الطبيب... والاسكارس ـــ يوسف جاد الحق
الطبيب... والاسكارس ـــ يوسف جاد الحق
-1-
الممرضة بثيابها الناصعة البياض، وقبعتها الصغيرة تتوسط رأسها، فيبدو شعرها أسود فاحماً، منسدلاً إلى مسافة قصيرة من ظهرها. تدخل غرفة الطبيب، كلما غادرها أحد المرضى، ثم تعود لتنادي مريضاً جاء دوره، وتستمهل آخر يلح عليها في طلب الدخول، قبل أن يحين دوره، أو لأنه صديق للطبيب، فينبغي، من ثم استثناؤه من مسألة الدور هذه، التي يبدو، فيما يظهر عليه من امتعاض أنها لا تعجبه أصلاً.
أحد المرضى يجلس في مواجهتي تماماً، يتلوى ويلوب في صمت، ثم يهدأ قليلاً، ولكن تقاطيع وجهه تنم عن توجع مرض، يتبدى في ضغطه على فكيه، وزمّ جبينه، وعص شفتيه، وفي إغماض عينيه يعتصرهما اعتصاراً، وهو يعقد ذراعيه متقاطعين حول معدته، وجهه شديد الشحوب مما زاد في قتامة لونه الأسمر حتى اقترب من الزرقة الداكنة.
الصمت يخيم على الجميع، فلا تسمع إلا همساً بين اثنين منهما، أو أنَّة مكتومة أو نخمة متحشرجة في الحلق المكبوت. يشتركون في شيء واحد، هو الرجولة الكئيبة يتبادلون النظرات القلقة، لكنها متفاهمة، متعاطفة كأنها تقول: أيها الأخوة والأخوات ما بنا واحد.. كلّنا نتألم.. لكنه قدرنا..
قد يضيق المرء بالضوضاء حيناً، بيد أن الضيق أبلغ حين يقول الصمت.
الأعصاب يرهقها الصمت الذي لا تقطعه نبرة صوت الإنسان، أو رنين كلمة، أو جلجلة ضحكة، تماماً كمواقع القتال يثير فيها الصمت من التوتر والخوف ما لا يثيره هدير المدافع.
الرجل ما برح يتلوى. وأكثر النظرات تنصب عليه مما بدا أنه يزيده حرجاً أثار ذلك فضولي. خطرت لي أسماء أمراض عديدة، هو على الأرجح، مصاب بواحد منها، ظننت أني أدركته. ثم قلت لنفسي: لماذا لا أستوضح عما به؟
ولعله واجد في سؤالي عزاء أو تخفيفاً، أو صدى لمشاركة وجدانية.. سمها ما شئت ثم هي، أيضاً، محاولة لاقتحام جدار الصمت القائم هذا.
فور أن هممت بالنهوض متجهاً نحوه، لأكون على مقربة منه، تحركت الأعين باتجاهي، في فضول، كأن أحداً لم يكن يتوقع أن أحداً سوف يتحرك قط، جلست بجانبه، والأنظار ما انفكت ترمقني. تجرأت فقلت، وبأكبر قدر أمكنني من الرقة، بصوت هامس:
-مرحباً يا أخ.
نظر إليَّ، في مزيج من الاستغراب والامتنان. حاول أن يبتسم. لكن ابتسامته لم تكن أكثر من انفراج للشفتين. ثم قال، وكأنه فكر طويلاً قبل أن يقرر ذلك:
-مرحباً...
-كأني أراك تتألم كثيراً...!
-لا تسل يا أخ. لا أراك الله كالذي أنا فيه.
-اسم الكريم؟
-عبد العزيز
-من أين.. بلا مؤاخذة..؟
-من قطر
-من قطر...؟
خطر لي: لماذا من قطر؟ أليس فيها أطباء؟ فيما كان هو يجيب:
-نعم.. وقد جئت خصيصاً للمعالجة لدى هذا الطبيب الذي أشاروا عليّ بزيارته.
-وماذا بك؟.
-قرحة في المعدة.. ومثلها في الاثني عشر...
.. يا إلهي... أهكذا تفعل القرحة في الكائن البشري.. اللهم أبعدها عني.. كل شيء يهون أمام القرحة إذن احمد الله يا رجل أن ما بك ليس قرحة..
قلت له كيلا يدرك ما أفكر فيه، حرصاً مني على ألا أزيده قلقاً:
-لا تجزع يا أخ.. هذا الطبيب ماهر حقاً.. ثم إن الذين يموتون من القرحة قلة.!
ارتاح الرجل.. لكنه تمالك نفسه. وقال متضرعاً:
-آمل ألا أنضم إلى هذه القلة.
أدركت خطئي، فبادرت مستدركاً:
-على أي حال، هذا الطبيب نطاسي بارع، كما قلت لك، وإلا لما رأيت عيادته مكتظة على هذا النحو. ولسوف يشفيك الله على يديه.. قل إن شاء الله..
-الله يسمع منك أيها الأخ. لقد تجشمت عناء السفر من قطر إلى بيروت أملاً في الشفاء، بدلاً من أن ألقى وجه ربي في هذه السن المبكرة..!
-2-
عدت إلى مجلسي، وكأنني تخلصت من ورطة أوقعت نفسي فيها، وإن كنت في الوقت ذاته، قد أحسست بشيء من الراحة النفسية، إذ أسهمت في التخفيف عن ذلك البائس. منحني زمن الانتظار لدوري فرصة أستعرض فيها (تاريخي) الحافل مع الأطباء هذا هو خامسهم أو عاشرهم بعد العشرين، حتى بدا لي، في وقت من الأوقات، أنه كلما ازداد عدد من أزور منهم كلما ازدادت العلة لدي تعقيداً. وكثرتهم، فيما يبدو، لا تعني الكثير للمرضى في هذه الأيام التي يسودها منطق التجارة، حتى في الطب!... لو بعث (ابن سينا) حياً لدهش لهذه الكثرة. ولعله كان يرى أنهم وسطاء نشطين لشركات الأدوية، التي ما كان لبضاعتها أن تروج، على هذا النحو الذي ترى، لولا السادة الأطباء، الذين ما من شيء أسهل لديهم من تدبيج عشرة أسطر، على ورقة، بخطٍّ رديء غير مقروء إلا لدى الراسخين في العلم من الصيادلة..! فاجأني أحدهم يوماً في زيارة عادية له بقول بأن علي أن أستعد على الفور لإجراء عملية لاستئصال الزائدة الدودية –هذا اسمها- وتمهيداً لذلك، وصف لي حقنا في العضل ما إن قرأت اسمها (بروبيدون) على ما أذكر، حتى أصبت بالهلع، واستعذت بالله، وعزمت على ألا أتعاطاها، مهما حدث. فلقد سبق لي أن شهدت قريباً لي يأخذها لإجراء عملية مماثلة. وكانت الآلام المبرحة التي عانى رهيبة، ربما أكثر من العملية ذاتها، فيما بعد. لم أنفذ تعليمات ذلك الطبيب، كما أني لم اعد إليه كما طلب. تجاهلت الأمر كله، وكأن تجاهلي يعني علاج تلك الآفة. ثم مضت أيام، ثم سنين، ولم تظهر أية أعراض تشير إلى إصابتي بالزائدة أو الناقصة الدودية. حتى يومي هذا..!
ولأن المرض صديق وفي لبني البشر، والكائنات الحية عموماً، فهو لا يغادر إلا على استحياء، ليعود في جرأة، في صورة أخرى، أو موضع آخر، فقد ألَّم بي جديده الذي قيل لي إنه تشنج كلوي، هذه المرة. ولما لم يكن ممكناً أن أقف مكتوف اليدين أمامه، فقد قصدت طبيباً، وصف بأنه أحد ثلاثة كبار في ميدان اختصاصه. أتمَّ فحصه (الدقيق) في غضون دقيقة أو اثنتين، وكان بادياً أنه في عجلة من أمره، لكي يفرغ من القيام بواجبه إزاء عشرات المرضى المنتظرين في الصالة. لم يكتب وصفة ما. اقترح أن أخلع أسناني كافة. وإذا لم أفعل فلن أعمر طويلاً. لم أطع الطبيب هذه المرة، أيضاً ليس خوفاً من الآلام المنتظرة، ولكن لسبب آخر، قلت آنئذ، خير لي ألا أعمر طويلاً من أفقد أسناني العزيزة، وأنا لم أتجاوز العقد الثالث من عمري. أي تغير سوف يطرأ على شكلي ومظهري؟ ناهيك عن الأثر النفسي الذي ستخلفه هذه العملية، حين أخلع (البدلة) مساء- هكذا كان جدي يسميها لأضعها في وعاء ماء. وأعود إليها في الصباح. بعد قضاء ليلتي أهتم كالوليد ابن يومين، أو كعجوز في أرذل العمر. تمثل لي جدي، في صورته تلك التي كانت تضايقني... وأحياناً تثير اشمئزازي. لم أخلع أسناني إذن. وها أنذا، لم تنخر تلك الأسنان سوسة واحدة. بل إني ما زلت أكسر عليها أو بها الجوز والبندق، حين تتاح لي الفرصة لأفعل ذلك، لدى زيارتي لأحد الأصدقاء الأسخياء. هي فرص نادرة حقاً، كما هم أكثر ندرة أولئك الأصدقاء، ولكن لهذا كله دلالة التي لا تشك فيها على سلامة أسناني يومئذ، وحتى وقتنا الراهن...!
ذهبت إلى آخر. أما هذا فكانت له سمات تاجر جشع وصفاته. حتى تعابيره –ليس سلوكه وحده- كانت تجارية بحتة، أقرب إلى تجارة سوق الهال، منها إلى التجارة العالمية الراقية المتعللة بالوكالات والاستيراد وما إليها، وما يتعلق بها من سلوك يبدو في مظهره، على الأقل، حضارياً.
قال لي بلهجة ممثل يتقن دوره:
-لأجلك فقط، ولأنك من طرف صديقنا (أبو الفضل) سآخذ منك عشرة آلاف ليرة مقابل (عملية التنظير) التي سأجريها لك...!
وحتى قبل أن أفتح فمي بكلمة بادر إلى القول:
-صدقني أنني لا أجريها لغيرك بأقل من عشرين ولكن لا بأس (استفتاحة منك)، ولكي تكون زبوناً دائماً لنا.. إن شاء الله..!
كان مظهره مضحكاً. السماعة على أذنيه، ينسدل طرفاها على معطفه الأبيض، وكرشه يلامس الطاولة التي استقرت فوقها كومة أوراق نقدية، يعدها ثم يخطئ العد، بسبب انهماكه في الحديث إليّ، بغية إقناعي، فيعود إلى عدّها من جديد.
أما طبيب الحنجرة والرأس والأذن، واختصاصات أخرى، كتبها على لافتة مساحتها لا تقل عن متر مربع، علقها على شرفة عيادته، فقد أنبأني، بعد فحص دقيق ومتأنٍّ، بضرورة استئصال اللوزتين، اليوم قبل الغد، تفادياً لتفاقم علتهما التي ستفضي إلى إصابتي بروماتزم القلب، وعندها لن ينفعني أي علاج، والوقاية، يا بني –هكذا قال- خير من ألف علاج..! أنت تعرف هذا المثل أم تراك لا تعرفه..!؟
ولما أنبأته بأنهما مستأصلتين منذ بضع سنين، قال حتى دون أن يبدو عليه أي حرج:
-إذاً سوف أستأصل لك هذه الزوائد اللحمية في الأنف..!
وفي كل مرة كنت ألوم نفسي، ناسباً لها سوء الظن بالناس، قائلاً "من أين لك أن تعرف، مثله، أين مصلحتك الطبية؟ هو إنسان قضى نصف عمره دارساً للطب –على فرض حسن النية فيه كطالب فهم الدروس التي تعلمها لم يرسب أو ينجح بالغش في الامتحان- ومن ثم فلا بد وأن يكون على صواب في تشخيصه المرضي" لكن دهشتي كانت دائماً حين أجد حالتي الصحية تتحسن، بصورة طردية، تتناسب مع امتناعي عن تعاطي الدواء وزيارة الأطباء..! حتى كدت أعتقد بأن على المرء أن يستشير الطبيب ولكن ليفعل عكس ما يطلب إليه.. إن أراد لنفسه شفاء وبقاء..!
-3-
أخرجني من ذكرياتي سماعي لاسمي بصوت ناعم رقيق. تلفت نحو الممرضة عند الباب الذي فتحته موارباً. كانت وقفتها الأنيقة، وشعرها البادي تحت قبعتها بخصلاته السوداء الفاحمة يثير البهجة، بل والرغبة في أن تكون رساماً تجلس هي في وضع فني مثالي لتقوم برسمها.
وحين هممت بالنهوض، خطر لي أن أعطي دوري للشاب القطري. عرضت عليه ذلك. تمنع شاكراً، لكن عيناه كانتا تتمنيان لو أصر على موقفي (حين حدث هذا شكرني ودلف إلى غرفة الطبيب متحاملاً على نفسه:
لبث وقتاً طويلاً، نسبياً، لدى الطبيب، ثم خرج وفي يده الوصفة، يطويها في مودة شكرني، ومضى منحني النظر، ممسكاً معدته بكلتا يديه. فتح له الباب الرجل الأقرب إليه.
وتوارى عن الأنظار التي شيعته في صمت حزين.
ركّز الطبيب فحصه على جهازي الهضمي. وككل طبيب. نقل سماعته على صدري... خذ نفس.. شهيق.. زفير.. أدر ظهرك.. ارفع قميصك.. خذ نفس.. نقر بيده. هزَّ رأسه.
رفع السماعة عن أذنيه، بوقار مدروس، وهو يستدير باتجاه مكتبه. جلس في مهابة جلست في الطرف المواجه، كما أشار إلي فيما كان قلبي يخفق. تعلقت عيناي بشفتيه، منتظراً، على وجل، كلماته التي سوف ينطق بها ببطء رجل آلي:
-يا سيد...
توقف قليلاً، ليقرأ اسمي على البطاقة التي أمامه، محاولاً ألا يشعرني بذلك:
-يا سيد علاء الدين... لديك قرحة بالمعدة...
صرخت دون أن أقصد:
-قرحة أيضاً...؟
-لا تخف.. في بدايتها.. ولكن يجب تداركها على الفور..
أوشكت أن تنهار أعصابي. بل كادت الدموع تطفر من عيني سأغدو قريباً مثل ذلك الشاب القطري. سيجف عودي. وتضمحل عيناي ولأن لون بشرتي كلون بشرته فسوف يكون شحوبي أقرب إلى الورقة الداكنة.. أتلوى ألماً كل الوقت.. يتصالب ذراعاي حول معدتي.. مثله تماماً..
أمسكت الوصفة (التي يسمونها رشيتة) وخرجت. شيعني من في الصالة من المرضى بنظرات الإشفاق.
لم أجرؤ على تناول الدواء الذي اشتريته من أقرب صيدلية، كأني بذلك أنفي عن نفسي تهمة الإصابة بالقرحة، بتجاهلي أخذ دوائها. حبة واحدة تناولتها، أول الأمر، ثم لم أعد إليها، وها هي ذي علبة الدواء، بلونها العسلي وورقتها الزرقاء، قابعة بين كومة هائلة من الأدوية منذ سنوات، والتي من المؤكد أنني لو تناولتها –بناء على توصيات الأطباء لما كنت الآن تقرأ هذه السطور ومن يدري فلربما كان ذلك خيراً لك أنت أيضاً..!
حتى الآن أنت لم تعرف أي مرض كنت أشكو. وما الذي تبين لي في نهاية الأمر. ولعلك تتسائل عن ذلك:
...لقد تبين لي أخيراً، يا صديقي، وبمحض المصادفة، ودون أي تدخل منهم، بأن أمعائي كانت تنطوي على كمية وفيرة من الاسكارس اللعين..!
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|