العائدون من هامش التاريخ
......................
السيد هريدى ..مدرس تاريخ..حافظ للتواريخ..وأسرته أصلها صعيدى ..ولما جه الجد الكبير هريدى ..للفرما..عشان يبقى من حُفار القنال ..قعد في خيمة العمال..في المنطقة اللي جنب ميناء الصيد في الوقت الحالي..
ولما التاريخ ذكر في هوامشه..إن عمال القنال كانوا حوالي ..ألف وأكتر في بداية الحفر..وكان جده الكبير فيهم..ودايماً جده لأبوه يحكي له..لما جه مع أبوه وأمه..وهو لسه صغير..وأبوه كان وشه مدوّر..وفيه عافية بعشر رجاله..ومحاله حد يغلبه في لعبة الريست والتحطيب..وقاله جده انه مات في الحفر في المنطقة اللي قدام ديليسبس..واسمها دلوقتي حوض الجونة..وكانوا بيقولوا عليها حوض الشونه..
وفي بداية الخمسينات ..راح السيد وقعد على حجر قاعدة رصيف سيبس..وقعد يبص للميه..ويقول لولا رجالتك الصعايده يامصر..اللي كانوا بيشتغلوا من الفجر لحد العصر..ماكان لمجرى ميتك وجود..ولا كان لتمثال ديليسبس قاعدة متينة على عمود..ولا التاريخ ذكر اسمك..انت وبلدك ..والخديوى سعيد..والملكة أُجيني..
لكن اللي تعبوا ..ولحياتهم وهبوا..مذكورين في التاريخ في هوامشه مجرد أعداد..وجدى منهم رقم في مجموع الأعداد..آه ياجدى لو أشوفك وتحكيلي ..وأمشي معاك وأفخر بيك في التلاتيني..ومحمد علي..
وأبيّن للناس شأنك العالي ..آه ياجدى.
ومع تكرار الزيارات ..بقى المكان للسيد..وكأنه من المقامات..ومع تكرار النداءات ..ظهر له الجد..ومعاه عشرة من الأصحاب..هدومهم فيها رمل وعرق..لكن له عطر جميل..وايديهم مشققة ومشددة..من مسكة الفاس..ومسك نازل منها ونعم الناس..
ولما شافه الجد ..قاله تعالى ياسيد ياهريدى..ياابن حفيدى..وقاله السيد وحشتني ياجدى..مع إني ماشفتكش..الوقت مر كتير..لكن مانسيتكش..والجد عرّفه على صحابه..اللي ماتوا معاه في حفر القنال..ده اسماعيل..من اسماعيلية..وده عوض من الشرقية..وده مرسال من المطرية ..وده حنا وده اسكندر..من الصعيد بلدياتنا..وكلهم بصوا على بورسعيد..بأنوارها..وبصوا للقنال والسفن بأضوائها..وقالوا..بقيتي عمار..يافرما..وتعبنا ماراحش بلاش..
قالهم السيد..دلوقتي بقى اسمها بورسعيد..قالوا الله يسامحه الخديوى سعيد..وبصوا لديليسبس..ولما عرفوا ان مهندس القنال..شبطوا في خناقة..وكأنهم هيوقّعوه ..ولعنوا أبوه..وأنا أقول لهم..انسوا واغفروا..مادام عرقكم ودمكم جري في الشريان..اللي بقى للحياة..ولبلدنا كيان..ضحكوا وقالوا..عشان خاطرك ..هنسامح كل اللي أساء في حقنا..من أول الخدويوى سعيد..لحد العسكرى العثمانلي..وديد..اللي كان كُرباجه على ضهرنا حامي..
وأصل بلدنا ياحفيد بلدياتنا..بتقاسي كتير..وولادها مابيبخلوش عليها..حتى لو كانت بالسخره..بس رب القدره بيحميها..واحنا فرحانين إن خيرها رجع ليها..
وبص واحد منهم..لقى العسكرى الانجليزى بيتجول على الرصيف..خاف وقال..انتم لسه في بلدنا موجودين..ياللا يا بلدياتنا نرجع لسكناتنا..تحت رمل القنال..
ومشوا واختفوا..والجد معاهم..والدموع فرت من عين السيد هريدى ..وقال لو كان بإيدى ..لدفنت العسكرى الإنجليزى ..مطرحهم وطلعتهم تاني..
ومع الصبر والأماني ..وبعد سنتين ..خرجوا من بلادنا..ورجع السيد ينادى من تاني..
اظهر ياجدى انت وصحابك..العدو خلاص..سابنا وسابك..اظهر انت وصحابك..عشان ألف معاكم كل بورسعيد..وأعمل لكم احتفال كبير..يليق بيكم..ووسام على صدوركم نحطه..
والتاريخ ماحدش هيقدر..يغيّره ولا يحرقه ولا يمطه..ولا يشيله ولا يحطه..وإذا كان التاريخ ذكركم أرقام في الهامش..إنتم اللي بقيتم أبطاله..
واللي أتذكروا بقوا على الهامش..
ويجيله صوت الجد والأصحاب..ويقول له..
احنا دلوقتي حسينا..إن دمنا ماراحش هدّر..عشان القنال ..ميتها ورملها وحدودها وأرضها..وخيرها وطرحها..
بقى ملك لأحفادنا..وأحفاد أحفادنا..
إلى لقاء آخر
مع جزء جديد بإذن الله..