أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي
رد: مدينة الشاعر محمود درويش
في شرفة محمود درويش
قاسم حداد
1
بغتة، ضبطت نفسي أقرأ محمود درويش شاعراً خارج فلسطينيته.
حدث هذا منذ سنوات، حدث تدريجياً، ورغماً عني، ولنقل بغير قصد شعرت بذلك، كما لو أنه يحدث بمحض الصدفة العفوية.
تحررت من فلسطينية الشاعر، وارتحت كثيرا لهذا الأمر.
ربما لأنني تأكدت بأن هذا سلوك يساعدني على التعامل مع شعر درويش بحرية أكثر، ومتعة مضاعفة. والمؤكد أن هذا ما كان له أن يحدث لولا أن الشعر، الذي بدأت أقرأه لمحمود في السنوات الأخيرة قد انعتق من فلسطينيته، فلم تعد هذه حكم قيمة، وصار النص المتحرر من سلطاته كفيلاً بتحرير قارئه من أحكامه المسبقة.
صار محمود في أفقه الكوني، بامتياز.
وكان يفعل ذلك، بحرية كبيرة، ولكن بقلق أكبر .فتلك حرية مسوّرة بقدر لا بأس به من أرث يضاهي القداسة، حتى لكأن التفلّت منه يشكل تفريطاً في صلاة. فبين أن لا يبدو خائناً لقضيته، وأن لا يفرّط في الإخلاص لقصيدته، كان درويش يتحرك برشاقة الغزال وبكعوبٍ أخيلية لا تحصى، في مسافة نارية يتطلب الذهاب إليها شاعراً يدرك ما يريد، ويعرف درب الذهاب إليه.
2
من بين أكثر الشعراء العرب حيوية وفعالية، كان درويش يخوض حروبه الكثيرة، على أكثر من صعيد، وبصفة علنية، وبدرجة عالية من الصرامة والصراحة والإتقان.
خاض حرباً مبكرة ضدّ العدو الذي احتل بيته، ولا يزال. ثم انخرط في حرب مع المؤسسة السياسية حول مسائل عديدة، واختلف معها دون أن يناهضها، وظلّ يرفض الارتهان لكامل سياساتها ومنظوراتها.
ثم نراه يخوض حرباً ضد سلطة الأيديولوجيا التي لا تتوقف عن التعامل مع الشاعر بوصفه بوقاً لها، وهي النظرة الموروثة من شاعر القبيلة، والتي أصبحت تراثاُ يتشبث به الجمهور الصاخب، وتشجعه المؤسسات السياسية الرسمية.
لكن درويش، في سنواته الأخيرة خصوصاً، أخذ يخوض حرباً صارمة مع القارئ، هي أطرف الحروب وأكثرها بسالة ونبلاً، بسبب طبيعتها الفنية والذاتية.
كان درويش يعي تماماً دور الشاعر في بلورة قارئه معه، وتدريبه على إعادة النظر في طرائق التلقي الشعري. وهذه مسؤولية لا تنفصل عن الدور النضالي الذي اضطلع به درويش منذ تأسيس علاقته بالقارئ السياسي، بل لعله كان يرى في هذه المسؤولية طرازاً من الإخلاص العالي في مهامّ الانتقال بالكائن الفعال نحو درجة أرقى من النضال، كمفهوم إنساني.
ففي هذا ضربٌ من محاولة إنقاذ القارئ من حضيض السلوك السياسي التقليدي الذي يستهين بالإبداع، ويقود الناس، مثل القطيع، امتثالاً لأوامر الخطاب السياسي الذي انخرط في آلية قاتلة من التخبط. ولقد قاوم درويش فكرة أن يكون استمراراً للشاعر الخطيب الذي يقيم المظاهرات ويسيرها ويقودها بقصائده، وعكف في المقابل على إقناع قرائه/مستمعيه بالكفّ عن الصراخ، والبدء في تجربة التأمل والتفكير والحلم، في حلبة صراع هو بمثابة حرب ينتصر فيها الشاعر على القارئ، دون أن يهزمه.
وهكذا يتوجب أن نفهم حرب الشاعر المزدوجة مع القارئ، وضده في آن:
معه، لكي يخرج من قبضة التفكير التقليدي، فنّاً وسياسة؛ وضده، بهدف تحريره من نظرته المأسورة بمنطق النص الشعاري.
حربٌ تنطوي على اقتياد القارئ إلى نوع من العبث واللهو الشعريين، في اللغة والتعبير، إمعاناً في انتهاك تصوّرات القارئ الجاهزة وأحكامه المسبقة، وأسبقيتها على الشاعر والقصيدة. وظني أن هذه الحرب هي أحد أجمل الحروب التي اكتسب درويش فيها خبرة تتميز بالوعي، وتحرز الانتصار أيضاَ.
3
لقد كان درويش يغرف من لغة تموج به لغة يسبح فيها بولع، ومتعة، وتنوع إيقاعي بلا هوادة، وهذا جانب مهم من مكونات جماليات لغة درويش الشعرية. اللغة عنده انتقلت من لحظة الخطابة، وهي الآلية الأكثر شيوعاً في الكتابة العربية التقليدية، إلى فسحة التأمل والسبر والمسائلة ومرارة النقائض، وهي الخصائص التي لم تكن مألوفة في مجمل كتابة الأدب العربي، خاصة عندما يتعلق الأمر بشعر يتحرك في برزخ سياسي. وقد ساعد درويش في اجتياز هذا البرزخ موهبة الغناء التراجيدي، وآلياته الشعرية التي كان يبتكرها مع قصائده الجديدة. ذلك الغناء الروحي الذي يصدر عن إحساس عميق وحزين بالخسارة المستمرة للحياة والحق فيها، حتى لكأنه كان يرثي أمّة بأسرها، صاعداً، متسامياً إلى رثاء الذات ورثاء الجماعة.
وظاهرة المراثي في شعر درويش هي اختزال وتدريب مضمرين:
اختزال تجربة الفقد المتواصل في المشهد الفلسطيني، والتدريب على استيعاب الفكرة المهيمنة للموت الذي يحضر باكراً في اللحظة الحرجة من تظهير تحولات الشاعر الفنية الجديدة. فالشاعر هنا يتحقق من جانب، ويتهدد، مصيرياً، من جانب آخر. كأن طبيعة كونية غامضة صارت تشكل ملمحاً بالغ الخصوبة )يا للمفارقة( كي يصبح الكائن موجوداً في الدرجة العالية من الغياب، أو الاستعداد له، وفي درجة أخرى مماثلة من الحضور.
4
أرى في ارتباط كتابة درويش بنظام التفعيلة مسألة أعمق من مجرّد خيار فني، لأن موسيقى الشعر وإيقاعاته هي من صلب مكونات موهبة درويش الإبداعية أصلاً، وعنصراً جوهرياً من طبيعته الجمالية. وهي، أيضا، مكوّن أساسي في آليات علاقته باللغة بوصفها غناءً روحياً من جهة، ومصدراً لفعالية التوليد الجمالي من جهة أخرى.
وهذا ما جعل درويش، مع كوكبة من الشعراء العرب، يغْنون الشعرية العربية بثروة إيقاعية خصبة، جعلت الحوار الإبداعي حول الموسيقى الشعرية مرشحاً للمزيد من بلورة المعطيات التي سوف يحتاجها الفعل الشعري المتجدد في التجارب الراهنة والقادمة.
وحين أتحدث عن الإيقاع، فإنما أعني بالضبط المعنى الأكثر شمولاً ورحابة من مجرد المفهوم القسري للوزن والقوافي، أي الموسيقى العميقة الجوهرية، الكامنة في بنية اللغة قبل الشعر وبعده. وهي الموسيقى التي سيبتكرها كل شاعر بقدر موهبته ومعرفته، وصدقه مع المفهوم الكامل للشعر.
وإذا كان ثمة درس تعبيري تقترحه تجربة درويش على مستقبل الكتابة الشعرية العربية، فإنه ذاك الذي يتصل بالتجليات الجمالية الكامنة في الإيقاعية العالية والعميقة في آن، وطاقة التعبير في الموسيقى، باعتبارها جزءاً جوهرياً في التجربة الشعرية، وليس جرساً خارجياً لاستجداء حواس القارئ/ المستمع المباشر.
فالنص الشعري عن درويش، لا يصير مقروءاً ولا مسموعاً ولا نافذاً إلا إذا كان نشيداً، أو ضرباً من النشيد.
وفي هذا الدرس سوف يتوجب علينا أن نتوقف ملياً، ليس فقط لتأمل ودراسة معطيات تجربتنا الشعرية منذ لحظتها التحديثية المبكرة حتى الآن، ولكن، خصوصاً، لاستشراف ما تأخذنا إليه هذه التجارب الكثيرة الجديدة الراهنة، وهي تتكاثر )لئلا أقول تتفاقم( متراكمة، متسارعة، لاهثة، دون أن تعرف، في الواقع، إلى أين تذهب.
بهذا تضعنا تجربة درويش أمام أسئلتنا الشعرية مجدداً، وهو الشاعر الذي لم يكتب خارج الوزن، ولم يكن يرغب فيه، دون أن ينفي اجتهادات غيره أو يصادر حقهم في التجريب. وهذا ما يجعلني أميل إلى اعتبار درسه الشعري اقتراحاً مناسباً لمساءلة حركتنا الشعرية المعاصرة بأسرها، من حيث مفهوم الموسيقى في الشعر. وهذه الخصائص كلها هي شبكة عناصر متداخلة مترابطة، كانت تتبلور في نهاية الأمر لتصنع سلسلة معطيات فنية، وضعتْ قصيدة درويش في قلب التحولات المتواصلة التي سوف تخضع لها تجربته الشعرية، في كلّ قصيدة جديدة يكتبها.
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي
رد: مدينة الشاعر محمود درويش
إسخيليوس في ضيافة محمود درويش
احمد حفناوي
[align=justify]قصيدة 'على هذه الأرض'، احدى قصائد محمود درويش، لاقت اعجاب السواد الأعظم ممن قرأوها وسرعان ما أصبح عنوانها أو حتى مقاطع كاملة منها شعاراً تردده أفواه شعبه، بل أصبحت لوحة جدارية تزين العديد من زقاق المخيمات وشوارع المدن في الداخل والمهجر الفلسطيني.
هي قصيدة لا تقل أهمية عن قصيدة 'أمي' في تعبيرها عن البعد الإنساني لملامح الحياة اليومية للفلسطيني. رائحة الخبز في الفجر وتعويذة امرأة على سبيل الذكر لا الحصر هي بعض من الأمثلة التي تشير الى البوصلة التي تحدد أهداف النضال من أجل تثبيت استحقاق الحياة لقاطني أرض فلسطين الأصليين.
محمود درويش كما هو معروف لمن تابع تجربته الشعرية شاعر لم يجتر نفسه أبدا. آخر أعماله تدل بشكل واضح أن القدر خطف هذه الظاهرة وهي في أوج نضوجها. الدلالات والمجازات التي استعملها الشاعر في آخر أعماله أتت لتؤكد أن هذا الشاعر الفذ تمكن من تطويع اللغة لتلك الدرجة التي سمحت من عبارة مثل 'على هذه الأرض ما يستحق الحياة' أن تختصر النضال الفلسطيني الممتد على مدى قرن من الزمان في سطر من قصيدة.
مربط الفرس في هذه القصيدة تحديدا هو الدلالات التي تختفي خلف السطور التي تدفع القارئ المتعمق إلى أن يعيد قراءة محمود درويش حرفاً حرفاً وكلمةَ كلمة وخاصة أولئك الذين اعتقدوا أن فترة الرضاعة من شعر محمود درويش انتهت وفطمنا.
يعد محمود درويش في هذه القصيدة خمسة عشر سبباً اعتبر من أجلها الحياة على أرض فلسطين استحقاقاً لشعبها، وكلها مرتبطة في الأرض وفي تفاعل ساكنها الأصلي معها وعليها باستثناء سبب واحد وهو كتابات إسخيليوس.
إسخيليوس الشاعر يعتبر الأب الشجرة للتراجيديا اليونانية العضوي والروحاني معاً. هو الشجرة التي حملت سوفوكليس في العصر الذهبي للحضارة اليونانية، كما يرجع الى إسخيليوس إرساء الأسس الثابتة للمأساة الإغريقية قبل أرسطو بما يقارب القرن ونصف القرن وذلك بتقديمه للتاريخ البشري ما يقارب التسعين تراجيديا وعشرين دراما ساتورية يصعب فيها التفرقة بين الأسطورة والتاريخ والبطولة، ذلك أن إسخيليوس لم يكتب الملحمة اليونانية على الورق ولم يقدمها على المسارح فقط بل انه شارك وبدور قيادي في معاركها على الأرض وذلك بصمود الإغريق الأسطوري وانتصارهم على حملات الفرس في معارك ماراثونا وسلمينا التي استهدفوا فيها أرض وحضارة الإغريق في ذلك الوقت.
محمود درويش كان قد كتب 'التراجيديا يكتبها كتبة التراجيديا'، ولكن هل الإشارة الى كتابات إسخيليوس في هذه القصيدة تحديداً هي تصريحٌ بأن نضال الشعب الفلسطسني وصموده هما تراجيديا القرن العشرين بالمفهوم الإسخيلي؟ أم أن البطولات والقتال الملحمي على الطراز الإغريقي هي خلاص الشعب الفلسطيني من تراجيدياه؟ الاحتمالات كثيرة والإجابات ذهبت مع محمود درويش في 'الممر اللولبي' وبالحد الأدنى تستدعي اعادة قراءة محمود درويش كلمة كلمة وسطراً سطرا من جديد.[/align]