ومهندسون وباحثون في الشؤون العلمية فضلاً عن الأدباء ومن جرّ جرهم. لكن لامتناعي عن نظم الشعر مبكراً في حياتي قصة.
كان في القدس دير كبير للأقباط وكان رئيسه القمس يوحنا الأنطوني البهجوري. كانت عمتي لطيفة تسكن الناصرة ولكنها كانت تذهب الى القدس كثيراً لأشغال تتعلق بها. وقد تقيم هناك أياماً. واهتدت الى هذا الدير الذي كان يؤجر غرفاً لمن يريد أن يقيم فيه: غرفة مع مطبخ وما يتعلق بها. فكانت عمتي لطيفة عندما تأتي الى القدس تشعرني بوجودها وتطلب مني أن أذهب لزيارتها في أيام الجمع والآحاد. كنت أزورها لأنني كنت أحبها وكانت تنصحني كثيراً لكن أنا لم يكن هذا يهمني. كان يهمني انها تعطيني أخبار الأقارب والأصحاب في الناصرة وتتحدث عن أمور عامة فهي متقدمة في السن وكانت أرملة ولم ترزق طفلاً لكنها بالنسبة إلي كانت تعتبرني ابنها.
في يوم من الأيام قالت لي أريد أن آخذك الى رئيس الدير وأعرفك عليه. قلت لها «يا عمتي ما لي ومال الخوارنة جماعة متعبين»، قالت سترى شيئاً جديداً. ذهبت وأول ما لفتني في الغرفة التي كان الرجل جالساً فيها لاستقبالي الرفوف الكثيرة التي تمتلئ بالكتب بقطع النظر عن نوعها لأنني لم أستطع أن أتعرف عليها ولكنها كثيرة. وكنت أنا أعرف عن رهبان الأرثوذكس حتى المتقدمين في الدرجات العليا منهم مثل كبير تراجمة البطريركية الأرثوذكسية الذي كان في يوم من الأيام تلميذاً لخالي ايليا ديب قبل أن يصبح مطراناً. كان ذاك في غرفته غرفة الاستقبال صور قديسين الخ... لكن لا أذكر أنني رأيت كتاباً. مجرد أن نظرت ورأيت هذه الكتب وأنا أحب الكتب والقراءة تحدثنا. وكانت عطلة الصيف قد اقتربت وكانت عمتي هناك في احدى زياراتها فأخذتني اليه. قال اسمع انت ستقضي بعض عطلتك في جنين والبعض الآخر في الناصرة. في الناصرة لك أقارب وأصحاب، في جنين لك أصحاب، لكن أنا أريد أن أعطيك صديقاً يرافقك في جنين. وناولني كتابين. قال اقرأ منهما ما استطعت وحاول أن تفهم ما قدرت عليه ولعل الذي لم تفهمه أستطيع أن أفسره لك متى عدت. شكرته. كان الكتابان واحد اسمه مقالات شبلي الشميّل والثاني ترجمة كتاب داروين لشبلي الشميّل أيضاً. لم أكن أعرف يومها من هو شبلي الشميّل. لكن في المقدمة البسيطة كان تعريف به أنه طبيب تخرج من الجامعة الأميركية في بيروت ثم درس الطب في فرنسا واستقر في مصر لكن ليس المهم ان شبلي الشميّل كان طبيباً. كان رجلاً متحرراً بكل ما يمكن أن تفيد الكلمة من معنى في تلك الأيام. فقد كانت تفيد أكثر مما تفيد اليوم. كان شبلي الشميل يقيم في الاسكندرية. عرفت في ما بعد أنه كتب الكثير. كان يدعو الى الحرية، يدعو الى حرية الفكر، يدعو الى حرية الضمير، يدعو الى حرية الكلمة، كان يدعو الى كل شيء فيه حرية. كان صريحاً في معالجته للموضوعات الاجتماعية. ومن الأمور التي قرأتها في كتابه المقالات، مقالات عن الشعر. كان شبلي الشميل ينعى على العرب أنهم يدرسون المحاماة ويتعلمون الأدب ويتعاطون الشعر. لكنهم لا يتقربون ولا يقتربون من العلم، العلم الطبيعي، العلم الكيميائي، العلم الطبي، كل أنواع العلوم قلما يعنون بها. ولذلك كانت المؤسسات التي أنشئت في مصر من الخارج مثل مدرسة الحقوق الفرنسية تمتلئ بالطلاب. كما كان كثر يذهبون الى الأزهر لدراسة الفقه واللغة. وكانت أُنشئت في مصر مدرستان الواحدة اسمها دار العلوم وكانت تعنى باللغة العربية أدباً وشعراً ونحواً وصرفاً الخ... الثانية مدرسة القضاء الشرعي وكانت تُعنى بتخريج القضاة الشرعيين والمحامين الشرعيين. وكان يدعو الناس الى ان ينصرفوا عن الشعر وان يكون لهم اتجاه نحو العلم. هل من سبب خاص يا تُرى ان هذا الكلام أثّر فيّ فدفعني أو أقصاني عن محاولة نظم الشعر؟ أظن أنه كان العامل الأكبر في هذا الموضوع وأنا كنت يومها في دار المعلمين وكنت أحب الرياضيات فكأن الرجل قال لي ما دمت تحب الرياضيات فسر فيها واترك الشعر. سمعت نصيحته ولم أحاول نظم الشعر.
لكن في الناحية الأخرى كنت مغرماً بقراءة الشعر أحبه منذ أن بدأت أُدرَّس المعلقات في دار المعلمين سنة 1922 ثم الشعر في صدر الاسلام. لما تركت دار المعلمين كانت عنايتي بقراءة الشعر كبيرة أهتم به ألتذ به أقرأه. بعض القصائد أذكر منها أبياتاً حتى اليوم. لما اكتشف قبر توت عنخ آمون سنة 1927 نظم أحمد شوقي قصيدة طويلة بدأها بقوله:
خَرَ جَت على القرن القرون/ ومضت على الدن السنون
خير السيوف مضى عليه/ الدهر في خير الجفون
وهو يقصد توت عنخ آمون، الى ان ينتهي بها فيقول مخاطباً توت عنخ آمون:
لو كان من سفر ايابك/ امس أو فتح مبين
لوجدت شعباً غير/ شعبك في الجبابر لا يدين
هم في الأواخر مولداً/ وعقولهم في الأولين
وحتى الآن أذكر أبياتاً من قصيدة مطران عن يوم قتل بزر جَمَهْر:
يا يوم قتل بزر جمهر/ وقد أتى فيه الرجال رجَالا
متسارعين ليشهدوا قتل الذي/ أحيا البلاد عدالة ونوالا
واذكر البيت الأخير: ما كانت الحسناء ترفع سترها/ لو أن في هذه الجموع رجالا... ثم قصيدته في نيرون على صعوبتها وطولها واضطراره الى استعمال القافية في أحيان مرات لا أزال أذكر منها بيتاً رئيساً: ان الذين الّهوا نيرونهم/ هم بالسُّبة من نيرون أحرى. لكن قرأت مئات القصائد وكانت تعجبني القصائد التي لا يلتزم الشاعر فيها بالضرورة قافية واحدة ولكنه ينوع القوافي في مقطوعات كما كان يفعل الأندلسيون لما تحرروا من ربقة قاعدة الشعر الشرقية أي التزام القافية والوزن عبر طول القصيدة.
أحياناً أتذكر أبياتاً من الشعر لكنني لا أظن أنني أتذكر قصيدة طويلة فذلك أمر حلت محله أمور أخرى تحتاج الى الذاكرة وتفيد منها. ظل الأمر معي على حاله غراماً بالشعر الى ان تعرفت الى الزجل فأغراني قراءة وتمعناً. فكان لدي افقان من الشعر. الواحد الفصيح والثاني الذي يكتب باللغة الدارجة سمها عامية أو سمها ما شئت. المهم في نظري وبالنسبة إلي أن يكون هناك رنّة موسيقية في الشعر فأقرأه. ولذلك لما جاءت قصيدة النثر لم أستطع أن أجد فيها شعراً ولا أكتمكم أنني قلّما أقرأ قصيدة من قصائد النثر. أنا واثق من أنني أحرم نفسي من الأشياء الكثيرة لكنني أنا أقرأ الشعر للمتعة والمتعة التي أريدها، أن يكون فيها ايقاع موسيقي رنّة دنّة طنطنة سموها ما شئتم. ولذلك أرجو أن يعذرني كتّاب الشعر وكتّاب القصيدة النثرية ان أنا لم أبتع ديواناً من دواوينهم وقلّما أقرأ قصيدة من قصائدهم. لكنني لا أزال أحب الشعر الموزون ذا القافية المتنوعة والموسيقى التي ترقّصني على نحو ما يبدو من قراءة «جفنه علّم الغزل ومن الحب ما قتل». هذه قصيدة كما قال عنها عبدالوهاب. قالوا له أجدت التلحين، قال هذه القصيدة ولدت ملحّنة. هذا الشعر الذي أحبه. أحب أن أرقص معه طبعاً لا رقصاً مادياً وأنا بدأت في التاسعة والتسعين من عمري لكن أن يرقص قلبي معه أن أفرح به سواء كان فتحاً أو وصفاً أو رثاء أو أي نوع من أنواع الشعر الراقي اللطيف المعبر.
ان الشعر بحد ذاته عامل من عوامل توسيع الأفق عند القارئ الذي يفهمه ويتمتع به. ولذلك فأنا أحب الشعر لكنني لم أكتب الشعر ولست نادماً.
أنا والتاريخ :
لم تكن دراستي الجامعية الأولى في كلية أو جامعة، بل كانت تتماشى مع تعليمي للتاريخ في مدرسة عكا الثانوية. كان المقرر للصف الأول الثانوي (السنة الأولى الثانوية) دراسة التاريخ القديم مع اهتمام خاص بالشرق الأوسط. كانت الفترة التي تعني القديم في ذلك الوقت تشمل كل ما حدث في المنطقة من أول قيام الدول الى نهاية الامبراطورية الرومانية. فترة طويلة وأنا لا أعرف إلا الشيء القليل عن الموضوع.
في بادئ الأمر لجأت الى كتاب وضعه برستد المؤرخ الأميركي المشهور في هذه الفترة اسمه التاريخ القديم. النسخة التي كانت بيدي من الكتاب مطبوعة سنة 1905. فبالنسبة الى سنة 1925 ليست عتيقة. هذا كنت أقرأ منه ما أريد أن أدرسّه في المساء وأعده على ورقات مختصرة وبعد أن أتحدث عن الموضوع للطلاب أترك الورقات بين أيديهم كي يستطيعوا أن ينقلوا هذه الوريقات ويحتفظوا بها. هذا حدث في السنة الأولى، في السنة الثانية كنت قد شممت رائحة الكتب وعرفت أن هناك كتباً أخرى فاستعنت بكتابين أو ثلاثة، وهذه كانت باللغة الانكليزية ولغتي الانكليزية في ذلك الوقت لم تكن على ما يرام لكن الجهد والقاموس والعناية مكنتني من أن أحصل على ما أريد. كتب سلامة موسى مرة لما استُفتي كيف تختار كتبك للقراءة فقال الكتاب الذي انتهي منه يدلني على الكتاب الذي يجب أن يتبعه. في قضيتي أنا كانت الأمور واضحة: تاريخ ثم أساطير ثم آثار. فانتهى الأمر بأنني لما تركت عكا سنة 1935 كانت عندي مكتبة باللغة الانكليزية تتعلق بالتاريخ القديم من أقدم العصور الى نهاية الدولة الرومانية لا تقل عن عشرين كتاباً، قرأتها هضمتها عرفتها لخصتها للطلاب ولكن ليست على وريقات كنت أعدها طويلة فاتفقنا على طريقة كانت تسمى بالوظة كنا ننسخ عليها ونوزعها على الطلاب. لا أريد أن أصف لكم قضية البالوظة، مالكم ومالها. لكن ليس المهم فقد أنني سرت على الخط التاريخي من يائه الى ألفه أو من ألفه الى يائه. كنت أكتشف أنني بحاجة الى معلومات اضافية تسند التاريخ كان أولها الجغرافيا. اقتنيت كتباً جغرافية ومنها كتاب في الجغرافية التاريخية. وكنت أقرأ جغرافية المنطقة حتى أستطيع أن أقول انه بالنسبة لحاجاتي عرفتها.
عرفت أنني يجب أن أتعرف الى عناصر الجغرافيا. فعلت ذلك. ثم أدركت انه من الضروري أن أتعرف الى مبادئ الاقتصاد: الانتاج الزراعي والصناعي إن كان موجوداً وطرق تصريف هذه المنتوجات ثم كيف تستورد البلاد حاجتها مما ليس عندها. وبعد ذلك أدركت أنني لا أستطيع أن أفهم التاريخ على أنه احداث فحسب، التاريخ حركة مجتمع، حركة بشرية يقوم بها الناس أفراداً وجماعات. اذاً يتوجب عليّ أن أعرف شيئاً عن علم الاجتماع. وكان في ذلك الوقت صدر كتاب في علم الاجتماع لانطوان حداد المقيم في القاهرة في مجلدين قرأته. أفدت منه كثيراً. ثم أردت أن أتعرف الى معنى الأسطورة في درسي أو تتبعي للتاريخ الجذري للمنطقة. عثرت على أساطير كثيرة موحشة ومحبوبة ولطيفة ومتعبة لكن أردت أن أرى ما هو مدلول الأسطورة. وكان يومها الكتاب الذي صدر قبل ذلك بوقت ليس طويلاً هو كتاب «الغصن الذهبي» وفي مجلدات سبعة وباللغة الانكليزية. لكن في الغرب، أو على الأقل في بريطانيا كما أعرف تماماً، عندما يضع مؤلف كتاباً في مجلدات هذا يكون للمختصين، أما القارئ العادي فمن الغالب أن يتوفّر له من يمكن أن يلخص هذه المجلدات العديدة بمجلد واحد معقول. وهذا ما حدث بالنسبة للغصن الذهبي. ابتعت الخلاصة قرأتها أفدت منها أدركت ما هو المغزى من الأسطورة، لماذا تقوم الأسطورة عند الناس في البلاد، وهل الأسطورة مقصورة على الشعوب البدائية في أول عهدها أم أنها تؤثر حتى في الشعوب المتقدمة؟ على سبيل المثال قبل الحرب العالمية الثانية أصدر أرنولد تونبي مجلداته الخمسة الأولى عن «درس التاريخ» وقد حملت معي هذه المجلدات يومها من لندن لما رجعت الى فلسطين سنة 1935. وبعد الحرب أصدر تونبي ما تبقى من المجلدات وهي خمسة أو ستة فأصبح مجموع هذا الكتاب حوالى عشرة مجلدات. هذا أيضاً وجد له من يلخصه. فسومرفيل Summerville وضع مجلداً بنحو أربعمئة صفحة عن المجلدات الخمسة الأولى، وهو نفسه لخص المجلدات التي نشرت في ما بعد في كتاب آخر. وقد تحدث Summerville الينا كطلاب دراسات عليا في جامعة لندن سنة 1947 حول هذا الكتاب وما معنى أن يلخصه.
نعود الى الموضوع. وجدت انني يجب أن أتعرف على أمور أخرى للمقارنة، وللمقاربة، للتفهم وهو أن أتعرف الى الأدب من حيث أنه سبيل لتوسيع الخيال وادراك الأمور. وأنا كنت في صباي الأول قرأت كتباً كثيرة من قصص العرب: قصة عنتر، تغريبة بني هلال، سيرة الملك سيف بن ذي يزن وهكذا. هذه الأمور كلها جعلت التاريخ عندي أساساً لكنه كان مستوراً لم يكن أساساً مكشوفاً، وحده كان مستوراً محاطاً بمعرفة جغرافية اقتصادية اجتماعية أدبية. سرت على هذا الأمر مع توسعي في المادة وتقدّمي فيها، تقدمي من أيام الخرافات والأساطير في بين النهرين الى نهاية الدولة البيزنطية مع مروري بتاريخ ايران (فارس) وشعوبها وهي شعوب تختلف عن الشعوب التي كانت تقطن ديار الشام ثم مصر. والحضارة اليونانية والحضارة الرومانية. كلها هذه كانت تتفاعل لم تبق معزولة عن أمور أخرى حتى لما في ما بعد درست العصور الوسطى أو العصر الوسيط في أوروبا. قرأت الكثير من القصص الذي كتب في ذلك الوقت. وقرأت أموراً تتعلق بالفلسفة والفكر، لكنني اطمئن القارئ بأنني في هذه الحالة لم أتمكن من فهم الأمور على ما فهمتها في الجغرافيا والاقتصاد والاجتماع. انما كان لي فيها بعض المعرفة بحيث انني استطعت أن أدرك ادراكاً معقولاً المذاهب الفلسفية اليونانية التي نشأت في أثنيا والتي نشأت بعدها بلاد الشام وقبرص وهذه نتيجة زرع الفلسفة اليونانية في تربة جديدة متأثرة بأساطير من نوع آخر.
يبدو لي من هذا أنني لأنني كنت أتعلّم على نفسي بنفسي، وعلى ذاتي بذاتي، وبجهدي الخاص، كنت أدرك ما يجب أن أملأه من فراغ ضروري. المؤسف أن عدداً كبيراً من المؤرخين في بلدي، وأقصد في بلدي بلد العروبة بأجمعها، يذهبون للتخصص يقولون للمشرف أريد أن أتخصص في تاريخ العصر الوسيط في أوروبا. عندئذ يتحرك الحب لموضوع معين لأن هذا الأستاذ كان يريد أن يُكتشف فيقترحه على الطالب ويقبل الطالب النصيحة على العموم. ويظل يعمل فيه محاطاً بحدود رسالة الدكتوراه فلا ينفلش الطالب حول الموضوع لأنه لم يعتد الانفلاش في أيام دراسته الأولى في الجامعة، أي الى درجة الليسانس أو البكالوريوس. اذا لم يعتد الطالب الانفلاش مبكراً يصعب عليه أن يأخذ به متأخراً. هناك من يدرك هذا الموقف ويبدأ بوضع طبقات اضافية حوله من اقتصاد وجغرافية وأدب وفلسفة الخ...
قرأت مئات من الكتب باللغة العربية عن موضوعات تاريخية عربية اسلامية وغربية قديمة وضعها زملاء لي في الأقطار العربية. والذي أذكره الآن بعد هذه المدة الطويلة وهذه العشرة المديدة مع هذه الكتب انني قد اعتبر ربعها أو ثلثها فقط افادني ولم أضع الوقت فيه. أما الباقي فقد ضاع الوقت هباء منثوراً.
هذا ليس تبجحاً، هذه تجربة شخصية. فلما ذهبت أنا في سن الثامنة والعشرين الى جامعة لندن كي أدرس للحصول على البكالوريوس أو الليسانس أو الاجازة كانت معرفتي من حيث المعرفة كبيرة ولا تقل عن المطلوب. ولكن الذي فعلته انني أخرجت هذه المعرفة، نشرتها، هوّيتها، شمستها، وأضفت اليها أموراً كثيرة لا من حيث المعرفة فحسب، ولكن من حيث الأسلوب الذي اقتبسته من أساتذتي حتى في هذه الدرجة. هل يعني هذا ان الذي تعلمته في جامعة لندن في ما يتعلق بمادة التاريخ القديم التي غطت جزءاً مما كنت قد درسته في عكا يتعلق بالتنظيم والنظام والترتيب، لكنه لا يتعلق بقراءة المادة. عدت بعد أربع سنوات في جامعة لندن وقد دُربت على يد ماكس كيري أستاذ التاريخ القديم في جامعة لندن، ونورمان بينز أستاذ التاريخ البيزنطي في الجامعة نفسها، والدكتور لوباتورل الذي كان في بدء حياته التعليمية لكنه كان نظامياً مدهشاً. لوباتورل، نورمان بينز، ماكس كيري علموني كيف أنظم قراءاتي وتفكيري، كيف أرتب هذا الأمر.
التدريب الذي حصلت عليه على أيدي هؤلاء الثلاثة أرشدني في كتابة رسالة الدكتوراه في ما بعد، لأن المشرف الذي عُيّن لم يقابلني خلال السنتين الأكاديميتين سوى أربع مرات كانت على التوالي: عشر دقائق، 20 دقيقة، وساعة وخمس دقائق.
أوسمة:
في سنة 1973 تقاعدت من عملي في الجامعة الأميركية. وكان من المألوف ان يُعطى الاستاذ المتقاعد وساماً تكريمياً. هذه قضية عامة ليس لها قيمة شخصية.
في سنة 1992 وقد بلغت الخامسة والثمانين من عمري أقام لي اصدقائي وأولادي مأدبة عشاء تكريمية في نادي خريجي الجامعة الأميركية في شارع عمر بن عبدالعزيز (رأس بيروت) اقترح أحدهم الحصول على وسام يكون تكريماً لي، تكريماً شخصياً وليس تكريماً جماعياً. اتخذت الترتيبات اللازمة وجاء المدير العام للتعليم مندوباً عن رئيس الجمهورية ليقدم لي الوسام. فإذا الوسام هو الذي أُعطيته سنة 1973. الفرق بينهما ان هذا الوسام أعطي فردياً فكنت أنا أود ان اعتز به في شكل خاص، ولكن الذي حدث أن الوسام الذي منحته في تلك الأمسية كان الوسام نفسه الذي أعطيته سنة 1973 مع فارق كبير: ذاك كان يحمل منشوراً رسمياً موقعاً من الهيئات المنظمة على ان رئيس الجمهورية منح الوسام لنقولا زيادة. هذا الوسام الجديد لم يكن له رفيق رسمي. ففي واقع الأمر أن الوسامين اللذين حصلت عليهما من الحكومة اللبنانية هما واحد الأول مع شهادة والثاني من دون شهادة. هنا انتهت علاقاتي بالاوسمة الرسمية بالنسبة للحكومة اللبنانية. سمعت كثراً من اصدقائي يتحدثون بين حين وآخر عن منحي وساماً تكريمياً رسمياً. لكن أنا لم أرَ شيئاً وفي واقع الأمر لم أكن اهتم بذلك كثيراً. عندما يمنح رئيس جمهورية وساماً للسيدة التي كانت تدق الكبة له، يمكن ان ينظر الى الأمر من أكثر من وجه واحد.
عندي وسامان، الواحد هو وسام القديسين بطرس وبولس الذي منحني اياه غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم، بطريرك طائفة الروم الاورثوذكس لانطاكية وسائر المشرق.
الوسام الآخر هو وسام الاستحقاق من الدرجة المميزة منحني اياه رئيس جمهورية سورية بشار الأسد في 3 ايلول (سبتمبر) سنة 2000. في الواقع ان الأمر كان بالنسبة اليّ شيئاً جميلاً. فقد حضرت عرس حفيدتي كندة في الزرارية في جنوب لبنان قضاء صيدا وفي اليوم التالي ذهبت الى دمشق وتسلمت الوسام. الوسام مرتبط بالنسبة اليّ بحادث عاطفي كبير لأنني أنا أحب الأحفاد كما أحب الاولاد وأحب زوجات اولادي كما يحبني الجميع ومن هنا كان هذا الربط المعنوي العاطفي بين زواج كندة وحصولي على الوسام.
هذا في ما يتعلق بالأوسمة الرسمية. لكن هناك تكريمات كثيرة أقيمت لي ومع ان أصحابها أو الجماعات التي قامت بها لم يكن لها صفة رسمية بإصدار أوسمة ولكنها كانت تسمي ذلك شارات وأول واحدة اذكرها في لبنان كنا ستة كُرّمنا ومنحنا الوسام وكان هناك ايضاً هدية بقيمة ألف دولار لكل منا. اذكر بين الذين كرّموا في ذلك اليوم المرحوم سلام الراسي والخــفيف الــظل ريمون جبارة الذي اقرأ مقاله أول كل شيء في ملحق النهار. كرمت في الاردن كثــيراً ومُنحت من هيئات رسمية وشبه رسمية دروعاً كثيراً. كلها هذه اعتبرها أنا أوسمة لا تقل عن تلك التي حصلت عليها من الحكومة اللبنانية لأنها أوسمة جاءت في لبنان وفي الاردن من جماعات تقيم للمعرفة مهرجاناً وتعنى بأهل القلم. عندي أنا من هذا ما لا يقل عن عشرين وساماً.
أنا لم أقصد من هذا الحديث سوى أن اسجل مرحلة أو مجموعة مراحل في حياتي. وأنا لا أنقم على أحد أن لم يمنحني وساماً ولست نادماً على أوسمة حصل عليها غيري من رتب مختلفة. فأنا أقول هذا ولست اقصد التبجّح والتكرم لكن احسب انني في الكتب الاربعين التي وضعتها باللغة العربية، والكتب الستة التي وضعتها باللغة الانكليزية، والكتب التي ترجمتها الى العربية، وهي خمسة عشر كتاباً، اظن أن هذه يمكن أن تكون بديلاً عن ورقة رسمية توقع بالنيابة عن رئيس الدولة. الامر الذي يضحكني هو ذو شقين. الأول أن أهل الفكر فكروا بمنحهم أوسمة بعد الموت. لماذا؟ كان المرحوم نبيه فارس يقول هذه الأوسمة توهب أو تعطى بعد الموت لأن عندئذ هذا الشخص المكرّم لا يستطيع أن يرفضها. هذا الامر ينجر عليّ فأحسب انه بعد أن اقوم بواجباتي كلها نحو الله والناس ويأتي يوم انطفاء شمعتي فقد يكون هناك تكريم من الحكومة اللبنانية. اذا فعلت ذلك اشكرها شكراً رسمياً لكن ليس شكراً قلبياً.
هذه حكايتي مع الأوسمة القليلة. لكن، عندي وسام هو رسمي بمعنى المؤسسة التي منحته هي مؤسسة أو جمعية المستشرقين الالمان التي يتجاوز عمرها مئة وأربعين عاماً. فبحكم اهميتها العلمية، وبحكم منزلتها الكبيرة تعتبر عضويتها الشرفية وساماً كبيراً.
هذا وسام افخر به لأنه من أهل العلم اعترافاً بخدمات واحد من اولئك الذين وهبهم الله المقدرة على ان يخدموا العلم والفكر.
إعداد : قاسم فرحات
15 / 3 /2007
المصادر:
الحرب الثالثة ، ثلاث محطات : أسعد عرابي – مجلة العربي / العدد : 580 – مارس 2007.
تعاطي الشعر: جريدة الحياة - عدد ( 18 /4 /2006 )
أنا والتاريخ: جريدة الحياة - عدد ( 2 – 5 -2006 )
أوسمة: جريدة الحياة - عدد ( 23 – 5 -2006 )
المؤرخ د. نقولا زيادة، مؤرخونا يكتبون عن اكتشافات العرب وهم لا يفهمونها / حوار أجراه معه – طارق عبد العزيز أبو عبيد: جريدة الرياض - 2 /3 /2000
موقع وزارة الثقافة السورية :www.moc.gov.sy
موقع الإبداع العربي: www.arabiancreativity
موقع الموسوعة الحرة ( ويكيبيديا ) : ar.wikipedia.org
موقع أدب وفن : www.adabwafan.com
مصادر أخرى .....