وتحرك الموكب.. ما أصعب الفراق . الكل كان يبكي.. أمي.. زوجة القائد..لطيفة.. أنا ، وأخي الصغير أيضا . وأخذت القرية تبتعد شيئا فشيئا حتى صارت عبارة عن بقعة صغيرة بيضاء ننظر إليها من أعلى الجبل . وما هي إل لحظات حتى اختفت حين أخذنا ننحدر وراء الجبل المطل عليها لنستقبل وديانا وأخاديد سادها السكون .
وأراد أبي أن يخفف عنا وطأة الفراق عن قريتنا الوديعة وأهلها فقال :
- انظروا.. هذا الطريق يؤدي إلى الساحل .. سنعبر واد القنار وستشاهدون أغرب قنطرة صادفتموها .. ليس لها مثيل .
انتبهت من شرودي وسألته :
- أية قنطرة ؟ هل ما زالت بعيدة ؟
و كأنما تشجع أبي بسؤالي فاغتنمها فرصة ليضفي علينا جوا من التسلية والمرح فأجاب :
- سنصل إليها قريبا.. هذه منطقة مليئة بالألغاز والأسرار . هنا كانت تعيش عرافة تكشف عن المستقبل .. طبعا هذا مستحيل ، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله – قال ذلك مبتسما لعلمه بتحفزي لمحاجته – وأيضا عاشت هنا فتاة اشتهرت بوصفتها الشهيرة لمن يريد الإقلاع عن التدخين . لم يهمني حديث قدر ما أهمني موضوع القنطرة ، فعدت أسأل أبي عنها متوقعا أخبار مثيرة عنها فقال:
- يسميها أهلها " قنطرة ربي "..
- إسم جميل وغريب.. لكن لماذا هذه التسمية ؟
- حين نصل إليها سترى بأم عينيك وسوف تخمن سبب ذلك .
كم كان أبي رائعا في سرده لحكاياته .. يزيدها متعة وتشويقا .. تلك كانت عادته .. وكنت متوقعا لذلك . ولكي أقطع الصمت الذي ران من جديد سألته :
- ألم يكن الأولى أن نذهب إلى الريف عبر الطريق الرئيسية ؟
- بلى .. ولكن علي المكوث بالجبهة بضعة أيام ريثما أسترد بعض حاجياتي عند عمك هذا ، ثم أرد بعض الودائع إلى أصحابها .
وكيف الوصول إلى الريف من هناك .. هل نعود أدراجنا ونمر من جديد على "المجرى" ؟
- كلا- أجاب ضاحكا وكأنه قرأ أفكاري – ولكننا سنذهب من هناك إلى " باب برد" حيث الطريق الرئيسية .. هل اشتقت لقريتك ؟
لم أجب ، وشعرت بغصة في حلقي ، بينما نظرت أمي بعيدا وهي تمسح دمعها بكفها ، فقال أبي متنهدا :
- سوف تألفون المكان الجديد .. إنه ينضح بالمياه و الخضرة .. ثم – وقال موجها لي الخطاب - لا تنس أن أصل أبيك من هناك..
- من بني ورياغل ؟
التفت إلي مشدوها وقال :
- من قال لك ذلك ؟
ثم نظر إلى أمي فوجدها شاردة الفكر ، بينما عادت بي الذكريات إلى تلك الليلة الغريبة وما سمعته من الشيخ ،فلم أرد على أبي . وساد الصمت إلا من وقع حوافر البغال ونحنحتها بين الفينة والأخرى . وفي لحظة من اللحظات ، انتبهت إلى توقف الركب لأجد نفسي على حافة جرف لم أر مثله من قبل . سحرني امتداد الوادي السحيق بأشجاره الكثيفة و صخوره الناتئة ، فقال أبي بحماس :
- هاهي القنطرة .. أنظر هناك .. قنطرة ربي ..
أحسست بشعر رأسي ينتصب وبقلبي يخفق بعنف . وخيل إلي أن المكان بعج بأصوات وطنين . هل هي نهاية اللغز ؟.. وهل أكتشف شيئا ذا بال يتوج مجهودي ؟.. لم أعد أفكر في الفوز بأحسن موضوع ، وانتفى شعوري بالتحدي تجاه لطيفة... لطيفة ؟ أين تكون الآن ؟ منذ لحظة الفراق الحزينة لم أعد أشعر نحوها سوى بالمودة وشيئا قليلا من الندم على معاملتي لها في الماضي .. ما أهنأها الآن في قريتها الوديعة .. لم يعد إذن كل همي التفوق والفوز ، بل صار اهتماما خاصا بالبيت المهجور و أحقيتي فيه .
وفي اللحظة التي كان أبي يترجل فيها مشيرا بالتحية إلى أحد البدويين الذي أقبل مهرولا نحونا فاتحا ذراعيه ،انشغلت بالنظر إلى القنطرة وقد شملها السكون وأحاطت بها شجيرات و أعشاب تكاد تخفيها عن النظر . وخيل إلي وأنا أتأملها أني أسمع صوت عمي الفاضل وهو يحثني على البحث و التنقيب للحصول على ملكية البيت . ولم أنتبه إلى أمي وهي تناديني وقد نفد صبرها . فترجلت بدوري واتجهت إلي باحة المنزل القروي وقد أعدت المائدة بما لذ وطاب . ولم يكف صاحب البيت عن الترحاب وهو يتنقل بين المائدة و"بيت النار" حيث لم تتوقف زوجته من الطبخ.. فهذا دجاج محمر ، وهذا بيض مقلي بالسمن ، وهذه زبدة وعسل ، وهذا لبن و قطائف ..
كان المساء قد أقبل وأخذ الظلام يلف المكان شيئا فشيئا . شعرت بشيء من الوحشة ، لكني سرعان ما استأنست بالحديث الذي كان يدور بين أبي و صاحب البيت . وبينما كانت جفوني تغالب النوم إذا بمجرى الحديث وقد تحول إلى القنطرة و أسرارها . أرهفت سمعي ، لكني كدت أقفز من مكاني والرجل يقول :
- ...كان شيخا هرما . قدم عندنا منذ أيام وطلب ضيف الله . كان متعبا ومريضا . سألناه عن وجهته فلم يعطنا جوابا شافيا . قال إنه جاء إلى القنطرة للبحث عن أحد الأشخاص الذي قد يكون مؤتمنا على وثائق تهمه . لقد عرفنا الشخص المطلوب ، لكننا لم نستطع فعل شيء لأنه كان قد غادر المنطقة منذ زمن طويل ...و أظن أن يأسه من لقاء الشخص قد أثر في صحته . إذ سرعان ما تدهورت و ما لبث أن وافاه الأجل .
- هل كان يسمى الفاضل ؟
هتفت دون وعي مني ، و التفت إلي الجميع مستغربا فلم أجد بدا من التظاهر بالنوم وعدت أضع رأسي على الوسادة وقلبي ينتفض مما
سمعته . أيكون هذا حلما لكثرة تفكيري في الموضوع أم أن الأمر حقيقة و أني قاب قوسين أو أدنى من بلوغ مأربي ؟
- إنه يتحدث في بعض الأحيان وهو نائم خصوصا إذا تعب كثيرا ..- قال أبي وهو يربت على رأسي بحنو.
- غريب هذا الأمر.. ألا تعلم أن الشيخ المتوفى كان اسمه كما قال ابنك ؟-
- كيف ؟
صاح والدي بصوت واحد تقريبا ، بينما انتفض جسمي متأثرا بما سمعت .. عمي الفاضل كان هنا إذن ؟ .. واحسرتاه عليه .. أجهشت بالبكاء وانتبه إلي أبي فأقبل نحوي والدهشة لا تزال بادية على وجهه . تبادلنا النظرات فابتسم . ابتسمت بدوري فسألني :
- هل لك أن تفسر لي ما سمعت ؟
وانبرى مضيفنا يقول متحمسا :
- ليس هناك تفسير ولا أي شيء آخر سوى أن ابنك هذا سيكون وليا من أولياء الله...
كدنا ننفجر ضحكا ،لكن أبي ، ومراعاة لأدب الحديث نبهني إلى وجوب ضبط النفس ، فتنهد و أجاب وهو يستدير نحوه :
- كل شيء بمشيئة الله .
- ونعم بالله – رد الرجل بخشوع .
- وأين دفنتم الرجل ؟
- هناك في أعلى الجبل ، نزولا عند وصيته .. صعب على المرء زيارة قبره .. فهناك الخنازير والذئاب فضلا عن انتشار المصائد والفخاخ .
بعد ذلك لم أعد أعي ما يقال. فقد أخذ التعب مني كل مأخذ و سرعان ما بدأت الأحلام تنهال علي متداخلة متشابكة . وأستيقظ لأجد نفسي جالسا على حافة السرير و أنا أتصبب عرقا ، لا أدري هل أنا في يقظة أم لا زلت أغط في سباتي . ألتفت حولي لأتأكد من صحوتي ثم أستلقي على ظهري فلا أجد سوى الظلام الدامس يملأ الغرفة .. و أظل على هذه الحال إلى أن يلوح لي بصيص من نور ينبعث من كوة في أعلى الغرفة المطلة على الوادي .. أخيرا بزغ الفجر . علي أن أنهض و أملي نظري بمنظر الطبيعة الهادئة وهي تستقبل يوما جديدا .
قصدت القنطرة في وجل .. كانت هناك ، مستلقية في سكينة . خلتها تبتسم لي في ترحيب . توغلت قليلا في ما يشبه أجمة صغيرة كي تطأ قدمي تربتها الندية . شعرت بانتعاش يسري في ساقي وهب في نفسي إحساس بأن روح عمي الفاضل تحوم حول المكان حاثة إياي على المضي قدما في بحثي و إصراري على بلوغ مأربي .
جلست على حافة القنطرة وتركت رجلي تتأرجحان في الفضاء و أنا أرمي الغدير الساكن بحصى .. لذني وقعها على صفحة الماء الصافي وأخذتني السنة و أنا أنظر إلى التموجات المنبعثة من وقع الحصى . وفي تلك اللحظة اقترب مني كلب يتشمم حذائي في توجس وحذر . مددت يدي لأربت على ظهره فانكفأ هاربا . صفرت له مشيرا إليه بالاقتراب، فتشجع ودنا مني ، لكن التوجس لم يفارق عينيه . ذكرني بالكلب الذي أفقت على نباحه عقب استيقاظي في ذلك الصباح الذي تلا مغامرتي الليلية في الدار المهجورة .
وحين أطل أول شعاع من الشمس وراء الجبال ، نهضت وأنا أشعر بالجوع يقرص معدتي ، ودخلت المنزل لأجد المائدة وقد حوت ما لذ وطاب من الطعام . ولولا خشيتي من سوء الأدب في الأكل لأقبلت على الكل بشراهة و لازدردت القطيفة المعسلة دفعة واحدة . لكني تمالكت نفسي وجلست بعد أن ألقيت التحية على الجميع ، و لاحظت غياب والدي.. ربما كان ، مثلي ، انطلق يسبر أغوار الغابة والوادي المجاور.
- هيه.. هل أعجبك المكان ؟- سألني الرجل - قل ماذا تفضل.. قريتك "المجرى" أم بلدتنا ؟
التفت إلى أمي لأجدها منهمكة في حديث طويل مع صاحبة المنزل .. أثار سؤال مضيفنا الشجن في نفسي وأطرقت برأسي دون أن أجيب. لم يلح الرجل علي ، لكنه لم يتوقف عن حثي على الأكل عارضا علي في كل مرة قطيفة أو خبزا ..
- أين ذهب أبي ؟
- أبوك ؟- رد الرجل مقهقها – سيعود بعد قليل ، عسى أن يكون في غيابه خير . لقد ذهب ليقابل "المقدم" .. أمور إدارية .. لا غير .
ماذا يعني ؟.. نظرت إلى أمي . كانت عيناها تلمعان ببريق لم أعهده فيهما منذ صدر الأمر لأبي بالانتقال . كانت نظرتها تشي بالأمل. ماذا يحدث ؟ وماذا يخفون عني ؟.. وحاولت مداراة فضولي بسؤال عابر فالتفت إلى الرجل و سألته :
- وذاك الشيخ ؟ ألم يحمل معه شيء ؟
مثل ماذا ؟-
في سؤاله رنة غريبة .. نظر إلي مليا وأشار إلى المرأتين بالصمت ، ثم إلى زوجته أن انتبهي إلى ما يقال . أما أنا فقد أجبت ببساطة:
- كتب .. مثلا .
- كتب ؟.. ما أدراك بذلك ؟ - قال ذلك دون أن يرفع بصره عن زوجته و كأنه يشهدها على ما أقول .
و قبل أن أجيب دخل علينا أبي و إمارات البشر على وجهه .. أما أمي فقد امتقع لونها في بداية الأمر ، لكن سرحان ما تورد خداها و دمعت عيناها .. لم أدر ما حصل . كان ذهني مشتتا بين استغراب الرجل لكلامي و بين غياب أبي وما أحدثه حضوره من أثر . أما الرجل فهب واقفا و أشار إلينا جميعا أن نتبعه . قادنا إلى سلالم ضيقة وفتح بابا صغيرة بجانبها ثم أفسح لنا الطريق .
- ما هذا ؟- سأل أبي وهو يتفرس في أكوام من المجلدات الضخمة – و ما شأننا به ؟
- اسأل ابنك .
- ابني ؟ وما دخله في هذا؟
تقدمت بدوري و أنا أرتجف . الآن تيقنت من صحة ما رأيته في تلك الليلة . وصار من الممكن أن أروي ما حدث لي بكل طمأنينة و دون خشية من أية سخرية أو اتهام بالجنون . وجدت نفسي أمام ما يشبه مخزن صغير ، مليء بكتب كفيلة بإسالة لعاب كل من يهوى القراءة أو البحث في التراث . هي نفس الكتب التي كانت تزين الحجرة الكبيرة التي كان عمي المفضل يترنم فيها بتلاوة القرآن في البيت المهجور . علي الآن وقبل أي شيء أن أوضح ، أمام نظرات الاستفهام المحيطة بي ، كل ما حدث في تلك الليلة .