* الجزء السابع و الثلاثون *
... في كلّ مرّة كانت تغفو أنثى فوق ذاكرتي، تشعل وحشةً خاصة .. و ألما خاصا .. يعيدني لثانية الرّصاصة .. و مع ذلك أفقت من صدمتي و تجاوزت محنتي .. و سطّرت بالخطّ الأحمر تحت صورة طفل تثاءبت عند سريري و انحطّت بكامل أناقة إطارها الذهبي المزركش ملغّمة بكوابيس مرعبة ..
أجل .. كرهت الأطفال ذلك الحين، بدافع من إحساس أبوي كان مفقودا بداخلي .. و كأنّ الأبوّة ولدت ذات يوم بأعماقي، ثم انتحرت بعدها بسنوات .. لكنّي مع ذلك أحسّها، أعرفها كما لو كنت أمارسها كسرٍ يومي من أسرار الخوارق الخمس الّتي تعرّضت لها .. موت عزيز و الرّصاصة و انتحار آخر لأبوّتي في صورة أمال .. ثم المرأة الّتي مرّت قبالة كلّ الجراح فأشعلتها في ثانية واحدة بدافع من جرح خيانتها .. ثم آخر فصل من روايتي الّذي سيحرق عن شفتيّ مخارجها كقصيدة كان يجب أن تنتهي يوما .. !! كصاعقة حرفية تنحطّ على أوراقها لتقفلها بتاء مربوطة ..
أبوّتي الّتي اعتنقت ثقافة التبنّي الوهمي .. كما لو كنت أربت على كتفي طفل ناداني " وهما جميلا " ( أبي ) ثم تاه بين زقاق مدينة مجهولة، من دون خارطة و لا ملامح .. ( كوجه أنثى الشال )، ذلك الطفل الّذي تيتّم على ضفاف نهر الدّم الّذي سال يوم الرّصاصة المشهودة .. يعرفني، يحمل اسمي لكنّه مع ذلك مجهول النّسب .. شيء يشبه أسطورة جميلة، خاتمة شعرية و شرعية لكلّ الأساطير القديمة، لغة تتقن ذاتها و رسمها الأصيل .. فضيحة إنسانية تشبه اغتيال الطفولة، حاسّة ( بحجم أنثى .. !! ) داخلتني ثم انسحبت حافية " القدمين " كي لا تربك أو تشتّت أشياءً كانت بداخلي لهما .. مخلّفة عطرها، ذلك الطفل الصغير الّذي اجتاحني بارتباك الحروف بين شفتيه في محاولة أولى لتعلّم النّطق .. بلعابه، بحركة يديه العشوائية .. بنظراته الزائغة بيننا .. المعلّقة أحيانا كثيرة في الهواء ..
أين طفلي .. ؟ أين ذاتي .. ؟
هل يعقل أن أبحث عنه خلف أنقاض طفولتي المسجونة بين حيطان قريتي .. ؟ تلك الّتي حطّمتها مدنيّة مزعومة .. و تفاصيل بناء تختلف عن تلك الّتي انتظرتني حتّى حضرت لها مكبّلا .. لأطلِّع على آخر أثر لحضارة بربرية اندثرت بعد ميلادي بثوان و كأنّ الاحتفال بتوريتي الحياة كان بتحطيم آخر قطعة حجارة لآخر بيت بُنِي بها .. ثم لتحطّمني بعدها بسنوات بشيء صلب أيضا .. بشيء توارثته شرعية التّحطيم و اعتنقته ثقافة الدّمار،
أم في الانتماء لامرأة مجهولة . ؟ تحت شالها .. بين الخيوط المتشابكة لشيء وقع منها ذات يوم و استرجعته .. تاركة مكانه خصلة من شعرها، ثارت في لحظة سقوط لقيمة معنوية كبّلتني لأشهر، وجدتها فوق كتفي الأيمن، كذاكرة ثورية كاملة .. شيئا استقّر " كتاريخ " داخل دفتر شاغر فاحتواه لقرون من المواجع و الذكريات .. خلّف رمادا حيًا مشتعلا كما لو أنّه استعباد للاشتعال ..
الملامح المحذوفة سر قديم أيضا .. للتّخيّل و الاستكشاف .. رمز ساذج للأنوثة السّاكنة .. إذا حدث و اندثر صامتا، ذلك الصّمت الذّي يصل لحدّ الإرباك العقلي، أخطر من كلّ شيء حتّى من الحروب نفسها .. لذلك كانت بملامحها الغامضة لوحةً بالكاد تشرح للألوان ميولها و حاجتها للاستحضار الرّوحي لكلّ شيء مرّ و خلّف بصمته، ذلك الاستحضار الّذي لا يعدو أن يكون إلا مجرّد مسحة خرافية لا ترقى لأن تستعبد المساحات الفارغة، وجه ساكن يصلح لأن ترسم فوقه كلّ الانفعالات .. كلّ مقاسات العيون، و ألوانها القاتلة .. النّظرات الغبية المستكينة الذكاء كنوع خامد يجيد الاشتعال متّى أربكته المواعيد .. اشتعالا يخرس من حوله فوضى الرّصاص و القصف و الدّمار .. لذلك كانت الحروب حمقاء .. بل غبية جدا، لأنّ أسلحتها ظاهرة، مخادعة .. نتيجتها موت و موت و موت .. لكن وجهها محذوف أيضا تستغلّه بغرض التنويه الكاذب مخطّطات مشفّرة و رموز مبهمة و خرائط لمدن تنتظر عهدها الجديد .. !!
تلك الملامح الصامتة لأنثى .. عبّرت عن أنّها أنثى بتصميمها و عطرها .. و شعرها، أرّخت لعهود نسائية كانت عقيمة، لذلك كان الفرق شاسعا بين العقم و الصّمت الذكي .. صمّمت لنفسها جسرا و عبرته صامتة أيضا، ثم بخيوط دقيقة جدا رمزت لكلّ أنثى مرّت بتوقيعها " كأنثى " من أمام دفاتري، حتّى تلك الّتي لا تخصّني، رموزا جمعتها و رتّبتها بحسب عمق دلالتها .. رموز تصلح بعد قرون لأن يتدارسها الباحثون عن الأسرار القديمة .. و الألغاز ..
امرأة زامنت تفاصيل الموت العربي، و شابهته في ملامحه المجهولة .. و القوى الخفية الّتي تحرّك رسوماته و توقيعاته الدّامية، لا يعقل لها أن تشعل مرّة أخرى رغبتي في استنطاق ذاتي في طفل صغير .. لن أستطيع أن أحمّله مشقّة البحث عن ذاته .. وسط الضباب القاتم .. الّذي لا يشابه ضباب النّهار و لا ينتمي للّيل، بحكم الظلام الّذي ينزع عنه شرعية بياضه .. لن أوّرطه في قضية شتوية تقلّدت أوسمتها الفخرية من غيوم سوداء تطبّعت بالزّنوج .. فقط لتنكر عن نفسها مزاعم العروبة عن وجهها الشّرقي الأبيض ..