رد: الألم: أنطون تشيخوف
نعم، لا نؤجل الأشياء الجميلة، لأنها قد لا تتكرر مرة أخرى.
مات المرْضي ولم أسأل عنه....مات المرضي ولم أسال عنه.
عذرا لم أعرفكم بالمرضي. إنه ليس اسمه بل لقبه... القليل منا من عرف اسمه الحقيقي، الكل عرفه بالمرضي، سمي كذلك لأنه كان مرضيا. كان مرضي والدته، صبر معها كثيرا عند مرضها، ونال رضاها حتى ماتت...هل كان مرضي أمه فقط، طبعا لا، من يعرف المرضي يعرف أنه كان مرضي الجميع، لم يقل أبدا لا، إذا ناديته، أو طلبت منه شيئا، يتقدم بجسده النحيل، وتعبيره الصادق، ونبرته الجادة، ويقول نفس العبارات: "ها أنا طوع الأمر... أنا هنا للمساعدة... اطلبوا ما شئتم، المرضي حاضر معكم...". كان دائم الابتسام، لم نر عضبه أبدا.
كان المرضي حارسا...حارسا ليليا وحارسا نهاريا، عندما يحكي حكاياته لا تعرفه أيها خيالي وأيها حقيقي، كان حارس هذا المكان المسكون، لقد رآهم أكثر من مرة، وتحدث معكم أكثر من مرة، كان لديه مغامرات معهم، أخبروني أنه ربما كان يحلم، أو ربما كان يتعاطى شيئا، لكنني كنت أصدق كل حكاياته، تحدث مع الضفدع، وحضر عرس... لا أذكر عرس... عرس... لا أذكر عرس من، ولكن "الدفوع" كان مهيبا، وكان من بين الحضور ولو يكن مدعوا، وعاش ليلة لا تنسى، ليلة لم يرها ولم يعشها أحد قبله. حرس كل المدرجات، ونام في كل المدرجات، لم ينم كان يحاورهم، ويطلب من الله السلامة... كان يعرف أنه من دخل هذا الوِلاج... من عبر هذه الأبواب الكبيرة فإنه سيدخل إلى العالم الآخر الذي لا يعرفه إلا القليل... عاش المرضي في هذا العالم لسنوات طويلة يطلب السلامة، وكاد يموت أكثر من مرة، لكنه كان المرضي!
تعرف ... المرضي أي نوع من الناس هو؟ إنه الذي لا ينسى... ليس لأنه ليس عاديا، ولكنه لأنه كان مختلفا، لابد أن يلامس تعامله قلبه، من المعاملة الأولى، يطبع في قلبك طابع القبول من اللحظة الأولى، هذا هو المرضي. أنا عرفته من سنين طويلة، تعامل وحيد، تعامل في قمة التعاطف، تعامل بسيط، كان كطابع من ذهب، لا يمّحي أبدا.
الكل خزين لموته، مات البارحة، ودفن البارحة ليلا... نعم ليلا ... لا أحد يصدق... دفن ليلا، لكنه كان يجب الحياة، أنا أعرفه جيدا، كان يحب الحياة، كان ينتظر أن يزوج ابنتيه اللتان خطبتا مؤخرا، كان فخورا بهما، كان ينتظر فرحتهما، كان ينتظر أن يتبعهما بعد تقاعده إلى بلاد الغربة. مرض منذ أسبوعين...شهرين... ثلاثة أشهر... ربما أكثر من ذلك قليلا، مرض منذ فترة غير طويلة، هي مكالمة واحدة بيننا... أخبرني أن المرض مميت، وربما يموت قريبا ...أخبرني أن المرض قديم صامت... كان ينخر في جسده لسنوات طويلة، ولم يكن يعلم، كان يحس بالألم بين حين وآخر، فيقول لعله "الفتق" الذي كان يعاني منه، ويبلغ فص أو فصي ثوم وينتهي الأمر، كان يمشي- دائما-مسافات طويلة. يمشي ،يوميا، طريقا طويلا من العمل إلى منزله، لأنه لم يكن يملك في الغالب ثمن الحافلة، وكان يقول:
- ذلك أفضل... ذلك من أجل صحته.
سأفتقد جملته الشهيرة التي يقولها دائما، وهو يجلس متهالكا أمامي على الكرسي:
- والله إنك عزيز...
جملة لم أكن أسمعها من أي أحد حتى ولو كذبا، وكان صادقا، لأنها كلمات نابعة من القلب، وتصل إلى القلب، كان عزيزا وغاليا.
مات المرضي... مات المرضي ... لا صدق... كنت أريد أن تحدث معه قبل أن يموت، كنت أريد أن أسال عن حاله... عندما علمت بموته صدمت، كان علي أن أسال عنه، كان علي أن أهاتفه، لم أستطع زيارته في المستشفى، لكنني كنت أستطيع أن أسأل عنه، لم أكن لأغير شيئا بزيارتي و لا بسؤالي ، ولكنه كان يستحق أن أهاتفه وأسال عنه، لأنه المرضي!
|