وريثةُ الشمــس ،،
حدث الطوفانُ خارجَ حدودِ الريح حيثُ إنعدام توازن البشر، فصرتُ حينها أمشي معكوسَ الإتجاهِ متحرراً من قيودِ قوانينِ الكونِ راضخٌ بكلِّ فرحٍ لقانونٍ واحد يتبعُ عقليَ المتمرّد.
طرحتُ سؤالاً على اللاشيء فقلتُ:
أين تكمنُ الحقيقةُ الكاملة؟ ولمَ هي ليستْ بوجهٍ حَسنٍ دائما؟
لم يجبني أحد من خارج الكون فرأيتني أرتفعُ بجناحينِ من ريشِ التأملِ وحلّقتُ عالياً إلى أن خرجتُ من العصرِ الحاضرِ وتجاوزتُ المستقبلَ ومررتُ في طيراني بِكلِّ محطاتِ البشر، بَانَتْ لي زنبقةٌ زرقاءٌ زجاجية؛ ذكرتني بزهرةِ العاشقينِ التي تنبتُ في جِبال المغاربة حينَ كانَ العاشقُ يقطعُ دروبَ الشوكِ ليقطفَ واحدةً بروحٍ صافيةٍ لحبيبتهِ القاطنةِ في صحراءِ الشرق !
تأملتها سنين ! ثم بدأتُ بِطرحِ الحقائقِ العجيبةِ التي عشتها واحدةً تلو الأخرى إلى أن سقطتْ جميعها في ظلِّ الزنبقة وبدأتُ أتلو أسماء الأبطالِ في كلّ الحكاياتِ المنسية، فلم أنسَ أنني خارجَ حدودِ الجاذبية فهناك حتى الحكايات تتحررُ من قضبانِ الذاكرةِ فتنسى كأنها لم تكن. وفجأة بينما عينيَّ ترقبانِ سِحر الأزرق الساكنِ حدقةِ الزنبقة شمختْ بوجهي جنيّةٌ، كأنها ابنةُ الريحِ بحدّتها! بشعرٍ أزرقَ مجعّد وعينينِ سوداوينِ كسهامِ الرمحِ، أشهرتْ إصبعها ذي الإظفرِ الطويلِ الحادِ المطليِّ بأحمرٍ كأنه دمُ جريحِ الحقِ ولم يشفَ بعدُ من الطعنِ، ثم قهقهتْ بصوتٍ يشبه دويَّ رعودِ كانون ثم صمتتْ فجأة وزاد حجم بؤبؤي عينيها وقالت:
-أيها البائس، مالذي أتى بك إلى هنا؟
فرددتُ:
-جئتُ لأبحثَ عن "الحقيقةِ"، فقد علمتُ من ألبابِ الكتبِ القديمة أنها توجد هنا، حيثُ انعدام الوزنِ وغيابُ الجذبِ وحيثُ لا دينارَ ولا قنطار من ذهب.
أتعطنيها؟
فعادتْ وأطلقتْ ضحكتها العجيبة وأردفتْ :
-أنتَ إبن الصدقِ إذن، وريثُ الحق !، أخبرتني صخرةُ الوادِ السحيق أنك ستأتي ذات شجاعةٍ نادرةٍ لتبحثَ عن إجابة شافية.
فقلتُ لها:
-بل أنا من أبناء كوكبٍ يُسمّى الأرض أصلي من أديمٌ هش، أزنُ مِقدارَ من جذبِ وحبِ الأرضِ لي، لكنني وجدتُ وزني يتناقصُ مع تكرارٍ الأيام؛ فجئتكِ بلا تاريخٍ غير قناعاتي لتكشفي لي سرَّ الحقيقة وسرَّ انعدامِ وزنها على كوكبنا فهي الوحيدةُ التي ما تزالُ بِكْر؛ لم تجد من يتزوجها بسبب ندرتها، فكلِّ الأجسامِ على أرضنا موزونة مجذوبةٌ للأسفل إلاّ هي، فهي الوحيدةُ المرتفعةُ حدَّ الشمس، إلى أن شوهتْ الحرارة ملامحها! فغدتْ بوجهٍ غير حسنٍ؛ وباتَ الكلُّ يخجلُ منها فإن هي زارتهُ ذاتَ واقعٍ أخفاها طيَّ رفوفِ الكتمانِ والنكرِ في بيتِ ذاتهِ ، حتى باتت محجوبةً عن الجميع ووحدي من أعشق التفرّد فعشقتها! وجئتكِ لاهثاً لألتقي بها.
فأجابت ساخرةً:
-وكيف ستُسكنها في داركَ وهي خاويةُ الوزنِ جارةُ الشمس ؟
فأجبتها:
-أحد السَحرةِ المغاربةِ أخبرني ذاتَ سفرٍ للروحِ بأنني قادرٌ على تسكينها معي، إلا أنه حذّرني من جنونٍ قد يدفعني لوأدِها؛ حيثُ أن الحقيقةُ أنثى وطبعُ البشرِ منذ القِدم وأدُ الإناث !
أطرقت الجنيّة بصمتٍ وبدأتْ ترسمُ على رمالِ الماضي دوائرَ لم اتبيّن كنهها لكنني لمحتُ وجهاً تشكّل من دوائرها يشبهني حينَ كنتُ طفلاً وحينَ رفعتُ رأسي لأستوضحَ منها، كانت قد اختفت! ولمحتُ خيطاً من دخانٍ يسيرُ باتجاه الأعلى، فرفعتُ بَصري عالياً حينَ سقطَ على وجهي قطرةٌ من ماءٍ وقطرةٌ أخرى رأيتها تجلسُ على خدّ الزنبقةِ فبدأتُ أنادي:
"أيتها الحقيقة ألن تأتي، ألن تعانقيني؟"
وكنتُ حينها أدور في مدارِ الزنبقةِ ذي السبعِ حلقات، فلمعتْ في عينيّ تلكَ القطرةُ الجاثمةُ على وجهِ الزنبقة؛ فحدّقتُ فيها بلمعانها الأزرق ثم تراءتْ لي صورتي وأنا طفلٌ صغير وسمعتُ همساً كأنه قادم من قلبِ الزنبقةِ سمعتهُ يقول:
" وحدهم الأطفال من تَلدُهم الحقائق، وحدهم من يعترفون بها ويرونها جميلةً لأنهم يشاهدونها كاملةً بقلوبهم، يشعرونَ بها بمهدِ مخدعهِم، وحدهِِم من لم يتزوجون بكذبةٍ إسمها الدنيا، وحدُهم من لم يمارسون نِفاق المجاملة. إن الحقيقة هي أجمل المخلوقات وأكثرها إرثا من الشمس ! لكن من لا يملك جفوناً جامدةً لن يستطيع التحديق بها لحظةَ اعترافٍ واحدة."
ثم صمتَ الصوتُ وعمَّ السكون وجفّتْ تلكَ القطرة ولم أعد أرى صورةَ الطفلِ في الزنبقة وشعرتُ بنعاسٍ شديد أجبرني على إغلاق عينيّ تماماً كمن يغفو بعد أن غَزا جمرهُ الجليد !
ولم اصحو إلا على صوتِ زوجتي وهي تسألني:
- لم تخبرني بعد ماذا سنسمي مولدتنا الجديدة؟
فأجبتها بلا عناء:
- سأسميها "الحقيقة".