الفصل السابع
القرآن ومواكبة الأحداث الجارية
[align=justify]
في الغزوات
إذا تركنا جانباً ما لقي محمد عليه السلام من أهوال وعنت، في صراعه مع القرشيين، منذ بعثه رسولاً، وحتى الموقعة الأولى في مواجهة حربية في بدر، ألفينا عجباً. جرأته عليه السلام على التحرش بقريش بعد أن أخرجته من أحب بلاد الله إليه، مكة المكرمة، حتى تلجأ إلى اتخاذ قرارها بالدخول في حرب سافرة معه، كان أمراً عجباً حقّاً. كيف يتحرش محمد بقريش متحدِّياً غطرستها، باعتراضه قافلة أبي سفيان العائدة من بلاد الشام إلى مكة، مروراً بالمدينة كعادتها، وهو الذي يعرف معنى ذلك وعواقبه؟ فقريش هي قريش صاحبة العدة والعتاد، الكبرياء والغرور، الصلف والعناد، لديها المال والرجال، فضلاً عن الحقد ودوافع الانتقام هذا في حين لم يكن معه هو غير القليل من الرجال، والأقل من الأموال والعدة، لكنها الثقة التي كانت لديه في وعد جاءه من عند الله بأنه ناصره في كافة الأحوال. وتلك قضية تخصه هو. ولو كان سيكذب (لا قدر الله) على الناس جميعاً من أجل غاية يخفيها، ما كان له أن يكذب على نفسه. وبأي منطق تراه يقنعها فيمنحها اليقين بأن ثلاثمائة من المستضعفين يملكون القدرة على الصمود، بل والنصر أيضاً، أمام من يفوقونهم خمسة أضعاف عددهم من صناديد قريش المعبئين حقداً، المستقوين بما يملكون؟ ألم يتساءل ـ لو كانت حساباته مما يقع في حسابات البشر ـ عما إذا كان يوم المواجهة قد يفضي إلى هزيمة ما حقة محققة، لا تقوم بعدها لدعوته قائمة؟ بل قد تودي بحياته نفسها؟ لقد كانت ثقته بالنصر نابعة من إيمانه المطلق بصدق الوعد، برغم المحاذير والمخاوف جميعاً. وكانت بالتالي برهاناً، في حد ذاتها، على صدق الدعوة والإيمان بحتمية انتصارها.
* * *
غزوة بدر
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (لأنفال:7)
تلك هي البشارة الأولى، ولنعرض في إيجاز قدر المستطاع جانباً مما حدث في بدر يومئذ:
(أما المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم. لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسَّر لهم مطرٌ أرسلته السماء مسيرتهم إليها. وكان الحباب بن المنذر بن الجموح عليماً بالمكان. فلما رأى حيث نزل النبي قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم. ثم نبني حوضاً فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربوا. ولم يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحباب أن قام ومن معه واتبع صاحبه، معلناً إلى القوم أنه بشر مثلهم وأن الرأي شورى بينهم، وأنه لا يقطع برأي دونهم، وأنه في حاجة إلى حسن مشورة صاحب المشورة منهم)( ).
فأي درس أعظم. وأي قدوة يمكن أن تحتذى في قابل الأيام.. وأيُّ مدرسة للشورى؟ لم يستبد برأيه. لم يستكثر أن يتقدم له أحدهم مبدياً رأياً مخالفاً لرأيه وهو القائد. لا بل هو ينزل عند ذلك الرأي، ما دام صاحبه أدرى بالموقع، وأقدر على تحديد شروط أفضل لخوض غمار المعركة.
(نادى مناديهم: يا محمد أَخْرِج إلينا أكفاءنا من قومنا، وكانوا قد أخرجوا ثلاثة من فتيانهم. فخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث. فقتل الثلاثة من قريش. فلما رأت من ذلك ما رأت تزاحف الناس والتقى الجمعان صبيحة الجمعة، لسبعة عشر خلت من شهر رمضان. استقبل محمد القبلة واتجه إلى ربه ينشده ما وعده، ويقول: اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد( ).
(وظل كذلك حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه بعدها مستبشراً، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلنهم اليوم رجلٌ فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة. ونزلت الآيات( ):
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (لأنفال:65-66)
ثم تنزَّل قوله تعالى:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (لأنفال:12)
(ولَّى أهلُ مكة الأدبار كاسفاً بالهم، خاشعةً من الذُّل أبصارهم، لا يكاد أحدهم يلتقي نظر صاحبه حتى يواري وجهه خجلاً من سوء ما حلَّ بهم جميعاً. أما المسلمون فقد أقاموا ببدر إلى آخر النهار. ثم جمعوا الذين قتلوا من قريش فحفروا لهم قليباً فدفنوهم فيه)( ).
* * *
غزوة مؤتة
ثم تتالت الغزوات واحدة تلو أخرى. غزوة أحد وما تعرَّض له المسلمون من خطر الهزيمة فيها بسب مخالفتهم لأمر الرسول في ا أمره حتى لو كان النصر قد أصبح في قبضة أيديهم. النصر عندئذ مع المخالفة سوف يغري ــ في المستقبل ــ بالخروج على التعليمات والأوامر كلما عنَّ لهم أنَّ في الخروج مصلحة قد يرونها هم، ولكنها خاطئة في حقيقتها فيما يرى رسول الله نفسه( ). ثم جاءت غزوة الخندق وبني قريظة، ثم خيبر. والأخيرتان مع اليهود ولكن ها هم أعداء محمد والإسلام يتكاثرون ويتضافرون. إذ تجيء بعد ذلك غزوة مؤتة مع الروم هذه المرة. وهو أمر بالغ الخطورة في كل الحسابات.
يختلف الرواة في أسباب غزوة مؤتة. وأيّاً كان الأمر فقد حدثت مناوشات. أفضت إلى قيام الحرب بين المسلمين والروم.
(مضى المسلمون، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع الروم. انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة التي بدأت عندها معركة حامية الوطيس بين مائة أو مائتي ألف من جيوش هرقل وثلاثة آلاف من المسلمين حمل زيد بن حارثة راية النبي واندفع بها في صدر العدو وهو موقن أن ليس من موته مفر. فحارب حتى مزقته رماح الأعداء، فتناول الراية من يده جعفر بن أبي طالب، وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين. وقاتل جعفر بالراية حتى إذا أحاط العدو بفرسه اقتحم عنها فعقرها. واندفع بنفسه وسط القوم منطلقاً كالسهم. وكان اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل. أخذ ابن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، وتقدم بسيفه فقاتل حتى قتل)( ).
(وكان النبي قد علم بهذا في رؤيا. فقد رآهم فيما يرى النائم على سُمُدٍ من ذهب. أخذ الراية خالد بن الوليد. أصدر أوامره. فداور بالمسلمين حتى ضمَّ صفوفهم. ووقف عند مناوشاتٍ امتدت حتى أرخى الليل سدوله، فوزَّع عدداً من رجاله في خطٍّ طويل من مؤخرة جيشه، مما أدخل في روع العدو أن مدداً جاء من عند النبي، لذلك تقاعس الروم عن مهاجمة خالد. وسرُّوا بعدم مهاجمته إياهم. وكانوا أكثر سروراً بانسحابه ومن معه)( ).
(ألم تكن محاربة الروم مجازفةً بكل المقاييس؟ ثلاثة آلاف مقابل مائة ألف (أو مائتين حسب بعض الروايات) أليست هذه الواقعة أقرب إلى الأساطير الملحمية. فقد كان الرومان في تلك الأيام كأمريكا اليوم. ولكن محمداً ومن معه لم يكونوا كبعض مسلمي اليوم.. وهذا هو الفارق. أو ليست نجاة جيش المسلمين بتدبير انسحابهم معجزة في حدّ ذاتها؟ لكنها إرادة الله التي لا تخضع لمنطق البشر وحساباتهم.
(إثر غزوة مؤتة، ازداد الإسلام انتشاراً بين قبائل نجدٍ المتاخمة للعراق والشام، حيث كان سلطان الروم في ذروته. دخل في هذه الفترة الإسلام كثير من سلَم، ومن أشجع، ومن غطفان ـ وكان هؤلاء حلفاء لليهود قبل ما أصابهم في خيبر ـ ومن عبس وذبيان وفزارة. وبذلك استتبَّ الأمر للمسلمين. إلى حدود الشام وازدادوا عزَّةً وقوةً ومنعة.
أما توقعات قريش فكانت عكس ذلك. فلقد تصوروا أن المسلمين سوف يهزمون في مؤتة. فعمدوا من ثم إلى نقض صلح الحديبية بتصرفات مسيئة للمسلمين مما حدا بالرسول أن يجهز لفتح مكة.
أسلم بنو هاشم، وعلى رأسهم العباس بن عبد المطلب. ثم أسلم أبو سفيان حين رأى أن لا مناص من أن يفعل، وأنه قد أحيط به. أي أنه أسلم كارهاً أو مكرهاً أمام الظروف المستجدة. وشَّتان بين دواعي إسلام كلٍ من الرجلين العباس وأبو سفيان.
وقد أعقب فتح مكة انتشار الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية. ولكن بعضاً من القبائل شاءت أن تحارب المسلمين، فوقعت غزوة حنين وغزوة الطائف إلى أن جاءت، بعد ذلك غزوة تبوك بين المسلمين والروم.
* * *
كشف المنافقين والمتخلفين
ومن الظواهر اللافتة، التي يمكن حسبانها شواهد غير قابلة للجدل أن تنزيل القرآن كان مواكباً، في بعض الأحوال، للأحداث والوقائع التي يمر بها المسلمون. أو ينزل سابقاً لها. يكشف عن ملابساتها، أو يتنبأ بنتائجها قبل وقوعها. أو دالاً النبي على ثغراتٍ أو تآمر عليه من بعض مَنْ هم حوله من اليهود والمنافقين، وإضراب هؤلاء وأولئك. من هذا القبيل:
عندما دعا الرسول المسلمين إلى التهيؤ لقتال الروم من جديد تثاقل المنافقون وبدأوا يلتمسون الأعذار. وجعلوا يتهامسون فيما بينهم، ويهزأون بدعوة محمد إياهم لهذا الغزو النائي في ذلك الجو المحرق. ولقتال من؟ الروم وما أدراك ما الروم يومئذ. فنزلت فيهم سورة التوبة إذ نصح بعضهم بعضاً ألا ينفروا في الحر. فتلك كانت ذريعتهم.
.. وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (التوبة:81-82)
ملاحظة جديرة بالتنويه هنا نظراً لأهميتها ودلالتها هي أن أحداً لم يخبر الرسول عن موقف هؤلاء وما صدر عنهم من قول. ولكن الله هو الذي أنبأه بذلك، مما أثار الرعب في قلوبهم. كما نزلت في حقهم هذه الآية أيضاً:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (التوبة:49)
ولكن الروم حين بلغهم أمر جيش المسلمين، وما هو عليه من قوة، آثروا الانسحاب والاحتماء بحصون الشام. وعندها لم ير محمداً محلاً لتتبعهم داخل بلاد الشام. وكان من شأن هذه الموقعة التي لم تقع فيها حرب أصلاً، أنها كشفت للنبي حال المنافقين الذين نزل فيهم بعد ذلك قوله تعالى، مقروناً بالإشادة لما كان من النبي، ومن معه من المهاجرين والأنصار في الساعات الحرجة:
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة:117-118)
نلاحظ في سائر الآيات السالفة الوصف الدقيق، والعبارة المكثفة، القصيرة أو الطويلة حسب مقتضى الحال، لخلق التأثير المطلوب، في سهولة ممتنعة ويسر عسير تقليده ومحاكاته. ونلاحظ مفارقة لغة القرآن للغة قريش السائدة. ببعدها عن الإغراق في الغريب والعويص من المفردات التي كانت مألوفة لديهم في خطابهم وشعرهم. لغة خاصة غير مسبوقة، أبلغ في التعبير تلميحاً أو تصريحاً مما ساد في تلك البيئة البدوية الخشنة. كلام ينساب رقراقاً كالماء النمير، في مجرى منبسط مريح لا تعترضه نتوءات ولا التواءات. وكما يبلغ ماء النهر غايته ومنتهاه عند مصبه، تبلغ الآيات القلب وتستقر في حنايا النفس، مثيرةً فيها الشجن حيناً، واليقين حيناً، والخشوع أمام عظمة بارئ الكون في سائر الأحيان.
الثلاثة الذين خلّفوا وأشارت إليهم الآيات الكريمة هم:
كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وكان محمد (صلعم) قد سبق أن أمر المسلمين بالإعراض عن هؤلاء خمسين يوماً لا يكلمهم فيها أحد، ولا تصل بينهم وبين مسلم تجارة. أي مقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، إلى أن ((ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم)) فتاب الله عليهم ليتوبوا وليكون في ذلك عبرة لمن هم على شاكلتهم.
* * *
غزوة أحد والدروس المستفادة
كانت غزوة أحد من أشد الغزوات وقعاً على النفوس، وأكبرها أثراً في مسيرة الدعوة. فلو لا عودة قلة من مقاتلي المسلمين إلى مواقعهم، بعد الهزيمة التي ألَّمت بهم، بسبب انصراف الرماة عن مواقعهم، لولا عودتهم للالتفاف حول الرسول عليه السلام، والصمود معه أمام فرسان قريش، وعلى رأسهم خالد بن الوليد ــ لم يكن قد أسلم بعد ــ لكانت العاقبة وبالاً على المسلمين. ولكن الله سلَّم وعصم نبيَّه ومكَّنه من الثبات والصمود هو ومن معه تحقيقاً لوعده بأن يعصمه من الناس وبأن ينصره وأن يظهر دينه على الدين كله.
ونستعرض شيئاً يسيراً من وقائع تلك المعركة التي حفلت بأحداث جسام على قدر كبير من الخطر وبالغ الأثر، كما كانت درساً بليغاً للمسلمين، في ضرورة الالتزام بما يأمرهم به قائدهم من جهة، ودرساً في الجهاد والصمود وصدق العزيمة وما يمكن أن تحققه من معجزات، من جهة ثانية.
لم يهدأ لقريش بال بعد غزوة بدر. اجتمع كبراؤها وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل. استنفروا الأحابيش والقبائل. والتقى الفريقان. سبعمائة من المسلمين في مواجهة ثلاثة آلاف من مقاتلي قريش. وخرجت النساء من قريش وعلى رأسهن هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان، التي قتل أبوها وأخوها وأخذن ينشدْن ويشجِّعن الرجال على القتال. وكانت هند قد وعدت (وحشي الحبشي)، مولى جبير، خيراً كثيراً إن هو قتل حمزة عم النبي. كان حمزة من أعظم أبطال العرب وشجعانهم، وهو الذي قتل أبا هند وأخاها. يصف حبشي كيف أصاب حمزة في مقتل يومئذ، ثم قعد بعيداً عن المقاتلين، إذ اعتبر أنه قام بالمهمة التي أوكلتها إليه هند يقول: (لم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق).
تراجع مقاتلو قريش ثم ولَّوْا منهزمين، مما أغرى الفرسان الذين كانوا على رأس الجبل، وكان عليه السلام أوصاهم بألاَّ يبرحوا مواقعهم حتى لو رأوه يقتل ومن معه. ولكن هؤلاء حسبوا أن المعركة انتهت فبادروا إلى الانقضاض على غنائم جيش قريش المنهزم. عندما رأى خالد بن الوليد ذلك اهتبل الفرصة فشدَّ برجاله على من بقي من الرماة فأجلاهم. كما حدث أن صاح صائح بالناس أن محمداً قد قتل، فازدادت الفوضى وتدافع مقاتلو قريش إلى الناحية التي كان فيها، وكلٌّ يريد أن يكون له في قتله يدٌ يفاخر بها الأجيال. هنالك أحاط المسلمون القريبون بالنبي، ومن بينهم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص. ومن أروع المواقف وأدعاها إلى الإعجاب والعجب معاً ما صنعه الصحابيُّ أبو دجانة، فقد ترَّس أبو دجانة نفسه دون رسول الله، فحنى ظهره والنبْل يقع فيه حتى وقع شهيداً وكذلك كان موقف أنس بن النضر الذي قاتل قتالاً شديداً ذوداً عن النبي عليه السلام، حتى استشهد وقد أصيب بنحو سبعين ضربة. ويذكر التاريخ أم عمارة الأنصارية التي خرجت أول النهار ومعها سقاء فيه ماء تدور به على المسلمين المجاهدين. فلما حاقت بهم الهزيمة، ألقت سقاءها واستلت سيفاً، وقامت تقاتل حتى أثخنتها الجراح.
فرحت قريش بالنصر. وأما هند فلم يكفها قتل حمزة بل انطلقت هي والنسوة التي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين، بجدع الآذان والأنوف يجعلن منها قلائد وأقراطاً. ثم عمدت إلى بقر بطن حمزة. فأخرجت كبده وجعلت تلوكها بأسنانها. كان الموقف شديداً إثر انتهاء المعركة على النبي عليه السلام. لاسيما حين رأى حمزة على تلك الحال. حزن من أجله أشد الحزن وقال: (لن أصاب بمثلك أبداً، ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليَّ من هذا. والله لئن أظهرنا الله عليهم يوماً من الدهر لأمثلنَّ بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب)( ). وفي هذا نزل قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (النحل:126-127). فعفى رسول الله وصبر ونهى عن المثلة.
وهكذا ترى أن القرآن يواكب الأحداث الجارية يومئذ خطوة فخطوة ومرحلة فمرحلة. خلَّف المسلمون وراءهم سبعين من القتلى، وذلك لعصيان الرماة أمْر النبي واشتغالهم عن العدو بغنائمه.
أظهر اليهود أشد السرور لما كان من هزيمة المسلمين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول. وبدأ المنافقون واليهود يرفعون رؤوسهم ضاحكين من المسلمين يسألونهم: إذا كانت بدر آية من الله برسالة محمد فماذا عسى أن تكون آية أحد وماذا تكون دلالتها( )؟
كما أظهروا تفضيلهم الوثنية على الإسلام. أخذ بنو النضير من بينهم بفكرة تأليب العرب على محمد ومن معه، فخرج نفرٌ منهم من بينهم حييّ بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق إلى قريش ليخبروها بأنهم معها إذا ما أتوا المدينة لقتال محمد. سألتهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. وهنا تتنزل الآيات على الرسول عليه السلام في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (النساء:51-52)
(وفي موقفهم هذا أي تفضيلهم وثنية قريش على توحيد محمد. يقول كاتب يهودي، الدكتور إسرائيل ولفتسون، في كتابه: (تاريخ اليهود في بلاد العرب)" كان من واجب هؤلاء ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم، لأن بني إسرائيل كانوا مدة قرون حاملي راية التوحيد بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد( ).
* * *
غزوة الخندق وتآمر بني قريظة
لم يكف هؤلاء ما قالوا لقريش حتى تنشط لمحاربته، بل خرجوا إلى غطفان من قيس غيلان، ومن بني مرة، ومن بني فزارة، ومن أشجع ومن سليم ومن بني سعد، ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر، وما زالوا بهم يحر ضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد، ويحمدون لهم وثنيتهم ويعدونهم النصر لا محالة. وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود، وخرجت قريش وعلى رأسها أبو سفيان في أربعة آلاف مجنَّد، وثلاثمائة فارس، وخمسمائة وألف ممتطٍ بعيره. وعقدوا اللواء في دار الندوة لعثمان بن طلحة، الذي قتل أبوه وهو يحمل لواء قريش في أحد. ساروا جميعاً في عشرة آلاف رجل قاصدين المدينة. اتصل النبأ بمحمد والمسلمين معه، فأصاب بعضهم الفزع. ها هي ذي العرب كلها أجمعت أمرها للقضاء عليهم. أشار سليمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها. فسارعوا إلى ذلك. وكان النبي يرفع التراب ويشجع المسلمين. تمَّ حفر الخندق في ستة أيام. فوجئت قريش بالخندق. أما محمد فقد خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين. ورأت قريش والعرب معها أن لا سبيل إلى اجتياز الخندق فاكتفت بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام متتابعة. كان الوقت شتاءً، والخيام التي ضربوا أمام يثرب لا تحميهم، فأصيبوا بالإحباط وأخذوا يفكرون في العودة أدراجهم. لكن حيي بن أخطب رأى أن يغامر بآخر سهم عنده. فقام باتصالات ومناورات يقنع اليهود من بني قريظة بنقض عهدهم لمحمد، وذهب إلى الأحزاب يبلغها ذلك، وكلما رأى منهم تهاوناً وضعفاً شدَّد عليهم ومنَّاهم بالدعم وبفتح ثغرات ينفدون منها خلف خطوط القتال، بما فيها الخندق. بل وأن اليهود سوف يقاتلون معهم. وبالفعل استمهل الرجل الأحزاب عشرة أيام، ريثما يُعدُّ اليهود أنفسهم بعدة القتال. وذلك ما فعلوا. فقد ألَّفوا ثلاث كتائب لمحاربة النبي. فأتت كتيبة ابن الأعور السلمي من فوق الوادي. وأتت كتيبة عُيَيْنَة بن حصن من الجنب، ونصب له أبو سفيان من قِبَل الخندق. وفي هذا الوقت نزلت هذه الآيات:
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (الأحزاب:10-13)
(نتساءل هنا أين كان بحيرة وورقة أو غيرهما آنئذٍ.. والغلام الأعجمي هل واكبوا الموقف وألَّفوا لمحمد هذه الآيات التي تسمي الأشياء بأسمائها عند وقوع الأحداث نفسها وتحدد الأفعال والأقوال والأحوال النفسية وكل ما ورد فيها من تفاصيل..!!)
لجأ الطرفان إلى ما يشبه اليوم الحرب الإعلامية، من شائعة ودسيسة ووقيعة. مما أسفر في نهاية المطاف عن ارتياب كل طرف من أطراف التحالف بالآخر، وبالتالي تَضعضُع جبهة الأحزاب ونشوب الخلاف فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم ويهود بني قريظة من جهة ثانية. واليهود كما هو شأنهم دائماً ((كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم)) عادوا فتنصَّلوا من عهدهم لقريش ومن معها من الأحزاب، فادعوا أنهم لا يقاتلون يوم السبت مما أثار أبا سفيان وجماعته، الذين أعدُّوا للقتال عدَّته على أن يبدأ ذلك السبت. فأرسلوا إليهم: اجعلوا سبتاً مكان هذا السبت فإنه لابد من قتال محمد غداً، ولئن خرجنا لقتاله ولستم معنا لنبرأنَّ من حلفكم ولنبدأنَّ بكم قبل محمد. فلما سمعت قريظة هذا كرَّرت أنها لا تتعدى السبت. زاد هذا في انقسام الأحزاب. أبدت غطفان ترددها في الإقدام على القتال متأثرة بما كان بدأها به من وعدها بثلث ثمار المدينة.
(جعل محمد يفكر في الوسيلة إلى الخلاص. ولم تكن الوسيلة مواجهة العدو بطبيعة الحال. فلتكن الحيلة إذاً. ذهب نُعيْم بن مسعود بأمر الرسول إلى قريظة، وكانت لا تعرف أنه أسلم، وكان له نديماً في الجاهلية. فذكَّرهم بما كان بينه وبينهم من مودة. ثم ذكر لهم أنهم ظاهروا قريشاً وغطفان على محمد. وقريش وغطفان قد ترتحلان فتخليان ما بينهم وبين محمد فينكل بهم. ونصح لهم ألا يقاتلوا مع القوم حتى يأخذوا منهم رُهُناً. واقتنعت قريظة بما قال. ثم ذهب إلى قريش فأسرَّ لهم أن قريظة ندموا على ما فعلوا من نكث عهدهم مع محمد، وأنهم عاملون على استرضائه وكسب مودته بأن يقدموا له من أشراف قريش من يضرب أعناقهم. ولذلك نصح لهم إن بعثت إليهم اليهود يلتمسون رهائن من رجالهم ألا يبعثوا منهم أحداً. وصنع نُعيم مع غطفان ما صنع مع قريش. دبَّت الشبهة من كلام نُعيم إلى نفوس قريش وغطفان، فتشاور زعماؤهم، فأرسل أبو سفيان إلى كعب سيد بني قريظة يقول له: قد يا كعب طالت إقامتنا وقد رأيت أن تعمدوا إليه في الغداة ونحن من ورائكم. فعاد رسول أبي سفيان إليه بقول زعيم قريظة إن غداً السبت وإنا لا نستطيع القتال والعمل يوم السبت. وقد غضب الله على قوم منهم تعدَّوْه فجعلهم قردةً وخنازير. ثم أشاروا إلى الرهائن حتى يطمئنوا لمصيرهم. فلما سمع ذلك أبو سفيان لم يبق لديه في كلام نُعيم ريبة. فتحدث إلى غطفان فإذا هي تتردد في الإقدام على قتال محمد متأثرة بما كان قد بدأها من وعده ثلث ثمار المدينة.. ( )
(وهكذا تضعضع حلف الأحزاب، وبقيت هنا مسألة خيانة اليهود لمحمد والمسلمين، فضلاً عن تواطؤهم مع الأعداء على مدينتهم نفسها بتحالفهم معهم سرّاً، الأمر الذي لو أفضى إلى نصر يتحقق لأولئك على المسلمين لكان في ذلك القضاء على الدعوة.. ولكن هل يحدث ذلك وقد وعد الله رسوله والمؤمنين بالنصر على أعدائه؟
جدير بالذكر أن هؤلاء اليهود كانوا مصدر الفتن والمنازعات وإضرام الحروب في الجزيرة العربية كلها، لاسيما في يثرب ــ قبل أن يسميها الرسول محمد عليه السلام بالمدينة بين الأوس والخزرج على مدى أجيال متعاقبة قبل مجيئه إليها مهاجراً بدين الله.
(ولما كان الليل عصفت ريح شديدة، وهطل المطر غزيراً، وقصف الرعد، ولمع البرق، واشتدَّت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وكفأت قدورهم وأدخلت الرعب إلى نفوسهم، وخيل إليهم أن المسلمين انتهزوها فرصة ليعبروا إليهم، فقام طليحة بن خويلد فنادى: إن محمداً قد بدأكم بشرّ فالنجاة النجاة… وقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد أخلفتنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره، فارتحلوا فإني مرتحل..
(وأصبح الصبح ولم يجد محمد منهم أحداً. فانصرف راجعاً إلى المدينة والمسلمون معه، يرفعون أكفَّ الضراعة إلى الله شكراً أن كشف الضرِّ عنهم وأنه كفى المؤمنين القتال).
وقد يطول بنا الحديث لو ذهبنا إلى غزوات أخرى كان اليهود أطرافاً فيها: خيبر سنة سبعٍ، وبنو النضير سنة أربع، وبنو المصطلق سنة ست وبنو قينقاع.
(وأنزل الله تعالى في أمر الخندق، وأمر بني قريظة من القرآن، القصة في سورة الأحزاب. يذكر فيها ما نزل بهم من البلاء، ونعمته على النبي ومن معه، وكفايته إياهم حين فرَّج ذلك عنهم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (الأحزاب:9)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا.. (الأحزاب:20) أي قريش وغطفان.
.. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (الأحزاب:20)
(ثم ذكر المؤمنين وصدقهم وتصديقهم بما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به فقال:
وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (الأحزاب:22)
(أي صبراً على البلاء، وتسليماً للقضاء، وتصديقاً للحق، لما كان الله تعالى وعدهم ورسوله صلى الله عليه وسلم( ).
كانت تبوك آخر الغزوات في حياة الرسول الحافلة بصور من النضال، عزَّ نظيرها في أي زمان ومكان. لم يتخلَّلها يوم راحة واحد في ساعة من نهار أو ليل، مقاتلاً حيناً، مفكراً في أمور الإسلام والمسلمين حيناً، في أمور الأمة التي أنشأها، في كل الأحيان. يحمل على عاتقه همومهم، ومسؤولية مصيرهم، متعبِّداً، معلِّماً، محذِّراً، شارحاً، مفسِّراً، مبشِّراً ونذيراً، على مدى ثلاث وعشرين سنة، هي عمره كله بعد البعثة. لم يذق خلالها طعماً لنعيمٍ أو ملذة، أو نصيباً من الدَّعة. لم تتوقف معاركه مع الأعداء أبداً، سواء كانت في شأن الدعوة فكراً وعقيدة، فقهاً وتشريعاً أو في ميادين القتال.
كثيرة هي الغزوات التي وقعت بين الرسول وأعداء دعوته. وليس في نيتنا التوسع في الحديث عنها جميعاً. وقد جئنا بأمثلة منها لكي نبين:
1- صور المعاناة والضنك التي لقي الرسول من قبل خصومه في سبيل الدعوة إلى الله، والتي ما كان أغناه عنها لو أنه وافق قريشاً منذ البداية على عروضها (السخية)، التي قدَّمتها، والتسليم له بما كان يريد منها لو شاء دون مسألة الرسالة والنبوة.
2- مواقف اليهود في الجزيرة في كل الظروف، في عداوتهم للإسلام وتآمرهم عليه. الأمر الذي لم يتوقف حتى أيامنا.
3ــ كيف أن القرآن كان يواكب الأحداث الجارية. ويبعث الله إلى رسوله بالروح الأمين، ليبلغه ما تقتضيه المواقف منها والتصرف حيالها. فضلاً عن كشف تلك الآيات عما كان يحاك ضد الرسول من قبل أعدائه والمتربصين به، وكذلك التعريف بالمنافقين والخصوم، إلى جانب الكشف عن خفايا النفوس لمن حوله من المؤمنين ومن في مواجهته من المشركين.
4- إثارة السؤال: أين هم أولئك الذين زعموا بأنهم يلقنون محمداً تلك الآيات؟ هل كانوا معه ملازمين له كل ذلك الوقت؟ إذن لعرف المقربون إليه بذلك… هل ماتوا أو هم انفضوا من حوله، أم هم رحلوا عن الديار أم انضموا إلى الخصوم؟.. وهل كان لشيءً من هذا أن يحدث ويظل سرّاً مطوياً؟؟ هل كان يمكن لهذا البحر الزاخر من الأحداث أن يظلّ خافياً عن الأسماع والأبصار والأفهام؟
* * *
حديث الإفك
أسبابه ونتائجه
واكب التنزيل الحياة الاجتماعية والأسرية للمسلمين. فتنزلت الآيات عن أزواج النبي، وعن نساء المسلمين وما ينبغي أن يكنَّ عليه من تقوى واحتشام في المظهر والمخبر والمسلك. وقضايا الزواج والإرث، والعلاقة السليمة بين الأزواج والآباء والأبناء. من بين ذلك كان موضوع زواج النبي عليه السلام من السيدة زينب بنت جحش، وما كان من التباس ــ وربما لغط في هذا الشأن ــ كذلك الأمر في شأن السيدة عائشة فيما عرف من بعد بحديث الإفك. وفي مجريات ووقائع صلح الحديبية بمقدماته الخطيرة ونتائجه الباهرة، حسب رؤية الرسول المسبقة لها، وما سوف تؤول إليه، خلافاً لما ارتأى مَنْ حوله من الصحابة وعامة المسلمين.
ونحن إذ نعرض لأمثلة من هذه الوقائع، وما تنزَّل فيها وحولها من قرآن، فإنما نسعى من بين ما نسعى إليه التدليل على أن القرآن في كثير من سوره كان يأتي منجَّماً حسب الوقائع، مواكباً لحياة المجتمع الإسلامي الجديد، مما يؤكد بأنه وحي من عند الله، وليس من لدن من زعموا أنهم يلقِّنونه محمداً أو أنه من عند محمد نفسه.
نروي عن السيدة عائشة ما جاء على لسانها هي من جانب، وما دار حول المسألة من جوانب وجهات أخرى، ولكن بإيجاز قدر المستطاع، ونقلاً بتصرف عن كتب السيرة والمراجع بما لا يخرج عن الأصل والسياق:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقْرع بين نسائه فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق خرج سهمي عليهن معه. وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي فيرفعونه إلى ظهر البعير. ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجَّه قافلاً، ثم نزل منزلاً قريباً من المدينة فبات به بعض الليل ثم أذن في الناس بالرحيل. وكنت خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي، فانسلَّ من عنقي ولا أدري، وحين التمسته ولم أجده، رجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه، وقد أخذ الناس في الرحيل، حتى وجدته. أخذ القوم الهودج وهم يظنون أني فيه وانطلقوا، فرجعت إلى العسكر وما فيه من مجيب. فتلفعت بجلبابي واضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لَيُرجَعُ إليّ.
ثم تمضي في رواية القصة التي مؤدَّاها أن رجلاً من المسلمين، هو صفوان بن المعطل السلمي يمرُ بها فلما رآها قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما خلَّفك يرحمك الله؟ فما كلمته. قرَّب البعير فقال: اركبي واستأخري عني. إلى أن قدما المدينة. مرضت وعلى خلاف ما كان يعاملها رسول الله في مثل هذه الحالة لمست منه جفاء فأنكرت ذلك منه.؟ فانتقلت إلى بيت أمها تمرِّضها بضعاً وعشرين ليلة، حين أخبرتها صديقة لأمها بما حدث. قالت: أوَ ــ ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي. قلت لأمي: يغفر الله لك. تحدَّث الناس بما تحدَّثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً. قالت: أي بنيَّة، خففي عليك الشأن. فو الله لقلَّما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثَّرن وكثَّر الناس عليها. ثم علمت أن رسول الله قام يخطب في الناس. فقال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي. وكان كبْرُ ذلك عند عبد الله بن أبي سلول ومسطح وحمنة بنت جحش (أخت زينب). حدثت مشادة إثر ذلك بين رجال من الأوس ورجال من الخزرج. فضَّها الرسول بالحكمة. (ثم دعا علياً بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما. فأثنى زيد عليَّ خيراً. أمَّا علي فقال يا رسول الله إن النساء لكثير وسل الجارية فإنها ستصدقك. قالت الجارية والله ما أعلم إلاّ خيراً.. الخ. ثم دخل عليَّ رسول الله وعندي أبواي وامرأة من الأنصار أبكي وهي تبكي معي. فجلس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة.. إنه كان ما قد بلغك من قول الناس فإن كنت قد قارفت سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة من عباده. قالت فو الله ما هو إلا أن قال لي ذلك، فقلص دمعي حتى ما أحسُّ منه شيئاً، وانتظرت أبويَّ أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يتكلَّما. قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه. فلما استعجما عليّ استعبرتُ فبكيتُ، ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً. والله إني لأعلم لئن أقررتُ بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة، لأقولنَّ ما لم يكن، ولئن أنكرت ما يقولون لا تصدقونني، ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره، فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: "فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون. قالت: فو الله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشَّاه من الله ما كان يتغشَّاه، فسجِّي بثوبه ووضعت له وسادة من أدّم تحت رأسه. فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فو الله ما فزعت ولا باليت، قد عرفتُ أني بريئة وأن الله عزَّ وجل غير ظالمي، وأما أبواي، فو الذي نفس عائشة بيده، ما سرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجنَّ أنفسهما، فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. جلس رسول الله وإنه ليتحدر من الجُمان في يوم شاتٍٍ. فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك. قالت قلت: بحمد الله ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثامة وحسان بن ثابت، وحمْنة بنت جحش وكانوا مَنْ أفصح بالفاحشة، فضربوا حدَّهم. الآيات التي نزلت:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النور:11). وما بعدها.
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (النور:12-19)
وفي هذه المناسبة نزلت كذلك عقوبة رمي المحصنات:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور:4)
يقول السير وليم موير المستشرق تعليقاً على هذا الحادث:
(إن حياة عائشة قبل هذا الحادث وبعده تدعونا إلى القطع ببراءتها وعدم التردد في إدحاض أية شبهة أثيرت حولها).
ولكن مستشرقين آخرين دفعتهم أهواؤهم، إلى الافتراء وإلى التخرُّص في هذه المسألة محاولين استغلالها أسوأ استغلال. أليست هذه فرصة سانحة للقبض على هنة تعينهم على أداء مهمتهم التي كلفوا بها، أو تطوعاً إن كانت من تلقاء أنفسهم، بما انطوت عليه تلك الأنفس من حقد وضغينة على صاحب الرسالة؟ من ثم زعم هؤلاء أن محمداً (عليه السلام) عمد إلى تبرئة زوجته الأثيرة بآيات من عنده. وقد نسي هؤلاء أنهم قالوا قبل ذلك أن آخرين يلقنونه الآيات. كما نسوا أن ذلك ــ لو كان صحيحاً ــ لاقتضى أن يختلف الأسلوب بين ما لُقِّنه وبين ما ألّفه..! ونحن هنا نكتفي بأن نحيلهم على النصوص القرآنية نفسها لنسأل:
هل اختلفت الآيات التي تنزلت بشأن عائشة عنها في سائر الكتاب؟ هل ألفى أحدٌ فارقاً في الأسلوب أو في اللغة أو في النهج، وهذه أمور تدخل في باب التحليل النقدي، يستطيع أهل الاختصاص فيها أن يتحرَّوْا، وأن يدققوا، وأن يمحِّصوا لكي يتأكدوا من ذلك كله. بمعنى أنه لو كان النص من عند محمد لبدا ذلك واضحاً جليّاً، بحيث يماثل حديثاً من أحاديثه ولا يماثل نصّاً قرآنياً بالقطع.
وسؤال آخر: لماذا لم يبادر محمد عليه السلام، منذ البداية للإتيان بهذه النصوص المبرئة لعائشة؟ لا سيما وأن المسألة كانت في أوجها، حين كانت عواطفه وأفكاره أكثر حدة وشدة منها فيما تلا من أيام. وكذلك كانت المشكلة في المجتمع المديني من حوله. لماذا صمت كل هذا الوقت إذن ثم جاءته الآيات على حين غرة؟ وأين جاءت؟ تنزلت الآيات في منزل والدي عائشة وإبَّان حواره معها وبحضور الأبوين وتلك المرأة من الأنصار؟ فيخرج من فوره ليتلوها على الناس، دون أن يخشى محاذير ذلك من تأويلات وتخرُّصات.. ولكن كيف يخشى ذلك أو يحسب له أيّما حساب والآيات تنزل بها الوحي الأمين؟
وأسئلة أخرى كثيرة: ألم يكن في وسع محمد، وقد دانت له العرب، قطع ألسنة المروِّجين والمنافقين والمرجفين قبل أن تعم الشائعة فتختفي القصة كلها؟ كان ذلك ممكناً، ولكنه لم يفعل وما كان له أن يفعل، وهو رسول الله معلِّم البشرية، القدوة في المسلك الحضاري والإنساني والأخلاقي.
هل من أحد، في عرف البشر، بقادر على التصرف في مسألة على هذا القدر من الحساسية، بمثل هذه الحكمة، للتثبت من الحقيقة ــ سواء كانت له أو عليه ــ دون تسرُّع من جانبه أو استغلال للنفوذ والمقدرة التي يملك بين يديه؟ ما كان أيسر عليه أن يستمع ــ مثلاً ــ إلى قول الإمام علي بأن النساء كثير فيطلق أو يعاقب أو.. أو.. ولم يكن ذلك مستهجناً في عرف القوم يومئذ. زوج رحيم كريم واثق. وقد لا نعدو الحقيقة إذ نحسب أنه لم يكن يدري بأن قرآناً سوف يتنزل عليه في المسألة. لكن هذا لا ينفي أنه ربما كان يأمل أن يسعفه الله بآيات من عنده.
ونسأل المعاصرين من دعاة حقوق الإنسان والمنافحين عن حقوق المرأة وكرامتها في هذا العصر. أين هم من هذا الذي حدث؟ هل من أحد كرَّم المرأة واحترم إنسانيتها ومشاعرها وكيانها، كما فعل عليه السلام إزاء عائشة في موقف عصيب، يستثير الحجارة الصمَّاء حين تطعن الكبرياء في الشرف والعرض؟
كانت الحادثة والقصة برمتها، إلى أن تنزل القرآن فيها بالقول القاطع، اختباراً وأيّ اختبار، ودرساً وأيّ درس لسائر المسلمين..
* * *
عهد الحديبية
وهذا مثال آخر يرينا كيف أن القرآن كان يواكب كثيراً من الأحداث، حتى السياسية منها، كمسألة عهد الحديبية وتطورات الموقف بين الرسول وقريش. ولأن القرآن من عند الله، وليس غيره، فقد كانت تتنزل آيات تخالف وجهة النظر عند النبي نفسه حول مسألة ما، ومن الطبيعي أنه لن يناقض نفسه، بحيث يبدي رأياً أو يتصرف حسب تصوُّر عنده، ثم يخرج على الناس بما يخالفه. كثيراً ما كان يحدث شيء من هذا القبيل، مما ينبئ بأن هناك جهة تملي وتوجِّه وتقرِّر وترشد.. مَنْ تكون تلك الجهة التي تلزم دائماً الجميع عندما تقول كلمتها؟ لن تكون غير الله سبحانه وتعالى. ولنعرض في إيجاز قدر المستطاع مسألة عهد الحديبية، هذه التي ترتبت عليها نتائج جمَّة فاعلة وفاصلة، في سيرورة الدعوة الإسلامية، وصاحبها عليه السلام.
انقضت ست سنوات منذ الهجرة والمسلمون يتحرَّقون شوقاً لزيارة الكعبة. يريدون الحج والعمرة.. وإنهم لمجتمعون ذات صباح بالمسجد أنبأهم النبي بما أُلهم في رؤياه الصادقة بأنهم سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين. وما كاد القوم يسمعون ذلك حتى علت أصواتهم بالتكبير وبحمد الله، وانتقل نبأ الرؤيا إلى سائر أنحاء المدينة. ولكن كيف يدخلون المسجد الحرام، وقريش كانت آلت على نفسها منذ هاجر محمد والمسلمون أن يصدُّوهم عنه، دون سائر العرب، إمعاناً في التحدي من جهة، وعملاً على وقف اندفاع الدعوة وانتشارها بين الناس من جهة أخرى. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة:217)
وقوله تعالى بعد غزوة بدر في مسألة الصدِّ عن المسجد الحرام:
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (لأنفال:34-36)
آيات كثيرة تنزلت في هذا الشأن. ولكن قريشاً ظلت على عنادها إلا أنها وقعت في حيرة من أمرها، فما من أحد من العرب حتى الذين لم يسلموا، يقرُّها على موقفها ذلك. وما عساها تقول لقوم جاءوا محرمين، يتقدمهم الهدي، لا يبتغون غير الطواف بالبيت فريضة تؤديها العرب جميعاً؟ جنَّدت قريش عدداً من المقاتلين على رأسهم خالد بن الوليد لتحول بين محمد وأم القرى. لكن محمداً تابع مسيرته وقال: (يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلَّوْا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)( ).
وقف يفكر ماذا عساه أن يصنع، فهو لم يخرج من المدينة غازياً، لكن قريشاً تنوي صدَّه بقوة السلاح، فدفعت بفرسان مكة حتى أصبح هؤلاء على مرمى النظر، لكن رأيه ظلَّ مستقرّاً على سلوك سياسة السلم والذهاب ـ كما اعتزم منذ البداية إلى مكة حاجاً. قرر اتخاذ طريق آخر بناء على مشورة أحدهم حتى أفضت بهم إلى سهل عند منقطع الوادي، حتى خرجوا على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة. فلما رأت خيل قريش ما صنع محمد وأصحابه كرُّوا راجعين أدراجهم للدفاع عن مكة إذا دهمها المسلمون. ولما بلغ المسلمون الحديبية بركت القصواء (ناقة النبي)، وظنَّ المسلمون أنها جهدت. فقال رسول الله: "إنما حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها". تردَّدت قريش حائرة ماذا تصنع، ثم أرسلت إليه من يقنعه بالعودة، وفي نفس الوقت التعرُّف على قوته. وظلت رسلها تروح وتجيء وكان آخرهم عروة بن مسعود الثقفي. لكن مهمته فشلت فعاد إليهم يقول: (يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد وأصحابه. لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يُسلموه لشيء أبداً فتروْا رأيكم).
حاول النبي أن يمتحن صبرهم فأرسل إليهم عثمان بن عفان زوج ابنته. غاب عنهم عثمان طويلاً حتى اعتقدوا أن قريشاً قتلته. في حين كان الرجل يفاوضهم ويفاوضونه للخروج من المأزق دون قتال، ولكن أيضاً دون دخول محمد مكة. ولما اشتد القلق بالمسلمين دعا محمد عليه السلام أصحابه معلناً (لا نبرح حتى نناجز القوم). وقف تحت شجرة في ذلك الوادي فبايعوه جميعاً على ألا يفرُّوا حتى الموت. بايعوه وكلهم ثابت الإيمان. ممتلئ حماسة لمناجزة من غدر وقتل في الشهر الحرام. وكانت بيعة الرضوان التي نزل فيها قوله تعالى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (الفتح:18)
تبدَّى للمسلمين أن الحرب آتية لا ريب فيها. وجعل كل منهم ينتظر يوم الظفر أو الاستشهاد بنفس راضية وقلب مطمئن. وإنهم لكذلك ترامى إليهم أن عثمان لم يقتل، ولم يطل بهم الأمر حتى جاء عثمان إليهم. على أن بيعة الرضوان هذه بقيت مع ذلك، كبيعة العقبة الكبرى علَماً في تاريخ المسلمين. كان محمد يستريح إلى ذكرها لما كشفت عنه من متانة الروابط بينه وبين أصحابه ولما دلَّ عليه من مبلغ إقدامهم على خوض القتال معه في سبيل الله إن هي فرضت عليهم.
عاد عثمان فأبلغ محمداً ما قالت قريش ومجمله أنهم لن يدخلوا مكة هذا العام لئلا تضيع هيبتهم بين العرب. وهم أيضاً غير راغبين في القتال في الأشهر الحرم، مما سيترك أثره على سائر العرب الذين لن يأمنوا على تجارتهم في المستقبل حين يأتون مكة وأسواقها.
أوفدت قريش سهيل بن عمرو ليصالح محمداً على شرط واحد هو أن يرجع عنهم عامه هذا.
ولما انتهى سهيل إلى الرسول جرت محاولة طويلة للصلح وشروطه كادت تنقطع في بعض الأحيان. كان المسلمون من حول النبي يضيق بعضهم بأمرها صبراً، لتشدد سهيل في مسائل يتساهل النبي في قبولها. ولولا ثقة المسلمين المطلقة بنبيهم لما ارتضوا ما تم الاتفاق عليه. حتى أن عمر بن الخطاب ذهب إلى أبي بكر ودار بينهما الحديث التالي:
عمر: يا أبا بكر؟، أليس رسول الله؟
أبا بكر: بلى.
عمر: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟
أبو بكر: يا عمر ألزم غرزك( ) فإني أشهد أنه رسول الله.
عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ورد النبي على عمر حين خاطبه في المسألة بقوله عليه السلام في ختام حديثهما: (أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيِّعني).
دعا النبي عليّاً بن أبي طالب رضي الله عنه وقال له:
(اكتب بسم الله الرحمن الرحيم). فقال سهيل: أمسك لا أعرف الرحمن الرحيم. بل أكتب باسمك اللهم. قال رسول الله: »اكتب باسمك اللهم«. ثم قال اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو". فقال سهيل: أمسك لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. قال رسول الله: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله..).
ثم كتبت العهدة بين الطرفين وفيها أنهما تهادنا عشر سنين، في رأي أكثر كتاب السيرة، وسنتين في قول الواقدي، وأن من أتى محمداً بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشاً من رجال محمد لم يردُدْه عليه.. وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليها في العام الذي يليه.
أقاموا بالحديبية أيّاماً نحروا فيها الهدي وحلَّقوا وقصَّروا. ومنهم من يتساءلون في حكمة هذا العهد الذي عقد النبي. وإنهم لفي طريقهم راجعين بين مكة والمدينة إذ نزل الوحي على النبي بسورة الفتح:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (الفتح:1-2 إلى آخر السورة).
صدَّقت الحادثات رأي محمد بأسرع مما كان يظن أصحابه في حوادث كثيرة، لا نود الإطالة في شرحها ها هنا. منها حادثة أبي بصير وغيره، مما أسقط الشرط الذي أحفظ عمر بن الخطاب، ونزلت قريش بذلك عما أصرَّ عليه سهيل بن عمرو من ردِّ المسلمين إلى مكة إذا ذهبوا إلى محمد بغير رأي مواليهم.
أما المهاجرات من قريش إلى المدينة فكان لمحمد فيهن رأي آخر. خرجت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من بعد الهدنة، فخرج أخواها عمارة والوليد يطلبان إلى رسول الله أن يردها عليهما بحكم عهد الحديبية. لكن النبي أبى ورأى أن هذا العهد لا ينسحب على النساء حكمه، وأن النساء إذا استجرن وجبت إجارتهن. ثم إن المرأة إذا أسلمت لم تصبح حلاً لزوجها المشرك فوجب التفريق بينه وبينها وفي ذلك نزل قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الممتحنة:10)
وكذلك صدَّقت الحادثات حكمة محمد عليه السلام، وبعد نظره وحنكة سياسته، وأثبت أنه إذ عقد عهد الحديبية فقد وضع حجراً لا ينقض في سيادة الإسلام وانتشاره، وهذا هو الفتح المبين.
اطمأنت العلاقات بعد الحديبية بين قريش ومحمد، إذ أمن كل جانب صاحبه. أما محمد عليه السلام فاتجه بفكره إلى متابعة إبلاغ رسالته للناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، ووجَّه نظره إلى تمهيد أسباب النجاح لطمأنينة المسلمين في شبه الجزيرة وهذا وذاك هو ما صنع، فشرع في إرسال الرسل إلى الملوك في مختلف الدول، وبإجلاء اليهود عن شبه جزيرة العرب إجلاءً تامّاً بعد غزوة خيبر. ولم يكن ذلك تجنِّياً عليهم، أو معاداة لهم لسبب ديني، إنما كان ذلك جزاءً وفاقاً لدورهم التآمري على الإسلام، وخياناتهم التي لو قيض لها النجاح لأفضت إلى أوخم العواقب على الإسلام والمسلمين. موقفه هذه كان سياسياً وليس دينياً.
الغاية من عرض قصة صلح الحديبية ليس فقط التدليل على حكمة محمد عليه السلام، وحصافته وسداد رأيه وحسب، إنما هي إظهارٌ لجانب نكران الذات لديه في تواضع حميد، وتكريسه جهده وفكره وحياته كلها من أجل إنجاح الدعوة دون منٍّ على أحد، أو تفاخر بما صنع وحقق، الأمر الذي عادة ما يصيب معظم الناس ــ كنزعة إنسانية ــ في مثل هذه الأحوال.
هذه الصورة في حدِّ ذاتها شاهد صدق ــ لمن يشاء شهادة ودليلاً ــ على أن محمداً لم يكن سوى نبي الله ورسوله للعالمين، بعيداً عن أي مطمح شخصي، كائناً شأنه ما كان.
رأيناه كيف يتعامل مع مقتضيات الدعوة، والعلاقات مع الحياة والناس في أحلك الظروف وأدقها ببديهة حاضرة، وبراعة مدهشة، وفكر نيِّر، معتمداً اجتهاده ورؤيته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وحين تتعقد الأمور وتتشابك القضايا فتصبح فوق الطاقة، أو توقع في الحيرة بين خيارات كثيرة، بحيث تصعب رؤية الأصوب من بينها للحسم بقرار سليم لا ينطوي على احتمالات غامضة ومجهولة، عندئذٍ يستلهم الوحي فيسعفه بقرآن عربي مبين، ينير له الطريق ويهديه إلى سواء السبيل.
* * *
[/align]