رد: (( لا تحيا إلا بالعناق ! ))
الأيام الجميلة كانت تمضي مسرعة ولكنها مليئة بالأحداث ، وفي كل يوم ، يكتشف الرفاق أماكن جديدة للتسلية
واللهو واخرى ذي فائدة ، ويكتشفون أيضا ، أشياء جديدة في شخصية كل واحد منهم .
راق لبِيرنا " مكان " كشف لها عن موهبة جديدة يتمتع بها وليد كان لا يكشف لأحد عن سرّها قد
احتفظ به لنفسه - باستثناء عدنان - فقد كان يعلم السر ويخفيه. لا مصلحة له الكشف عن مواهب صديقه
خصوصا أمام أنثاه ! يكفي ما واجهه في شأن السباحة والقفز من المرتفعات إلى الماء ، فلا يلومنه أحد
على ذلك " أنا لست رياضيا ولا أهوى السباحة " صرح بذلك حين تحدته سعاد في الماء ..
أما في ذلك المضمار ( السر المخفي ) فقد كان يُعتبر اساسيا لشخص مثله في عصره، بل كان
- إن صح التعبير- هو الهوية " الدون جوانية" التي ترسمه عاشقا ؛ إذ كان عليه أن يتعلم ، أو
على الأقل يتمرن ، وإن عدم إجادته ل تُعتبر نقيصة وعدم نضوج !! .. مع أنه وللأمانة كان يحب
أن يفعل ذلك ، بل ويرغب فيه بشدة .. لكنه الوقت :
- " أنت يا صديقي تمتلك كل وقتك ، بيدك أن تترك ريشتك وتمضي ساعة تشاء ،فالزبون الذي كلفك بعمل ما
كان قد دفع لك مسبقا بعضا من أتعابك ، أما أنا فمرتبط بمكان عملي .. لا أستطيع مبارحته ،ولا تأجيله ..
أنتظر الزبونة لتأتي ، أما أنت فالزبائن تأتيك .. أنت بالفعل حرّ في مهنتك وأنا مستعبد "
هكذا قال عدنان عندما ألح عليه وليد أن يشاركه تلك الدروس ، لقد كان معذورا بالفعل ولا يحسد على مهنته .
كان وليد إلى جانب ارتياده لناد رياضي يرتاد مدرسة للرقص الغربي مكث فيها ستة اشهر تعلم ثلاث
رقصات اشتهرن في ذلك الزمن من ستينات القرن الماضي ، خصوصا رقصات " زوربا" اليوناني
التي حببهم فيها " انتوني كوين " ؛ فحين ارتادوا ذلك المكان الذي أعجب فيما بعد بيرنا وسعاد انكشف ذلك السرّ .
عند دخلوا ذلك البناء المؤلف من ثلاث طبقات للمرة الأولى اكتشفوا أن الأول منه ساكن تسمع فيه
رنة ابرة إن وقعت ، وهو مخصص للمطالعة فقط . الطابق الثاني تنبعث فيه صوت الموسيقى الهادئة
حيث يمكنك التحدث كيفما شئت وتطلب ما شئت من مشروبات غير كحولية ، أما الطابق الثالث ،
بدا معزول جدا .. ما أن تفتح بابه الاول حتى تسمع أصوات مرتفعة قليلا ، ثم تعبر ممرا طويلا فيفاجئك
عند فتح بابه الثاني صخبا شديدا تهتز له الجدران .. فهذا المكان مخصص للرقص والصراخ والدبك واللبط فقط !
أرادت بيرنا وسعاد الرقص على تلك الأنغام فعارض عدنان لكن وليد تحمس ! فهو ،ودون أن يدري
قد انسجم جدا في الرقص ولفت أنظار الحاضرين الراقصين والمتفرجين بدقة حركاته وأناقتها ،
ما شعر بنفسه إلا حين خلت حلبة الرقص من الراقصين طوعا حيث أشار أحدهم كالمعتاد – كما بدا -
ليتم التركيز على " كوبل " راقص متميز يرفع من وتيرة حماستهم وصخبهم . وجد نفسه وحيدا
وسط الزحمة حيث اقتربت منه فتاة غربية الملامح والشكل ، وقد اخذها الرقص مثله تماما وما
وجدت نفسها إلا هي و وليد ترقص وحيدة معه بشكل مذهل ، فلا تكلّ ولا يتعب . التف الجميع حول
الحلبة الدائرية يصفقون بقوة وحماس وفرح ، ويصرخون بجنون قد دفع من يدير جهاز الصوت
إلى أن يرفعه للحد الأقصى .. !
كان وليد منذ صغره يهوى الكثير من الأشياء ،، ولقد تم إغراءه في زمانه وانضم إلى مع فرقة صوفية
قبلته بعد اختبار ليكون فردا يشارك في احتفالات الموالد والنذورات ، ويذهب إلى الزاوية " الرفاعية "
خاصتهم القريبة من مسكنه كل ليلة جمعة ،أو يذهبون إلى أحد المنازل بمناسبة شفاء أو طهور أو بركة
واحيانا للوفاء بنذر قديم فيقام " الزار " أو الحضّرة بعد أن تجري تحضيرات خاصة ، فتولع النار في
موقد يوضع فيه كثير من البخور وتُحمى عليه جلود الطبول والدفوف لتشتد وتائرها ولتصبح أصواتها أنقى
وأكثر استشعرا .. وعند اكتمال حضور معظم الناس يؤذن للأتقياء الورعين المشاركة التي تبدأ بهدوء
سرعان ما تقوى وتشتعل !
كان وليد يؤمن بعمق بأنه سوف " يتصل " يوما ! سوف يرتفع عن الأرض بجسده وليس بنفسه فقط .
حين كان يأخذه الحال يشهق بكلمة " الله " مرارا .. يبتلع أحرفها ويبقى حرف الهاء عالقا في حلقه
يدخل إلى جوفه ثم يخرج ليعلق ثانية .. يتكرر هذا مئات المرات ، كان يشعر بأن الله يسكن قلبه
فيغيب عن الحاضرين .. يرمي أحدهم إحدى الدفوف من تلك التي ينقرون عليها فيعتليه ثم
يدور بجسده فوق تلك المساحة التي لا يتعدى قطرها 30 سم ، يدور ، ثم يدور ويدور ، يتوقف ،
يثني جسده الأعلى نحو الأسفل ، جذعه ثابت و ركبتاه لا تنثني ، يطوحه شمالا ويمينا ثم يتوقف
ثم يدور ، يتوقف ، يطوح برأسه كمساحة زجاج السيارة في ساعة مطر خفيف ..
يعلو صوته بالله ، الله ، الله ، ولما تنتقل حاله إلى أبعد من النشوة يبالغ في دورانه فيأتي شخص من
المخلصين ليحضنه ويوقفه لئلا يطير ! يجلسونه وهو في أعلى قمة انجذابه ، لا يفتح عيناه إلا حين
تحرق جمرات النار التي قبض عليها يديه كما يفعل " الواصلون " لكن جلد يديه كان يحترق ..
عندما يشعر بالألم كان يبعثر الجمر ويخرجه من مكانه .. قال له كبير الحلقة ذات يوم :
" إنك تقترب يا ولدي " !
صار لا يمسك الجمرات بل يبعثرها في كل اتجاه.. مرة كان يحرق يديه
ومرة أشياء مختلفة .. أحرق بنطال أحد الحاضرين فكفر !
في إحدى المرات كاد أن يحرق أحد البيوت وكادت أن تتحول الحضرة ( الزار )
إلى مأساة فصاروا يجلسونه بعيدا عن موقد النار .
حين كان وليد يرقص في فارنا لم يجد ما يحرقه سوى قلب شقراءه دون أن يدري!
عيناه بحثت عنها ليراقصها لكنها نأت بنفسها ولم تقترب من هذا المطب الذي كان يمكن أن
يوقعها أو يخرجها من الحلبة التي لم يبق فيها سوى الأقدر على الرقص المحترف . صفق
الجميع بحرارة ، اقتربت فتاة الحلبة من وليد ، طبعت قبلة على خده وقالت أنا من فنلندا ،
نحن نحب الرقص والغناء جدا ،هل تُغني ؟ ابتسم وليد ابتسامة باهتة شكرها اعتذر وتملص
رافضا مواصلة الرقص ثم اتجه نحو بيرنا ، أمسك يدها ونظر في عينيها وقال : " لا أعرف كيف حدث هذا
لماذا بعدت عني ؟ " فقالت : " أنا سعيدة جدا ، فاجأتني حقا " فأمسك يدها و قبلها ثم شدها إلى وسط الحلبة
ورقص معها بين الراقصين فطارت فرحا .. شعر بالراحة تماما ثم خرجوا مسرعين بعد انتهاء السهرة
مروا بجانب جنينة عامّة وجلسوا على إحدى المقاعد .. الهدوء شيء رائع ، والسماء ليست صافية
بل كان الضباب يعبر مسرعا أمام المصابيح .. نظر في وجهها فابتسمت أمسكت يده ، جذبتها نحوها ..
مررت بإحدى أصابعها فوق شرايين ساعده النافرة
صارت تنقر بأظفرها نقرات خفيفة تشبه منقار عصفور جاءه الحب بعد انقطاع وجوع
استسلم لها دمه ، تقاطر إلى ذلك الشريان ، تدافع ليلامس اصبعها ، أشفق على نفسه
سحب ذراعه ومدده على الجانب الأعلى من المقعد ، كانت .. رغبتها جامحة للالتصاق به لكنها وقفت وأمسكت بيده
شدته منها فوقف ، تأبطت ذراعه ومشوا باتجاه مساكنهم وكانت تلك لحظة كسرت حاجز الخجل بينهما إلا قليلا
صاروا في اليوم التالي يتقاسمون طعامهم ، يأكلون ما لم يكونوا يحبون ، إن مدت في أحدى المرات يدها نحو فمه
وهي خجلة قضم ما امتد إليه وأكلت .. علق عدنان بلهجة شاعرية وقال : " ليتكم تتعلمون كيف يُطعم اليمام اليمام "
صار وليد مرة يرى عينيها بلون البحر فيغرق ، يسأل نفسه هل أحبها .. هل هي أحبته ؟
ومرة يراهما بلون السماء فيطير ، حين تتحدث عيناها بعشق ساكن ، حين ترفع يدها فيحملها ويقبلها دون تردد
والأيام تمضي مسرعة سعيدة حتى جاء اليوم السادس .
|