* الجزء الرابع و الثلاثون *
... كيف لي أن أعيش متوترا كزلزال .. ؟ بين أنثى و أنثى .. و ..... أنثى حضرت موسمين بعد الجراح .. فأربكتني كقارة زلزالية، لا تبرحني هزّاتها .. و لا تغادرني خرائطها المدسوسة كهواجس تحاصر رسم كلّ الخرائط .. امرأة أشعلت فيّ ذات يوم رغبة الطفولة و الأبوة، بعد أن أطفأتهما الرّصاصة الملعونة لسنتين .. كيف لحادث " عَرَضِي " أن يحطّمها " هي .. الخطّ النّاري الّذي عَبَرَ مشتعلا، فرسم اشتعاله أنفاقا و وديانا و حمما .. كوطن لحظة اجتياح عسكري " هي .. بكلّ تفاصيلها و حواجزها .. بكلّ تناقضاتها و حماقاتها و حضورها الموجوع بصدري .. ؟ كيف لي أن أسطّر بلون أحمر تحت حرف كان سينتمي لها، تمهيدا لحذفه .. ؟ ثم أراجع بعد ذلك كلمتي فلا أفهم منها غير حرفها المحذوف .. لأنّ الألم يستشعر ذاته بين آلاف الطقوس و الأحاسيس و المشاعر، تلك الّتي تتشابه في انتمائها للنّفس البشرية .. كيف لي أن أحب امرأة، منذ ثانيتها الأولى ذكّرتني بطفولتي .. ؟ ثمّ سارت مسافات بعيدة فوق الهواجس حتّى ذكّرتني ذات خريف .. بطفلي المفقود بين تجاويف رصاصة شرقية .. و كأنّ الخيانة جسر شرعي يوصل لكلّ الجروح .. يكفي امتطاؤه على عجل، ليصل في ثوان كلّ قارات المواجع، حتّى تلك المتطرّفة .. حتّى تلك الّتي ماتت برصاصة نسيان ..
كيف لي أن أتجاوزها .. ؟ و هي الّتي طلعت بأمومتها فجأة بين جبال الجليد فأذابتها و سكنتني بعاصفة جديدة، متجاهلة خصري ذاك الّذي كان لا يزال محتفظا بمخطّط الرّصاصة القاتلة حتّى بعد أن شفيت منها .. أوَ ليست الأمومة مقاسا يناسبني أيضا .. ؟ ! ذلك أنّي لو لم أشعر برغبة في أمومتها لما استنطقت شرعية الرّجل الّذي بداخلي ليكون أبًا ..
فجأةً .. و في يوم حدادٍ خريفيٍّ، ذكّرتني بموتي لمرتين .. مرّة كانت قبلها بفارق استفاقة كان الوهم سيّدها .. و مرّة كانت بعدها .. كانت بحجمها .. بحجم مسافات عشقها .. لذلك كان الموت عنيفا .. موغلا في جرحه حدّ الكتمان السّطري .. ذلك أنّي توقّفت بها بين سطرين .. !! بين حدّين للجَلْد الحرفي، كأنّي رسمتها نقطةً في وسط دائرة نارية و أُرْغمت أن أمتطيها، مشكّلا علامة للتعجّب ضخمة .. و بتركيز شديد حتّى لا أفقد ذهولي و سكوني و أفيق مصدوما .. فأسقط عنها و أحترق، احتراقا واحدا .. و كنت بحاجة للاحتراق بمفهوم المسافات الزّمنية، تماما كاختلاف التوقيت بين قارتين، كي أستفيد من الفاصل الوقتي بين الثالثة صباحا و الثالثة مساءً .. حتّى أنفّذ جريمتي بينهما، في لحظة ارتباك زمني جميل .. حتّى أنطفئ بين احتراق و احتراق و أجمع رمادي بين كلّ احتراقين .. و أنثره فوق لوحة الرّماد تلك الّتي صنعتها لنفسي بعد احتراق شجرتي .. تلك اللّوحة الّتي أردتها قارة ألملم فيها شتاتي و رماد الاحتراقات كلّها .. حتّى الوطنية منها .. فلا غرابة أنّها اكتسحت كلّ المسافات .. !! كلّ الاتجاهات بإيماءات احتراق ..
لم تعلم عائلتي بشيء .. لأنّي كنت في العاصمة ... اعترفت بعد أن أفقت من غيبوبتي بأنّ الخطأ يقع على عاتقي ... حتى أرضي غرورا تلبّسني كشرعية منافقة .. و حتّى أقنع نفسي، أنّ اختيار الانتحار ( بتفاصيل مقلوبة ) انحرفت قليلا لتُجَسَّدَ في مجرّد الرّغبة فيه فقط .. كان نابعا من إرادتي المنفردة و تحت ضغط من هواجس خفيّة في نفسي، و حتّى أقطع َصفحة من دفتر ذكريات قديم .. كنت قد خبّأته للتّضليل، فكان أن مزّقني بقطعة حرفية .. من تلك الّتي تجرح قبل أن تمنحك حقّ تلمّسها بشفتين تجيدان الإلقاء .. ثمّ بعدها توثّق جرحها بدفتر جديد، كلّ صفحة منه، بعهدة تمزيق و مراسيم عزاء خاصة .. تجسّدها لهفة جنونية من تلك الّتي تطبعها نار حاقدة على أوراق أغرتها ذات يوم بالاشتعال، ثم تنكّرت لها بوقود حسّي ملفّق .. أطفأها و هي في أوجّ الاستعباد استقداما لمرحلة حرق للذّكرى ..
و الإغراء خاصّةٌ أنثوية ..
كلّ ما ينسب لأنثى جارح .. حتّى الأطفال .. !!!
حتّى دميتي .. و قارورة عطري و مزهريّتي الّتي كسرتها ذات يوم أمال ابنة شقيقتي .. صدفة .. فكان أن ماتت بعدها و جرحتني مرتّين .. يوم كسرت مزهريّتي و يوم ماتت و يدها الصغيرة تمسك فستان آخر دمية أهديتها إياها في نيسان .. في احتفالية تضاهي عيد ميلاد آخر من عمرها و كأنّي أردتها أن تحتفل مرتّين .. مرّة لسنتها تلك، و مرّة لسنة أخرى .. أوزّعها كيفما أشاء على ما تبقّى من عمري .. كان يوم ميلادها الأول من نيسان .. أروع كذبة كانت هي .. و أفضع كذبة كانت تمهّد لحقيقة مؤلمة .. و ماتت في أيلول .. موسم قتلني لأكثر من مرّة .. آخرها كان بذاكرة إجرامية موثّقة .. !! تصلح لأن تتصّدر جرائم القتل للقرن الواحد و العشرين ..
( تلك شرعية أخرى ..كان عليّ أن أوثّقها فيما بعد .. !! )
أمال آخر طفلة كنت سأرضى بها بديلا لو لم تمت قبل فاجعتي .. لكنت ألبستها ثقافتي في النّساء لتكون امرأة بتصميم جدير بالانصياع العالمي .. و ثقافتي في الرّجال لتحمل شيئا من حنكتي و تداري بها فجوات أمومتها ذات يوم .. !! فيطلع من بين كفّيها، رجلٌ آخر يعلن من فوق فوهة بركان ثائر .. قرارا عسكريا نافذا،
شاءت الصدف أن تولد أمال و أحملها ثوان بعد ميلادها و كأنّها مواساة لما قبل المأساة ..ثم تموت لتقتل معها كلّ الرّغبات .. حتّى قبل أن تصيبني الرّصاصة بآخر لعنة للزّجاج المكسور .. كلّ الّذي حدث بعدها جاء خارجا عن تصوراتي و خارج خططي .. و خارج مزاعمي الرّجولية .. كلّ الّذي حدث كان قاسيا .. و كأنّ فترة الاستلقاء بعد الرّصاصة، كانت مجرّد تخدير جزئي .. تمّت بعدها عملية استنطاقٍ للحواس .. بصعقة خلّفتها شظيّة من حرب طائفية، تلك الّتي تتبنّى الانشطار و الانقسامات في الجسد الواحد .. كما يحدث حاليا في معسكرات العروبة .. و في الأفواه الّتي تجيد التسكّع بين الشّعارات الواهية .. و كأنّ اللّسان الناطق للعربية، له أن يفكّ عنه أسر الكلمات دون أن يخدش حياءها .. و عذره أنّ العربية لا يمكنها أن تنكسر .. صحيح .. العربيّة لا يمكنها أن تنكسر، لكنّها تتبعثر .. بحيث يخفق العناق الحرفي في لمّ شمل أوّل جملة تنازعتها حدود الهجر .. تلك عهدة رئاسية خلّفتها قوانين زمن الحرب .. و الحرب استنطاق شرعي لسلاح صامت .. حدث و أن صرخ يوما فوق جسدي .. استكمالا لسلسلة صرخاته المتتالية .. مستلهما صداه من أصوات النّحيب على بعد قارتين .. من هنا .. فكتم عنّي كلّ أصوات الطفولة .. !!