الشاعرة سعاد الصباح تشعل وردة العطاء
[align=justify]
بأي ورد كان عليها أن تطبع القبلة على صباحات الخير ليطلع الشعر عشقا بهذا البهاء المطرز بفيروز المطر الشهي ؟؟ هي في اللغة الأولى المكتوبة بكل مافي السر من سر ،وهي الشاعرة سعاد الصباح العاشقة التي أدمنت ضوء الشمس ،رافضة كل معطيات المعنى المتاح كمساحة مشغولة بلغة المنظّرين .. هي الشاعرة التي عشقت الوردة عسل قصيدة ورحيق شعر لا ينام ..
منذ البداية كان علينا أن نقرأ المغاير في شعر سعاد الصباح كي نفهم السر الكامن في حرف مشغول بالقلب والروح وعبق النشيد .. وكنا سنقع في خطأ فادح لو سرنا الهوينى باحثين عن زعتر العشق البري بعيدا عن فهم جمال الحروف الداخلة في كل تراكيب القصيدة دون قيد أو شرط .. القصيدة عند سعاد الصباح قصيدة لا تقول الحروف إلا كما يجب أن تقال .. والأقرب الى المنطق القول إن سعاد الصباح صاحبة قصيدة مفتوحة على الصباح والحبق والحب واحتمال ضم العالم كله بكلمة لا تعرف النوم .. هل هو السر أم السحر الساكن أصلا في جسد الشعر الجميل الجليل ؟؟
تكتب سعاد الصباح في قصيدة ((المجنونة )):إنني مجنونة جدا / وأنتم عقلاء/ وأنا هاربة من جنة العقل / وأنتم حكماءْ/ أشهر الصيف لكم / فاتركوا لي انقلابات الشتاءْ ….. أنا في حالة حب / ليس لي منها شفاءْ / وأنا مقهورة في جسدي / كملايين النساءْ / وأنا مشدودة الأعصاب / لو تنفخ في داخل أذني / لتطايرتُ دخانا في الهواءْ …. ))
لندقق في معاني حروفها المكتوبة على هذا الشكل من الإبداع الجميل ؟؟ والتدقيق هنا عليه أن ينحاز الى التركيب النفسي والشعري والجمالي .. لماذا ؟؟
تقرير الحالة الظاهرية للشاعرة من خلال هذا الاتهام الذاتي القصدي بالجنون ، يريد أن يقرر الإصرار على مواجهة مجتمع ظالم قامع للأنثى .. والشاعرة هنا ترفض أن تشرب من نهر المجتمع الذكوري لتكون في النهاية كما يراد لها أن تكون .. والمطالبة الآتية بصيغة : خذوا كل ما الصيف من هدوء واستقرار وروية ، واتركوا لي كل الانقلابات التي يحملها فصل الشتاء .. إنما تقرر أن المهم يتعلق بما أريد أن أكونه عن قناعة ورضى .. لا غير ذلك .. إذن المواجهة ليست مواجهة عادية باهتة اللون ، بل هي على الأرجح مواجهة عاصفة لا تريد الهدوء ولا الركون إليه .. إذا كان هذا الهدوء ثمنا لحرية مفقودة مشروخة .. لكن لماذا كل هذا التحدي المرعب وعلى أي أساس كانت كل ارتفاعاته النفسية والجسدية والمجتمعية ؟؟
الجواب يأتي مباشرة في المقطع الثاني : حيث تلجأ الشاعرة الى وصف تشريحي حاد ، يقول إن الأنثى في المجتمع العربي أنثى منهارة،أو شبه منهارة في كل الأحوال .. وحالة الحب هنا في تقرير صفة العشق عند الشاعرة تأتي لتقول : إن حالة العشق هذه هي التي تجعل الأنثى منهارة متداعية مادامت تدور في هذيان محموم أساسه الخوف والخشية والرعب من كل شيء .. فالحب في النتيجة حب مطارد ،ليس لصفة الحب فيه ولكن لأنه حب صادر عن أنثى .. وكفى !! ونتابع حالة الانهيار الموصوفة بدقة ، لنرى الى أي حد تكون السكين قاسية في مقاربة أو مداخلة عنق الأنثى العاشقة !!
كأننا هنا نقف على حد ديوان الشاعرة سعاد الصباح ((فتافيت امرأة )) في المعنى لا في المبنى .. فسعاد الصباح في المقطع السابق تحول الأنثى جراء عشقها الى مجرد فتافيت أو قشة في مهب الريح .. نترك جانبا حالة الحب التي لا شفاء منها ، لأنها حالة واقعية في وجودها وتواجدها .. وننتقل الى الصفات المتلاحقة في جس نبض امرأة عاشقة تعيش حالة التشظي والضياع !! فالعاشقة / الأنثى مقهورة الجسد – لنلاحظ هنا هذا التعبير الذكي في وصف الجسد الكابي _ وهي مشدودة الأعصاب – أيضا التعبير جد واضح في تقرير صفة جسدية ونفسية ضاغطة وقاسية الى أبعد حد .. وهي في النتيجة المرعبة هباء !! لنلاحظ دقة هذا الوصف الخطير الصارخ حقا (( لو تنفخ في داخل أذني / لتطايرتُ دخانا في الهواء )) فماذا بعد هذا التمزق الذي لا يشبهه أي تمزق ؟؟.. !! كأن العشق في هذه الحالة المجتمعية المرضية يضع الأنثى في مهب التوتر والتمزق والانهيار .. وصولا ربما الى محاولة ذبحها باسم قانون القبيلة المقدس .. هذا القانون الذي يبيح للرجل أن يكون فارس الحب وكل الممارسات التي يريد مع الأنثى ، ثم يقوم وببرودة أعصاب لا مثيل لها بقتل هذه الأنثى ، لأنها في البداية والنهاية كانت الطرف الآخر في معادلة الحب هذه !! فهل كان على الحب أن يكون ذا طرف واحد وكيف ؟؟ أم أن التعريف والتوصيف ووضع الأمور في نصابها ليس من اختصاص الرجل ؟؟ لأن عليه أن يمارس سلطته في معاقبة الأنثى والقيام بذبحها ليس إلا ؟؟!!
إن مثل هذا الظلم الواقع بكل ثقله على الأنثى يستتبع بشكل جد طبيعي نوعا من الرد والمواجهة والصد .. إذ من غير المقبول أن يبقى الحال على ما هو عليه .. وهو ما يجعلنا نقف أمام أدب نسائي مواجه – ولا داعي هنا لمناقشة المصطلح لأن الهدف هو المقصود وليس الوقوع في شرك البحث عن أسماء ومصطلحات – ومن هذا الأدب الأكثر تعبيرا وجرأة عن صوت الأنثى ، ولأعلى وتيرة في التعبير الصادق الجميل عن نبضها يأتي شعر الشاعرة المبدعة سعاد الصباح ، ليقول الكلمة بما تحمل من شفافية وروعة .. ولي هنا أن أغاير قليلا النمط الذي تعودت عليه الدراسات لأدخل شيئا من عوالم الشاعرة بنوع من الدفق الشعوري المحاذي للحرف والمتواتر مع نبض القصيدة ، ثم المتداخل مع دفء التعبير في انفتاح وتره على الصدق الشفاف الجميل ..
سعاد الصباح تقبض على الجمرة الأولى وتعطي الوتر كل ما عندها من نشيد ، لتكون جمرة الشعر وسيدة العشق فيه .. وهو تركيب يشد الأطراف الى بعضها ليجعل القصيدة في لغتها المتوهجة أجمل القصائد .. وعذرا إذا ضاق بي المجال واضطررت هنا الى الحديث عن جانب واحد أصطحب مواده الأخاذة من ديوان سعاد الصباح ((في البدء كانت الأنثى )) ..
يجدر بي القول هنا إن ديوان الشاعرة سعاد الصباح (في البدء كانت الأنثى) الذي يعتبر واحدا من الدواوين النادرة التي تتحدث عن أدب نسائي حقيقي وقوفه وتحديه وتعبيره الجميل عن صوت الأنثى بشجاعة وثبات وقوة واقتدار، هو ديوان يسجل صرخة الأنثى، ليس في وجه الرجل، لكن في وجه كل الحصار والممارسات المفروضة على الأنثى في المجتمع الشرقي المصر على ذكورية كل شيء.. لتكون الأنثى، في الأغلب الأعم مجرد متعة، إن لم نقل مجرد (ديكور) يزيد جمال وأناقة البيت (الشرقي) ليس إلا!! وهو ما تحاول الشاعرة سعاد الصباح أن تزيح شيئا من ضاغطه وأثره وتأثيره السلبيين. مطالبة أن تكون الأنثى شريكة وحبيبة وفاعلة، وذات أثر وتأثير.
إن قراءة الديوان، من خلال مفصل القصيدة الأولى (كن صديقي) وهي القصيدة التي سأحاول الامتداد إلى مفاصل الديوان من رؤاها، تعطي الدال على الموضوعة المتناولة وأبعادها.. والكم الشعري القائل: (كن صديقي/ كم جميل لو بقينا أصدقاءْ / إن كل امرأة تحتاج إلى كف صديق / وكلام طيب تسمعه) ثم : (إنني أحتاج أحيانا لأن أمشي على العشب معكْ / وأنا أحتاج أحيانا لأن أقرأ ديوانا من الشعر معكْ / وأنا ـ كامرأة ـ يسعدني أن أسمعكْ / فلماذا ـ أيها الشرقي ـ تهتم بشكلي / ولماذا تبصر الكحل بعيني / ولا تبصر عقلي / إنني أحتاج كالأرض إلى ماء الحوارْ / فلماذا لا ترى في معصمي إلا السوار؟ / ولماذا فيك شيء من بقايا شهريارْ )؟
هذا الكم الأولي كما نرى يختصر الكثير من مسافات الصرخة الأنثوية التي تريد سعاد الصباح أن تقولها، وهي صرخة صدق ووجع وحق، تحاول أن تقارب بين مساحتي التواجد والحوار. والشاعرة في ندائها، تمنطق الأمور وتقربها إلى الذهن، لتكون دعواها مرفوعة في محكمة تحاول إعطاء كل ذي حق حقه، ولتكون دعوى متكاملة الحجج والبراهين.
من منطق الرجال ننظر إلى الدعوى التي ترفعها الشاعرة سعاد الصباح لنجد أنها دعوى عادلة وإن كنا الطرف المدان !! فالأنثى تريد الرجل صديقا وشريكا من جهة، وتريده أن ينظر إلى حقها في مشاركته التفكير والتدبير، دون التعلق بمنطق (المتعة) و (الشكل) والمظهر الخارجي ليس إلا. وكأن الأنثى (دمية) أو صورة مرسومة بشكل يثير المتعة والشهوة ليس إلا. ألا تطرح الشاعرة سعاد الصباح دعوى لا نستطيع أن نرفض حججها وبراهينها؟
أبتعد قليلا عن المفصل الذي وضعته كأساس (كن صديقي) لأنظر في بعد آخر تطرحه قصيدة (إلى روبوت عربي عاشق) حيث: مشكلتك الكبرى/ أن جميع معلوماتك عن الحب/ مأخوذة من ألف ليلية وليلة / فاحتفظ بذاكرتك المعدنية كما تريد/ فإن آخر اهتماماتي أن يحبني كومبيوتر) وهو ما يقارب قصيدة (دراكيولا العربي) حيث: يا ملك الحب ويا محرر النساءْ / إليك قد لجأت كي تلمني / من قسوة الأنواء / وعندما رأيتني / مكسورة مقهورة / حولت أجزائي إلى أجزاء / وبعدها تركتني / كذرة الغبار / بين الأرض والسماءْ).
إن مساحة الاحتراق بادية ظاهرة. وفي أي تشكيل للسؤال، لا نستطيع إلا وضع كلمة (لماذا)؟ وبعدها نستطيع أن نفتح العين على (صورة) أنثوية نرفض مع الشاعرة أن تكون. لأن من حق الأنثى، وهي الأم والأخت والبنت والزوجة والحبيبة والصديقة والشريكة، أن تكون في مساحة الاهتمام التي تستحقها كما يستحقها الرجل تماما.
نعودإلى القصيدة المفصل (كن صديقي) لنرى إلى أن الأنثى عند الشاعرة سعاد الصباح، لا تلجأ في هذا الكم الشعري الذي تضعه أمامنا إلى المطالبة بإلغاء أو إزاحة كم العشق والحب، أو معنى الأنوثة كما يظن. فالشاعرة أبعد ما تكون عن هذا المنطق. لأن الأنوثة لا تلغى كما الذكورة، لكن هناك منطق العلاقة القائمة بين الطرفين، منطق المساحة المفتوحة للتفاهم والحوار. منطق التعامل. من هذه الزاوية تعود الشاعرة إلى التأكيد: كن صديقي / أنا لا أطلب أن تعشقني العشق الكبيرا / لا ولا أطلب أن تبتاع لي يختا / وتهديني قصورا / لا ولا أطلب أن تمطرني عطرا فرنسيا / وتعطيني مفاتيح القمرْ / هذه الأشياء لا تسعدني / فاهتماماتي صغيرة / وهواياتي صغيرة / وطموحي هو أن أمشي ساعات معكْ / تحت موسيقى المطر / وطموحي هو أن أسمع في الهاتف صوتك / عندما يسكنني الحزن / ويبكيني الضجرْ).
إن القصيدة / المفصل (كن صديقي) تعود لتؤكد جانبا آخر من جوانب الدعوى، أو النداء أو الصرخة. ليس المهم في منطق (الأنوثة) الاهتمام بالمظاهر التي يظن أنها الباب إلى قلبها. هناك صورة من الحب مطلوبة ومستدعاة، لتتم من خلالها مسألة الامتلاء العاطفي. من هنا محافظة الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح على مساحة الحب، كمساحة مضاءة مكتملة ناضجة. وهو ما يضعنا أمام قصيدة (إلى واحد لا يسمى) حيث: أسميكَ / رغم اقتناعي بأنك لست تسمى / حبيبي / أسميك / حتى أغيظ النساء / حبيبي / وحتى أغيظ عقول الصفيح / حبيبي / وأعرف أن القبيلة تطلب رأسي / وأن الذكور سيفتخرون بذبحي / وأن النساء سيرقصن تحت صليبي). وأمام قصيدة (يوميات قطة) حيث: أنا في حالة عشق يا حبيبي / نعمة كبرى أن أفتح عيني صباحا/ فأرى في جانبي من أناديه حبيبي / نعمة أن أشرب القهوة ما بين ذراعيك / وأن أسكن طول الليل في بستان طيبي / نعمة أن تشعر الأنثى بإنسان يغطيها / ويحميها.. ويعطيها مفاتيح الغيوب / أنا في كل لغات الأرض أهواك / فهل عندك اسم آخر غير حبيبي)؟
إن معادلة الامتلاء العاطفي، والقبض على جمرة المشاعر الصحية، تعطي القصيدة الأنثوية، حقها في رفع الصوت، مادام صوتا لا يطالب إلا بتحقيق المعادلة الإنسانية بصورتها الصحيحة. وقد تكون صرخة الشاعرة مرفوضة عند الكثيرين، كما تشير هي في كمها الشعري، لكن ترى أن من حقها أن تصرخ صرخة التعبير عن المطالبة بالمساحة والمسافة الإنسانية اللتين تراهما حقا طبيعيا من حقوقها.
في انفتاح أخير على المفصل/ القصيدة (كن صديقي) نتواصل مع وصول الدفق الشعري إلى الذروة، حيث كن صديقي / فأنا محتاجة جدا لميناء سلام / وأنا متعبة من قصص العشق وأخبار الغرام / وأنا متعبة من ذلك العصر الذي / يعتبر المرأة تمثال رخام / فتكلم حين تلقاني / لماذا الرجل الشرقي ينسى / حين يلقى امرأة نصف الكلام ؟/ ولماذا لا يرى فيها سوى قطعة حلوى / وزغاليل حمام / ولماذا يقطف التفاح من أشجارها / ثم ينام)؟
إن موضوعة ديوان (في البدء كانت الأنثى) للشاعرة سعاد الصباح ـ ولم أقارب غير الموضوعة مع أن البنية الشعرية متعددة وحافلة ـ تشكل صرخة جريئة وأصيلة في الأدب النسائي. حيث تنطلق من أجواء الصوت النسائي الخاص لتحاكم أو لتطالب الصوت الذكوري الخاص أيضا، في سيرورة تلجأ إلى تشكيل الصوت المجتمعي الشرقي العام، كصوت عليه أن يحقق المعادلة بشرطها الإنساني الصحي والصحيح. ولا يغيب عن بال الشاعرة سعاد الصباح من خلال طرح موضوعاتها، أن تؤكد على ضرورة البوح الأنثوي دون موانع وسدود، وهو حق من حقوقها الإنسانية الطبيعية.
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|