التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 138,634
عدد  مرات الظهور : 162,959,966

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > رابطة نـور الأدب (مسجلة ومرخصة) > الأقسام > مكتبة نور الأدب
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 15 / 07 / 2008, 08 : 01 AM   رقم المشاركة : [11]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل السابع
القرآن ومواكبة الأحداث الجارية




[align=justify]
في الغزوات
إذا تركنا جانباً ما لقي محمد عليه السلام من أهوال وعنت، في صراعه مع القرشيين، منذ بعثه رسولاً، وحتى الموقعة الأولى في مواجهة حربية في بدر، ألفينا عجباً. جرأته عليه السلام على التحرش بقريش بعد أن أخرجته من أحب بلاد الله إليه، مكة المكرمة، حتى تلجأ إلى اتخاذ قرارها بالدخول في حرب سافرة معه، كان أمراً عجباً حقّاً. كيف يتحرش محمد بقريش متحدِّياً غطرستها، باعتراضه قافلة أبي سفيان العائدة من بلاد الشام إلى مكة، مروراً بالمدينة كعادتها، وهو الذي يعرف معنى ذلك وعواقبه؟ فقريش هي قريش صاحبة العدة والعتاد، الكبرياء والغرور، الصلف والعناد، لديها المال والرجال، فضلاً عن الحقد ودوافع الانتقام هذا في حين لم يكن معه هو غير القليل من الرجال، والأقل من الأموال والعدة، لكنها الثقة التي كانت لديه في وعد جاءه من عند الله بأنه ناصره في كافة الأحوال. وتلك قضية تخصه هو. ولو كان سيكذب (لا قدر الله) على الناس جميعاً من أجل غاية يخفيها، ما كان له أن يكذب على نفسه. وبأي منطق تراه يقنعها فيمنحها اليقين بأن ثلاثمائة من المستضعفين يملكون القدرة على الصمود، بل والنصر أيضاً، أمام من يفوقونهم خمسة أضعاف عددهم من صناديد قريش المعبئين حقداً، المستقوين بما يملكون؟ ألم يتساءل ـ لو كانت حساباته مما يقع في حسابات البشر ـ عما إذا كان يوم المواجهة قد يفضي إلى هزيمة ما حقة محققة، لا تقوم بعدها لدعوته قائمة؟ بل قد تودي بحياته نفسها؟ لقد كانت ثقته بالنصر نابعة من إيمانه المطلق بصدق الوعد، برغم المحاذير والمخاوف جميعاً. وكانت بالتالي برهاناً، في حد ذاتها، على صدق الدعوة والإيمان بحتمية انتصارها.


* * *

غزوة بدر
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (لأنفال:7)
تلك هي البشارة الأولى، ولنعرض في إيجاز قدر المستطاع جانباً مما حدث في بدر يومئذ:
(أما المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم. لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسَّر لهم مطرٌ أرسلته السماء مسيرتهم إليها. وكان الحباب بن المنذر بن الجموح عليماً بالمكان. فلما رأى حيث نزل النبي قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم. ثم نبني حوضاً فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربوا. ولم يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحباب أن قام ومن معه واتبع صاحبه، معلناً إلى القوم أنه بشر مثلهم وأن الرأي شورى بينهم، وأنه لا يقطع برأي دونهم، وأنه في حاجة إلى حسن مشورة صاحب المشورة منهم)( ).
فأي درس أعظم. وأي قدوة يمكن أن تحتذى في قابل الأيام.. وأيُّ مدرسة للشورى؟ لم يستبد برأيه. لم يستكثر أن يتقدم له أحدهم مبدياً رأياً مخالفاً لرأيه وهو القائد. لا بل هو ينزل عند ذلك الرأي، ما دام صاحبه أدرى بالموقع، وأقدر على تحديد شروط أفضل لخوض غمار المعركة.
(نادى مناديهم: يا محمد أَخْرِج إلينا أكفاءنا من قومنا، وكانوا قد أخرجوا ثلاثة من فتيانهم. فخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث. فقتل الثلاثة من قريش. فلما رأت من ذلك ما رأت تزاحف الناس والتقى الجمعان صبيحة الجمعة، لسبعة عشر خلت من شهر رمضان. استقبل محمد القبلة واتجه إلى ربه ينشده ما وعده، ويقول: اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد( ).
(وظل كذلك حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه بعدها مستبشراً، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلنهم اليوم رجلٌ فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة. ونزلت الآيات( ):
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (لأنفال:65-66)
ثم تنزَّل قوله تعالى:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (لأنفال:12)
(ولَّى أهلُ مكة الأدبار كاسفاً بالهم، خاشعةً من الذُّل أبصارهم، لا يكاد أحدهم يلتقي نظر صاحبه حتى يواري وجهه خجلاً من سوء ما حلَّ بهم جميعاً. أما المسلمون فقد أقاموا ببدر إلى آخر النهار. ثم جمعوا الذين قتلوا من قريش فحفروا لهم قليباً فدفنوهم فيه)( ).


* * *

غزوة مؤتة
ثم تتالت الغزوات واحدة تلو أخرى. غزوة أحد وما تعرَّض له المسلمون من خطر الهزيمة فيها بسب مخالفتهم لأمر الرسول في ا أمره حتى لو كان النصر قد أصبح في قبضة أيديهم. النصر عندئذ مع المخالفة سوف يغري ــ في المستقبل ــ بالخروج على التعليمات والأوامر كلما عنَّ لهم أنَّ في الخروج مصلحة قد يرونها هم، ولكنها خاطئة في حقيقتها فيما يرى رسول الله نفسه( ). ثم جاءت غزوة الخندق وبني قريظة، ثم خيبر. والأخيرتان مع اليهود ولكن ها هم أعداء محمد والإسلام يتكاثرون ويتضافرون. إذ تجيء بعد ذلك غزوة مؤتة مع الروم هذه المرة. وهو أمر بالغ الخطورة في كل الحسابات.
يختلف الرواة في أسباب غزوة مؤتة. وأيّاً كان الأمر فقد حدثت مناوشات. أفضت إلى قيام الحرب بين المسلمين والروم.
(مضى المسلمون، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع الروم. انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة التي بدأت عندها معركة حامية الوطيس بين مائة أو مائتي ألف من جيوش هرقل وثلاثة آلاف من المسلمين حمل زيد بن حارثة راية النبي واندفع بها في صدر العدو وهو موقن أن ليس من موته مفر. فحارب حتى مزقته رماح الأعداء، فتناول الراية من يده جعفر بن أبي طالب، وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين. وقاتل جعفر بالراية حتى إذا أحاط العدو بفرسه اقتحم عنها فعقرها. واندفع بنفسه وسط القوم منطلقاً كالسهم. وكان اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل. أخذ ابن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، وتقدم بسيفه فقاتل حتى قتل)( ).
(وكان النبي قد علم بهذا في رؤيا. فقد رآهم فيما يرى النائم على سُمُدٍ من ذهب. أخذ الراية خالد بن الوليد. أصدر أوامره. فداور بالمسلمين حتى ضمَّ صفوفهم. ووقف عند مناوشاتٍ امتدت حتى أرخى الليل سدوله، فوزَّع عدداً من رجاله في خطٍّ طويل من مؤخرة جيشه، مما أدخل في روع العدو أن مدداً جاء من عند النبي، لذلك تقاعس الروم عن مهاجمة خالد. وسرُّوا بعدم مهاجمته إياهم. وكانوا أكثر سروراً بانسحابه ومن معه)( ).
(ألم تكن محاربة الروم مجازفةً بكل المقاييس؟ ثلاثة آلاف مقابل مائة ألف (أو مائتين حسب بعض الروايات) أليست هذه الواقعة أقرب إلى الأساطير الملحمية. فقد كان الرومان في تلك الأيام كأمريكا اليوم. ولكن محمداً ومن معه لم يكونوا كبعض مسلمي اليوم.. وهذا هو الفارق. أو ليست نجاة جيش المسلمين بتدبير انسحابهم معجزة في حدّ ذاتها؟ لكنها إرادة الله التي لا تخضع لمنطق البشر وحساباتهم.
(إثر غزوة مؤتة، ازداد الإسلام انتشاراً بين قبائل نجدٍ المتاخمة للعراق والشام، حيث كان سلطان الروم في ذروته. دخل في هذه الفترة الإسلام كثير من سلَم، ومن أشجع، ومن غطفان ـ وكان هؤلاء حلفاء لليهود قبل ما أصابهم في خيبر ـ ومن عبس وذبيان وفزارة. وبذلك استتبَّ الأمر للمسلمين. إلى حدود الشام وازدادوا عزَّةً وقوةً ومنعة.
أما توقعات قريش فكانت عكس ذلك. فلقد تصوروا أن المسلمين سوف يهزمون في مؤتة. فعمدوا من ثم إلى نقض صلح الحديبية بتصرفات مسيئة للمسلمين مما حدا بالرسول أن يجهز لفتح مكة.
أسلم بنو هاشم، وعلى رأسهم العباس بن عبد المطلب. ثم أسلم أبو سفيان حين رأى أن لا مناص من أن يفعل، وأنه قد أحيط به. أي أنه أسلم كارهاً أو مكرهاً أمام الظروف المستجدة. وشَّتان بين دواعي إسلام كلٍ من الرجلين العباس وأبو سفيان.
وقد أعقب فتح مكة انتشار الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية. ولكن بعضاً من القبائل شاءت أن تحارب المسلمين، فوقعت غزوة حنين وغزوة الطائف إلى أن جاءت، بعد ذلك غزوة تبوك بين المسلمين والروم.


* * *

كشف المنافقين والمتخلفين
ومن الظواهر اللافتة، التي يمكن حسبانها شواهد غير قابلة للجدل أن تنزيل القرآن كان مواكباً، في بعض الأحوال، للأحداث والوقائع التي يمر بها المسلمون. أو ينزل سابقاً لها. يكشف عن ملابساتها، أو يتنبأ بنتائجها قبل وقوعها. أو دالاً النبي على ثغراتٍ أو تآمر عليه من بعض مَنْ هم حوله من اليهود والمنافقين، وإضراب هؤلاء وأولئك. من هذا القبيل:
عندما دعا الرسول المسلمين إلى التهيؤ لقتال الروم من جديد تثاقل المنافقون وبدأوا يلتمسون الأعذار. وجعلوا يتهامسون فيما بينهم، ويهزأون بدعوة محمد إياهم لهذا الغزو النائي في ذلك الجو المحرق. ولقتال من؟ الروم وما أدراك ما الروم يومئذ. فنزلت فيهم سورة التوبة إذ نصح بعضهم بعضاً ألا ينفروا في الحر. فتلك كانت ذريعتهم.
.. وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (التوبة:81-82)
ملاحظة جديرة بالتنويه هنا نظراً لأهميتها ودلالتها هي أن أحداً لم يخبر الرسول عن موقف هؤلاء وما صدر عنهم من قول. ولكن الله هو الذي أنبأه بذلك، مما أثار الرعب في قلوبهم. كما نزلت في حقهم هذه الآية أيضاً:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (التوبة:49)
ولكن الروم حين بلغهم أمر جيش المسلمين، وما هو عليه من قوة، آثروا الانسحاب والاحتماء بحصون الشام. وعندها لم ير محمداً محلاً لتتبعهم داخل بلاد الشام. وكان من شأن هذه الموقعة التي لم تقع فيها حرب أصلاً، أنها كشفت للنبي حال المنافقين الذين نزل فيهم بعد ذلك قوله تعالى، مقروناً بالإشادة لما كان من النبي، ومن معه من المهاجرين والأنصار في الساعات الحرجة:
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة:117-118)
نلاحظ في سائر الآيات السالفة الوصف الدقيق، والعبارة المكثفة، القصيرة أو الطويلة حسب مقتضى الحال، لخلق التأثير المطلوب، في سهولة ممتنعة ويسر عسير تقليده ومحاكاته. ونلاحظ مفارقة لغة القرآن للغة قريش السائدة. ببعدها عن الإغراق في الغريب والعويص من المفردات التي كانت مألوفة لديهم في خطابهم وشعرهم. لغة خاصة غير مسبوقة، أبلغ في التعبير تلميحاً أو تصريحاً مما ساد في تلك البيئة البدوية الخشنة. كلام ينساب رقراقاً كالماء النمير، في مجرى منبسط مريح لا تعترضه نتوءات ولا التواءات. وكما يبلغ ماء النهر غايته ومنتهاه عند مصبه، تبلغ الآيات القلب وتستقر في حنايا النفس، مثيرةً فيها الشجن حيناً، واليقين حيناً، والخشوع أمام عظمة بارئ الكون في سائر الأحيان.
الثلاثة الذين خلّفوا وأشارت إليهم الآيات الكريمة هم:
كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وكان محمد (صلعم) قد سبق أن أمر المسلمين بالإعراض عن هؤلاء خمسين يوماً لا يكلمهم فيها أحد، ولا تصل بينهم وبين مسلم تجارة. أي مقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، إلى أن ((ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم)) فتاب الله عليهم ليتوبوا وليكون في ذلك عبرة لمن هم على شاكلتهم.



* * *

غزوة أحد والدروس المستفادة
كانت غزوة أحد من أشد الغزوات وقعاً على النفوس، وأكبرها أثراً في مسيرة الدعوة. فلو لا عودة قلة من مقاتلي المسلمين إلى مواقعهم، بعد الهزيمة التي ألَّمت بهم، بسبب انصراف الرماة عن مواقعهم، لولا عودتهم للالتفاف حول الرسول عليه السلام، والصمود معه أمام فرسان قريش، وعلى رأسهم خالد بن الوليد ــ لم يكن قد أسلم بعد ــ لكانت العاقبة وبالاً على المسلمين. ولكن الله سلَّم وعصم نبيَّه ومكَّنه من الثبات والصمود هو ومن معه تحقيقاً لوعده بأن يعصمه من الناس وبأن ينصره وأن يظهر دينه على الدين كله.
ونستعرض شيئاً يسيراً من وقائع تلك المعركة التي حفلت بأحداث جسام على قدر كبير من الخطر وبالغ الأثر، كما كانت درساً بليغاً للمسلمين، في ضرورة الالتزام بما يأمرهم به قائدهم من جهة، ودرساً في الجهاد والصمود وصدق العزيمة وما يمكن أن تحققه من معجزات، من جهة ثانية.
لم يهدأ لقريش بال بعد غزوة بدر. اجتمع كبراؤها وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل. استنفروا الأحابيش والقبائل. والتقى الفريقان. سبعمائة من المسلمين في مواجهة ثلاثة آلاف من مقاتلي قريش. وخرجت النساء من قريش وعلى رأسهن هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان، التي قتل أبوها وأخوها وأخذن ينشدْن ويشجِّعن الرجال على القتال. وكانت هند قد وعدت (وحشي الحبشي)، مولى جبير، خيراً كثيراً إن هو قتل حمزة عم النبي. كان حمزة من أعظم أبطال العرب وشجعانهم، وهو الذي قتل أبا هند وأخاها. يصف حبشي كيف أصاب حمزة في مقتل يومئذ، ثم قعد بعيداً عن المقاتلين، إذ اعتبر أنه قام بالمهمة التي أوكلتها إليه هند يقول: (لم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق).
تراجع مقاتلو قريش ثم ولَّوْا منهزمين، مما أغرى الفرسان الذين كانوا على رأس الجبل، وكان عليه السلام أوصاهم بألاَّ يبرحوا مواقعهم حتى لو رأوه يقتل ومن معه. ولكن هؤلاء حسبوا أن المعركة انتهت فبادروا إلى الانقضاض على غنائم جيش قريش المنهزم. عندما رأى خالد بن الوليد ذلك اهتبل الفرصة فشدَّ برجاله على من بقي من الرماة فأجلاهم. كما حدث أن صاح صائح بالناس أن محمداً قد قتل، فازدادت الفوضى وتدافع مقاتلو قريش إلى الناحية التي كان فيها، وكلٌّ يريد أن يكون له في قتله يدٌ يفاخر بها الأجيال. هنالك أحاط المسلمون القريبون بالنبي، ومن بينهم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص. ومن أروع المواقف وأدعاها إلى الإعجاب والعجب معاً ما صنعه الصحابيُّ أبو دجانة، فقد ترَّس أبو دجانة نفسه دون رسول الله، فحنى ظهره والنبْل يقع فيه حتى وقع شهيداً وكذلك كان موقف أنس بن النضر الذي قاتل قتالاً شديداً ذوداً عن النبي عليه السلام، حتى استشهد وقد أصيب بنحو سبعين ضربة. ويذكر التاريخ أم عمارة الأنصارية التي خرجت أول النهار ومعها سقاء فيه ماء تدور به على المسلمين المجاهدين. فلما حاقت بهم الهزيمة، ألقت سقاءها واستلت سيفاً، وقامت تقاتل حتى أثخنتها الجراح.
فرحت قريش بالنصر. وأما هند فلم يكفها قتل حمزة بل انطلقت هي والنسوة التي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين، بجدع الآذان والأنوف يجعلن منها قلائد وأقراطاً. ثم عمدت إلى بقر بطن حمزة. فأخرجت كبده وجعلت تلوكها بأسنانها. كان الموقف شديداً إثر انتهاء المعركة على النبي عليه السلام. لاسيما حين رأى حمزة على تلك الحال. حزن من أجله أشد الحزن وقال: (لن أصاب بمثلك أبداً، ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليَّ من هذا. والله لئن أظهرنا الله عليهم يوماً من الدهر لأمثلنَّ بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب)( ). وفي هذا نزل قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (النحل:126-127). فعفى رسول الله وصبر ونهى عن المثلة.
وهكذا ترى أن القرآن يواكب الأحداث الجارية يومئذ خطوة فخطوة ومرحلة فمرحلة. خلَّف المسلمون وراءهم سبعين من القتلى، وذلك لعصيان الرماة أمْر النبي واشتغالهم عن العدو بغنائمه.
أظهر اليهود أشد السرور لما كان من هزيمة المسلمين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول. وبدأ المنافقون واليهود يرفعون رؤوسهم ضاحكين من المسلمين يسألونهم: إذا كانت بدر آية من الله برسالة محمد فماذا عسى أن تكون آية أحد وماذا تكون دلالتها( )؟
كما أظهروا تفضيلهم الوثنية على الإسلام. أخذ بنو النضير من بينهم بفكرة تأليب العرب على محمد ومن معه، فخرج نفرٌ منهم من بينهم حييّ بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق إلى قريش ليخبروها بأنهم معها إذا ما أتوا المدينة لقتال محمد. سألتهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. وهنا تتنزل الآيات على الرسول عليه السلام في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (النساء:51-52)
(وفي موقفهم هذا أي تفضيلهم وثنية قريش على توحيد محمد. يقول كاتب يهودي، الدكتور إسرائيل ولفتسون، في كتابه: (تاريخ اليهود في بلاد العرب)" كان من واجب هؤلاء ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم، لأن بني إسرائيل كانوا مدة قرون حاملي راية التوحيد بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد( ).


* * *

غزوة الخندق وتآمر بني قريظة
لم يكف هؤلاء ما قالوا لقريش حتى تنشط لمحاربته، بل خرجوا إلى غطفان من قيس غيلان، ومن بني مرة، ومن بني فزارة، ومن أشجع ومن سليم ومن بني سعد، ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر، وما زالوا بهم يحر ضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد، ويحمدون لهم وثنيتهم ويعدونهم النصر لا محالة. وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود، وخرجت قريش وعلى رأسها أبو سفيان في أربعة آلاف مجنَّد، وثلاثمائة فارس، وخمسمائة وألف ممتطٍ بعيره. وعقدوا اللواء في دار الندوة لعثمان بن طلحة، الذي قتل أبوه وهو يحمل لواء قريش في أحد. ساروا جميعاً في عشرة آلاف رجل قاصدين المدينة. اتصل النبأ بمحمد والمسلمين معه، فأصاب بعضهم الفزع. ها هي ذي العرب كلها أجمعت أمرها للقضاء عليهم. أشار سليمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها. فسارعوا إلى ذلك. وكان النبي يرفع التراب ويشجع المسلمين. تمَّ حفر الخندق في ستة أيام. فوجئت قريش بالخندق. أما محمد فقد خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين. ورأت قريش والعرب معها أن لا سبيل إلى اجتياز الخندق فاكتفت بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام متتابعة. كان الوقت شتاءً، والخيام التي ضربوا أمام يثرب لا تحميهم، فأصيبوا بالإحباط وأخذوا يفكرون في العودة أدراجهم. لكن حيي بن أخطب رأى أن يغامر بآخر سهم عنده. فقام باتصالات ومناورات يقنع اليهود من بني قريظة بنقض عهدهم لمحمد، وذهب إلى الأحزاب يبلغها ذلك، وكلما رأى منهم تهاوناً وضعفاً شدَّد عليهم ومنَّاهم بالدعم وبفتح ثغرات ينفدون منها خلف خطوط القتال، بما فيها الخندق. بل وأن اليهود سوف يقاتلون معهم. وبالفعل استمهل الرجل الأحزاب عشرة أيام، ريثما يُعدُّ اليهود أنفسهم بعدة القتال. وذلك ما فعلوا. فقد ألَّفوا ثلاث كتائب لمحاربة النبي. فأتت كتيبة ابن الأعور السلمي من فوق الوادي. وأتت كتيبة عُيَيْنَة بن حصن من الجنب، ونصب له أبو سفيان من قِبَل الخندق. وفي هذا الوقت نزلت هذه الآيات:
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (الأحزاب:10-13)
(نتساءل هنا أين كان بحيرة وورقة أو غيرهما آنئذٍ.. والغلام الأعجمي هل واكبوا الموقف وألَّفوا لمحمد هذه الآيات التي تسمي الأشياء بأسمائها عند وقوع الأحداث نفسها وتحدد الأفعال والأقوال والأحوال النفسية وكل ما ورد فيها من تفاصيل..!!)
لجأ الطرفان إلى ما يشبه اليوم الحرب الإعلامية، من شائعة ودسيسة ووقيعة. مما أسفر في نهاية المطاف عن ارتياب كل طرف من أطراف التحالف بالآخر، وبالتالي تَضعضُع جبهة الأحزاب ونشوب الخلاف فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم ويهود بني قريظة من جهة ثانية. واليهود كما هو شأنهم دائماً ((كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم)) عادوا فتنصَّلوا من عهدهم لقريش ومن معها من الأحزاب، فادعوا أنهم لا يقاتلون يوم السبت مما أثار أبا سفيان وجماعته، الذين أعدُّوا للقتال عدَّته على أن يبدأ ذلك السبت. فأرسلوا إليهم: اجعلوا سبتاً مكان هذا السبت فإنه لابد من قتال محمد غداً، ولئن خرجنا لقتاله ولستم معنا لنبرأنَّ من حلفكم ولنبدأنَّ بكم قبل محمد. فلما سمعت قريظة هذا كرَّرت أنها لا تتعدى السبت. زاد هذا في انقسام الأحزاب. أبدت غطفان ترددها في الإقدام على القتال متأثرة بما كان بدأها به من وعدها بثلث ثمار المدينة.
(جعل محمد يفكر في الوسيلة إلى الخلاص. ولم تكن الوسيلة مواجهة العدو بطبيعة الحال. فلتكن الحيلة إذاً. ذهب نُعيْم بن مسعود بأمر الرسول إلى قريظة، وكانت لا تعرف أنه أسلم، وكان له نديماً في الجاهلية. فذكَّرهم بما كان بينه وبينهم من مودة. ثم ذكر لهم أنهم ظاهروا قريشاً وغطفان على محمد. وقريش وغطفان قد ترتحلان فتخليان ما بينهم وبين محمد فينكل بهم. ونصح لهم ألا يقاتلوا مع القوم حتى يأخذوا منهم رُهُناً. واقتنعت قريظة بما قال. ثم ذهب إلى قريش فأسرَّ لهم أن قريظة ندموا على ما فعلوا من نكث عهدهم مع محمد، وأنهم عاملون على استرضائه وكسب مودته بأن يقدموا له من أشراف قريش من يضرب أعناقهم. ولذلك نصح لهم إن بعثت إليهم اليهود يلتمسون رهائن من رجالهم ألا يبعثوا منهم أحداً. وصنع نُعيم مع غطفان ما صنع مع قريش. دبَّت الشبهة من كلام نُعيم إلى نفوس قريش وغطفان، فتشاور زعماؤهم، فأرسل أبو سفيان إلى كعب سيد بني قريظة يقول له: قد يا كعب طالت إقامتنا وقد رأيت أن تعمدوا إليه في الغداة ونحن من ورائكم. فعاد رسول أبي سفيان إليه بقول زعيم قريظة إن غداً السبت وإنا لا نستطيع القتال والعمل يوم السبت. وقد غضب الله على قوم منهم تعدَّوْه فجعلهم قردةً وخنازير. ثم أشاروا إلى الرهائن حتى يطمئنوا لمصيرهم. فلما سمع ذلك أبو سفيان لم يبق لديه في كلام نُعيم ريبة. فتحدث إلى غطفان فإذا هي تتردد في الإقدام على قتال محمد متأثرة بما كان قد بدأها من وعده ثلث ثمار المدينة.. ( )
(وهكذا تضعضع حلف الأحزاب، وبقيت هنا مسألة خيانة اليهود لمحمد والمسلمين، فضلاً عن تواطؤهم مع الأعداء على مدينتهم نفسها بتحالفهم معهم سرّاً، الأمر الذي لو أفضى إلى نصر يتحقق لأولئك على المسلمين لكان في ذلك القضاء على الدعوة.. ولكن هل يحدث ذلك وقد وعد الله رسوله والمؤمنين بالنصر على أعدائه؟
جدير بالذكر أن هؤلاء اليهود كانوا مصدر الفتن والمنازعات وإضرام الحروب في الجزيرة العربية كلها، لاسيما في يثرب ــ قبل أن يسميها الرسول محمد عليه السلام بالمدينة بين الأوس والخزرج على مدى أجيال متعاقبة قبل مجيئه إليها مهاجراً بدين الله.
(ولما كان الليل عصفت ريح شديدة، وهطل المطر غزيراً، وقصف الرعد، ولمع البرق، واشتدَّت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وكفأت قدورهم وأدخلت الرعب إلى نفوسهم، وخيل إليهم أن المسلمين انتهزوها فرصة ليعبروا إليهم، فقام طليحة بن خويلد فنادى: إن محمداً قد بدأكم بشرّ فالنجاة النجاة… وقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد أخلفتنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره، فارتحلوا فإني مرتحل..
(وأصبح الصبح ولم يجد محمد منهم أحداً. فانصرف راجعاً إلى المدينة والمسلمون معه، يرفعون أكفَّ الضراعة إلى الله شكراً أن كشف الضرِّ عنهم وأنه كفى المؤمنين القتال).
وقد يطول بنا الحديث لو ذهبنا إلى غزوات أخرى كان اليهود أطرافاً فيها: خيبر سنة سبعٍ، وبنو النضير سنة أربع، وبنو المصطلق سنة ست وبنو قينقاع.
(وأنزل الله تعالى في أمر الخندق، وأمر بني قريظة من القرآن، القصة في سورة الأحزاب. يذكر فيها ما نزل بهم من البلاء، ونعمته على النبي ومن معه، وكفايته إياهم حين فرَّج ذلك عنهم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (الأحزاب:9)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا.. (الأحزاب:20) أي قريش وغطفان.
.. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (الأحزاب:20)
(ثم ذكر المؤمنين وصدقهم وتصديقهم بما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به فقال:
وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (الأحزاب:22)
(أي صبراً على البلاء، وتسليماً للقضاء، وتصديقاً للحق، لما كان الله تعالى وعدهم ورسوله صلى الله عليه وسلم( ).
كانت تبوك آخر الغزوات في حياة الرسول الحافلة بصور من النضال، عزَّ نظيرها في أي زمان ومكان. لم يتخلَّلها يوم راحة واحد في ساعة من نهار أو ليل، مقاتلاً حيناً، مفكراً في أمور الإسلام والمسلمين حيناً، في أمور الأمة التي أنشأها، في كل الأحيان. يحمل على عاتقه همومهم، ومسؤولية مصيرهم، متعبِّداً، معلِّماً، محذِّراً، شارحاً، مفسِّراً، مبشِّراً ونذيراً، على مدى ثلاث وعشرين سنة، هي عمره كله بعد البعثة. لم يذق خلالها طعماً لنعيمٍ أو ملذة، أو نصيباً من الدَّعة. لم تتوقف معاركه مع الأعداء أبداً، سواء كانت في شأن الدعوة فكراً وعقيدة، فقهاً وتشريعاً أو في ميادين القتال.
كثيرة هي الغزوات التي وقعت بين الرسول وأعداء دعوته. وليس في نيتنا التوسع في الحديث عنها جميعاً. وقد جئنا بأمثلة منها لكي نبين:
1- صور المعاناة والضنك التي لقي الرسول من قبل خصومه في سبيل الدعوة إلى الله، والتي ما كان أغناه عنها لو أنه وافق قريشاً منذ البداية على عروضها (السخية)، التي قدَّمتها، والتسليم له بما كان يريد منها لو شاء دون مسألة الرسالة والنبوة.
2- مواقف اليهود في الجزيرة في كل الظروف، في عداوتهم للإسلام وتآمرهم عليه. الأمر الذي لم يتوقف حتى أيامنا.
3ــ كيف أن القرآن كان يواكب الأحداث الجارية. ويبعث الله إلى رسوله بالروح الأمين، ليبلغه ما تقتضيه المواقف منها والتصرف حيالها. فضلاً عن كشف تلك الآيات عما كان يحاك ضد الرسول من قبل أعدائه والمتربصين به، وكذلك التعريف بالمنافقين والخصوم، إلى جانب الكشف عن خفايا النفوس لمن حوله من المؤمنين ومن في مواجهته من المشركين.
4- إثارة السؤال: أين هم أولئك الذين زعموا بأنهم يلقنون محمداً تلك الآيات؟ هل كانوا معه ملازمين له كل ذلك الوقت؟ إذن لعرف المقربون إليه بذلك… هل ماتوا أو هم انفضوا من حوله، أم هم رحلوا عن الديار أم انضموا إلى الخصوم؟.. وهل كان لشيءً من هذا أن يحدث ويظل سرّاً مطوياً؟؟ هل كان يمكن لهذا البحر الزاخر من الأحداث أن يظلّ خافياً عن الأسماع والأبصار والأفهام؟


* * *

حديث الإفك
أسبابه ونتائجه
واكب التنزيل الحياة الاجتماعية والأسرية للمسلمين. فتنزلت الآيات عن أزواج النبي، وعن نساء المسلمين وما ينبغي أن يكنَّ عليه من تقوى واحتشام في المظهر والمخبر والمسلك. وقضايا الزواج والإرث، والعلاقة السليمة بين الأزواج والآباء والأبناء. من بين ذلك كان موضوع زواج النبي عليه السلام من السيدة زينب بنت جحش، وما كان من التباس ــ وربما لغط في هذا الشأن ــ كذلك الأمر في شأن السيدة عائشة فيما عرف من بعد بحديث الإفك. وفي مجريات ووقائع صلح الحديبية بمقدماته الخطيرة ونتائجه الباهرة، حسب رؤية الرسول المسبقة لها، وما سوف تؤول إليه، خلافاً لما ارتأى مَنْ حوله من الصحابة وعامة المسلمين.
ونحن إذ نعرض لأمثلة من هذه الوقائع، وما تنزَّل فيها وحولها من قرآن، فإنما نسعى من بين ما نسعى إليه التدليل على أن القرآن في كثير من سوره كان يأتي منجَّماً حسب الوقائع، مواكباً لحياة المجتمع الإسلامي الجديد، مما يؤكد بأنه وحي من عند الله، وليس من لدن من زعموا أنهم يلقِّنونه محمداً أو أنه من عند محمد نفسه.
نروي عن السيدة عائشة ما جاء على لسانها هي من جانب، وما دار حول المسألة من جوانب وجهات أخرى، ولكن بإيجاز قدر المستطاع، ونقلاً بتصرف عن كتب السيرة والمراجع بما لا يخرج عن الأصل والسياق:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقْرع بين نسائه فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق خرج سهمي عليهن معه. وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي فيرفعونه إلى ظهر البعير. ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجَّه قافلاً، ثم نزل منزلاً قريباً من المدينة فبات به بعض الليل ثم أذن في الناس بالرحيل. وكنت خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي، فانسلَّ من عنقي ولا أدري، وحين التمسته ولم أجده، رجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه، وقد أخذ الناس في الرحيل، حتى وجدته. أخذ القوم الهودج وهم يظنون أني فيه وانطلقوا، فرجعت إلى العسكر وما فيه من مجيب. فتلفعت بجلبابي واضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لَيُرجَعُ إليّ.
ثم تمضي في رواية القصة التي مؤدَّاها أن رجلاً من المسلمين، هو صفوان بن المعطل السلمي يمرُ بها فلما رآها قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما خلَّفك يرحمك الله؟ فما كلمته. قرَّب البعير فقال: اركبي واستأخري عني. إلى أن قدما المدينة. مرضت وعلى خلاف ما كان يعاملها رسول الله في مثل هذه الحالة لمست منه جفاء فأنكرت ذلك منه.؟ فانتقلت إلى بيت أمها تمرِّضها بضعاً وعشرين ليلة، حين أخبرتها صديقة لأمها بما حدث. قالت: أوَ ــ ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي. قلت لأمي: يغفر الله لك. تحدَّث الناس بما تحدَّثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً. قالت: أي بنيَّة، خففي عليك الشأن. فو الله لقلَّما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثَّرن وكثَّر الناس عليها. ثم علمت أن رسول الله قام يخطب في الناس. فقال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي. وكان كبْرُ ذلك عند عبد الله بن أبي سلول ومسطح وحمنة بنت جحش (أخت زينب). حدثت مشادة إثر ذلك بين رجال من الأوس ورجال من الخزرج. فضَّها الرسول بالحكمة. (ثم دعا علياً بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما. فأثنى زيد عليَّ خيراً. أمَّا علي فقال يا رسول الله إن النساء لكثير وسل الجارية فإنها ستصدقك. قالت الجارية والله ما أعلم إلاّ خيراً.. الخ. ثم دخل عليَّ رسول الله وعندي أبواي وامرأة من الأنصار أبكي وهي تبكي معي. فجلس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة.. إنه كان ما قد بلغك من قول الناس فإن كنت قد قارفت سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة من عباده. قالت فو الله ما هو إلا أن قال لي ذلك، فقلص دمعي حتى ما أحسُّ منه شيئاً، وانتظرت أبويَّ أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يتكلَّما. قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه. فلما استعجما عليّ استعبرتُ فبكيتُ، ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً. والله إني لأعلم لئن أقررتُ بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة، لأقولنَّ ما لم يكن، ولئن أنكرت ما يقولون لا تصدقونني، ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره، فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: "فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون. قالت: فو الله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشَّاه من الله ما كان يتغشَّاه، فسجِّي بثوبه ووضعت له وسادة من أدّم تحت رأسه. فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فو الله ما فزعت ولا باليت، قد عرفتُ أني بريئة وأن الله عزَّ وجل غير ظالمي، وأما أبواي، فو الذي نفس عائشة بيده، ما سرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجنَّ أنفسهما، فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. جلس رسول الله وإنه ليتحدر من الجُمان في يوم شاتٍٍ. فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك. قالت قلت: بحمد الله ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثامة وحسان بن ثابت، وحمْنة بنت جحش وكانوا مَنْ أفصح بالفاحشة، فضربوا حدَّهم. الآيات التي نزلت:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النور:11). وما بعدها.
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (النور:12-19)
وفي هذه المناسبة نزلت كذلك عقوبة رمي المحصنات:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور:4)
يقول السير وليم موير المستشرق تعليقاً على هذا الحادث:
(إن حياة عائشة قبل هذا الحادث وبعده تدعونا إلى القطع ببراءتها وعدم التردد في إدحاض أية شبهة أثيرت حولها).
ولكن مستشرقين آخرين دفعتهم أهواؤهم، إلى الافتراء وإلى التخرُّص في هذه المسألة محاولين استغلالها أسوأ استغلال. أليست هذه فرصة سانحة للقبض على هنة تعينهم على أداء مهمتهم التي كلفوا بها، أو تطوعاً إن كانت من تلقاء أنفسهم، بما انطوت عليه تلك الأنفس من حقد وضغينة على صاحب الرسالة؟ من ثم زعم هؤلاء أن محمداً (عليه السلام) عمد إلى تبرئة زوجته الأثيرة بآيات من عنده. وقد نسي هؤلاء أنهم قالوا قبل ذلك أن آخرين يلقنونه الآيات. كما نسوا أن ذلك ــ لو كان صحيحاً ــ لاقتضى أن يختلف الأسلوب بين ما لُقِّنه وبين ما ألّفه..! ونحن هنا نكتفي بأن نحيلهم على النصوص القرآنية نفسها لنسأل:
هل اختلفت الآيات التي تنزلت بشأن عائشة عنها في سائر الكتاب؟ هل ألفى أحدٌ فارقاً في الأسلوب أو في اللغة أو في النهج، وهذه أمور تدخل في باب التحليل النقدي، يستطيع أهل الاختصاص فيها أن يتحرَّوْا، وأن يدققوا، وأن يمحِّصوا لكي يتأكدوا من ذلك كله. بمعنى أنه لو كان النص من عند محمد لبدا ذلك واضحاً جليّاً، بحيث يماثل حديثاً من أحاديثه ولا يماثل نصّاً قرآنياً بالقطع.
وسؤال آخر: لماذا لم يبادر محمد عليه السلام، منذ البداية للإتيان بهذه النصوص المبرئة لعائشة؟ لا سيما وأن المسألة كانت في أوجها، حين كانت عواطفه وأفكاره أكثر حدة وشدة منها فيما تلا من أيام. وكذلك كانت المشكلة في المجتمع المديني من حوله. لماذا صمت كل هذا الوقت إذن ثم جاءته الآيات على حين غرة؟ وأين جاءت؟ تنزلت الآيات في منزل والدي عائشة وإبَّان حواره معها وبحضور الأبوين وتلك المرأة من الأنصار؟ فيخرج من فوره ليتلوها على الناس، دون أن يخشى محاذير ذلك من تأويلات وتخرُّصات.. ولكن كيف يخشى ذلك أو يحسب له أيّما حساب والآيات تنزل بها الوحي الأمين؟
وأسئلة أخرى كثيرة: ألم يكن في وسع محمد، وقد دانت له العرب، قطع ألسنة المروِّجين والمنافقين والمرجفين قبل أن تعم الشائعة فتختفي القصة كلها؟ كان ذلك ممكناً، ولكنه لم يفعل وما كان له أن يفعل، وهو رسول الله معلِّم البشرية، القدوة في المسلك الحضاري والإنساني والأخلاقي.
هل من أحد، في عرف البشر، بقادر على التصرف في مسألة على هذا القدر من الحساسية، بمثل هذه الحكمة، للتثبت من الحقيقة ــ سواء كانت له أو عليه ــ دون تسرُّع من جانبه أو استغلال للنفوذ والمقدرة التي يملك بين يديه؟ ما كان أيسر عليه أن يستمع ــ مثلاً ــ إلى قول الإمام علي بأن النساء كثير فيطلق أو يعاقب أو.. أو.. ولم يكن ذلك مستهجناً في عرف القوم يومئذ. زوج رحيم كريم واثق. وقد لا نعدو الحقيقة إذ نحسب أنه لم يكن يدري بأن قرآناً سوف يتنزل عليه في المسألة. لكن هذا لا ينفي أنه ربما كان يأمل أن يسعفه الله بآيات من عنده.
ونسأل المعاصرين من دعاة حقوق الإنسان والمنافحين عن حقوق المرأة وكرامتها في هذا العصر. أين هم من هذا الذي حدث؟ هل من أحد كرَّم المرأة واحترم إنسانيتها ومشاعرها وكيانها، كما فعل عليه السلام إزاء عائشة في موقف عصيب، يستثير الحجارة الصمَّاء حين تطعن الكبرياء في الشرف والعرض؟
كانت الحادثة والقصة برمتها، إلى أن تنزل القرآن فيها بالقول القاطع، اختباراً وأيّ اختبار، ودرساً وأيّ درس لسائر المسلمين..


* * *

عهد الحديبية
وهذا مثال آخر يرينا كيف أن القرآن كان يواكب كثيراً من الأحداث، حتى السياسية منها، كمسألة عهد الحديبية وتطورات الموقف بين الرسول وقريش. ولأن القرآن من عند الله، وليس غيره، فقد كانت تتنزل آيات تخالف وجهة النظر عند النبي نفسه حول مسألة ما، ومن الطبيعي أنه لن يناقض نفسه، بحيث يبدي رأياً أو يتصرف حسب تصوُّر عنده، ثم يخرج على الناس بما يخالفه. كثيراً ما كان يحدث شيء من هذا القبيل، مما ينبئ بأن هناك جهة تملي وتوجِّه وتقرِّر وترشد.. مَنْ تكون تلك الجهة التي تلزم دائماً الجميع عندما تقول كلمتها؟ لن تكون غير الله سبحانه وتعالى. ولنعرض في إيجاز قدر المستطاع مسألة عهد الحديبية، هذه التي ترتبت عليها نتائج جمَّة فاعلة وفاصلة، في سيرورة الدعوة الإسلامية، وصاحبها عليه السلام.
انقضت ست سنوات منذ الهجرة والمسلمون يتحرَّقون شوقاً لزيارة الكعبة. يريدون الحج والعمرة.. وإنهم لمجتمعون ذات صباح بالمسجد أنبأهم النبي بما أُلهم في رؤياه الصادقة بأنهم سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين. وما كاد القوم يسمعون ذلك حتى علت أصواتهم بالتكبير وبحمد الله، وانتقل نبأ الرؤيا إلى سائر أنحاء المدينة. ولكن كيف يدخلون المسجد الحرام، وقريش كانت آلت على نفسها منذ هاجر محمد والمسلمون أن يصدُّوهم عنه، دون سائر العرب، إمعاناً في التحدي من جهة، وعملاً على وقف اندفاع الدعوة وانتشارها بين الناس من جهة أخرى. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة:217)
وقوله تعالى بعد غزوة بدر في مسألة الصدِّ عن المسجد الحرام:
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (لأنفال:34-36)
آيات كثيرة تنزلت في هذا الشأن. ولكن قريشاً ظلت على عنادها إلا أنها وقعت في حيرة من أمرها، فما من أحد من العرب حتى الذين لم يسلموا، يقرُّها على موقفها ذلك. وما عساها تقول لقوم جاءوا محرمين، يتقدمهم الهدي، لا يبتغون غير الطواف بالبيت فريضة تؤديها العرب جميعاً؟ جنَّدت قريش عدداً من المقاتلين على رأسهم خالد بن الوليد لتحول بين محمد وأم القرى. لكن محمداً تابع مسيرته وقال: (يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلَّوْا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)( ).
وقف يفكر ماذا عساه أن يصنع، فهو لم يخرج من المدينة غازياً، لكن قريشاً تنوي صدَّه بقوة السلاح، فدفعت بفرسان مكة حتى أصبح هؤلاء على مرمى النظر، لكن رأيه ظلَّ مستقرّاً على سلوك سياسة السلم والذهاب ـ كما اعتزم منذ البداية إلى مكة حاجاً. قرر اتخاذ طريق آخر بناء على مشورة أحدهم حتى أفضت بهم إلى سهل عند منقطع الوادي، حتى خرجوا على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة. فلما رأت خيل قريش ما صنع محمد وأصحابه كرُّوا راجعين أدراجهم للدفاع عن مكة إذا دهمها المسلمون. ولما بلغ المسلمون الحديبية بركت القصواء (ناقة النبي)، وظنَّ المسلمون أنها جهدت. فقال رسول الله: "إنما حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها". تردَّدت قريش حائرة ماذا تصنع، ثم أرسلت إليه من يقنعه بالعودة، وفي نفس الوقت التعرُّف على قوته. وظلت رسلها تروح وتجيء وكان آخرهم عروة بن مسعود الثقفي. لكن مهمته فشلت فعاد إليهم يقول: (يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد وأصحابه. لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يُسلموه لشيء أبداً فتروْا رأيكم).
حاول النبي أن يمتحن صبرهم فأرسل إليهم عثمان بن عفان زوج ابنته. غاب عنهم عثمان طويلاً حتى اعتقدوا أن قريشاً قتلته. في حين كان الرجل يفاوضهم ويفاوضونه للخروج من المأزق دون قتال، ولكن أيضاً دون دخول محمد مكة. ولما اشتد القلق بالمسلمين دعا محمد عليه السلام أصحابه معلناً (لا نبرح حتى نناجز القوم). وقف تحت شجرة في ذلك الوادي فبايعوه جميعاً على ألا يفرُّوا حتى الموت. بايعوه وكلهم ثابت الإيمان. ممتلئ حماسة لمناجزة من غدر وقتل في الشهر الحرام. وكانت بيعة الرضوان التي نزل فيها قوله تعالى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (الفتح:18)
تبدَّى للمسلمين أن الحرب آتية لا ريب فيها. وجعل كل منهم ينتظر يوم الظفر أو الاستشهاد بنفس راضية وقلب مطمئن. وإنهم لكذلك ترامى إليهم أن عثمان لم يقتل، ولم يطل بهم الأمر حتى جاء عثمان إليهم. على أن بيعة الرضوان هذه بقيت مع ذلك، كبيعة العقبة الكبرى علَماً في تاريخ المسلمين. كان محمد يستريح إلى ذكرها لما كشفت عنه من متانة الروابط بينه وبين أصحابه ولما دلَّ عليه من مبلغ إقدامهم على خوض القتال معه في سبيل الله إن هي فرضت عليهم.
عاد عثمان فأبلغ محمداً ما قالت قريش ومجمله أنهم لن يدخلوا مكة هذا العام لئلا تضيع هيبتهم بين العرب. وهم أيضاً غير راغبين في القتال في الأشهر الحرم، مما سيترك أثره على سائر العرب الذين لن يأمنوا على تجارتهم في المستقبل حين يأتون مكة وأسواقها.
أوفدت قريش سهيل بن عمرو ليصالح محمداً على شرط واحد هو أن يرجع عنهم عامه هذا.
ولما انتهى سهيل إلى الرسول جرت محاولة طويلة للصلح وشروطه كادت تنقطع في بعض الأحيان. كان المسلمون من حول النبي يضيق بعضهم بأمرها صبراً، لتشدد سهيل في مسائل يتساهل النبي في قبولها. ولولا ثقة المسلمين المطلقة بنبيهم لما ارتضوا ما تم الاتفاق عليه. حتى أن عمر بن الخطاب ذهب إلى أبي بكر ودار بينهما الحديث التالي:
عمر: يا أبا بكر؟، أليس رسول الله؟
أبا بكر: بلى.
عمر: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟
أبو بكر: يا عمر ألزم غرزك( ) فإني أشهد أنه رسول الله.
عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ورد النبي على عمر حين خاطبه في المسألة بقوله عليه السلام في ختام حديثهما: (أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيِّعني).
دعا النبي عليّاً بن أبي طالب رضي الله عنه وقال له:
(اكتب بسم الله الرحمن الرحيم). فقال سهيل: أمسك لا أعرف الرحمن الرحيم. بل أكتب باسمك اللهم. قال رسول الله: »اكتب باسمك اللهم«. ثم قال اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو". فقال سهيل: أمسك لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. قال رسول الله: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله..).
ثم كتبت العهدة بين الطرفين وفيها أنهما تهادنا عشر سنين، في رأي أكثر كتاب السيرة، وسنتين في قول الواقدي، وأن من أتى محمداً بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشاً من رجال محمد لم يردُدْه عليه.. وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليها في العام الذي يليه.
أقاموا بالحديبية أيّاماً نحروا فيها الهدي وحلَّقوا وقصَّروا. ومنهم من يتساءلون في حكمة هذا العهد الذي عقد النبي. وإنهم لفي طريقهم راجعين بين مكة والمدينة إذ نزل الوحي على النبي بسورة الفتح:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (الفتح:1-2 إلى آخر السورة).
صدَّقت الحادثات رأي محمد بأسرع مما كان يظن أصحابه في حوادث كثيرة، لا نود الإطالة في شرحها ها هنا. منها حادثة أبي بصير وغيره، مما أسقط الشرط الذي أحفظ عمر بن الخطاب، ونزلت قريش بذلك عما أصرَّ عليه سهيل بن عمرو من ردِّ المسلمين إلى مكة إذا ذهبوا إلى محمد بغير رأي مواليهم.
أما المهاجرات من قريش إلى المدينة فكان لمحمد فيهن رأي آخر. خرجت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من بعد الهدنة، فخرج أخواها عمارة والوليد يطلبان إلى رسول الله أن يردها عليهما بحكم عهد الحديبية. لكن النبي أبى ورأى أن هذا العهد لا ينسحب على النساء حكمه، وأن النساء إذا استجرن وجبت إجارتهن. ثم إن المرأة إذا أسلمت لم تصبح حلاً لزوجها المشرك فوجب التفريق بينه وبينها وفي ذلك نزل قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الممتحنة:10)
وكذلك صدَّقت الحادثات حكمة محمد عليه السلام، وبعد نظره وحنكة سياسته، وأثبت أنه إذ عقد عهد الحديبية فقد وضع حجراً لا ينقض في سيادة الإسلام وانتشاره، وهذا هو الفتح المبين.
اطمأنت العلاقات بعد الحديبية بين قريش ومحمد، إذ أمن كل جانب صاحبه. أما محمد عليه السلام فاتجه بفكره إلى متابعة إبلاغ رسالته للناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، ووجَّه نظره إلى تمهيد أسباب النجاح لطمأنينة المسلمين في شبه الجزيرة وهذا وذاك هو ما صنع، فشرع في إرسال الرسل إلى الملوك في مختلف الدول، وبإجلاء اليهود عن شبه جزيرة العرب إجلاءً تامّاً بعد غزوة خيبر. ولم يكن ذلك تجنِّياً عليهم، أو معاداة لهم لسبب ديني، إنما كان ذلك جزاءً وفاقاً لدورهم التآمري على الإسلام، وخياناتهم التي لو قيض لها النجاح لأفضت إلى أوخم العواقب على الإسلام والمسلمين. موقفه هذه كان سياسياً وليس دينياً.
الغاية من عرض قصة صلح الحديبية ليس فقط التدليل على حكمة محمد عليه السلام، وحصافته وسداد رأيه وحسب، إنما هي إظهارٌ لجانب نكران الذات لديه في تواضع حميد، وتكريسه جهده وفكره وحياته كلها من أجل إنجاح الدعوة دون منٍّ على أحد، أو تفاخر بما صنع وحقق، الأمر الذي عادة ما يصيب معظم الناس ــ كنزعة إنسانية ــ في مثل هذه الأحوال.
هذه الصورة في حدِّ ذاتها شاهد صدق ــ لمن يشاء شهادة ودليلاً ــ على أن محمداً لم يكن سوى نبي الله ورسوله للعالمين، بعيداً عن أي مطمح شخصي، كائناً شأنه ما كان.
رأيناه كيف يتعامل مع مقتضيات الدعوة، والعلاقات مع الحياة والناس في أحلك الظروف وأدقها ببديهة حاضرة، وبراعة مدهشة، وفكر نيِّر، معتمداً اجتهاده ورؤيته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وحين تتعقد الأمور وتتشابك القضايا فتصبح فوق الطاقة، أو توقع في الحيرة بين خيارات كثيرة، بحيث تصعب رؤية الأصوب من بينها للحسم بقرار سليم لا ينطوي على احتمالات غامضة ومجهولة، عندئذٍ يستلهم الوحي فيسعفه بقرآن عربي مبين، ينير له الطريق ويهديه إلى سواء السبيل.


* * *
[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 33 : 07 PM   رقم المشاركة : [12]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الثامن
نبوءات تتحقق في مصائر بشرية


[align=justify]
نبوءات في مصائر بشرية
لأن عداء اليهود للإسلام وللمسلمين كان سافراً، لا هوادة فيه ولا مهادنة، فما فتئت الآيات القرآنية تتنزل في شأنهم، لكي يتبين المسلمون أمرهم ويأخذوا حذرهم حيالهم. من ثم يتحدث القرآن، هنا أيضاً عن عدائهم المتأصل ليس للإسلام وحده، بل وللمسيحية كذلك. القرآن لا يتحدث عن واقعهم وصفاتهم في عهد الرسول وحسب، وإنما كذلك عما سيكون منهم في قابل الأيام، فضلاً عن الإفاضة حول ماضيهم وما كان منهم مع سائر الأنبياء. من ثم فإننا نرى أن هذه الآيات تبدو وكأنها قد تنزلت اليوم. وإنك لن تجد وصفاً لهم أدق وأوفى لكاتب معاصر يعيش بين يدي هذا العصر في رسالة أو كتاب. ومن المدهش أن الآيات التي تنزلت بشأنهم لم تغفل جانباً من صورتهم ومما هم عليه إلا وعرضته في تفصيل واضح شامل، تعرض لمعتقداتهم الفاسدة الضاربة في التيه والضلال، وعن دخائل نفوسهم وما انطوت عليه من خبث ومكر. كذلك عن ممارساتهم العدوانية وجرائمهم وغدرهم، حتى بمن عاهدهم أو وثق فيهم، وفي أمور لم تتوقف أو تفتر على مدى الزمن. يقول تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (البقرة:8-12)

أليسوا هم المفسدين في الأرض حقّاً؟ كانوا كذلك منذ ما قبل المسيح كما في زمن الرسول عليهما السلام، وما برحوا حتى يومنا. يتظاهرون بأن لهم معتقداً يؤمنون به كذباً، وبالولاء لمن يعيشون بين أظهرهم نفاقاً، إلا أنهم في الواقع لا يضمرون غير العداوة والبغضاء. من ذلك خياناتهم للعديد من شعوب أوروبا، الذين يقيمون بينهم كمواطنين، وتآمرهم مع الأعداء على مواطنيهم. وفي أدبيات القرون المنصرمة منذ القرن السادس عشر، نماذج أدبية تتحدث عنهم، منها ــ على سبيل المثال ــ مسرحية شكسبير (تاجر البندقية)، ومسرحية كريستوفر مارلو (يهودي مالطا) وغيرها، وما صنعوه في سبيل إسقاط الخلافة الإسلامية في العقد الثاني من القرن الماضي. وكانت قبيلة منهم تدعى (الدونما) تظاهرت بالدخول في الإسلام قبل ذلك بزمن، حسب خطة رسمت بإحكام ودهاء من قبل كبرائهم أسفرت بالفعل عن سقوط الخلافة وانهيار الدولة العثمانية، وبالتالي هيمنتهم المباشرة حيناً، ومن وراء الستار حيناً، على تركيا الحديثة اقتصاداً، وإعلاماً، وسياسةً، وبصورة خاصة المؤسسة العسكرية التي ظلت منذ ذلك الحين حارساً (أميناً) على تراث (كمال أتاتورك) وأعوانه من اليهود. ذلك كله لأنهم رأوا أنها دولة المسلمين. ساعدهم على تحقيق هدفهم وتنفيذ مخططهم ما ساد تلك الدولة من عناصر التحلل والفساد ــ التي أسهموا هم فيها قبل غيرهم ــ وما لجأت إليه من تفريق وتمييز بين رعاياها في الأقاليم المختلفة وعلى أسس عنصرية واثنية، كالتفريق بين عربي وتركي، وسيادة العنصر (الطوراني)، كما في بنيتها الاجتماعية. أما هدفهم الأبعد مدى فقد كان تقسيم تركة (الرجل المريض) كما أسموها، لكي يتسنى لهم من بعد الاستيلاء على فلسطين، أرض ميعادهم المزعوم، ووعد هرتسل لهم عام 1897 بدولة يهودية وذلك ما كان، وذلك ما تحقق، وهو ما نعيشه اليوم. أما (أتاتورك) فقد كوفئ بالإبقاء على تركيا كياناً في وحدة سياسية، لم تخضع للتقسيم أو التجزئة، دون سائر ممتلكاتها. وكان ذلك لهدفين:
الأول إبعاد الإسلام عن الحياة فيها تماماً ــ إذا استطاعوا ــ.
والثاني لكي تظل مركزاً بل وكراً لمؤامراتهم على العرب والمسلمين، فانتشرت فيها المحافل الماسونية واللوثرية وما إلى ذلك من مؤسسات وجمعيات مشبوهة تحت أسماء وعناوين مختلفة، براقة وخادعة.
وقد عمدوا إلى مثل ذلك في أماكن عديدة من العالم على نحو أو آخر. وقد بات ذلك معروفاً عنهم كصفات ملازمة لهم لا تتخلف. وهم لم يكفُّوا عن مسلكهم هذا أبداً على مدى الزمن، فهناك اليوم أسر يهودية، في أقطار عربية وإسلامية تحمل أسماء لا تثير الريبة في ظاهرها، يتخذونها تُقيةً وستاراً لكي يتسنى لهم المضي قدماً في حبك المؤامرات وإثارة الفتن والقلاقل، وإفساد الذمم والأخلاق، والاستيلاء على مواقع السلطة والمال، للوصول أخيراً إلى أهدافهم بتسخيرها وتوجيهها حيث تحقق الغرض المنشود.
وغني عن القول أن محمداً لم يعرف شيئاً عن كل ذلك من قبل، إلى أن أخبره به ربه. وهذه واحدة من صورتهم في القرآن:
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ. قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص:48-50)
والله أعلم ــ دونما ريب ــ بأنهم لن يستجيبوا للرسول. (فإن لم) هنا تعني (عندما). ولأن الآية تتحدث عما لم يحدث بعد، الأمر الذي يعلم الله أنه سيحدث ولكن الخطاب موجه لرجل لا يعرف شيئاً عما سوف يحدث مستقبلاً.
هم الآن يريدون أن يأتيهم محمد بما أوتي موسى. وهم الذين كفروا من قبل بما أوتي موسى. وهم لم يؤمنوا بأيٍّ من الرسل في أي وقت من الأوقات، بل إنهم كانوا يقتلون الأنبياء. لم يسلم من مؤامراتهم وإجرامهم نبي من الأنبياء. كما كان موقفهم المعروف من سيدنا عيسى عليه السلام، وتآمرهم عليه واتهاماتهم الباطلة، له ولأمه السيدة مريم العذراء، التي فنَّدها القرآن ونفاها عنها، وأعلن براءتها وطهارتها، وفضَّلها على نساء العالمين. ثم كيف سعوا إلى صلبه. وعند التحدي بالمنطق والحق والبيِّنة، أو حتى بالمعجزة لا يجدون سبيلاً، غير الفرار من المواجهة.
ويزعمون اليوم تمسكهم بالتوراة كتاباً للدين اليهودي، وهم الذين لم يرتضوها عندما تنزلت على موسى عليه السلام، فمضوا يحرفونها بما يتفق وأهوائهم ومصالحهم واهدافهم السياسية. كقولهم (أرض الميعاد) و(شعب الله المختار)، وما إلى ذلك من مقولات ابتدعوها لأغراض سياسية دنيوية بحتة، بعيداً عن كل دين وخلق، ينسبونها إلى مصدر إلهي زوراً وبهتاناً، هو إلههم وحدهم دون سائر الخلق اسمه (يهوه) يقول تعالى فيهم:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الجمعة:5)
وصورة أخرى من خصالهم الملازمة لهم على الدوام والتي ترينا كيف تتحقق النبوءة في شأنهم وفيما هم عليه على مدى القرون التالية لزمن الرسول وليس زمانه وحده.

* * *

اليهود والقتال في قرى محصنة
ألم يكن ذلك هو واقعهم قديماً؟ أو ليس هو حالهم اليوم أيضاً؟ ها هم في هذا العصر الذي تمكنوا فيه من اقتناء أعتى وسائل القتل، وأكثر أدوات الدمار فتكاً، هؤلاء هم مع ذلك، لا يقاتلون إلا في تحصينات باتت معروفة: المستعمرات والمستوطنات، والاستحكامات وجدران الدبابات الحديدية والمصفحات وما إليها. لا يملكون القدرة ولا الشجاعة على القتال خارجها.
في شهادة للفريق سعد الدين الشاذلي حول حرب عام 1973 يقول: (كانوا يحاربون إما من وراء خط بارليف، وهذا كان بالفعل أشبه بالقرى المحصنة في مواقعه ونقاط دفاعه على طول خط قناة السويس، وإما من وراء جدران الدبابات. فالدبابات في الواقع جدران من حديد، لا يبرحونها. لا يقاتلون مواجهة أبداً وقد صدق قول الله فيهم لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ. كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الحشر:14-15)
(كما أنهم على درجة من الجبن غريبة. لقد فقد الكثير منهم صوابه وأصيب بالهستيريا عند المواجهة التي لم يكن يتوقعها، كما ألقى في روعه قادته. فهم كذلك أحرص الناس على الحياة).
أليست هذه نبوءة تستحق الوقوف عندها؟ ومن ثم استقرار اليقين بأنها لن تكون إلا من عند الله، منذ نيف وأربعة عشر قرناً، قبل أن نراها نحن أبناء هذا الزمن رأي العين على الفضائيات؟
أما أن بأسهم شديد بينهم، في حين نحسبهم جميعاً. ولكن قلوبهم شتى، فإنهم لكذلك. هم قساة عتاة فيما بينهم، تلمس ذلك في جدلهم ومماحكاتهم وخصوماتهم فيما بينهم، أفراداً وأحزاباً ومؤسسات، على الرغم من ظهورهم أمامنا كأنهم متحدون وعلى موقف واحد. مرد ذلك خوفهم المفرط وإحساسهم المرضي المزمن بالخطر ليس إلا. أما أن قلوبهم شتى فيتبدى ذلك في مواقفهم المتعارضة، واختلاف آرائهم في سائر قضاياهم، خاصة كانت أو عامة، مما نشهده في صراعاتهم الداخلية، ومعارك أحزابهم المحتدمة دوماً، بين ذلك الخليط الهجين العجيب.
أما أنهم (قوم لا يعقلون) فهل من جدال في هذا؟ إن حماقاتهم وفقدانهم للتعقل تدل عليها سلوكياتهم التي عرفها عنهم العالم أجمع. بل وإننا نعيش صوراً من ذلك في أيامنا هذه. فها هم بعد أن استولوا على البلاد وشردوا العباد، وتحقق لهم أكثر مما كانوا يحلمون (بفضل التقصير العربي الراهن)، لم يقتنعوا بكل ذلك، بل ها هم يواصلون اعتداءاتهم وحروبهم، ويقترفون الجرائم، ويقيمون المذابح للشعب ذاته الذي اغتصبوا وطنه، جهاراً نهاراً، على مسمع ومرأى من العالم. ولو كانوا يعقلون حقّاً لأدركوا أن ذلك ليس في مصلحتهم، وأنه سوف يفضي قطعاً، في نهاية المطاف، في وقت قريب أو بعيد إلى هلاكهم المحتَّم، واندثار ما أقاموا من كيان. ويبدو أن ذلك ليس إلا توطئة لتحقيق إرادة الله فيهم.. ليقضي الله في شأنهم أمراً كان مفعولاً. ألا إنها (لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
كما أن مسعاهم إلى إحكام هيمنتهم على الغرب، وعلى رأسه أمريكا لن يكون في مصلحتهم ــ لو كانوا يعقلون ــ على المدى البعيد. ذلك برغم أنهم يعتقدون الآن أن فيه إنجازاً لهم يمكنهم من تحقيق كل ما يطمحون الوصول إليه، عن طريق هؤلاء (المهيْمَن) عليهم من قِبَلهم في الزمن الراهن. "يحسبونه خيراً لهم وهو شرٌّ لهم". ولعل الله أن يزيدهم انغماساً فيما هم فيه من خطل في الرأي، ومن تيه في الفكر. يؤكد ذلك قوله تعالى:
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (آل عمران:178)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (آل عمران:140)
لم يذهب القرآن في وصفه لأقوام من البشر، على قدر من السوء والضلال كما ذهب في وصفه لليهود. وإذا نحن نظرنا إلى العالم منذ عرف اليهود، وحتى يومنا هذا، وجدناهم أُسَّ البلاء لسائر البشرية، وأنهم كانوا سبب الحروب في كل زمان ومكان. كانوا وراء الحروب والفتن والقلاقل والاضطرابات جميعاً، ما ظهر دورهم فيها واضحاً جليّاً، وما ظل منها سرّاً خفيّاً.
في القرن المنصرم وحده كانوا سبباً مباشراً لحربين عالميتين. ثم كانوا بعدهما سبباً فيما آل إليه حال العالم مما أشرنا إليه من فوضى واضطراب ومظالم ودمار. حتى ما سمي بالحرب الباردة وملحقاتها، وما نتج عن انتشار الشيوعية لوقت ما، وانقسام العالم إلى رأسمالي وشيوعي، يميني ويساري، وما أسفر عنه ذلك من حروب صغيرة (نسبيّاً) كادت تغشى معظم بلاد العالم، باسم هذه الجهة أو تلك، بيد أنها جميعاً كانت تصب في مجرى النهر ذاته، إما لأسباب اقتصادية بغية تشغيل مصانع السلاح، وتقتيل شعوب برمتها من أجل جني المال، وأقطاب هذه الصناعة يهود معروفون، وإما من أجل تجارة النفط وصناعاته، وأقطاب هذه أيضاً من اليهود، أو هي حروب للتغطية وصرف الأنظار عن اغتصابهم أرض شعب، ثم ملاحقته في المنافي عملاً على إبادته. وما حدث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية( )، وحتى الآن، فكانت ضحاياه وآثاره التدميرية أكثر من تلك التي أنتجتها الحربان معاً. أما نصيبنا نحن منها ـ عرباً ومسلمين ـ فيحتاج إلى مجلدات ومجلدات قد لا تتسع لها. أليس الوضع الراهن للعرب والفلسطينيين والمسلمين هو واحدٌ من تلك النتائج؟ فلولا تلك الحرب الأخيرة، وما نسب إلى الألمان وغيرهم، حكايا (الهولوكست)، و(اللاسامية)، وما إليها، هل أمكن أن يقع لنا ما وقع؟ ولولا آثار الحرب الأولى التي مهدت لذلك، من وعد بلفور، إلى تقسيم الوطن العربي إلى دويلات، والهيمنة عليها بصورة هنا وأخرى هناك، و(سايكس بيكو) والانتداب، ثم تسليم فلسطين جاهزة لهم بواسطة البريطانيين، لولا ذلك كله هل كانت صورة العالم على ما هي عليه الآن؟
من الآيات التي تحدثت في أمرهم وانطبقت على أحوالهم، واصفة ممارساتهم وطبائعهم، متوعدة إياهم بسوء المصير على مدى الزمان، قوله تعالى:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (آل عمران:112)

* * *

ضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة
هذا هو واقعهم تماماً اليوم. الحبل من الله كان قديماً، ربما أيام كان فيهم موسى عليه السلام. أما الحبل من الناس في عصرنا فهو ما نراه من مدد لهم من أطراف عديدة. بعضها يمدُّهم بالمال وبعض بالنفوذ، عوناً وتأييداً على الباطل، مؤازرة وحماية لهم ــ كالفيتو الأمريكي مثلاً ــ وبعض بالرجال، كهجرة السوفيات، والمصادر الأخرى لإمدادهم بالعنصر البشري، تجميعاً لقطعانهم من شتى أصقاع الأرض. جراء ذلك ــ الماضي والراهن ــ فقد باءوا بغضب من الله. أما المسكنة والذلة فقد ضربت عليهم ولما تزل. برغم أن الظواهر المرئية تقول غير ذلك. ولكن ليس على المدقق المحقق إلا أن ينعم النظر في المسألة ليرى أنهم ما برحوا أذلاَّء. ألا تراهم (يتمسكنون) في كل مناسبة، لدى القوى الدولية المختلفة سعياً وراء مزيد من العون والدعم استجداءً وابتزازاً؟ ألا تراهم يختلقون الأسباب والذرائع والأكاذيب، من قبيل أن العرب يعتزمون إلقاءهم في البحر؟ ومن قبيل أن العرب يسعون لدمار (إسرائيلهم) والقضاء عليهم؟ هذا على الرغم من تفوقهم العسكري والتسلح الذي وصل حد امتلاك السلاح النووي وسائر ما سلفت الإشارة إليه من وسائل الدعم المادي والمعنوي، وعلى الرغم من أن العرب لم يجمعوا على شيء في شأنهم، أو حتى مجرد الوقوف في وجههم دفاعاً عن أنفسهم. إذا لم تكن هذه ذلَّة ومسكنة، فماذا يمكن أن تكون؟ وإذا لم تكن هذه نبوءة تتحقق فماذا عساها أن تكون؟.
وآية في السياق ذاته تقول:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (المائدة:64)
هذه الآيات أيضاً تتحدث عن الواقع المعاصر، تنطبق عليهم اليوم كانطباقها وقت نزولها. تصوير دقيق لما هو قائم بيننا كمسلمين وبين أعدائنا عموماً، وفي مقدمتهم اليهود، أو أن اليهود ــ كرأس حربة ــ يقودونهم إلى الصدام معنا، ويؤلبونهم علينا دوماً وبلا هوادة. بيد أنهم ليسوا بمنجاة من الأذى، أو في حصانة من أن تحل بهم الهزائم. لكنها المكابرة والعناد إلى أبعد مدى. كفراً وطغياناً. وإذا كنا نألم نحن أيضاً فإن ألمهم أكبر، ما دمنا نرجو من الله ما لا يرجون. وكذلك فإن الأيام دولة بيننا وبينهم. وإذا كانت لهم جولة الباطل في هذه الآونة فإن ما هو آتٍ من الزمان سيكون لهذه الأمة. والله يملي لهم بما يجدونه لدى من يشاركونهم عداوة الإسلام من عون على باطلهم، بسبب من مصالح مشتركة فيما بينهم، إلى جانب ما يضمرون للمسلمين والإسلام من عداء عقيدي تقليدي مشترك أيضاً. يمدهم هؤلاء بأسباب القوة والدعم للبغي والعدوان. تأخذهم من ثم مشاعر العزَّة بالإثم. فيحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فيزدادون في الشر إيغالاً، وينغمسون في اقتراف المزيد من الجرائم والموبقات.
وبعد. أليست هذه نبوءات صادقة تنزلت وحياً على محمد رسول الله؟
ونبوءات أخرى في مسائل ذات طبيعة مختلفة، للكثير منها صلة بقضايا ذات علاقة بالعلوم الحديثة، نفياً أو تأكيداً وبما يتفق مع الآيات في الحالتين:
* * *

عجز الإنسان ومحدوديته
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (الحج:73)
على الرغم من كل ما وصل إليه العلم. لم يستطع الإنسان أن يخلق خلية حية. لقد تعامل مع الخلايا والجينات ومع الفيروسات والكائنات الدقيقة، ولكن مسألة الخلق لخلية حية من العدم أمر آخر عجز الإنسان عنه، برغم تقدم العلم غير المسبوق كما نشهد اليوم. هذه الآية من سورة الحج تحدث بما كان الناس يفهمونه في ذلك الزمن، فضربت المثل بالذباب، وليس بالخلية التي لم يكن العلم ولا المعرفة البشرية تحيط بها أو تعرف عنها شيئاً. لكنها ــ الذبابة ــ تصلح مثلاً للأزمنة اللاحقة كعصرنا أيضاً. إذ هل استطاع العلم بعد أربعة عشر قرناً أن يخلق ذباباً؟
كيف عرف محمد أنهم لن يستطيعوا خلق ذبابة؟ ولماذا يضرب لهم هذا المثل ــ وهو يجهل ما يخبئه المستقبل ــ في مثل هذه الشؤون؟ إن البشرية جمعاء بكافة علومها وقدراتها على صعد لا يحصيها عدد عاجزة عن خلق ذبابة. وهذا هو التحدي!
وتحدٍّ معجزٍ آخر في الآية نفسها هو أن الذبابة على ضعفها حين تحط على طعام وتستلب منه شيئاً، لغذائها الهين الضئيل، هل من أحد بقادر على استرجاعه؟ لقد ضعف (الطالب) الإنسان، بمعنى عجزه عن ذلك تماماً، برغم أن (المطلوب) هو ما اختلسته الذبابة، أو هو الذبابة نفسها. وما أضعف المطلوب في كلتا الحالتين.
ومن هذه الآيات ذات الصفة التنبؤية:
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (النمل:65)
تحدٍٍّ آخر قائم أبداً، فما من أحد استطاع اختراق حجب الغيب، أو كشف أسراره برغم التطورات التقنية والمنجزات العلمية الهائلة، فها هنا وقف العلم عاجزاً تماماً. حتى الطقس لا يستطيعون التنبؤ بأمره على وجه القطع واليقين. وكل ما يقدمه علم الأرصاد هو (احتمالات) قد تصح، وقد لا تصح، حسب معطيات لها شواهد ودلائل يستخلصون منها نتائج على سبيل الاحتمال والتوقع ليس إلا.
ومن هذه الآيات:
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (يس:68)
تقدمت العلوم، ولاسيما الطب، والفيزيولوجيا، والبيولوجيا، فهل استطاع العلم أن يمنع عن الإنسان النكس الذي يصيبه عندما يعمّر؟ لماذا لم يستطع الطب أن يمنع مرض (الزهايمر) عن رئيس الولايات المتحدة (رونالد ريغان)، ودولته أغنى دول العالم وأكثرها تقدماً في العلوم والتكنولوجيا، بل إن غرورها يذهب بها إلى حد ادعاء القدرة على كل شيء. فلماذا لا يكذِّبون محمداً في قضية جاء بها قبل أربعة عشر قرناً، بأن يفعلوا في هذا المضمار ما ينقض ما جاء به إذا استطاعوا، وهم الحريصون على ذلك الحرص كله؟
ومنها:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (النمل:93)
آيات الله أي دلائل إعجازه وعلامات قدرته التي سينجلي عنها المستقبل القريب أو البعيد كما تقول الآية: (سيريكم آياته) أخذت تظهر بالتتابع وعلى مر الزمن من بعد، وعرفها الناس بالفعل بعد ذلك كل منها في وقتها. وما اكتشافات العلم قديماً وحديثاً حتى عصرنا، إلا بعض آيات الله. فما اكتشفه العلماء في الفلك والأجرام السماوية، وكيفية خلق الكون، والفضاء ومكوناته، وطبقاته الواقية للأرض كطبقة الأوزون (السقف المحفوظ) وارتياد الفضاء، وعلوم الطبيعة، من بحار وأنهار وجبال، والمطر والبرق، والهواء، والكهرباء، والأثير، والجاذبية، والذرة، وفيزيولوجيا جسم الإنسان والحيوان، والطب البشري، وعلوم النبات والحشرات، ما هذه جميعاً سوى آيات الله في خلقه. وقد نبَّأتنا هذه الآية من سورة النمل أن الله سوف يرينا آياته ــ نحن البشر ــ في زمن لاحق لعهد الرسول، وأننا (سوف نعرفها) في حينها وأوقاتها من الزمان الذي تقع فيه. وهكذا كان وها هي البشرية تعيشها اليوم واقعاً ملموساً. ما كان لأحد ــ بطبيعة الحال ــ في زمن التنزيل أن يشتط به الخيال إلى حد التصور لنوع الحياة التي يعيشها إنسان هذا العصر كواقع عادي مألوف لا يثير دهشة أو يبعث استغراباً بحكم التعوُّد والمعايشة.
ومن الآيات التي تحذر البشر عواقب طغيانهم وعصيانهم وتنكرهم للقيم والأديان، وما تحمل في ثناياها من عامل النبوءة:
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (الملك:17)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (الملك:21)
ظاهرة الكوارث الطبيعية المفجعة كانت تقع في العصور القديمة وما زالت تقع حتى اليوم. بل إنها في هذه الأيام تتبدى أكثر وضوحاً وأوسع انتشاراً في الأرض عما سبق. ويشاهد الناس بأم أعينهم، في كل مكان، على الشاشات الفضائية صوراً مروعة للفيضانات الكاسحة، وحمم البراكين المتفجرة، والدمار الناتج عن الزلازل، تهدم بلداناً وتبيد آلافاً من البشر، وعصف الأعاصير التي لا تبقي ولا تذر، تطيح بالمباني والأشجار وأبراج الكهرباء، حتى أن كل إعصار أمسوا يعطونه اسماً علماً يدل عليه، وإن بعضها وما نجم عنه من آثار شُبِّه بما تحدثه القنابل الذرية من تدمير.
أما العقوبات الإلهية فما برحت قائمة.
فالقران سبق أن وصف لنا ما حلَّ بالأقوام الغابرة البائدة، كعاد وثمود وقوم صالح وتبع وغيرها من عقاب، بصور متعددة تبدو لنا مشابهة لما يحدث اليوم. ولا نعتقد أن مثل تلك العقوبات قد توقف بعد ذلك العهد الذي نزل فيه القرآن، فما من شك في أن البشر أصبحوا أكثر سوءاً عن ذي قبل، وما من سبب يدعو للاعتقاد بأن القدرة الإلهية كفَّت عن إنزال العقوبات بمستحقيها. والفارق بين ذلك الزمان وزماننا هذا هو أن ما من نبي يخبرنا الآن أن هذه عقوبات إلهية، بعد انقطاع الوحي، واختتام عهد النبوات بمجيء الرسول محمد عليه السلام. وقد أعلن محمد أن لا نبي بعده. وهذا ما كان بالفعل، فلم يأت نبي بعده، وهذه في حدّ ذاتها نبوءة كالمعجزة في صدقيتها وتحققها طول هذا الزمن. ولكن القرآن في آيات كثيرة، أنبأنا محذِّراً بأن الله لن يغفل عن عباده، وأنه ليس بغافل عما يقترفه الطغاة والعصاة من بينهم.
والملاحظ أن معظم ما يحدث من هذه الكوارث يقع في بلدان( ) عرفت بالظلم والطغيان والافتئات على حقوق الغير، والخروج على شريعة الله في الحق والعدل. وقد بلغ ببعضها الجبروت والتغطرس حدوداً تفوق التصور، دفعتها إلى ضروب من الممارسات بحق بشر آخرين، من المستضعفين في الأرض، لا سابق لها في الوحشية والإجرام. وإذا كنا لا نجنح إلى التعيين فلأن وسائل البث الحديثة كفيلة بذلك، تزحم الفضاء في سائر الأرجاء.
قد يحسن بنا أن نذكّر بزلزال »تسونامي« الذي وقع أوائل عام خمسة وألفين، مصحوباً بطوفان المحيط الجارف مجتاحاً مساحات شاسعة من بلدان جنوب شرق آسيا. لقد قضى يومئذٍ على نحو من مائتي ألف من البشر، وأزال قرى ومدناً برمتها فأمست خراباً يباباً (كأن لم تغن بالأمس). كانت تلك المناطق الساحلية حافلة بالمنشآت السياحية المنفتحة على كل شيء وبلا حدود، من فنادق باذخة، ومسابح فارهة، وشواطئ مدهشة يؤمها السياح من سائر أرجاء الأرض. وقد قضى من بين السياح وحدهم ما يقارب العشرة آلاف إنسان من أمريكا والدول الغربية. كما أن جزيرة دييجوجا جارسيا (Diego Garcie) الغربية من سواحل المالديف التي اتخذ منها الأمريكيون أكبر قاعدة لأسطولهم (المارينز"). وهي مزودة بأفتك الأسلحة، خزِّنت فيها الصواريخ والرؤوس النووية. كما أنشأوا فيها مركزاً هاماً للتجسس لـ (C.I.A) حيث يتم استجواب من تدعوهم بالإرهابيين. ويرافق الاستجواب عمليات تعذيب عرف العالم صوراً ونماذج منها في (غوانتانامو) و(أبو غريب) وغيرهما. وفي هذه القاعدة ــ الجزيرة زودت ثلاث غواصات (دولفين) إسرائيلية بصواريخ ذات رؤوس نووية من طراز (هاربون) استعداداً للانقضاض على بلدان عربية وإسلامية كالعراق وإيران تحديداً في البداية. هذه الجزيرة ابتلعتها أمواج الطوفان بكل من فيها من جنود (نحو ألف وخمسمائة) وما عليها من أسلحة وأدوات دمار، لم تعن قوة أمريكا وجبروتها، فضلاً عما تملك من تكنولوجيا العلوم، عن هؤلاء شيئاً، فذهبوا في طرفة عين حين ارتفع الموج إلى زهاء عشرة أمتار وبسرعة خمسمائة متر في الساعة.
أليس هذا مصداقاً لقوله تعالى:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24)
على أن هذه الظواهر الطبيعية لا تأتي ــ بالضرورة ودائماً ــ كعقاب إلهي، كما أن الكوارث حين تحل بقوم أو جماعة تأخذ معها وفي طريقها الطالح والصالح معاً. ولكن تختلف المصائر الأخروية عندئذٍ بين اولئك وهؤلاء. وفي هذا يقول تعالى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (لأنفال:25)
ويقول تعالى:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (الإسراء:16)
يقول تعالى:
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام:65)
وبعيداً عن كوارث الطبيعة نرى اليوم أن العذاب من فوق الرؤوس، والعذاب من تحت الأرجل يذيقه بعض الناس لبعض آخر. أهو غير الطائرات (من فوق) والقذائف والصواريخ الطائرة؟ أهو غير الألغام وما شابهها (من تحت الأرجل)؟ هؤلاء الذين توعدت الآية البشر (ببعثهم) أدوات لمثل ذلك العذاب الموعود. أليسوا هم الذين اخترعوا البارود، وصنعوا القنابل والصواريخ وأجهزة نقلها، وأدوات حملها، ثم تفجيرها في الآدميين؟ أمَّا تلبُّس الناس (شيعاً) وأحزاباً وفئات وأقواماً، يذيق بعضهم بأس بعض فهو ما يحدث تماماً في هذا العصر. ونحن نعيشه يوماً بيوم.
هذا التوصيف المكثف للظاهرة في عدد محدد مقتصد للغاية من الكلمات، ومع ذلك تبدو محيطة بكل ما يجري، ناهيك عن سمة النبوءة فيها. أليس إعجازاً لا قبل لبشر الإتيان بمثله ويكون مصيباً دائماً، ومطابقاً للواقع القائم، راصداً للوقائع حتى قبل وقوعها؟
ثم بعد هذا تدعونا الآية بصيغة الأمر للنظر في كل ذلك، لعلنا نفقه الحكمة، ونتفهم الحقيقة، فلعل السادرين في غيِّهم أن يفقهوا آياته فيطامنوا من سلوكهم، ويتحاشوا ما غلَوْا فيه من إجرامهم.
ثم تأتي نبوءات في شأن الإنسان، توصيفاً له ككائن، وتحديداً له كمصير، ومسائل أخرى. يقول تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان:34)
هذه قضايا كونية ومصيرية على درجة بالغة من الخطورة والأهمية تتعلق بالمصير الإنساني ككل، ومصير الإنسان الفرد نفسه في الدنيا والآخرة، في إيجاز مدهش، في آية واحدة لا تعدو السطرين:
علم الساعة؛ أي المصير النهائي للبشرية.
هل تمكن العلم برغم ما حققه من تقدم أن يبِّين أو أن يحدد موعداً قاطعاً في شأن الساعة التي هي نهاية الحياة على الأرض؟
تنزيل الغيث:
من ذا الذي يستطيع منعه إن نزل، أو إرغامه على النزول إن امتنع؟ أو تخفيف وطأته أو زيادة تهاطله حسب المصلحة والاقتضاء مثلاً؟
علم ما في الأرحام:
معرفة ما تنطوي عليه الأرحام من ذكر أو أنثى. شكل المخلوق، صورة مستقبله، ماهية حياته التالية لميلاده، عمره الذي يعيش على الأرض. وإذا كان علم الطب قد تمكن في كثير من الحالات تحديد الذكر من الأنثى قبل الولادة، فليست هذه هي المسألة. هي جزئية لم تقل الآيات بامتناعها على المعرفة. ولكن أنَّى لأحدٍ معرفة الأمور الأخرى سالفة الذكر، ذات الأهمية البالغة والشأن الخطير؟
توقيت الموت ومكانه:
جهل الإنسان المطبق بمكان موته وساعته وكيفيته، فما من أحد يعرف شيئاً من هذا حتى عن نفسه مهما أوتي من مال أو جاه أو علم. كما أن الإنسان يجهل تماماً ما ينتظره في الغد. و(غداً) في الآية مجازية، قد تعني اللحظة التالية وقد تعني سائر حياته حتى نهايتها. ماذا يكسب الإنسان غداً أمر لا ينفك مجهولاً، ما دام الغد لم يأت. فالغد يظل الغد المجهول الذي قد لا يشهده الإنسان. كما أن الإنسان يجهل ما يخبئه له ذلك الغد من وقائع (فضلاً عن مسألة الموت والحياة) وعلاقات ورزق وخير وشر.
وهذه آية في سياق مسألة الموت:
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (النساء:78)
هل هناك حصانة لإنسان ما على وجه الأرض تنقض هذا المعنى؟ وهل استطاع أو سوف يستطيع العلم أن يمكِّن أحداً من الخروج على هذه السنة في الخليقة لكي يكون استثناءً؟
محاولات الطب في العلاج والوقاية والدواء كافة، لم تهدف إلى غير إمكان إبعاد الموت وإطالة العمر، بتلافي المرض أو الشفاء منه. هذا باعتراف العلم والعلماء والطب والأطباء. لكن أحداً لم يفكر في (منع) الموت عن الإنسان و(منحه) الخلود. وهذه أيضاً في حالات نجاحها ــ أي فيما يحسبونه إطالة للعمر ــ مسألة قدرية.. بمعنى أن من ينجو من الموت بالشفاء أو بالعلاج ــ دواء أو جراحة ــ إنما كان له ذلك بقدر خفي في علم الله بأن يمتد به العمر إلى ما شاء له الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (الرعد:38).
هل هناك إذن ما هو أبلغ دلالة على عجز الإنسان أمام القدرة الإلهية (التي قد يؤمن بها وقد لا يؤمن) بأنه هو نفسه ليس سيد مصيره، حتى في مسألة حياته وموته، وزمن وجوده على الأرض، سواء كان ذلك عن الحقبة التي يوجد فيها، أو كان عن مدى بقائه حيَّاً. بما في ذلك رزقه، بما في ذلك حياته الاجتماعية من زوجة وأبناء. من تكون الزوجة من بين سائر النساء، ومن يكون الأبناء، عددهم، أجناسهم، مزاياهم وصفاتهم.. قد يكون له نصيب منهم وقد لا يكون..
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (الشورى:49-50)
ثم مصائر هؤلاء جميعاً، وهل أسهموا في خير يجنى أو شرٍّ يلقى. ناهيك عن علاقاته بالآخرين من حوله في مجتمعه وعمله، برغم أن ذلك كله من صميم حياته، وأخص شؤونه. فها هو ذا يجد نفسه في هذا المكان بعينه من الكرة الأرضية، من هذا الكون الشاسع، دون أن يدري كيف ولماذا ومن قدر ذلك (غير الله)، وفي هذا الزمان، أو ذاك، دون غيره أيضاً. ثم هو يجد نفسه هكذا خُلق شكلاً ولوناً وملامح وهوية وانتماء لجماعة لم يخترها، ولأبوين لم يخترهما، وأسرة وأصدقاء ولغة، واسم أعطاه إياه أبواه يحمله طول عمره. وهو أيضاً لم يختره، كما أنهما ورَّثاه اسم عائلة بعينها، كما ورَّثاه ما ورَّثاه من جينات وكروموزمات. ومستواهما الاجتماعي والاقتصادي والثقافي حسب عصر معين. فهو من ثم لا يملك من أمر هذه جميعاً شيئاً، مسائل قدرية مطلقة لا يد له ولا رأي في إيجادها وصنعها، ولا قدرة له على توجيهها أو التأثير فيها( ).
ولا ينطبق هذا على بشر دون غيرهم، وإنما يخضع له سائرهم. ولننظر إلى رئيس لدولة عظمى في عصرنا، يملك من الإمكانات ما لا يملكه عامة الناس، وفي وسعه أن يسخِّر الطب والعلم فيما بلغاه من تقدم وتطور وإمكانات توشك أن تتجاوز كل معقول، فهل يملك دفع الموت عن نفسه في نهاية المطاف عندما تحين ساعته؟ هل يستطيع الخروج عما جاءت به الآية هذه؟ فهل في وسعه أن يعلم بأي أرض يموت؟ وأين وكيف؟ أو ما الذي سيقع له غداً على وجه القطع واليقين؟
لماذا يغامر قائل بالتعرض لمسائل على هذا القدر من التعقيد ما لم يكن صاحب القول حكيماً مقتدراً، عليماً بمحتواه ومضمونه، متحدياً بصدقه وحتميته ومطابقته للواقع الحياتي للبشر؟
أو ليس هو القائل أيضاً:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل:78)
خلقكم لا تعلمون شيئاً من أمر الحياة والكون، وأمر أنفسكم أيضاً عند خروجكم من بطون أمهاتكم. كما أنكم لم تصنعوا لأنفسكم السمع والبصر والفؤاد وسائر ما تملكون من أعضاء وحواس وملكات عقلية. هو الذي صنعها لكم، وهو الذي زوَّدكم بها لتمكينكم من السير في دروب الحياة بسمع وبصر وبصيرة. ولولا ذلك ما كان لكم وجودٌ أصلاً. وإلا فكيف يتسنى لكم العيش من دونها؟
أليست حياتكم كلها إذن منحة إلهية؟
مرة أخرى ينتصب السؤال أمامنا: أنَّى لمحمد معرفة هذا كله، من تلقاء نفسه وفي مثل عصره، لولا أن من أنبأه هو الله العليم الخبير؟


* * *

معجزة الخلق
كانت مسألة الخلق دوماً محور الجدل والنقاش وتعدد النظريات التي شغلت الإنسان وحيَّرته على مدى العصور. بل كانت في كثير من الأوقات الفيصل بين الكفر والإيمان. فإن تنسب الخلق إلى الله فأنت مؤمن، وإن تنسبه إلى غيره فأنت لست كذلك. وكم من حروب ــ فكرية( ) وعسكرية ــ قامت على وجه الأرض من أجل هذه المسألة.
و »الخلق« تعني كل شيء مخلوق. الكون والإنسان والحياة بكل ما فيها. وهي مسألة كانت محوراً أساسياً في العقيدة والإيمان. من ثم فأنت بالكاد تجدُ في القرآن سورة لا تتحدث عن الخلق، تصويراً وتذكيراً، وبراهين وبيِّنات، دعوة للإنسان إلى الإيمان بالله تعالى عن طريق إعمال الفكر، والنظر في آياته وخلقه وكونه العظيم المهيب:
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (غافر:57)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (الزخرف:9)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يّـس:81-82)
مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (لقمان:28)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (الزخرف:12)
حدث في العقد الأخير من القرن المنصرم، ما أثار الدهشة والحيرة، وربما الفزع، في سائر أرجاء العالم، وأثار زوابع من الجدل والنقاش، إن لم نقل المعارك الفكرية في أوساط العلماء والمثقفين على نحو خاص. كانوا بين فريق مستحسن معجب، وفريق مستنكر رافض. كان ذلك عندما تمكن فريق من العلماء استنساخ نعجة عن طريق التوالد الطبيعي، أسموه التوالد (اللاجنسي). ثم زعموا بعد ذلك استنساخ أبقار وخنازير. وأخيراً استنساخ إنسان.
هذا الحدث العلمي طرح من جديد، مسألة الخلق، في كافة الأوساط وفي شتى أرجاء العالم. إذ رأى بعضهم في ذلك خلقاً جديداً، فاتخذها برهاناً على تعزيز القول والاعتقاد بأن الخلق من صنع الطبيعة، وحتى إن كان من صنع الله فليس الله وحده هو الذي يخلق إذ ها هو ذا الإنسان يخلق أيضاً..! وما ذلك إلا لكي تكون هذه المقولة منطلقاً للتأكيد على توجهات إلحادية خطيرة، في حين رأى آخرون أن الاستنساخ ليس خلقاً جديداً، وإنما هو توليد حياة من حياة قائمة في الأصل، بمعنى (استنسال) كما في التعبير الفرنسي عن المسألة. ورأى فيه هؤلاء ما يعزز اليقين بإيمانهم بقدرة الله عز وجل وتفرده في الخلق  وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (النحل:20) أليس إعجازاً أن نرى القرآن يقول بعدم قدرة الإنسان على الخلق من العدم ثم تتوالى الحقب إلى أن تبلغ عصرنا الراهن الذي بلغ فيه العلم مبلغاً عظيماً، ولكن مسألة الخلق ما انفكت عصية على الإنسان. خلْق الحياة، ولو في خلية واحدة عجز الإنسان والعلم عنه، عجزاً مطلقاً وأقرّ بعد التجارب والمحاولات بذلك العجز.
يقول تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (النحل:17) أليس هذا تحدياً أزلياً للخلق كافة؟ هذه إذن ليست سوى واحدة من آياته التي تتوالى ولا تنقطع. والتي وعد البشر بأن يريهم إياها متتابعة على مر الزمن:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصلت:53)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت:20)
وفي الآية التي تسبقها:
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (العنكبوت:19)
الذي يعنينا في هذا الشأن هو أن القرآن الكريم أنبأنا عن هذا قبل وقوعه بزمن طويل. حتى هذا أنبأنا به كتاب الله، وهو وجه إعجاز آخر لا يسع المرء إلا التسليم بعظمته. ولقد جئنا بهذه المسألة في باب النبوءات هذا.
ففي سورة النساء، وفي معرض ذكر الشيطان، وتوعده البشرية بألاَّ يألو جهداً في تضليلها، لإيرادها موارد التهلكة في الدنيا والآخرة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يعلن عن واحدة من وسائله التي يعرف أن من شأنها أن تكون سبباً في إغواء الكثير من البشر، وحرفهم عن سبل الرشاد. وذلك لما لها من تأثير على عقل الإنسان وبلبلة فكره، نظراً لما تنطوي عليه من غرابة وإبهار، بما تفترضه من قدرة الإنسان العلمية والعقلية. مُنسِيةً إيَّاه في الوقت ذاته أن الإنسان وما يعمل، وما ينتجه عقله أيضاً هو من صنع الله في الأصل.
فالله تعالى يقول:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (الصافات:96)
أما الآية التي نحن بصددها وآيتان قبلها ممهدتان فتقول:
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً. لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (النساء:117-120)
إنجاز علمي هائل؟
نعم. ولكنه ليس خارقاً لسنن الله في الطبيعة والكون. كل ما في الأمر أن الإنسان (عرف) أو (اكتشف) حقيقة من الحقائق، التي لبثت خافية عليه زمناً، شأنها شأن حقائق كونية لا حصر لها، ولن ينفك أكثرها خافياً عليه، إلى أن يشاء الله لها كشفاً. غني عن القول أن (اكتشاف) الحقيقة لا يعني (خلقها) أو (إيجادها) من العدم. تماماً كمسألة الفضاء، عندما صعد (جاجارين) كأول إنسان يدور في الفضاء حول الكرة الأرضية. أثار ذلك الحدث في العالم يومئذ زوبعة مماثلة، تبعتها زوابع أخرى كلما جدَّ جديد في مضماره، كنزول أول إنسان على سطح القمر (نيل أرمسترونج) ورفيقاه. ومكث الناس زمناً في ذهول يؤرجح بعضهم بين الإيمان والكفران لهول المفاجأة.
إنسان يهبط على سطح القمر؟ أيعقل هذا؟ إلى أن تذكَّروا بعد إعمال الفكر والروية، أن القمر كان موجوداً، وأن الأرض كانت موجودة مثل وجودهم عليها. وليس القمر سوى جرم تابع لها يدور من حولها على بعد معين.(*) كل ما في الأمر هو أن الإنسان عرف كيف يقطع المسافة ما بين الأرض والقمر، واتخذ الوسيلة إلى ذلك. بما مكنه منه العلم، عن طريق الصواريخ والمركبات الفضائية، تماماً كما يقطع المسافة بين مكان وآخر على الأرض نفسها. فما هو وجه الغرابة والعجب؟
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33)
وآية سبقت الإشارة إليها، ونعيد نصها لمقتضى السياق:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصلت:53)
إذن، لم يأت الإنسان في مسألة الاستنساخ بـ (خلق) جديد. هو لم ينشئ (حياة) من العدم. الخلية التي استخدمها كانت مخلوقة حية جاهزة. إذن ما هو الجديد؟ الجديد فقط هو اكتشافه لوسيلة أخرى للتكاثر غير طريق الإنجاب الطبيعي الذي عرف. ومن قدر الله أن يعرف الإنسان هذه الوسيلة في زمن ما وتصادف أن كان هذا في زماننا. أما مسألة حلاله من حرامه أو أنه إيحاء من الشيطان أو غير ذلك فليس هنا مكان الخوض فيها.
هذه الوسيلة كانت موجودة في الطبيعة والخلق من قبل. وإن دلَّ هذا على شيء فإنما يدلُّ على جهل الإنسان بأمرها طوال الأحقاب الزمنية الماضية إلى يوم الاكتشاف الذي أعلن عنه في الخامس من تموز عام 1996. هي إذن مسألة بيولوجية بحتة، تلخصت فيما يلي:
فريق من العلماء الاسكتلنديين يعلن عن ولادة أول كائن حي من الثدييّات بالاستنساخ، هي نعجة أطلق عليها اسم (دوللي Dolly) تيمناً بالنجمة المغنية الأمريكية (Dolly Parto)..!
وبعد أن هدأت الضجة في وسائل الإعلام كافة، من أقصى الأرض إلى أدناها، بدأ الحديث عن إمكانية استنساخ إنسان. وانقسم العالم، من جديد وما زال منقسماً حول هذه المسألة، بين مؤيد مشجِّع، وبين مستنكر ممانع. ولكلِّ أسبابه ومنطقه ووجهة نظره. ولا يزال بعضهم يرى استحالة ذلك.
ما يهمنا في هذه الحكاية برمَّتها هو أن يتبين للناس أن القرآن أنبأنا بهذا من قبل. وإن لم يسمِّ الفعل باسمه الذي عرَّفوه به. ذلك في وقت لم يكن ممكناً لبشر أن يتنبأ به، إذ هو فوق معطيات ذلك العصر وإمكاناته من الناحية العلمية، بل إن هذا ما برح سرّاً كامناً حتى أواخر القرن العشرين. وقد أشار القرآن أيضاً إلى المحاذير المترتبة عليه إذا ما طبق استخدامه على الإنسان. وذلك بإشارته إلى مصدر الإيحاء به، وهو الشيطان الذي توعَّد الإنسان بمزيد من الغواية والضلال، وأن هذه سوف تكون إحدى غواياته. وهذا ما يفسِّر استنكار الأكثرية الساحقة من البشر، لاسيما في الوسط العلمي ذاته لفكرة الاستنساخ البشري وما سوف يترتب عليها من عواقب هي غاية في السوء. ونورد فيما يلي بعض ما يرد إلى الذهن من محاذير للوهلة الأولى في هذا الشأن، حتى دون الذهاب إلى أبعاد أشدَّ فداحة وأبعد خطراً، لكيلا ننأى بعد هذا الاستطراد، عن موضوعنا الأساس:
أولاً: هل سيختفي دور الرجل والمرأة في الإنجاب، فلا يكون هناك اتصال بينهما مثلاً الأمر الذي لولاه لما كان هناك بشر على وجه الأرض (ولسنا بصدد حلاله من حرامه، المشروع منه وغير المشروع)، وهل سيكون الإنسان ــ رجلاً أو امرأة ــ سعيداً بذلك؟
ثانياً: هل سوف نرى أصنافاً من البشر، كفئات ونماذج من قبيل (الماركات المسجَّلة، والطرازات، والموديلات) كالسَّيارات والثلاَّجات والساعات اليدوية، بما في ذلك سنة الإنتاج، ومدة الصلاحية، وكفالات الصيانة..!!؟ هل سوف يصنَّف إنساناً أم آلة؟
ثالثاً: إلى مَنْ سوف ينتمي مثل هذا الإنسان المُنْتج، إلى المصنع؟ إلى بلد المنشأ؟ وما نوع الهوية التي سوف يحملها للدلالة عليه؟
رابعاً: ماذا عن المقومات النفسية والخلقية والفكرية والإبداعية، والمشاعر والأحاسيس؟ وماذا عن الانتماء لأبوين وأسرة وعلاقات اجتماعية من زواج وأبناء ومصاهرة؟
خامساً: هل سوف يلتزم هذا الكائن مراعاة القوانين والأعراف والقيم السائدة في المجتمع، كما تعارف عليها البشر عامة؟ ناهيك عما تختصُّ به كل جماعة، أو شعب، أو قبيلة في بيئتها ومكانها؟ وإذا هو لم يفعل بسبب تكوينه المختلف عن التكوين الأصلي للإنسان العادي؟ هل سيكون معفى من المسؤولية فلا حساب عليه، أم أنه سيخضع في ذلك لما يخضع له الإنسان العادي.. الطراز القديم!
سادساً: هل سوف يعتبر هذا (إنساناً) لدى من يستخدمه في عمل أو دائرة، أم يعتبر آلة مثل الروبوت، وجهاز الكومبيوتر؟ إنساناً حرّاً… أم عبداً رقيقاً، آلة مسيَّرة حسب مشيئة المستخدِم ومصلحته التي قد تقتضي الاستغناء عن خدماته، وما مصيره عندئذ؟ هل يحق لمقتنيه إلقاءه في مخزن الانقاض أم إعدامه؟ أم أين يذهب به في نهاية المطاف؟ وإذا هو توفي هل يقام له عزاء؟ ومن يتقبل العزاء فيه؟ هل يدفن في مقبرة العائلة أو الجماعة، أم تلقى جثته في مكبِّ للنفايات؟
سابعاً: هل إذا توفي هذا سيصلى عليه إن كان مسلماً في الجامع، أو إن كان مسيحياً في كنيسة؟ بل هل سيكون من أتباع دين ما؟
ولسوف يخطر بالبال كذلك.
ـ ماذا سيحل بالإنسان العادي؟. أعني طرازنا القديم؟!
التساؤلات كثيرة بلا حصر. والأجوبة تظل معلقة في فراغ. ويبقى هناك سؤال لابد من طرحه هو:
ـ ما مصير أعضاء إنساننا العادي؟ إنساننا نحن الذين أنجبَنا أبوانا طبيعيّاً؟
نحن نعرف عن طريق العلم، الطب والفيزيولوجيا، أن الأعضاء التي لا تُستخدم تضمر مع الزمن، ثم تفقد وظيفتها، ثم لا تلبث أن تتلاشى. كان للإنسان قديماً قدرةٌ فائقة على الحدْس والإلهام، كالحاسة السادسة وما فوق. موقعها في مؤخرة الرأس تدعى (الغدة الصنوبرية) تمكِّنه من معرفة الكثير مما يدور حوله، حدْساً وإلهاماً, وتجنِّبه الكثير من كوارث الطبيعة، وما فيها من أخطار الفيضانات والزلازل والأعاصير والبراكين، فضلاً عن الوحوش الكاسرة التي كانت تعج بها الأرض. بل وتمكِّنه من الحكم على من يواجهه من أبناء جنسه. يتوسم في هذا خيراً، ويتوجس من هذا شراً، ويصدق حدْسه. بيد أن الإنسان المعاصر فقد أو هو يكاد أن يفقد تماماً هذه الحاسة، بعد أن سار أشواطاً في طريق التقدم والتطور، مبتعداً عن حياة الفطرة الأولى إلى حياة المدنية والمدينة والصناعة والتجارة، ومنذ أخذ في الاستعاضة عن كثير من حواسه بالأدوات الصناعية والتكنولوجية، والمنجزات العلمية المستخدمة، التي باتت في متناول يده. إلى أن خسر هذا العضو الهام جدّاً لحياته. هذا ما يقول به علماء السسيولوجيا والسيكولوجيا، لا نحن. يقتضينا التنويه بذلك كيلا نوصم بالدعوة إلى التخلف.
وإذن حق لنا أن نتساءل عن مصير الأعضاء التناسلية لدى كل من الرجل والمرأة. هل تنتهي الحاجة إليها. هل ستفقد وظيفتها، وينتظر لها من ثمَّ أن تضمر إلى أن تتلاشى وتختفي؟ وهل سيفقد الإنسان الطبيعي تلك المتعة المشروعة، التي منحها إياه الخالق، كوسيلة للاتصال الحميم الجميل، بين المرأة والرجل، ووسيلة للتكاثر النوعي، والتي ما برحت مبقية على العلاقة الأسرية الطبيعية في دفئها، وقدرتها على دفع الإنسان عاملاً مجدّاً في حياته كلها من أجل أسرته أولاً؟
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم:21).
يفعل ذلك راضياً أيّاً كانت معاناته ومتاعبه التي يلقى. الشعور بالمسؤولية العائلية، والواجب الوطني والقومي والإنساني. كل أولئك ما شأنها ألن يخسر الإنسان عندئذٍ ذلك الجو الأسري العائلي الجميل مع الزوجة والأبناء الطبيعيين الذين أنجب؟ ويقال مثل ذلك عن المرأة نفسها؟ ثم هل يرضى الإنسان العادي السَّوي أن يتخلى عن شيء من ذلك في سبيل منجز علمي اقتحامي كهذا لن يكون من شأنه تسهيل الحياة أو تجميلها، وإنما تعقيدها أكثر مما هي عليه من تعقيد، وزيادة في البشاعة والبؤس والكآبة في شتى جوانبها.
ونحن لا ندري لماذا يريد الإنسان استنساخ بشرٍ آخرين. هل منشأ تلك الرغبة هي الحاجة لمزيد من البشر على ظهر هذه الأرض؟. ألا يقولون أن الأرض بالكاد تتسع لمن عليها، فاتخذ هذا السبب ذريعةً لمن يدعون إلى تحديد النسل لدى دول بعينها. ولا بد أن تكون الدول العربية والإسلامية تحديداً من بينها أو على رأسها..!
لو أننا شئنا الاسترسال في إيراد الشواهد والبيِّنات، في التحليل والتعليل، والبرهنة إلى ما لا نهاية فيما تحفل به آيات كتاب الله لما بلغْنا من الإحاطة إلا بالنزر اليسير، الذي لا يعدو قطرات من بحر محيط، حتى لو أننا حبَّرنا مجلدات في شأن سورة واحدة، بل آية واحدة من آياته. فإيجازاً ننتهي، من ثم، إلى التساؤل:
من ذا الذي أنبأ محمداً بكل هذا؟
أم تراه كان ممكناً أن يأتينا به من عنده، وفي عصره؟
ترى أي مصادفات تلك التي جعلت كل ما جاء به صحيحاً أثبتته الدراسات والأحداث والوقائع على مر السنين؟ أيُّ مصادفات تلك التي جعلت النبوءات المستقبلية ـ التي كانت طيَّ الغيب عند صدورها، وفي شتى شؤون الحياة والبشر والمخلوقات والأفلاك، تصدق جميعاً فلا تشذ عنها حالة واحدة أبداً؟
وفيما يتعلق بالآية الخاصة بمسألة الاستنساخ آنفة الذكر، نجد معطيات الآية بتفاصيلها تماماً تؤكد وقوع ما حذَّرت منه. فخلايا الأغنام والأبقار والخنازير جميعاً أخذت من آذانها. حتى لو كانت من غير هذا العضو فما كان ذلك ليغير في الأمر شيئاً. لكنها فعلاً أخذت من آذان الأنعام. كذلك مسألة تغيير خلق الله الواردة في الآية. ألا يعكف العلماء على انتزاع الخلايا والجينات والكرموزومات، والتعامل مع الحمض النووي والمورِّثات من أجل التهجين لتبديل الصفات الوراثية للمخلوق، لكي تكتسب صفات غير صفاتها الأصلية الطبيعية. فما هو التغيير في الخلق إن لم يكن هو هذا؟
وإذا جاز هذا في النبات فهل يجوز في الكائنات الحية وفي مقدمتها وأخصِّها الإنسان.
أليس في هذا كله معجزة تنبؤية تؤكِّد صدق المصدر المرسِل وصدق النبي المرسَل؟.
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (الجـن:26-28)

* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 40 : 07 PM   رقم المشاركة : [13]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل التاسع
أخبار الأمم الغابرة
في قصص القرآن



[align=justify]
الجهل العام بأخبار الأمم قبل التنزيل
أيّاً كان اجتهاد محمد (صلعم) ــ لو كان باحثاً أو دارساً ــ فهو لن يصل بجهده الذاتي إلى هذا الكم الهائل من أخبار السابقين وقَصصهم، لاسيما وأنه لم تكن هناك، في زمانه، كتب تروي عما مضى من حياة تلك الأمم، فضلاً عن الحديث عن مصائرهم التي آلوا إليها، بمثل تلك الدقة في الوصف، من جهة، والإحاطة الشاملة، من جهة أخرى. الأسفار القديمة السابقة كالتوراة والإنجيل، وملاحم اليونان كالإلياذة، والهند كالمهابهارتا، وبابل كجلجامش، هذه جميعاً لم تعرض إلا النزر اليسير من الأحداث والأخبار للأمم السابقة. وقد سادتها الأساطير (الميثولوجيا) أكثر مما كان واقع الحال الذي عاشته تلك الأقوام. صحيح أن التوراة جاءت بقصص كالطوفان، وخلق آدم وحواء، وخروجهما من الجنة، وفرعون وموسى، ويوسف وإخوته أبناء يعقوب (عليهم السلام). إلا أنها لم تحفل بالتفاصيل الدقيقة المقبولة منطقيّاً( )، ولا هي جاءت بمثل هذا الوضوح الذي اتَّسم به قَصَص القرآن، بحيث يمكن أن يقال أن محمداً نقل عنها. أضف إلى ذلك أن محمداً لم يكن مضطرّاً إلى شيء من ذلك القبيل لكي يصل إلى مبتغاه، إذ ليست هي من المقومات الضرورية في المسألة. كما أنه لم يكن واثقاً من أنه يأتيهم بما لا يقبل الطعن فيه ذات يوم، سواء في حياته أو في العصور التالية لعصره، لو لم يكن مصدر القَصص هو خالق أولئك وصانع مصائرهم، وهو قَصص لم يرد في غير القرآن من قبل على هذه الصورة. فمن أين جاء بها إن لم تكن وحياً إلهيّاً؟
القرآن ينقلنا إلى أجوائهم، وبيئاتهم، وطرائق حياتهم، حتى لنكاد نشعر وكأنهم يمشون بيننا، وليسوا أقواماً بائدة منذ أحقاب بعيدة. كما أن القرآن فيما يروي عنهم من أخبارهم يضمِّن النص حِكَماً وعظات، بغية استخلاص العبرة من مصائرهم التي آلوا إليها. فضلاً عن ذلك يحدثنا القرآن ــ وهي سمة تفرَّد بها ــ بأسلوب قصصي شائق عن الحياة الآخرة، والجنة والنار، وما يلقى أصحابهما فيهما يوم الحساب. أسلوب مهيب حافل بالترهيب والترغيب معاً، معتمداً صيغة الماضي عن (يوم الحساب) مع أنه لم يقع بعد. وما ذلك إلا تأكيداً بلاغياً على حتميتها جميعاً للتأثير النفسي على المتلقي، بمعنى أن ذلك واقع لا محالة. فأنَّى لمحمد الإلمام (أولاً) بالصيغ البلاغية الدقيقة المعجزة إلى هذا الحد، و(ثانياً) ما تضمنت من معلومات غيبية، لو لم يكن رسولاً يتلقى عن ربه إذ هي لم تكن متاحة له من أي سبيل، أو أي مصدر.
ومن الجدير ذكره أن من أهم أهداف القَصص القرآني تثبيت عقيدة التوحيد، والإيمان بالبعث والنشور والقيامة( )، وتقرير جوهر العقيدة، وتوجيه النفس نحو بارئها بما تشيعه فيها من إشراقات روحية شفافة، ذلك كله يتأتى من خلال قراءة القصة القرآنية، للعلم بمضمونها أولاً، ثم تأثراً بجمالية النص وبلاغته، وما تحفل به القصة من وقائع وأحداث لحياة أقوام بادوا، مما يَقِرُ في النفس الخشية من مصير مماثل فيما لو سلكت في حياتها سلوكاً مماثلاً. ناهيك عما تزخر به من وصفٍ باهرٍ ومؤثرٍ لحياة مجتمعاتهم، وما تعرض من صورهم في شتى أحوالهم، ثم ما أفضى إليه سلوكهم من نتائج تبعاً لنوع ذلك السلوك، خيراً كان أو شراً، وانعكاس (هذا) أو (ذاك) على الفرد أو على المجتمع. وكأن تلك القصص تقول لمن بعدهم، أي الذين تلقَّوْا أخبارهم، أن مسلك الإنسان هو الذي يحدد مصيره، سواء في حياته على الأرض أو ما سوف يلقى عند حسابه، بعد مماته في الدار الآخرة. فالسبب المعيَّن يفضي حتماً إلى نتيجة معينة تشبهها. من ثم جاء الكثير من القَصص في شأن أقوام وأمم عاشت ثم بادت، وكانت مصائرهم وفاقاً لما كسبت أيديهم.
تحفل القصة القرآنية بالجدل والحوار العقلي الجدلي، والحوار الافتراضي بين شخصيات معلومة أو مجهولة، أو بين معلوم ومجهول. كما تتضمن ضرب المثل للبرهنة على المضمون المراد إبلاغه. الكثير من ذلك القصص تنزل في العهد المكِّي، مركِّزاً على بناء العقيدة الإسلامية في صيغ متعددة، وأساليب مختلفة تتفق مع الموضوع والحالة. وتثور تساؤلات حول ذلك التأثير العظيم للقصص القرآني والعوامل المؤثرة فيه، أهي دينية بمعنى ترسيخ الإيمان في القلب أم هي نفسية تطميناً للنفس بأن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف؟ إنها كل ذلك. وما هو سر هذا التأثير؟ أهو حضور القول الإلهي المؤجِّج لأشواق النفس الروحية؟ أم هو التحليق مع الغيبي اللامتناهي بعيداً في ملكوت الله ورحابه؟ أم هو هول الأحداث وغرابتها، وتصاريف القدر والمصير الإنساني، سواء كان ذلك يعني الإنسان فرداً أو كان ذلك في المصير البشري على عمومه. وهي أمور سائرها بين يدي الله دونما استثناء ولا محيص عنها.
كما أن هذا القَصص يزخر، عند العرض، بما حاق بالأقوام الغابرة وما انتهت إليه مصائرهم بعنصري الترهيب والترغيب للإنسان الذي يتوجه إليه القرآن بالخطاب، الإنسان الذي هداه الله النجدين .. فإما كافراً وإما شكوراً. من ثم كان له الخيار بينهما بملء إرادته غير مكره، لكي يكون حسابه بين يدي ربه في الدار الآخرة تبعاً لما اختار بمحض تلك الإرادة.
وهذه نماذج من هذا القصَص ــ قدر المستطاع ــ في حيِّز ضيق كهذا الذي نملك:
لا بأس من التنويه بأن العرب كان لهم قصص في باب من آدابهم، فيه دلالة كبيرة على عقليتهم وبيئتهم وعاداتهم. وهذا القَصص في الجاهلية على أنواع منها: أيام العرب، وهي تدور حول الوقائع الحربية التي وقعت في الجاهلية بين القبائل، كيوم ذي قار الذي انتصر فيه العرب على الفرس، وداحس والغبراء، ويوم الفجار، ويوم الكلاب.
ومنها أحاديث كثيرة عن الهوى في كتب الأدب. وقصص عن الفرس، جاء بعضها في سيرة ابن هشام( ).
ولم يعرف عنهم أبعد من ذلك.
وحتى الأدب الفارسي هذا رغم غناه ــ ولربما اطَّلعوا على شيء منه ــ، لم يكن محتوياً على شيء إطلاقاً من القصص والأخبار التي وردت في القرآن الكريم عن الأمم السابقة. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الأدب الروماني، ومن قبله الأدب اليوناني الذي اهتم بالأسطورة (الميثولوجيا) والملحمة والمسرح.
(وإذا كان هناك من وجه للشبه بين الأدب العربي القديم والأدب الفارسي، في زمانه فهو (ذلك النوع من الحكم يشبه مشابهة تامة الذوق الفارسي. فالحكم التي تنسب لأكثم بن صيفي في الجاهلية، والإمام علي في الإسلام، والتي تنسب لسادات العرب كالأحنف بن قيس، تشبه في قوالبها وصيغها واتجاه النظر فيها ما يروى في كتب الأدب عن بزر جمهر، وإبرويز، وموند موبذان ونحوهم)( )، حتى لقد عقد (ابن عبد ربه) فصلاً في كتابه (العقد الفريد) تحت عنوان (أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر) ولم يبين ما لكل منهما، فكان من الصعب التمييز في أكثرها بين ما هو لأكثم وما هو لبزر جمهر( ).
فعن أي جهة ــ مفترضة ــ سابقة لزمانه ترى قد نقل محمد هذا الفيض الزاخر الثرّ من قصص الأولين؟
الوقائع والأحداث وتاريخ الأدب العربي والآداب الأخرى لا تنبئ بشيء من ذلك.



* * *

قصة النبي يوسف عليه السلام(*)
في سورة يوسف تقرأ عجباً. قصة تروي تاريخ الغلام منذ نشأته بين أهله. كما تحكي لنا قصة أولئك الأهل، الإخوة والأبوين.. ثم غدر إخوته به، وعودتهم إلى أبيهم بقصة ملفقة عن مصيره. وإذ هم يحسبون أنهم تخلصوا منه، تأتي قافلة عبر الصحراء لتنقله إلى مصر, حيث يشتريه عزيز مصر. ثم ما جرى ليوسف هناك إثر مكيدة تدبِّرها له امرأة العزيز التي (شغفها حباً) انتقاماً منه، لعدم استجابته لما راودته به عن نفسها. تروي السورة أحداثاً حافلة، وتاريخاً طويلاً على مدى أحقاب، في عبارة مكثفة، بأسلوب قصصي آخاذ، ينقلك من مشهد إلى مشهد، في انسياب رائع وتسلسل بديع. تمضي الأحداث متصاعدة حيناً، وبالإرجاع حيناً، وبالإرهاص بالغيب لما هو مقبل، لا يعلم أمره إلا الله. تحكي عن الرؤيا وتفسير رموزها وإيحاءاتها، كما عن اليقظة والنبوءة. يمتزج الحلم بالواقع، بالماضي، بالحاضر، والمستقبل في سلاسة عجيبة، تشدُّك من البداية حتى النهاية، لا تملك لنفسك فكاكاً من أسرها. وأنت الذي قرأها عشرات المرات إن لم يكن مئاتها، لا يتطرق إليك السأم، كما قد يحدث لو أنك قرأت رواية معاصرة أكثر من مرة. مثيرة فيك الشجى والأسى، والعطف والتعاطف، والمشاركة الوجدانية بالأحاسيس والانفعالات الزاخرة في كل صفحة وفي كل سطر، بل وما بين السطور من إيحاءات تنساب في حنايا النفس، وتسري مع نبضات القلب. كل ذلك في عدد قليل من الصفحات. وكان يمكن ــ لو كانت من إبداع بشر ــ ألا تستوعبها رواية طويلة تتألف من مئات الصفحات، ثم بالرغم من ذلك، قد لا تفي بالغرض الذي وصلت إليه السورة ولا تترك في النفس ذات الأثر الذي أسكنته فيها.
تبدأ القصة بمدخل يحفز على الانتباه وإيقاظ الوعي لما سيجيء من القول:
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ. إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (يوسف:1-4)
وبعد أن يتوجه إليه أبوه، نبي الله يعقوب، بالنصيحة بإلا يقصص رؤياه على إخوته، تأتي آيات أخرى كي تشد الانتباه أكثر، مختلطاً بالدهشة والترقب لما يمكن أن يحدث، فتقول عن إخوة يوسف وما دار فيما بينهم لتدبير المؤامرة بحقه:
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (يوسف:7-9)
بهذه البداية البسيطة الممتنعة والموحية تبدأ قصة يوسف (عليه السلام)، لتمضي مع وقائعها المثيرة إلى حقبة طويلة من الزمن، حافلة بالأحداث، سواء فيما يتعلق بيوسف ومسيرة حياته في أرض مصر، وعلوّ شأنه فيها، بعد ظهور براءته مما حاولت امرأة العزيز نسبته إليه، أو بإخوته وما ألمَّ بهم بعد ذلك، أو بأبيه الذي يفقد بصره حزناً عليه: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (يوسف:84)
ما أبدع التعبير عن العمى دون ذكره مباشرة بل على هذا النحو (ابيضاض العينين). ولا يعود إليه بصره إلا حين يأتي إخوة يوسف بقميص، ليلقوه على وجهه حسب توجيه يوسف الذي كان يعرف أثر ذلك على أبيه: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (يوسف:93). ما أروع المشهد وما أشده حزناً وشجناً. عودة الأهل، ولمُّ الشمل بعد ذلك العمر الطويل من الفرقة والغربة والوحشة والقطيعة. ومن ضمنها رحلة العودة بطولها حتى وصولهم إلى ديارهم، ولقاء أبيهم وحديثهم إليه، وما يوحي بحوار جرى فيما بينهم، ومجيء البشير بعودتهم. ذلك كله في آيات ثلاث في أسطر قليلة: في بلاغة مكثفة لا نظير لها، تبلغ حد الاستحالة على مبدع بشري لما حفلت به من شحنات وجدانية دافقة في فؤاد أب مكلوم يشمُّ ريح ابنه الغائب عن كثب فيرتد بصيراً. فأي مبلغ من الأسى كان عليه الرجل بحيث يفقد البصر ثم يرتد البصر إليه جراء فراق ابنه الأثير ثم عودته إليه.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (يوسف:94-96)
ثم يتوجه الخطاب إلى محمد (صلعم): ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (يوسف:102)
ولأن الغاية من وراء هذه القصص هي العبرة بمن سلف فقد ختمت السورة بقوله تعالى:
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف:111)
وينبغي ألا تفوتنا الإشارة ـ ما دمنا في معرض التحليل ـ إلى ما يتعلق بقصة امرأة العزيز، وما حفلت به من صور وتشابيه ومفردات هي غاية في دقة الوصف والتصوير، كما أنها غاية في السمو والرفعة، فهذه مقاطع في القصة تتحدث في موضوع جنسي، ومع ذلك جاءت خالية من عبارات اعتادها كتاب عصور عديدة في هذا الشأن، حيث لا يسيغون التعبير في مسائل الجنس إلا باستخدامهم لمفردات حسية فجة ومكشوفة تخدش الحياء وتثير النفور. هذا الجانب في السورة وحده يكفي لينشئ رواية كاملة ـ كما أسلفنا ـ بما تضمنه من وقائع، وتحليل نفسي للشخصيات (بمنطق النقد المعاصر لقصص معاصرة) وحوارات بينها، ومناجاة للنفس، وحوارات داخلية، سواء كان ذلك لحالة يوسف في ذلك الموقف العصيب، أو حالة امرأة العزيز لدى مراودتها له عن نفسه، وحالها لدى مفاجأة الزوج (العزيز)، وادعاءها باطلاً على يوسف، بأنه هو الذي أراد إغواءها:
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (يوسف:25).
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (يوسف:30-32)
هذه القصة وهذا التدبير، وهذا الوصف، وهذه التعليقات والتحليلات، وما أعدت لهن، وكيف جلس وفيم فكرن، وماذا فعلن بأيديهن، وانطباعهن عن يوسف، وردها ووعيدها، وإبلاغهن ما تنوي فعله، بعد التنديد بمواقفهن ـ أيعقل أن يأتي هذا كله في مثل هذا الحيز المحدود.
مما يروي عن المفسرين والبحاثة أن سيدنا يوسف (عليه السلام) كان يتمتع بجمال خارق. ولننظر كيف قالت الآيات ذلك دون أن تقوله بالكلام المألوف والأوصاف المعهودة لدى الكتاب والرواة والواصفين قديماً في ذلك الزمان، وحديثاً في أيامنا هذه. لماذا؟ لأن الآيات تسعى إلى إعطاء الصورة من خلال القصة بعيداً عن الإثارة، خشية استغراق المتلقي في الذهاب مع خيالات مجنحة تصرفه عن ما هدفت إليه الآيات فعلاً من عرضها لتلك الوقائع. كان الوصف ضمنياً ورمزياً، موحياً دون تسمية الأشياء بأسمائها في واقعة امرأة العزيز وحكايتها من بدايتها حتى نهايتها. ولننظر لنرى إن كان هناك من وصف أبدع حتى دون استخدام الألفاظ المألوفة في مثل هذه الحال، وذلك ما ورد في قوله تعالى في الآية 32 من السورة المثبتة آنفاً.
لماذا قطعن أيديهن ترى أليس ذلك بسبب ما حل بهنَّ من ذهول لدى رؤيتهن ليوسف؟ لماذا قلن: ما هذا بشراً؟ لماذا شبهنه بالملك الكريم؟ وهل ثمة كلمات أوفى وأدق من تساؤلها حين تقول: (فذلك الذي لمتنَّني فيه). كأنها تندد بمواقفهن منها. فليعذرنها الآن بعد ما رأين من جماله ما رأين.
أمثل هذا النص الرائع المدهش يمكن نسبته إلى بشر لقَّنه محمداً عليه السلام، أو إلى محمد نفسه، الذي لم يعهد عليه أو منه كتابة، أي كتابة من أي نوع كانت، ناهيك عن أن تكون رواية أو قصة، كهذه التي أتى بها القرآن في روعتها وعظمتها؛ وإعجازها.


* * *

قصة أهل الكهف
ومن القصص الحافلة بالوقائع المثيرة، والتي ما كان للناس في عصر محمد (صلعم) وبيئته العربية كلها إلمام بها، فتأتيهم الآيات بشأنهم، إثر آيات ممهدة ومنذرة ومنبهة إلى أهمية الكتاب (القرآن) الذي ينزل على محمد، مبشِّراً به المؤمنين ومنذراً المخالفين، قصة أهل الكهف:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (الكهف:9)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً (الكهف:13)
انظر إلى هذا الاستهلال التشويقي المثير للانتباه والترقب لما سيأتي في قصَّتهم:
تمضي الآيات تحدثنا عن قصتهم العجيبة، غير المألوفة بمعنى الخارقة للمعتاد من سنن الكون، والتي هي برهان ساطع على قدرة الله وإعجازه عن أهل الكهف الذي ناموا فيه ثلاثمائة سنة ونيِّف. وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (الكهف:25).
لم تغفل الآية ذكر الفارق في السنين، بين التقويميين الشمسي والقمري. من هنا جاء التنويه بزيادة تسع سنين، الأمر الذي كشفه مؤخراً فقط علماء الرياضيات. فالثلاثمائة سنة بالتقويم الشمسي، تساوي تماماً ثلاثمائة وتسع سنين بالتقويم القمري. كيف تسنَّى لمحمد الذي أمضى حياته كلها في مكة: أولاً معرفة هذه القصة بحذافيرها وتفاصيلها وتفرعاتها، والعبر التي تنطوي عليها. ثانياً أن يعرف في ذلك الزمن الفرق بين التقويميين؟ وما هي الحكمة في إيراده إن لم تكن للتدليل على علم المصدر بحقائق الكون، فتلك الحقائق في علمه وحده دونما ريب. ثالثاً المضي مع التفاصيل عن الرحلة التي قام بها نبي الله موسى (عليه السلام) مع صاحبه الذي لم يستطع معه صبراً. وعن ما رافق ذلك من أحداث: السفينة التي خرقها صاحبه ــ يقال إنه الخضر ــ مما أثار دهشته وعجبه. ثم الجدار المنهار الذي أعاد بناءه رغم أن أهل تلك القرية لم يقدما لهما طعاماً، مما أثار حيرته، والطعام الذي نسيه عندما نسيا الحوت. والسفينة التي خرقها ذلك الصاحب عمداً فأنكر عليه ذلك. ولكن المدهش في هذه القصص هو أنها تأتي رغم كل تفاصيل السرد، مكثفة لا زيادة فيها لكلمة أو لحرف. تؤدي المطلوب وتفي بالغرض، وتصل إلى القلب والعقل معاً بأقل الكلمات عدداً، فلا حشو ولا إطالة ولا إسهاب دونما داع. أما عن الإيقاع والموسيقى الداخلية والخارجية، ووقعها على القلب والسمع فلا سبيل إلى وصفها. فكلام الله يعزُّ على التقليد والمشابهة، أيّاً كانت قدرات الإنسان. وتختتم السورة بهذه الآيات الجميلة الوقع في النفس من جهة، والمؤكِّدة على بشرية الرسول من جهة ثانية، والدالة على سعة علم الله وإعجاز كلماته التي هي بلا حدود:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً. خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً. قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً. قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف:107-110)
آيات ختام تنطوي على:
ـ البشرى للمؤمنين بالخلود في جنات الفردوس.
ـ إبلاغ للناس بسعة علم الله، وشمول كلماته على نحو يعجز العقل البشري عن تصوره.
ـ تأكيد على بشرية محمد عليه السلام ونبوته في الوقت ذاته.
ـ دعوة للعمل الصالح، ونهي عن الشرك في عبادة الله.
ويبدع القرآن في تصوير المشاهد حتى لكأنك تراها شاخصة أمام عينيك. لننظر أيضاً إلى هذا الوصف التصويري المذهل إذ يقول تعالى في قصتهم: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً (الكهف:17)
ولأن القَصص القرآني هادف وتعليمي، نرى فيه الكثير من الأمثال التي يضربها على صور مختلفة حسب مقتضى الحال ومعطيات الموقف. وإنا لنرى من الإبداع القصصي في القرآن ما لا نراه فيما هو من صنع البشر، حيث يتداخل الحوار مع السرد، مع المتخيَّل وراء حجب الغيب، مع عرض الصورة بكلمات خاطفة كالبرق تشعل العقل، وتذكي القلب والروح معاً، فتثير في النفس مزيجاً مذهلاً مما تنطوي عليه ملكات الإنسان ومكنوناته جميعاً. القصة هنا ليست تزجية لفراغ أو ترويحاً للنفس، وإنما هي قصة هادفة، عميقة الغور، شديدة التأثير، بالغة الأثر. ولنقرأ معاً هذه الآيات في حالتين إنسانيتين يشهد الناس مثيلاً لهما في حياتهم ومن حولهم في كل يوم. يقول تعالى في هذه السورة مخاطباً رسوله محمد عليه السلام، الذي لم يكن يعرف شيئاً عن أهل الكهف، أو سمع بأمرهم قبل أن تتنزل عليه سورتهم، يقول تعالى، وفي بلاغة معجزة لم يألف مثلها البشر في غير القرآن:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً. وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً. لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً. فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً. أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً. هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (الكهف:32-44)
ليقول بعد ذلك استخلاصاً للعبرة:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (الكهف:45)
ما كان محمد قاصَّاً أو كاتباً لكي ينجز من تلقاء نفسه قصة على هذا القدر من الروعة في نصها البديع المذهل، وما تثيره من خيال مجنّح، بحيث تتراءى صور الفتية في الكهف، وما جرى لهم بعد أن ناموا في كهفهم هذا الردح الطويل من الزمن، ولموسى وما جرى له في صحبة صاحبه الرجل الصالح. المعجزة الخارقة التي وقعت بشأنهم بقدرة الله فكان لهم تجاوز سنن الكون. قصة خارقة غير عادية، في حياة جماعة من البشر، أرادها الله عبرة للناس تبعث فيهم عميق الإيمان، والتسليم بقدرته وعظمته.
* * *

قصة موسى عليه السلام
يعرض القرآن الكريم قصة نبي الله موسى عليه السلام، من يوم مولده، وكيف أوحى الله إلى أمِّه أن تلقيه في اليم لكي ينجو من خطر فرعون عليه، إذ كان هذا يقتل أبناء اليهود من الذكور خشية على ملكه. كان يفعل ذلك بناء على تنبؤات العرَّافين والسحرة والمنجِّمين الذين كان يحفل بهم بلاطه.
يقول تعالى:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (القصص:7)
قصته مع قومه فيما بعد، ثم هجرته إلى مدين، فزواجه من ابنة النبي شعيب، وكيف تم ذلك الزواج، ثم عودته إلى مصر بعد أن كُلِّف بتبليغ رسالة ربه إلى فرعون وملئه. وبعد ذلك تأتي المرحلة الأخطر، وهي الخروج مع جماعته هرباً من فرعون مصر، وعبورهم البحر، وغرق فرعون في رحلة مطاردته لهم. وما تبع ذلك من التيه أربعين سنة في الأرض.
قصة موسى وقومه مع فرعون، وقصة إيمانه إذ رأى النار عند جانب الطور الأيمن، وسائر الأحداث والوقائع التي مر بها، وردت في مواضع وسور كثيرة من القرآن الكريم( )، وإذ تتحدث معظم السور عن الأحداث والوقائع التي جرت آنذاك، فهي تحدِّث أيضاً عن بني إسرائيل. مبيِّنة مساوئهم الخلقية والسلوكية، وكفرانهم بنعم الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق. بل إنهم لا يحجمون عن التنكر للخالق نفسه. يتبدى ذلك في عدم وقوفهم عند حدٍّ فيما يطالبون موسى بأن يأتيهم به من عند ربه. تعجيزاً وبطراً وجحوداً. وجلُّ مطالبهم استغلالية تتسم بالجشع الذي لا يقْنَع صاحبه أبداً، والغريبة عن المنطق والعقل. ينعم الله عليهم بالمنِّ والسلوى، فيطلبون البصل والثوم والقثَّاء. أي يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة اتسم بها سلوكهم، لم يغفل القرآن شيئاً منها. من ثم فإنك واجد التنديد بهم. والوعيد بالمصير القاتم الذي ينتظرهم، في مواضع كثيرة من كتاب الله، تفوق ما ورد في حق أيِّ جماعة إنسانية غيرهم. ولا يسعنا ــ بطبيعة الحال ــ إلا عرض القليل منها، على سبيل المثال، تعريفاً وتوضيحاً.
يقول تعالى مخاطباً إياهم بالتنديد والتقريع:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (البقرة:49-50)
ثم الآيات التي تتلوها:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (البقرة:54-55)
ويبلغ بهم الاستهتار والاستكبار، والجهالة أيضاً، أنهم يريدون أن يروْا الله جهرة لكي يؤمنوا..! أي أنهم يضعون لإيمانهم شروطاً تعجيزية خارج كل شرط إنساني أو كوني. لأن الله سبحانه لا يظهر للبشر جهرة لاستحالة قدرة البشر فيزيولوجياً على تحمُّل ذلك. لأن حواسهم ومنها العين، ليس في وسعها رؤية أكثر مما خلقها الله من أجله، وهو مظاهر الطبيعة والحياة من حولها، وما أضيق مداها، فكيف بهؤلاء يهرفون بما ذهبوا إليه. فترد عليهم الآية القرآنية سالفة الذكر.
هنا لابد لنا أن ندرك أن الله سبحانه لم يشأ أن يتجلى لبشسر يراه رأي العين، فالله جلَّ وعلا اعظم وأكبر وأجل من أن تراه عين. الله نور والبشر مادة حلَّت الروح فيها إلى حين، فهم بطبيعة الحال وبحكم تكوينهم غير قادرين على تحمل المشهد. من هذه الآية يمكننا فهم المسألة:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (لأعراف:143)
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن وقائع قصة مولد موسى عليه السلام. تتبدى فيها إرادة الله، التي أحبطت كيد فرعون، الذي حرص على قتل كل طفل ذكر يولد في تلك الحقبة، كيلا يكون هلاكه على يديه كما تنبأ العرافون وحذر الكهنة. ولكن إرادة الله ألانت قلب امرأة فرعون لهذا الوليد (اللقية) ظاهرياً، مما أبطل حسابات فرعون وكهنته ونفذت إرادة الله، إذ نجَّى موسى من النتيجة التي آل إليها سائر أطفال القوم آنئذٍ، وما أفضى إليه ذلك من نتائج ملحمية تكشفت فيما بعد. الآيات التالية تصور القصة أيما تصوير:
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ. وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ. وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (القصص:3-13)
وآيات لوصف مرحلة أخرى من مراحل قصة موسى مع بني إسرائيل، وما كان يلقى من جفائهم ونكرانهم برغم أن خلاصهم تمَّ على يديه:
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (البقرة:60-61)
هل شهد محمد هذا الحوار المفصَّل بين موسى وقومه؟ أم تراه كان مجبراً على (تأليفه) و(اختلاقه) لكي يقنع قريشاً بزعامته؟ وما هو وجه الأهمية في هذا لخدمة هدفه في زعامة قريش فعلاً؟
أما عن موسى نفسه فنجد في سورة طه (كما في غيرها من السور بصيغ مختلفة ومتعددة) قصته في إيجاز رائع يجذب السمع، ويثير الانتباه، ويوقظ الوعي على الفور، فلا تملك إلا أن تقبل بكل جوارحك متحفِّزاً للاستماع بشغف لتعرف ما هو حديث موسى..
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (طـه:9-15)
هذه الآيات، فضلاً عما ورد فيها من خطاب الله لموسى تدلُّنا أيضاً على أحوال سكان المنطقة في معيشتهم، ومنها حياة البداوة، وحاجتهم إلى النار في يوم برد قارس، كحاجتهم إليها في طهي طعامهم، ومسؤولية الرجل عن أسرته في سعيه إلى تلبية حاجاتهم، إذ ها هو ينبؤهم عن عزمه للذهاب إلى حيث رأى النار، لكي يأتيهم منها بقبس، أو لعله يجد عندها ما يرشده إلى غاية كان يطمح إليها أو هدف كان يرنو إليه.
وتسترسل الآيات لتحدثنا عن حكايته مع فرعون حتى الآيات 98 من سورة طه. ثم قصة زواجه ـ في سورة أخرى ـ من إحدى ابنتي النبي شعيب. لقاء خدمته عشر سنين وذلك بعد أن غادر مصر: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (القصص:21-22)
كان ذلك بعد أن قتل مصرياً واعتزم المصريون الثأر منه.
أما قصة زواجه فترد في الآيات 22-29 ومنها (بعد أن سقى لهما):
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (القصص:26-28)
و تخبرنا الآية التالية عن كيفية تكليفه بحمل الرسالة وكيف كلَّمه الله سبحانه:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (القصص:30)
ثم ذهابه إلى فرعون مصطحباً أخاه هرون، الأفصح منه لساناً، ومعركته مع فرعون وسحرته الذين يتغلب عليهم بما هو أقوى من سحرهم.
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى (طـه:77)
وسورة الأعراف تروي لنا قصة موسى وقومه، وفرعون وملأه كاملة، والمعجزات التي تحققت على يديه سواء لبني إسرائيل لكي يؤمنوا، أو لفرعون نفسه، لكن هؤلاء خيبوا ظنه، بعد كل ما فعله من أجلهم، حين ذهابه إلى حيث واعده ربه:
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (لأعراف:142)
ثم ليعود إليهم بما علَّمه الله، فوجدهم قد ارتدُّوا وكفروا:
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (لأعراف:148)
لقد حقت عليهم كلمة الله فتوعدهم بالعذاب في دنياهم وآخرتهم كما توعدهم بالمذلة وسوء العذاب في قوله:
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (لأعراف:166-167)
ووعيد أزلي في سورة أخرى لبني إسرائيل:
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (الإسراء:4-7)
نعود إلى التساؤل:
كيف علم محمد بكل هذه التفاصيل عن حياة الأقوام الغابرة، لاسيما بني إسرائيل والفراعنة؟ ومن ترى أدراه بها، وهو الذي لم يطأ أرض مصر ولا هو قرأ عنها. لم تكن هناك يومئذ مكتبات، ولا صحف، ولا جامعات، ولا أجهزة توصيل للثقافة والمعلومات للناس في بقاع الأرض. أما هو فقد أقام في مكان ناءٍ بعيد عن العمران ومواطن الحضارات الأخرى في ذلك الوقت. وما هو الداعي لأن يرويها لقومه، هؤلاء الذين لم نر أحداً منهم في قريش- حسب السيرة- ينكر عليه هذه الأخبار بدعوى أنه يعرفها قبله، أو أن له علماً بها، ومن ثم فهو لم يأت بجديد. لقد كانت جديدة تماماً عليهم، بل ومثيرة لدهشتهم وعجبهم. ولمَّا أعيتهم الحيلة، إذ لم يكن لديهم ما يحتجون به عليه وصفوه بالساحر. هذا فضلاً عما في الآيات من نبوءات آخذة في التحقق، في هذا العصر، بعد أن تحقق الكثير منها في عصور سالفة.
أما عن موقفهم من الرسول محمد عليه السلام، والآيات الكثيرة بين ثنايا السور التي تنبئ عن خياناتهم وغدرهم لنبيِّهم نفسه، فقد أسلفنا الحديث في ذلك في موضع سابق من هذا الكتاب.
لقد سبق أن ذكرنا كيف جاهروا محمداً عليه السلام بالعداء، بل ذهبوا إلى حد التآمر عليه مع مشركي مكة في عهده المكي. كما أنهم شجعوا المنافقين في المدينة على النكوص عن إسلامهم. أما قصة تآمرهم مع الأحزاب عندما همَّ هؤلاء بالهجوم على المدينة، واتفاقهم معهم على فتح الثغرات في حصونها من ناحيتهم فمعروفة مشهورة. وقد أعلم الله رسوله بالوحي بكل ذلك. كما أعلمه بأن هؤلاء سوف يكونون في مقبل الأيام أعداء الإسلام والمسلمين الألداء الدائمين، تماماً كما هو حالهم في فجر الإسلام ومع رسوله. وهذه آيات تؤكد هذا المعنى تنبئ بالمستقبل الذي أصبح راهناً اليوم. يقول تعالى جلّ من قائل:
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (البقرة:75)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (التوبة:8)
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (التوبة:10)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (آل عمران:118)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران:120)
أليست هذه صورة أعداء الإسلام المشهودية في عالمنا اليوم؟.
هذا كلام الله سبحانه العليم بخلقه وبما يندُّ عنهم في سائر العصور وشتى أرجاء الدنا.
* * *

قصة إبراهيم عليه السلام
وهذه سورة الأنبياء، في بنائها المحكم، شأنها شأن سائر كتاب الله. هذه السورة، كما هو عنوانها تحفل بقصَصَ عديد من الأنبياء. مما لا ريب فيه أنه لا سبيل إلى الإلمام بسيرهم من قبل دارسٍ أو باحث، في ذلك العصر، وحتى عصور تلت، على النحو المستفيض كمعلومات أولاً، وسرد للأحداث والوقائع في أزمانهم ومجتمعاتهم ثانياً، كالذي جاء في القرآن. وقد جاء ذلك كله في عرض مكثف موجز بليغ لم تعوزه الدقة والقدرة ــ مع ذلك ــ على إعطاء الصورة الواضحة تماماً في شأنهم. وهنا يكمن سرّ الإعجاز القرآني.
تبدأ السورة بالتذكير بالحساب، والثواب، تمهيداً للحديث عن عدد من أولئك الأنبياء، تبدأ الآيات بقوله تعالى:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (الأنبياء:1-2)
في هاتين الآيتين نجد توصيفاً لحالة بشرية عامة. فهي تصورهم في غفلتهم عما ينتظرهم يوم الحساب. كما أنها تشخِّص علَّة دائمة تنتاب بني البشر الذين لا يأخذون على محمل الجدّ ما يأتيهم من ذكر ربهم.
تستثير الآيات في بداية السورة انتباهك بكل حواسك فور قراءاتك لها، أو سماعك إياها. ثم تمضي بعد ذلك تبلّغ الناس رسالات رَبّهم، تقرع آذانهم لإيقاظهم من غفلتهم، فتحدثهم عن خالقهم، عمَّن خلق السموات والأرض، وكيفية نشوء الحياة وحدوث الموت. عن قدرة الله وعظمته، وآياته في خلقه. وعن خلق الإنسان وما جبل عليه من فطرة. وعن الساعة التي لا تأتي إلا بغتة. حتى الآية (50) من السورة، وعندها تبدأ في عرض قصة إبراهيم عليه السلام.
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ. إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ. قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (الأنبياء:51-55)
تعريفاً بإبراهيم تمهد الآيات لذلك واصفة إياه بالرشد، بمعنى الهداية والرشاد قبل أن يبعثه الله بالرسالة إلى أبيه الأقرب إليه ذي بدء وإلى قومه من ثم مبتدئاً بالنقطة المحورية الأخطر في المسألة برمتها، وهي العقيدة. كان القوم عاكفين على عبادة التماثيل إمعاناً في الضلال والجهالة، فبادرهم بصيغة السؤال الاستنكاري لما كانوا عليه (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون). ولا يجد القوم لهم مسوِّغاً للرد على ما جبههم به سوى دعوى عبادة آبائهم لها من قبل. عبادة الأصنام بالوراثة العمياء دونما تمحيص أو بحث في أمرها. يجبههم إبراهيم ــ برغم المخاطرة التي تنطوي عليها هذه المجابهة ــ بأنهم (هم) و(آباؤهم) جميعاً كانوا في ضلال بيِّن. يضعهم إبراهيم أمام سؤال كبير يبعث على الحيرة ويدفع إلى إعمال الفكر لتبيُّن الحقيقة. ولا يسعهم ــ تغطية على ضعف موقفهم وهزال حجتهم، إلا أن يتساءلوا مستفسرين أو مستنكرين عما إذا كان قد جاءهم بالحق أم أنه كان يبغي عبثاً ولهواً ليس إلا.
ثم تمضي الآيات تحدِّث بقية القصة: تحطيمه الأصنام، وموقف قومه منه، والجدال الذي يقوم بينه وبينهم، وما يتَّسم به منطقه أمامهم من قوَّة إزاء منطقهم المتهافت. ثم إلقاؤهم إيَّاه في نار يوقدونها إمعاناً منهم في المكابرة والضلال. ولكن الله ينجيه من كيدهم، بمعجزة يرونها بأم أعينهم:
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (الأنبياء:69-70)
أما بقية قصة إبراهيم فترد في أماكن متفرقة من القرآن كما ترد في غير قليل من التفصيل في سورة الشعراء من الآية (69) وما بعدها حتى آية (90) حيث نرى ما دار بين إبراهيم وقومه من حوار ومحاجَّة، وما عرض لهم من براهين وشواهد على ضحالة فكرهم، إذ يعبدون أصناماً لا تضر ولا تنفع وأنه كان أولى بهم أن يعبدوا الله الخالق المحيي المميت، الذي بيده كل شيء من أمور دنياهم وأخراهم.
وتسهب سورة (إبراهيم) في عرض قصته. في حلِّه وترحاله ما بين أرض مكة وأرض فلسطين المقدسة. كما في تصدِّيه لقومه وما يعبدون من دون الله.
كذلك في قصة بنائه للكعبة، التي يعينه عليها ابنه إسماعيل. كما تخبرنا بما حفلت به حياته من معاناة، كتركه زوجه (هاجر) وولده إسماعيل في تلك الديار القاحلة. كيف غادرهما حزيناً مهموماً. لكنه يوكل أمرهما إلى الله ويمضي ميّمماً شطر الأرض المقدسة.
ومن أقسى ما مرّ به إبراهيم (عليه السلام) من حالات حرجة مؤلمة تلك الرؤيا التي أمره الله فيها بأن يذبح ابنه إسماعيل. وإذ يشرع في تلبية الأمر إذعاناً، بلا تردد، يأتيه الفرج بفدي عظيم، في هيئة كبش يرسله الله إليه ليذبحه بديلاً عن ولده. وسنأتي على هذا في صفحات تالية.
قبل ذلك وحين يترك إبراهيم ولده وزوجه يضرع إلى الله وهو يهمّ بمغادرة وادي مكة يكتنفه الحزن من أجلهما، بالقول كما يقول عنه ربه سبحانه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (إبراهيم:35-37)
أيُّ معجزة أكبر مما أثبتته الأيام فيما بعد، وعلى مرِّ العصور منذ ذلك العهد؟
استجابة الله لدعاء إبراهيم سارية حتى يومنا، فها هو ذلك البلد (مكة) آمن منذ ذلك الحين. وهاهي ذي أفئدة الناس تهوي إلى تلك الديار. يؤمُّها الحجيج عمرةً وحجّاً على مدار الأعوام والأيام، دونما انقطاع. ليس من أجل اجتناء ربح أو ابتغاء مغنم دنيوي، وإنما ابتغاء رضوان الله عنهم، والتزاماً بأداء مناسكه. أليست معجزة أن تظل استجابة هذه الدعوة قائمةً أزليةً على هذا النحو؟ وذلك على الرغم من كل ما مضى من زمن، وما عهد البشر منذ ما يقارب الآلاف الأربعة من حروب ومتغيرات، لم تتوقف على ظهر الأرض على مرِّ الزمان؟ والبيت المحرَّم ما برح محرَّماً، تقام فيه الصلوات على مدار الساعة، مع دورة الأرض حول نفسها وحول شمسها، طول المدى فيما مضى وفيما هو قادم إلى أن يشاء الله.
ومن الإنصاف أن نضيف تفسيراً يجعلنا نمعن في النظر إلى هذه الظاهرة الفريدة. أليس من المثير للدهشة أن يلازم هذا الشعور (الناس) الذين ما انفكُّوا يتوالدون ويتناسلون لأربعة آلاف عام، وكأنهم يرثون المشاعر والأحاسيس؟ مع أن هذه لا تورث على مستوى الشعوب وعلى مرّ السنين. هذا الشعور الدافق بالحنين والشوق إلى تلك الديار، يأتونها من كل فجٍّ عميق، دون أن يتراخى على مرّ الأيام.
يحدث هذا على الرغم من عوامل الإعاقة والتوهين التي لم تتوقف يوماً، مما يتعرض له البشر من عوامل شتى، منها الحروب، ومنها ظواهر الطبيعة، ومنها تقادم العهد، ومنها المادية الطاغية السائدة في هذا العصر، التي استولت على العقول والقلوب. وكان من شأنها انصراف الناس عن كثير من القيم والمبادئ، فضلاً عن العواطف والمشاعر الإنسانية، وجنوحهم نحو المادة ومكتسباتها، وتقنيات العصر وملهياته، التي أمست بحراً تتلاطم أمواجه وتوشك أن تغرق البشر. وإذا أضفنا إلى ذلك معجزة أخرى مذهلة تتصل بها، هي استمرار تدفق ماء عين زمزم، التي انبثقت آنذاك استجابة لحاجة هاجر ووليدها إسماعيل، وابتهالها إلى الله بأن يقيها الهلاك عطشاً في ذلك الوادي غير ذي الزرع في تلك القفار.
في صفحات تالية قد نشير باستفاضة إلى هذه المسألة، تقتضيها عظمة المعجزة وقدسيتها.
إذا كان محمد عليه السلام راوياً لقصة- كما يدعون- فكيف تسنَّى له التنبؤ بمستقبل البشرية الآتي من بعد زمانه، ولحقب تمتد إلى ما شاء لها الله تشهدها أعيننا نحن أبناء هذا العصر؟
وتحدثنا سورة الصافَّات عن جزء آخر من قصة إبراهيم. قصته مع قومه وأصنامهم. وقصَّته في مسألة التضحية بإسماعيل. في الأولى آيات تبدأ من الآية 83 إلى الآية 90 ثم تتلوها آيات صراعه مع قومه:
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ. قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ. قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (الصافات:91-97)
ونلاحظ هنا الأسلوب الساخر اللاذع استخفافاً بعقولهم وذلك حين يسائل (آلهتهم) بـ (ألا تأكلون).. (ما لكم لا تنطقون).
أما الآيات التي تنزلت في شأن الفداء ففيها تفاصيل ما حدث، وإن تكن في عدد قليل من الآيات، إلا أنها تقدم القصَّة الكاملة حتى لكأنك تشهدها بأم عينك، في دقة التصوير المشهدي، لا سيما وأنها تتحدث عما قبل ولادة إسماعيل حتى بلوغه (السعي) الرشد، ثم الرؤيا، ثم شروع إبراهيم بتنفيذ ما أُمر به في رؤياه، ثم الفداء. كل أولئك في هذه الآيات القليلة العدد والتي ـ كما أسلفنا القول في غير مكان من هذا الكتاب ـ لو شاء كاتب روايتها لتستوعب ما ورد فيها لاحتاج إلى كتاب ضافٍ.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (الصافات:100-109)
ونعترف بأننا قد لا نستطيع الإفاضة في التعليق على روائع ما تضمنته الآيات البينات من معان عظيمة سامية، تقصيراً، أو قل عجزاً منا عن إيفائها حقها. ولكن لا بأس من المحاولة، بالإشارة، في إيجاز قدر المستطاع، إلى ذلك:
أولاً: سيدنا إبراهيم عليه السلام، يدعو ربه بأن ينعم عليه بغلام حليم، بعد أن بلغ من العمر عتيّاً، وبعد أن أيقن أن امرأته عاقر. بيد أنه برغم ذلك، وبدافع من إيمانه الذي لا تساوره فيه ريبة بقدرة الله تعالى على تحقيق المعجزة أن يمَّن الله عليه بالاستجابة. وعندما يتحقق ذلك، ويرزق الغلام على شوق عارم، ولهفة طاغية، لا يلبث أن يرى في المنام أنه يذبح ابنه البكر هذا.
ولما كانت رؤى الأنبياء حق، وأنها بمثابة الوحي فليس عليه سوى الانصياع لما أمر به. لم يشأ إبراهيم الاحتيال على المسألة بالمراوغة أو التأويل لصالحه، تجنُّباً لموقف لا أشد منه على الإنسان، ولكيلا ينسب الأمر إلى (أضغاث الأحلام). وكان في وسعه أن يفعل لو لم يكن هو إبراهيم نبي الله وخليله، فرأى من ثم أن يصدع لأمر الله. همَّ بالتنفيذ وعزم عليه. ولكنه مع ذلك لا يقدم على ذلك قبل الأخذ برأي فلذة كبده. لا بد أن له رأياً في المسألة. فهو إذن يسأل ولده بعد أن يخبره بأمر الرؤيا ((فانظر ماذا ترى)). وهذه هي ذروة المثالية في الأخذ برأي الطرف المعنيّ، حتى لو كان ولده، الذي وجبت عليه طاعته، لاسيما في ذلك العصر الموغل في القدم، وهو، بطبيعة الحال، لا يعرف أنه سيعفى من هذا التكليف وهذه التجربة المريعة لحظة إقدامه على التنفيذ.
ثانياً: نلفي هنا قمة مثالية أخرى، ولكن هذه المرة من ناحية الابن نفسه. الابن يستجيب طائعاً غير مكره.. وأيّ استجابة.. وفي أيّ شأن.. في حياته نفسها.. وبأيّ طريقة؟ الذبح..! وما تثيره فكرة الذبح في الإنسان- كائناً من كان- من هلع وفزع. بيد أن الابن البار بأبيه.. المطيع لأمر ربه، الذي يأبى أن يُعرِّض الأب لما يغضب الرب. يحرص على أن يلبي أبوه أمر الله، وإن تكن روحه هي الفداء والثمن فيقول يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ.. (الصافات:102). ولكي يدخل إلى قلب أبٍٍ يفجع في ابنه الوحيد الأثير، الذي رزقه بعد طول انتظار، امتد العمر كله أو أكثره، شيئاً من الطمأنينة ويشعره باستعداده لتحمل ذلك الابتلاءـ عسى أن يكون في هذا بعض من عزاء، فيضيف القول سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات:102)
ويحدثنا القرآن كذلك ــ في جانب آخر ــ عن دخيلة نفس إبراهيم حينئذٍ، إبَّان بحثه عن الحقيقة وراء ظواهر الكون (في البدايات وقبل التجربة والفداء)، وما كان يتنازعه من أفكار وهواجس قبل استقرار اليقين، حين بلغت منه الحيرة في مظاهر الكون مدى بعيداً. مضى يبحث عن ضالته. حسب النجم إلهاً أول الأمر.. ثم القمر.. ثم الشمس.. كان تفكيره منطقياً وعملياً أيضاً.. إذ هو يحاكم المسألة كلما تغيرت الظاهرة- فهذه الأجرام التي تطلُّ من كبد السماء يحسب أحدها إلهاً، هو هذا أو هو ذاك، لا يلبث أن يراها تأفل وتغيب.. إذن أيّ آلهة هذه التي تخضع لناموس يرغمها على الظهور، كما يرغمها على الاختفاء. استقرَّ في روع إبراهيم أن هذه إذن كلها مخلوقات لمن هو أعظم وهو الذي يحركها ويتدبر أمرها. لا بد أن يكون هناك من هو أعظم وأكبر منها جميعاً.. هو الله..، فهو منشئها وبارئها. هذا ما هداه الله إليه. اهتدى بالفطرة والإلهام بعد إعمال العقل واستخدام المنطق في الموازنة والمقابلة، وصولاً إلى الإيمان بالاقتناع عقلاً وقلباً.
يقول في هذا سبحانه مصوِّراً لنا حالة إبراهيم، والمراحل التي مرَّ بها قبل ذلك. لكي ندرك أن الإيمان ــ كما أسلفنا ــ عن طريق العقل والمنطق غيره عن طريق الوراثة لأبوين معينين.
يقول تعالى:
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام:75-79)
يحدثنا القرآن إذن عن دخيلة نفس إبراهيم، وما كان يتنازعه من أفكار وهواجس في البداية، حين حيَّرته مظاهر الكون، فحسب النجم إلهاً، ثم القمر، ثم الشمس، إلى أن استقر في وجدانه وقلبه أنها جميعاً مخلوقات لله الأكبر والأعظم.
ومن أجل أن يطمئن إبراهيم إلى ما هداه الله إليه يتوجه غير متردد إلى ربه سبحانه بسؤاله كيف يحيي الموتى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي(البقرة:260)
فيكرمه الله بالاستجابة: (تتمة الآية) في برهان عملي يجريه على يديه:
..قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة:260)
السؤال الذي ربما، أو بالضرورة، سوف يتبادر إلى الذهن مرة أخرى ولكن في سياق مختلف، هو:
كيف عرف محمد عليه السلام ما كان يدور في خلد إبراهيم- وهي أفكار وتساؤلات خطرت لإبراهيم فيما بينه وبين نفسه- لو لم يطلعه الله عليها. أي أن المرويَّ هنا ليس حوادث ووقائع بل خواطر في دخيلة نفس صاحبها لا يعرفها غيره.
وتجدر الإشارة هنا إلى ما حاول اليهود- طوال القرون الماضية- من نسبة الفداء إلى إسحاق وليس إلى إسماعيل. إسحاق هو الذبيح في زعمهم ومن جملة أكاذيبهم. وواضح تماماً أيّ لغو وأيّ استغفال للآخرين يعمدون إليهما فلا يتورعون عن تزييف كل شيء. حتى التاريخ والدين والوقائع الواضحة البينة، فالوقائع كلها، ومنطق الأحداث تنفي زعمهم ذلك. فإسماعيل كان بكر إبراهيم و وحيده. وإلا لقيل أن إبراهيم احتار أيُّ الولدين هو المعنيّ. والتضحية بالابن الأوحد الذي وهبه الله لإبراهيم، وامرأته عجوز عقيم، جاء بمعجزة إلهية، ليست بالأمر العادي والهين. وفي مثل سنِّ إبراهيم أيضاً. ومن هنا كان معنى الابتلاء العظيم الذي صبر له وأقبل عليه امتثالاً لأمر ربه.
ولكن الله أثابه بفدي عظيم أرسله إليه، يهبط من السماء لكي يخلصه من محنته في ولده إسماعيل، ومثوبة لإيمانه وتسليمه وإسلامه. والقصة كلها حتى ساعة المحنة تلك لم تشر إلى ابنٍ ثانٍ لإبراهيم. حقيقة تقرها الوقائع والشواهد وسلامة المنطق تدفع أباطيلهم وزيف دعاواهم.
وليس لنا أن نغفل قصة إبراهيم مع أبيه آزر كحالة شخصية بين الابن والأب. قصة دعوته لأبيه إلى عبادة الله ونبذ عبادة الأوثان. ترينا هذه القصة حدب الابن على أبيه في سائر الظروف وكافة الأحوال. وبرُّ هذا الابن بأبيه، خشية أن يحل عليه غضب من الله، والسعي الحثيث دونما كلل لكي يثنيه عما هو فيه من غيٍّ وضلال. وينزل الله سبحانه في ذلك آيات بيِّنات نتعلم منها أن للآباء على الأبناء حقوقاً، حتى لو خالفهم أولئك في شأن معتقدهم. والآيات تُكْبِرُ في إبراهيم برَّه بأبيه، وسعيه إلى هدايته والدعاء إلى الله كي يهديه سواء السبيل. ولكن ذلك الأب لا ينفكُّ مقيماً على الشرك، رافضاً دعوة ابنه إيَّاه إلى الله. هي مسألة كبرياء في الغالب لكأنما يستكثر الرجل على ابنه أن يكون موجِّهاً له. وحينئذ فقط يدع إبراهيم أباه وشأنه، ويمضي عنه حزيناً أسفاً، معتزلاً إياه وقومه وما يعبدون من دون الله، واعداً أباه بمواصلة استغفاره الله له عسى أن يستجيب الله الدعاء.
قصة مشوقة حافلة بالأحداث، زاخرة بالمعاني الجميلة والقيم الرفيعة، ترد في آيات تسع مكثفة تصف الحال والواقعة. يقول تعالى سبحانه مخاطباً نبيَّه محمداً عليه السلام في قصة إبراهيم عليه السلام:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً.إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً. يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً. قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً. قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (مريم:41-48)
ولنمعن النظر في هذا الحوار الذي جرى بين إبراهيم عليه السلام وأبيه. كيف كان منطق إبراهيم في محاولته إقناع أبيه، وأيّ مستوى بلغ إبراهيم في محاجته، وأي عبارات توجَّه بها إليه، تفيض بالبر والحنان والخشية عليه من عذاب يصيبه عند لقائه ربه. منطق مفحم لم يجد الأب سبيلاً إلى الوقوف أمامه بغير التجهم والرد القاسي المتعنت. بل لقد بلغ به الأمر تهديده بالرجم، ثم الطرد والتهجير. وبرغم ذلك تابع إبراهيم أسلوبه المهذَّب الرقيق (سلام عليك سأستغفر لك ربي..) الشخصيتان هنا تتحدث كل منها بمنطقها تماماً، بحيث يبدو التباين واضحاً جليّاً بينهما. كما ترينا الآيات ملامح ذلك المجتمع الذي نشأ فيه إبراهيم في ذلك الزمن.
أليس في هذا ما يفحم المرجفين، وما يقنع المغرضين والمنافقين بأن هذا القرآن العربي المبين لن يكون إلا قولاً من رب رحيم؟
لننظر مثلاً إلى هذا الدعاء المستجاب لإبراهيم، لأمر قدِّر في اللوح المحفوظ، وحقّقته الأيام بمعجزة جليَّة بادية للعيان، لا ريب فيها. يقول تعالى على لسان إبراهيم:
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة:129)
أليس محمد هو الرسول الذي بعثه الله في قومه من بعد، أليس محمد هو الرسول الذي جاءهم يتلو عليهم آيات ربه حاملاً إليهم الكتاب والحكمة يعلمهم إياها.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (إبراهيم:40)
وقد جاءت بالفعل من ذريَّة إبراهيم النبوات التي كان ختامها محمد صلى الله عليه وسلم، الذي حطَّم الأصنام حول الكعبة، أسوة بما فعل جدُّه إبراهيم لدى قومه من قبل. وهو لم يعبدها ولم يتقرب إلى عبادتها. بل لقد أوقف محمد عبادتها نهائياً وإلى الأبد، وكأن ذلك رجع الصدى لصوت إبراهيم في الزمن السحيق إذ دعا ربه ضارعاً إليه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (إبراهيم:35)
هذا ما كان. وهذا ما تحقق.

* * *

قصة مريم ابنة عمران عليها السلام
ثم تأتي قصص الأنبياء: داود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذا الكفل، وذا النون، ثم زكريا الذي استجاب الله له فوهبه يحيى عليه السلام:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (الأنبياء:90)
ويحيى عليه السلام ابن خالة سيدنا عيسى عليه السلام. ثم قصة مريم العذراء، موجزة هنا، لتأتي وافية بعد ذلك في سورة كاملة تحمل اسمها ((مريم)). الأنثى الوحيدة التي سمَّاها القرآن باسمها. وهي واحدة من أروع القصص وأجملها، وأكثرها إثارة للشجن، برائع بيانها وسحر إيقاعها، في بديع عبارتها القصيرة الآسرة في سرد وقائعها العجيبة، وما تبيِّنه من قدرة الله المعجزة.
لقد وضع القرآن الكريم سيدتنا مريم في أعلى صورة وأكرمها في قوله تعالى:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (آل عمران:42-43)
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي:
لماذا لا نطلع المسيحيين ــ الغرب خاصة ــ على رأي الإسلام في السيدة مريم العذراء الذي يضعها في مكان ليس أرقى ولا أعظم منه في أي نص ديني أو أدبي مقارنة ــ نبين لهم ذلك أيضاً ــ مع رأي اليهود فيها منذ القديم وحتى اليوم. كما هو رأيهم في المسيح عيسى عليه السلام الذي يحط من قدرهما إلى حدِّ لا نسمح لأنفسنا مجرد ذكره هنا. ومع ذلك ــ وبسبب من تقصيرنا ــ نراهم في صفٍّ واحدٍ معهم في سائر قضايا الصراع والنزاع والخلاف بيننا وبينهم، وكان حريّاً بهم أن يتخذوا عكس مواقفهم هذه مناد منهم على ضوء من الرؤيتين الإسلامية واليهودية في المسيح وأمه مريم البتول.
تُرْدف الآية بعد ذلك بقوله تعالى مخاطباً رسوله محمد عليه السلام بقوله: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران:44)
هذا نفي قاطع لإمكان طلاع الرسول على الغيب إلا ما يوحيه إليه الله سبحانه من نبأ أو علم أو قصة، إذ لم يكن معاصراً لأحداثها أو شاهداً على مجرياتها عند وقوعها كما تنص الآيات.
لقد تضمَّنت هذه السورة واحدة من أروع القصص، وأكثرها إدهاشاً، فقد اعتمدت السرد المتسلسل للوقائع، تتخلله حوارات ترقى إلى مستوى (فوق البشري)، بين مريم وجبريل (عليهما السلام). ثم إلى المستوى البشري بينها وبين قومها. تحاورهم في محاجة منطقية مفحمة لهم، حين أتوا يتجنَّوْن عليها، يرمونها بما ليس فيها من بهتان. بل هي تتغلغل إلى حالة مريم النفسية في محنتها، في ارتباكها وقلقها واضطرابها إلى حدِّ تمنيها الموت قبل أن يقع لها ذلك.
.. قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً (مريم:23)
كان ذلك قبل أن تدرك الحقيقة، والإرادة الإلهية التي فضلتها على نساء العالمين. حين خاطبها جبريل عليه السلام مطمئناً إيَّاها، ومبشّراً بوليدها المعجزة، باختيار الله العلي القدير لها لكي تكون أمَّاً لنبيِّ تفرَّد في مسألة خلقه دون سائر العالمين، فكان مَثلُه مثل آدم(*)، إذ هما الوحيدان اللذان جاءا من غير أب بين سائر البشر. إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ.. (آل عمران:59)
ولا تغفل الآيات تفاصيل معاناة مريم النفسية. وأهمها خوفها من ذويها بحيث تحتجب عنهم تفادياً لظنونهم ومضايقاتهم واتهاماتهم. ثم حوارها مع الملاك الذي جاءها بالبشرى في صورة رجل لم تعرفه في بداية الأمر، أي قبل أن يتجلى لها فتخاطبه وَجِلَةً خائفة. أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً (مريم:18) كما تبدي عجبها واستغرابها إمكان أن تنجب غلاماً، وهي التي لم يمسسها بشر. فيطمئنها جبريل عليه السلام إلى أن ذلك هيِّن على الله، وإن كان معجزاً للبشر الذين تحكمهم سُنَن الله التي لا تبديل لها إلا بإرادته حينما وحيثما يشاء:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (مريم:16-21)
وتمضي الآيات المفعمة عطفاً وحناناً، تأسر الألباب وتأخذ بمجامع القلوب، لتكمل القصة المثيرة للعجب والخيال معاً. وكيف أن قومها حين اتهموها باطلاً، ورمْوها بما هي منه بريئة، فأشارت إلى وليدها كي يرد عليهم، ويبلغهم من هو بادئ ذي بدء، ثم لكي يعرفوا – بقرينة المعجزة- ما له ولأمه من قداسة. فهذه معجزة لم تحدث من قبل. غير أن هذا كله لم يجنح بهم إلى الإيمان، حتى بالمعجزة الأمر الذي عرف عنهم على مدى التاريخ. العجرفة والمكابرة وضيق الأفق كانت دوماً أبرز صفاتهم.
والمعجزات تترى في قصة مريم عليها السلام. طفل رضيع في أيامه الأولى، ينطقه الله، فيخاطب بالغين راشدين بمنطق معجز، كإعجاز النطق عنده، الآيات الكريمة تحكي القصة التي تبين لنا ملامح مجتمع قوم مريم في الوقت عينه الذي تحدثنا فيه بالوقائع التي جرت بينها وبينهم.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (مريم:27-34)
وكما هو مألوف في كتاب الله تأتي الحكمة المتوخاة من وراء سرد القصة، إما متضمنة إياها، وإما في آيات تعقبها كما في قوله تعالى مردفاً:
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (مريم:35-36)
القصة أسلوباً ومحتوى في ذاتها غاية، والحكمة التي تعقبها غاية أيضاً.
الأولى إخبار وتعريف بما مضى من أنباء الأولين، وقصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم الغابرين. وهي وقائع وأحداث لا سجل تاريخياً لها يُرجع إليه، لكي يقال أن محمداً نقلها عنه. والثانية عبرة للناس وموعظة كي يتجنَّب البشر الوقوع في أخطاء من سبقوهم وأوزارهم التي اقترفوها، لكيلا يكون للناس على الله حجّة يوم الحساب، يوم تجزى كل نفس بما عملت في حياتها الدنيا.
وبرغم أن القرآن ليس بكتاب تاريخ، وما ينبغي له أن يكون كذلك، إلا أنه يمكِّننا من استخلاص صورة لذلك المجتمع، موضوع القصة في ذلك الزمن، مجتمع له صورة محافظة تستنكر الخروج على قواعد الشرف، فهو لا يقرُّ الزنى، ولكنه في الوقت عينه مجتمع نفاق ورياء واستكبار وعناد، يتبدَّى ذلك كله واضحاً في الجو العام السائد في سورة مريم. كما يظهر جليّاً فيما يدور بينهم هم أنفسهم من جدل، من جهة، وفيما بينهم وبين مريم ووليدها المعجزة من جهة ثانية.
عيسى عليه السلام إذ يبشر برسالته، ويعلن على الملأ بأنه رسول الله إليهم، فإنه يبشرهم أيضاً برسول يأتي من بعده:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (الصف:6)
ويشير إنجيل (برنابا) إلى ذلك في الفصلين (34/44) حين يطلب التلاميذ (الحواريون) من المسيح عليه السلام أن يصرِّح لهم باسم النبي الآتي من بعده، فيذكره لهم قائلاً:
(وإن الآيات التي يجريها الله على يدي تظهر أني أتكلم بما يريد الله.. وسيأتي بعدي بكلام الحق ولا يكون لدينه نهاية( ).. هو باركليت أحمد.
ومن القصص القرآني ما يسجل الحوار الذي يدور بين الرسل وأقوامهم، مما يعطي عنهم صورة نابضة بالحياة، وتكشف في الوقت نفسه عن طوايا المتحاورين ودخائل نفوسهم، إلى جانب مواقفهم المستجيبة أو الرافضة، الباحثة عن الحقيقة، أو الساعية للتعجيز وحسب. من ذلك ما ورد في آيات كهذه. نعرضها توخِّياً لتبيان صور قرآنية بارعة:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (المائدة:112-115)
هل كان محمد هناك يشهد حوارهم هذا؟ هل نقلت إلينا كتب وضعها أناس عاصروا هذه الأحداث عما جرى بين عيسى عليه السلام وبينهم؟ حتى الإنجيل لا يورد هذه الواقعة ولا التوراة من قبل لكي يزعم قائل أن محمداً نقلها عنها.
وتظل الأسئلة قائمة من هذا القبيل:
إذا كانت مثل هذه القصة التي لن يبدع نظيراً لها قلم كاتب. إذا كانت من إبداعه هو فلماذا ينكرها وينسبها إلى مصدر غيبي، الأمر الذي لم يعهده أحد من قبل؟ لم يعرف أن أحداً من الناس لجأ عامداً إلى مثل ذلك، مبدعين وغير مبدعين. إذ ما جدوى ذلك لصاحب الشأن؟ أليست هذه القصة كفيلة بأن ترفع اسم مبدعها- لو كان إنساناً- إلى مصاف العظماء بين المفكرين والأدباء، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق في وقته ثم العصور اللاحقة؟ ألا يكون عندئذ قد بزَّ- كاسم أدبي- أمثال هوميروس وأرستوفان وسقراط وأفلاطون ممن جاءوا قبله زمنياً وشكسبير وملتون، من الخَلَف بعده؟ أليس من دواعي المباهاة والتفاخر أن يكون يراعه مبدع هذه القصة الفريدة؟ فلماذا التنصل منها إذن وكأنها أمرٌ يُستحى منه؟
الجواب عن سائر التساؤلات المنطقية هذه وغيرها، هو أنه ما من سبب هنالك سوى ذلك السبب الحقيقي الأوحد وهو: أن هذا هو كلام الله، دونما ريب، أوحي إلى محمد بن عبد الله، ولا سبيل لأن يكون كلام محمد نفسه، ولم يكن أمام محمد إلا أن يبلغه للناس أجمعين.
وإذا كنا لا نستطيع استعراض سائر القصص الواردة في القرآن، فإننا سنكتفي بعرض صور موجزة، ما وسعنا ذلك، لعدد قليل آخر من قصص الأنبياء وأقوامهم السابقين لبعثة الرسول محمد عليه السلام.


* * *

قصة آدم عليه السلام
تسوق لنا سورة البقرة (وسور غيرها أيضاً) قصة خلق آدم أبي البشر عليه السلام: قصة بداية الخلق الإنساني كما نعرفه على الأرض:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (البقرة:30-31)
ثم تمضي الآيات تحكي شطراً آخر من القصة. دور إبليس الرافض استكباراً. وقصة خروج آدم وزوجه من الجنة. بعد أن أزلهما الشيطان. والوعد الإلهي الذي ما برح قائماً إلى يومنا هذا. نراه في حياة البشر اليوم كما كان في العصور الغابرة. ولسوف يظل كذلك إلى يوم الدين.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة:34-37)
أليس هذا هو حال البشر الذي كان مذ وجدوا، وما يزال كذلك (بعضهم لبعض عدو) من جهة، وللشيطان إبليس من جهة أخرى، فالخطاب موجه بصيغة الجمع (اهبطوا) أي آدم وحواء وإبليس.
وقد ترد القصة في صيغ متعددة تأكيداً لما تضمنته من معنى. ولكل صيغة جماليتها البلاغية وإن كان المحتوى واحداً أو مكمِّلاً للصورة. يأتي بعض من وقائع قصة آدم وموقف إبليس المكابر، وإغوائه لآدم وزوجه، التي لا يأتي القرآن على ذكر اسمها، ثم توعده بني آدم بالأخذ على عاتقه أمر غوايتهم، ولكن الله سبحانه يخيِّب مساعيه المنتظرة في شأن عباده المتقين: حيث لن يكون له سلطان عليهم. يرد شيء من هذه القصة أيضاً في سورة الأعراف من الآية (11) حتى الآية (52). وهنا يرد شيء من التفصيل الذي لم يرد في قصتهما من سورة البقرة. من هذه الآيات قوله تعالى:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ. قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (لأعراف:20-25)
ثم تأتي الآيتان (26) و(27) تخاطبان ذرية آدم من بعده لاستخلاص العبرة من قصة أبويهم للسير على نهج سليم في حياتهم الدنيا وتحذيراً لهم من فتنة الشيطان الذي سبق له أن أخرج أبويهم من الجنة، في قوله تعالى:
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (لأعراف:26-27)
وقصة ابني آدم جزء من قصة آدم عليه السلام تدور في محورها.
يلقي الله سبحانه بالأمر إلى رسوله محمد عليه السلام بأن يتلو نبأ ابني آدم في ذلك الزمن السحيق، زمن بدء وجود الإنسان على هذا الكوكب، فيقول جلَّ من قائل:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَة أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَة أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (المائدة:27-31)
قصة طويلة تزخر بالأحداث والوقائع، لكنها تأتي في هذا العدد القليل المغني من الآيات. ترينا الآيات- فضلاً عن كل ما حفلت به من معان وعبر وقصّ ــ عجز الإنسان وضعفه، ومدى جهله بحيث أن قابيل عجز عن فهم حقيقة الموت، وكيف يتصرف إزاءه، لولا أن (غراباً) من الطير أتى ليرشده إلى ذلك بأمر الله كيف يواري جثمان أخيه هابيل. يصحو قابيل عندئذ على هول فعلته، فيردد نادماً متحسراً على عجزه البادي أمام طائر ضعيف غير ذي عقل قائلاً: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.. (المائدة:31)
للقرآن أسلوب غير مسبوق (ولا ملحوق) في بابه، إذ كثيراً ما يوزِّع عناصر القصة على سور عديدة، وفي ثنايا الخطاب الموجه للبشر، في مواضع شتى من الكتاب، حيثما يقتضيها السياق، فترد متفرقة في ثنايا السور. ففي سورة (طه) قسط آخر من القصة:
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى. فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (طـه:115-121)
ليس هذا بالشعر، وما هو بالنثر، ولا هو شبيه بأي كلام مما كان العرب يتداولون. السهولة الممتنعة، السياق المنساب كغدير يتدفق.
كلام عجز العرب حتى عن تقليده، فيما هو متوفر بين أيديهم للنظر فيه والنسج على منواله. لم يجد فيه بلغاؤهم عِوَجاً، ولا خطأً لغوياً، ولا ركاكة أو فجاجة، ولا ضعفاً أو وهناً. ذلك برغم حرص الكثير منهم- وممن جاءوا بعدهم- على ذلك. بل هم قد حاولوا، فبحثوا ونقبوا، فما جنوا غير ذريع الفشل، وذلة الإخفاق. نمط فريد في بابه، لا نجده إلا في القرآن، ولم يقيَّض لأحد أن ينشئ مثله قط. عصيٌّ على التقليد، ممتنع على المضاهاة والمحاكاة.
فهل يتسنى لبشر هذا كله بمسعى منه واجتهاد؟
لو كان هذا القَصص إبداعاً بشرياً لما عمد مبدعه إلى توزيع وقائع القصة الواحدة على أماكن متعددة، كل منها يرد في مكان يحمل عنواناً مختلفاً أو مستقلاً.. كما هو الحال في السور. سوف يتهم ذلك المبدع عندئذٍ بالتخبط وبأنه عاجز عن سرد القصة من بدايتها حتى نهايتها بتواصل يستقيم مع السياق. ولكان من شأن ذلك بروز التعمُّد والإقحام للوقائع هنا وهناك، خروجاً على السياق. في حين نجد هذا التوزيع لأحداث القصة الواحدة في القرآن على سور متعددة يأتي في مكانه غير مقحم ولا نابٍ أو قلق، وإنما في انسياب جميل ساحر ومبهر. لعل ذلك من قبيل التشويق، أو توزيعها على مناسبات ومواقف مختلفة تقتضي وجودها حيث هي من النص القرآني.
ألا إنه كتاب الله العزيز الحكيم بحق، لا ينبغي أن يرقى إليه الشك، فما من بشر على اجتراح معجزته بقادر.


* * *

قصة نوح عليه السلام والطوفان
من القصص القرآني واحدة من أروعها وأقدمها في تاريخ البشر، هي قصة الطوفان، ونبي الله نوح عليه السلام، مع قومه الذين لبث بين ظهرانيهم عمراً مديداً، لم يُعهد مثله لبشر (تسعمائة وخمسين سنة).
قصة نوح تتوزع بين عدد من السور وليس في سورة (نوح) وحدها التي لا تتجاوز الصفحتين في الكتاب، تأتي في عبارات مكثفة للغاية، لكل كلمة فيها دلالة، ولكل آية- على قصرها- شمول وإحاطة. تبدأ السورة بقوله تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ(نوح:1-3)
ولما أعياه أمرهم حين لم يستجيبوا لدعوته ويئس من إمكان إصلاحهم دعا ربه أن يهلكهم كيلا يعيثوا في الأرض فساداً وضلالاً.
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (نوح:26-27)
استجاب الله لدعاء نوح ــ الذي يبدو جلياً أنه أُلهِمَه ــ بعد أن استنفد الجهد والزمن محاولاً هدايتهم إلى الله دونما جدوى، فأمره بأن يصنع الفلك، لكي يحمل عليها أولئك الذين آمنوا معه، ومن الحيوان والطير من كلٍّ زوجين اثنين. ثم جاء الطوفان ولم ينج مع نوح غير هؤلاء لكي يستأنفوا دورة الحياة على أرض تطهَّرت من الشرك والضلال. يقول تعالى:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (هود:40-41)
وفي سورة الشعراء جزء آخر من قصة نوح مع قومه تبدأ من الآية 105 تعرض لما جرى بينه وبينهم إلى أن تبلغ الآيات:
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ. قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (الشعراء:116-120)
وكان من الذين سبق عليهم القول ولدٌ لنوح عليه السلام، ودَّ لو يستنقذه، فتصور لنا الآيات حالة نوح النفسية وحنوَّه الأبوي في تلك الساعات العصيبة. تقول الآيات:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ. قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (هود:42-43)
لم يجد نوحٌ بدّاً من مناجاة ربِّه، والتضرُّع إليه بأن ينجي ابنه من الغرق، مندفعاً بعاطفة الأبوَّة التي لا حيلة للإنسان فيها:
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (هود:45-46)
هنا يتبدى لنا جانبان للمسألة:
أولهما: التأكيد على أن الرابطة الحقيقية بين الناس هي رابطة العقيدة، وهي الأقوى بين سائر الروابط، الأسرية والمصلحية وغيرها.. الخ، وليست رابطة الدم بالقرابة، أسرة كانت أو عشيرة، أو عرقاً. من هنا كانت الرابطة بين المسلمين هي (عقيدة الإسلام). توحَّد المسلمون فيما مضى حولها، فجعلت منهم أمّةً واحدةً في المعتقد، كما في وحدة شعائر العبادة، ومنحى التفكير والتوجُّه، بحيث تفضي إلى بناء مجتمع متجانس، له تميُّزه على غيره، وله خصائصه التي يعرف بها. ولقد تجلَّى كل أولئك في العصور الزاهرة للأمة الإسلامية على امتداد المساحة التي شغلتها من الأرض وتواجدت فيها. من بلاد الأندلس غرباً إلى بلاد الصين شرقاً وما بينها. اختفت فيها الفوارق بين الناس. فما كان للعرق أو اللون أو الجنس حساب أو قيمة أو اعتبار. التقوى وحدها هي المعيار.
ثانيهما: أنه ليس هناك حالات خاصة للاستثناء، بسبب من قرابة أو غيرها من الأسباب فيما يختص بالعقيدة. درسٌ للبشر كي يتعلَّموه. ليس في هذه المسألة مكان لوساطة أو شفاعة أو محاباة. فهذا ابن نبي الله نوح لم تشفع له بُنوَّته لنبيّ. بل إن الآية لتقسو على نوح في الرد إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ..  (هود:46)
وقد سبق أن رأينا مثل هذه الحالة مع إبراهيم عليه السلام ولكن على نحو معكوس فالأب هنا (آزر) هو الخارج على الدعوة التي جاء بها ابنه إبراهيم. وقد نلمس الحكمة هنا على ضوء هذه المقارنة. لم تقتصر المسألة على حالة واحدة، فكان لنا أن رأينا الأب والابن، في حالتين متعاكستين، تأكيداً على مسألة أن الرابطة الحقة بين الناس هي العقيدة، وليست صلة القرابة أو رابطة الدم أو الانتماء العرقي، وما إلى ذلك من وشائج يتخذها البشر بمثابة الرابطة فيما بينهم، لكنها سرعان ما تتهاوى عند الاختبار كتضارب المصالح مثلاً في صورة من الصور. وقد سبق أن أشرنا إلى هذه الحقيقة عما قليل.
وقبل الانتقال إلى قصة أخرى من قصص الأنبياء تجدر الإشارة إلى أن العقاب الذي حلَّ بقوم نوح، لم يقع إلا بعد أن استنفد نوحٌ جميع الوسائل من أجل هدايتهم إلى الله. وهكذا هي عدالة الله التي تمهل ولكنها لا تهمل. والوحي لرسولنا محمد عما حلَّ بقوم نوح ما هو إلا بغية استخلاص العبرة كذلك. حاول نوح عليه السلام هدايتهم ولكن دونما جدوى، الآيات:
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (نوح:10-12)
لم يستجب القوم فكان من أمرهم ما كان. وتلك قصة أخرى من أنباء الغيب أوحيت إلى النبي ليكون فيها موعظة وعبرة ــ كما أسلفنا ــ لمن شاء أن يعتبر من قومه وعشيرته، وسائر البشر، فقد أرسله الله رحمة للعالمين أجمعين.
لم ينج يومئذ مع نوح إلا قليل من البشر ومن الكائنات (من كلٍّ زوجين اثنين)، لكي تعود الحياة إلى الأرض، فتعمرها هذه الكائنات من جديد، من بشر وحيوان وطيور. ففي قَصَص القرآن ذات الدلالة على قضايا ما انفكَّ الإنسان يجهلها طويلاً، إلى أن تبيًّن في العصور الأخيرة ما تنطوي عليه من خفايا الكون وأسرار الطبيعة. فلقد أثبت العلم حديثاً أن للطير لغة وللحشرات لغة، وللنبات لغة. وهذا ما لم يقل به أحد حتى مطلع القرن العشرين وما بعد. القرآن وحده أعلمنا بذلك. ففي سورة النمل نقرأ:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (النمل:17-19)
وآية في هذا الصدد تقول:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام:38)


* * *

قصة لوط عليه السلام
في سورة هود قصص أخرى، فضلاً عن قصته هو مع قومه. منها قصة النبي لوط، وهو معاصر لأبي الأنبياء إبراهيم، يمتُّ له بصلة القربى. وقد حاول إبراهيم التشفع لقوم لوط لدى الملائكة الذين هبطوا من السماء لإنزال العقاب بهم، فجاءه ردٌّ زاجر. ومضى الملائكة إلى لوط وقومه حين حق عليهم العذاب:
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ. فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (هود:69-70)
يبدو أن سيدنا إبراهيم عليه السلام ارتاع للأمر قبل أن ينبَّأ من قبل الملائكة الذين جاءوه على هيئة بشر. حتى أنه قدم إليهم الطعام (عجلاً حنيذاً) ظنّاً منه بأنهم ربما كانوا مجرد عابري طريق أو أنهم يتقصدونه لأمر مبهم أثار مخاوفه وهواجسه. عندئذ ذهب عنه الروع، وطمأنته الملائكة قائلين ((لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط)).
تتابع الآيات في الموضوع ذاته، بلاغاً لمحمد بما حدث بعد ذلك:
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (هود:74-76)
مرة أخرى يتبين لنا أن لا استثناء لحالات كهذه. تماماً كما حدث في قصة نوح وابنه. وكما حدث لإبراهيم نفسه مع أبيه آزر الذي ظلَّ على عبادة الأصنام، فلم ينجه من العذاب الذي ينتظره يوم البعث والحساب أن ابنه نبيّ. والرسول محمد عليه السلام أيضاً لم يكن في وسعه أن يتشفع لعمه أبي طالب، الذي أحبَّه وودَّ لو أن الله أراد له الهداية فأسلم قبل وفاته، برغم ما قدَّم الرجل لابن أخيه من حماية ومؤازرة في وجه خصومه من قريش.
ونمضي مع قصة لوط وقومه. فعند وصول الملائكة حدث الآتي، كما تقول الآيات:
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ. قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (هود:78-79)
فبعد أن عرض بناته عليهم للزواج منهن، بدلاً من رغباتهم الشاذة نحو ضيوفه الذين حسبهم القوم رجالاً من البشر، أصرُّوا على المطالبة المكشوفة المنكرة بارتكاب الجريمة، عندئذ أعلن الملائكة لوطاً بمهمتهم، وكشفوا له عن حقيقتهم كما حدث مع إبراهيم وهم في طريقهم إلى لوط عليه السلام:
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (هود:81-83)
لقد أصاب قوم لوط انحراف شائن. فكان ما حكاه القرآن على لسانهم حين قالوا: ((لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد)) كاشفاً عن نفسية جماعية منحرفة، تحلَّل أصحابها من قيود الفضيلة. فلم يصدَّهم حياءٌ أو إيمان عن كبت رغباتهم الشاذة، بل أعلنوا عنها في صفاقة، وكأنهم لا يأتون منكراً. ذلك أن الفرد يكتسب من وجوده وسط الجمع قوة تشجِّعه على الاسترسال في ما كان يحجم عنه منفرداً من الميول والأهواء، لا سيما إذا شاعت تلك الأفعال بين عموم الأفراد كقوم لوط..)
ونقرأ في سورة الشعراء من قصة قوم لوط:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ. قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ. )قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ. رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ. فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (الشعراء:160-174)
في أسطر قليلة، عشنا مع قوم لوط، في صورة مجتمعهم، ومع الحوار الذي دار بين لوط وبينهم. في آيات تتسم بقصر العبارة وسرعتها، مثيرة للشعور والتنبه للحالة القائمة والتوقع لما هو منتظر. ثم تأتي بعد سرد القصة آية التنبيه لأخذ العبرة مما يقع لأمثال هؤلاء وما يحل بهم من عذاب الله.
كما نلحظ قوة الحجة التي حاجَّ بها لوط قومه، مستخدماً معهم لغة المنطق لكي يثنيهم عن سلوكهم المغاير للفطرة، الخارج عن الخلق، لكنهم أصروا على ما كانوا فيه، مبدين من السفاهة والقحة في مواجهة ما يشي بالحالة المتدنية البائسة التي بلغوها. ومن ثم حق عليهم العذاب، وحاق بهم ما كانوا جديرين به من عقاب.
بعضهم يسمي البحر الميت في فلسطين (بحيرة لوط)
قصة كهذه في إحكام بنائها، وعظيم مضمونها، كيف يمكن أن تخطر ببال رجل همُّه زعامة قومه من أجل تحقيق طموح شخصي؟ ما جدوى روايتها لأولئك القوم أولاً، ثم ما هو مصدر علمه بها ثانياً، وهو من سبق أن تحدَّثنا عن أميته، بل وأمية عصره وقومه، والجهل بمثل هذه الأحداث. فما كان لها، من ثم، أن تعرف شيئاً عن ذلك لولا أن جاء بها القرآن.
يقول جوستاف لوبون في دراسة له( ):
(تقول دراسات جرت في القرن الماضي أن موقع هذه الأحداث، وموطن قوم لوط هو مكان البحر الميت اليوم. لبث الأمر خافياً طول الأحقاب الماضية. ولم تكشف عنه الدراسات إلا مؤخراً. كما يقولون إن البحر الميِّت تكوَّن إثر الحادثة التي وقعت لقوم لوط.
(لهذا كانت مياهه مليئة بالإشعاعات الذرية التي لم يعرف مصدرها من ناحية علمية أرضية. وهذه الإشعاعات بآثارها الباقية لم تسمح بوجود حياة أو أحياء فيه. فهو خلو من الأسماك وسائر أنواع الأحياء المائية).
وقد أسماها الدارسون أو قالوا أنها سدوم وعمورة. ومما ذهب إليه بعضهم على أنها إشعاعات ذرية، هو تنبيه الملائكة له ولقومه – بألا ((يلتفت منهم أحد)). لماذا؟ لأن الإشعاعات من هذا القبيل تسبب العمى للناظر إليها. عُرف هذا فقط بعد قنبلتي (هيروشيما ونجازاكي) في اليابان، أواخر الحرب العالمية الثانية عام 1945. وما زال بعض من مرُّوا بالتجربة من اليابانيين أحياء يعانون فداحة الخطب الذي ألمَّ بهم. ولكن على يد أمريكا وليس الملائكة..!
فضلاً عما تحفل به هذه القصة( ) من معلومات عن تلك الأقوام فإن لها وظيفة أخلاقية تربوية أيضاً. فهي تندد بمسلكٍ شاذٍ، مرفوض أخلاقيّاً لدى الإنسان السويّ ذي الفطرة السليمة، والمسلكية القويمة. هكذا كانت آفة الشذوذ مرفوضة على مرّ العصور. وما برحت كذلك حتى اليوم. وإن خرج على القاعدة أناس في الغرب، فما هؤلاء سوى حثالات من أفراد مشوهين خلقيّاً وفكرياً وعقلياً. وهم منبوذون عند البشر الأسوياء كافة أيّاً كانت منطلقاتهم ومعتقداتهم. وهي مثال تضربه لنا القصة في نطاق الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم في التحريم والمحرمات، لصالح الإنسان، في دنياه وآخرته. وها نحن نرى كيف يقتص الله من أمثال هؤلاء، السادرين في الغواية والضلال برغم علمهم بالعواقب الوخيمة التي سوف تحل بهم جرَّاء سلوكهم المنحرف، وخروجهم على سنن الله وفطرته التي فطر الناس عليها.


* * *

قصص أنبياء آخرين
علاوة على ما سلف نجد في سورة هود أخبار أقوام آخرين مع أنبيائهم: فضلاً عن تفاصيل قصة نوح مع قومه، ولوط وقومه، نجد قصصاً أخرى، قد نمرُّ عليها سريعاً فنذكر آية أو أكثر تختص بكل منها تكفي شاهداً ودليلاً. من هذه القصص هذه الآيات التي حدَّثتنا بأخبارهم:
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (هود:50-51)
إلى أن يحل عليهم غضب الله وعذابه:
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (هود:58)
أما ثمود – صالح عليه السلام فالآيات تقول:
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (هود:61-62)
ويخبر الله نبينا محمد عليه السلام كيف حل عليهم العذاب في قوله تعالى:
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (هود:65-66)
ثم قصة مدين مع نبي الله شعيب:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (هود:84)
يجادلهم ويجادلونه دون جدوى، إلى أن يحلَّ بهم العذاب بعد أن ينذرهم إنذاراً أخيراً برغم تكذيبهم إياه وتنكُّرهم لما جاءهم به:
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ. وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (هود:93-94)
ومما هو ملاحظ أن كلاًّ من تلك الأقوام عُرف بجانب من المعاصي والموبقات والآثام تخصه. من ثم جاءهم أنبياؤهم من بينهم ليبيِّنوا مَواطِن الخطأ وجانب المعصية في سلوكهم. لكنَّهم في غالبيتهم كانوا يصمُّون آذانهم ولا يستجيبون لدعاتهم من الأنبياء. بل هم ــ فوق ذلك ــ كانوا يناصبونهم العداء، ويعملون على مناوأتهم والكيد لهم. وذهب بنو إسرائيل إلى أبعد من ذلك فكانوا يقتلون أنبياءهم.
.. فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (المائدة:70)
من هنا حقَّ القول على أولئك جميعاً، وحلَّ بهم العذاب بأسلوب مختلف لكلٍّ منهم: الطوفان والموت غرقاً.. ريح صرصر العاتية.. حجارة من سجيل.. الخسف في الأرض ودمار الديار والبنيان.. القحط.. والنقص في الثمرات.. وغيرها من صور العقاب الإلهي.
وقريباً من نهاية سورة هود تقول آيتان تحدِّدان حالةً بشريةً أرادها الله، كواحدة من سننه في خلقه، إذ يقول سبحانه:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود:118-119)
مرة أخرى نتساءل:
ألا يثير الدهشة والعجب أن يكون هذا تماماً هو حال البشرية اليوم، على الرغم من دعاوى التقدم والتطور والحداثة والعقلانية، وأخيراً الحرية والديمقراطية..! وما إلى ذلك من أقوال.. مجرد أقوال لا نصيب لها من التحقق على أرض الواقع.
كانوا على الدوام مختلفين.. ولا يزالون مختلفين..
وعلى الرغم من هذا الفيض الزاخر من القَصَص تقول آية أخرى، في نهاية السورة، تعقيباً على ما ورد من قصص الرسل وما آلت إليه أحوال أقوامهم من جهة، ولكي يكون عظة وعبرة وذكرى، وتثبيتاً لرسول الله في صراعه وجهاده من جهة ثانية.
وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (هود:120)
وفي سورة النساء يقول تعالى في المعنى ذاته:
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (النساء:165-166)
قصص الأنبياء والأقوام الذين أرسلوا إليهم، كما وردت في القرآن الكريم، لم تكن شائعة في تلك الأيام، أو معروفة لدى عامة الناس وخاصتهم على حدٍّ سواء، فأخبارهم لم تكن مرويَّةً أو مدونةً أبداً. فلا كتب التاريخ ولا أيّ مصادر أخرى تعرَّضت لشيء من ذلك بإجمال أو بتفصيل. كان القرآن أول من عرض لقصَصَ هذه الأقوام. ولم يحاجَّ أحدٌ محمداً يومئذ في ذلك.
من جهة ثانية لم تكن هذه القصص من المقومات الضرورية، أو الأدوات أو العوامل اللازمة لدعوة يبتغي صاحبها تزعُّم قومه ليس إلا. وما كان لها أن تلعب دوراً في تحقيق طموح هو محتاج إليه، هذا لو أننا أخذنا المسألة على أنها أخبار وقصص تروى لمجرد الإمتاع أو تزجية للفرغ، فما بالك بالجانب الآخر فيها. وهو كيفية ورودها كصيغ ونصوص على هذا الوجه من الإعجاز والتفرد، وما تنطوي عليه من مضامين وتعاليم تلمُّ بسائر شؤون الحياة، والكون والإنسان، وما يعقب الحياة الدنيا من موت وأخرة ومصير.
نلاحظ هنا ان الرسل الذين جاء القرآن على ذكرهم ليسوا كل الرسل الذين بعض الله بهم إلى أقوامهم .. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر:24). فمن هؤلاء من لم يذكرهم القرآن، مما يؤكد أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يختلق قصص الأنبياء، ولم يدِّع العلم بما لم يعلمه الله. يقول تعالى مخاطباً نبيّه في شأنهم:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (غافر:78).
* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 45 : 07 PM   رقم المشاركة : [14]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل العاشر
النبوءات المعرفية زمن التنزيل وبعده




[align=justify]
النبوءات المعرفية في القرآن
»دلالة المصطلح«
النبوءة المعرفية غير النبوءة العلمية. الأولى هي ما يتصل بأحداث سوف تقع، وتنبئ بوقوعها قبل أوانها، بزمن قصير أو على مدى بعيد. فهي ما برحت طيَّ الغيب. تتضمن النبوءة من هذا القبيل كذلك ما سوف يكون عليه حال البشر، أو حال جماعة منهم في قادم الأيام. ما سيصدر عنهم من سلوك، أو ما سوف يتعرضون له من أحداث مصيرية، قد يكون فيها الخير لهم وقد يكون غير ذلك. وهي قد تتعلق بالمسلمين كما تتعلق بغيرهم. من قبيل ذلك الآيات الكثيرة التي تصف اليهود في مسلكهم كخاصية تلازمهم، وما يصدر عنهم بحسبها في المستقبل. كمسألة عدائهم للمسلمين، وسعيهم الدؤوب للإساءة إليهم وتشويه صورتهم كأمة، ومعتقدهم كدين. وهو ما يجري اليوم تماماً، نعيشه يوماً بيوم. كما كان هذا دأبهم فيما مضى منذ عهد الرسول عليه السلام. ومنها ــ في حالة مختلفة ــ هزيمة الروم أمام الفرس، ثم انتصارهم عليهم بعد ذلك ببضع سنين. منها كذلك نبوءات للرسول عليه السلام كثيرة كتصويره لحال المسلمين في زمن قادم بأنهم سوف يصبحون ضعافاً متخاذلين لا وزن لهم في العلاقات الأممية »غثاء كغثاء السيل«، وتقليدهم الأعمى لمن يعادونهم من غير المسلمين الذين »لو دخلوا جحر ضبِّ لدخلوه من ورائهم«.
أما النبوءة العلمية فتتصل بقضايا العلوم عامة. ما سوف يتوصل إليه العلم من كشوف وما يحققه من منجزات تظهر تباعاً وعلى مراحل متساوقة مع تطور البشرية علمياً ومعرفياً، في مختلف العصور القادمة. وهي كثيرة جداً حفل بها القرآن الكريم، وتحقق الكثير منها منذ التنزيل وحتى الآن. نعرض لنماذج منها في مكان آخر من هذا الكتاب.
وقد يكون غنياً عن البيان القول بأن النبوءة المعرفية أكثر شمولاً وأعم إحاطة من العلمية. ذلك أن هذه الأخيرة فرع من الأولى في حقول علمية مختلفة محددة محصورة في نطاق العلم وما يتصف به من دقة ومقاييس صارمة. الكشف العلمي يظل، في سائر الأحوال، جزءاً من (المعرفة) التي تتصف بالشمول ولا تقف عند حدود. من هنا تندرج المعارف العلمية تحت عنوان (المعرفة) الواسع سعة الحياة نفسها.
* * *
تنزلت النبوءات قرآناً على الرسول محمد صلعم في نواحي شتى منها ما تحقق في عهده،ومنها ما تحقق بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بزمن وجيز، أو مستقبل بعيد. وقد جاء تحقق هذه النبوءات مصداقاً وتصديقاً لكلام الله، وتأكيداً على مصدر القرآن الذي كان خصوم الرسول يشكِّكون فيه. وقد كان يكفي هؤلاء المتربصين، الباحثين عن ثغرة، كنقطة ضعف، ينفذون من خلالها، تدعيماً لمواقفهم المناوئة ودعواتهم الباطلة في المجتمع القرشي، ثم المحيط العربي من حولهم في شبه الجزيرة العربية. كان يكفي هؤلاء أن يتنبأ محمد بأمرٍ ما ثم لا يتحقق، فتكون في ذلك نهاية دعوته وإبطالها على ملأ من قومه والناس أجمعين. إذ سوف ينبري هؤلاء عندئذ للتشهير بصاحب الدعوة وإشاعة بطلانها بعدم تحققها. وبسبب ما ران على أبصارهم من غشاوة لم يسأل أولئك أنفسهم : من أين استمد محمد تلك الثقة بأن ما يتنبأ به سوف يتحقق بالتأكيد، وأنه لن يكون هو الذي يسعى لتكذيب نفسه. ولو في أدنى الاحتمالات، في الوقت الذي لم يكن مضطراً إلى شيء من ذلك. لماذا يضع نفسه في مأزق من هذا القبيل ــ على خطورته ــ لاسيما وأن رسالته لاتقوم، أولاً وأخيراً، إلا على أرضية تصديق الناس لها، وإيمانهم بصوابها وصدقها؟ ألم يخطر لهؤلاء أنه سوف يكون حريصاً، غاية الحرص، على ألا يأتيهم بما قد تبطله الظروف والأيام، في أمور غيبية تتعلق بالمصائر والمقادير في حياة الأفراد والأمم؟ يصدق هذا لو كان محمد هو صاحب القول حين لا يتحقق منه شيء.
وتكون الدهشة أكبر عندما تتحقق نبوءات تتعلق بمصير صاحب الدعوة نفسه، حياة أو موتاً، نصراً أو خذلاناً، فضلاً عن مصائر دول وشعوب معاصرة، وأخرى لم تنشأ بعد. إحدى هذه النبوءات ذات صلة بمصير محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، هي وعد الله له بالعصمة من الناس، وأن الناس هؤلاء لن ينالوه بأذى، على الرغم من العداوات الكثيرة من حوله، والنوايا المبيَّتة ضدَّه، والمؤامرات المتربِّصة به، والمعارك الشرسة التي لم تفتر بينه وبينهم على مدى حياته كلها من قريش وغيرها، من العرب حيناً، ومن اليهود الذين سعوا إلى الغدر به حيناً أخر. بل لقد بلغ الأمر بيهود المدينة أن دسّوا له السمَّ في طعامه. أما مؤآمراتهم مع قريش و الأحزاب في غزوة الخندق(*) فكان من شأنها – لو قيَّض لها النجاح – أن تودي بحياة محمد ومن معه، ولكن الله نجَّاه من كل ذلك تحقيقاً لوعده. عاش محمد صلى الله عليه وسلم حياته كلها بعد ذلك في صراع قلما يشبهه صراع. كان صراعاً محفوفاً بالخطر في كل لحظة. ثم توفي على فراشه تحقيقاً للنبوءة وكما أرادها الله سبحانه. فهل كان من الحكمة في شيء أن يعلن على الملأ أنه سوف ينجو من كل ما قد يحيكون له من مؤامرات، وسينجو كذلك من كافة الحروب القائمة والقادمة ؟ وأيُّ إنسان لن تساوره الشكوك والمخاوف في مثل هذه الأحوال على كثرة الخصوم وشدّة لددهم ومراسهم ؟ ألن يؤخذ إعلانه حول (العصمة من الناس) على محمل التحدي الذي سوف يحملهم حملاً على السعي الحثيث لمواجهة ذلك التحدي؟ لاسيما وأنهم إن أفلحوا في الإيقاع به فلسوف يقضى على دعوته التي جاءهم بها. لقد كان أسهل شيء عليهم أن يقدموا على فعلتهم لكي يفرغوا من هذه القصة التي أقضَّت مضاجعهم. أكثر من ذلك صرف محمد، بعد نزول هذه الآية، من كانوا قائمين على حراسته. ثم أمضى بقية حياته دونما حراسة ولا حماية. ولقد تعرض لأكثر من محاولة اغتيال بعد ذلك. فقريش عملت فعلاً ما كان متوقعاً منها. تآمرت مع عدد من القبائل، من بطون قريش لإنفاذ المهمة. اختار القوم من كل قبيلة رجلاً لمهاجمة محمد. تضمنت الخطة أن يضرب تجمُّع القبائل محمداً بسيوفهم معاً ضربة رجل واحد. لكي يتفرق دمه في القبائل، ولا تكون لبني عبد مناف قدرة على محاربة قبائل العرب مجتمعة. النتيجة كانت مضمونة، فيما توقعوا. ولماذا لا تكون كذلك؟ فالمهاجمون رجالٌ كثرٌ أشدَّاء، والهدف فردٌ بلا حماية؟ لقد أيقنوا أن حرباً لن تقوم، إثر ذلك، بينهم وبين بني هاشم، الذين قد يرضون بالدية، لاسيما وأن من بين بني هاشم من لم يتبعوا محمداً. ولم يدخلوا في الإسلام.
وتحدث معجزة أخرى ــ ومحمد والصديق مهاجران في الطريق إلى المدينة ــ عندما أعلنت قريش عن جائزة قدرها مائة ناقة لمن يوصلها أو يبلغها عن محمد وصاحبه: أقبل على قريش رجل أخبرها أنه رأى ثلاثةً مرُّوا عليه، يعتقدهم محمداً وبعض أصحابه. وكان سراقة بن مالك حاضراً فقال: إنما هم بنو فلان، وذلك لكي يضلل الرجل وليفوز هو بالجائزة. عاد إلى بيته وتدجَّج بسلاحه، وامتطى فرسه، وانطلق إلى الناحية التي ذكر الرجل. بدأت الشمس تنحدر، وبدأ محمد و أبو بكر يفكران في امتطاء جمليهما (بعد أن استراحا في ظل شجرة)، إذ كان سراقة قيد البصر. وكان جواده قد كبا به قبل ذلك مرتين. لكز جواده، لكن الجواد كبا كبوةً عنيفة ألقت بالفارس من فوق ظهره. تطيرَّ سراقة وألقي في روعه أن الآلهة – حسب مفهومه – مانعةً منه ضالَّته، وأنه معرِّضٌ نفسه لخطر داهم إذا هو لم يكفَّ عن محاولته. عاد أدراجه وعمد إلى تضليل من يطارد محمداً وصاحبه. تابعا رحلتهما المضنية إلى أن وصلا المدينة وتلقاه أهلها بالترحاب كما هو معروف)( ).
ترينا هذه القصة – التي تجمع عليها كتب السيرة – أن نجاة محمد وصاحبه كانت ضرباً من المستحيل، فيما قريش كلها تطلبه، وتعمل على الإيقاع به لولا أن منعه الله وعصمه منهم وردَّ كيدهم إلى نحورهم. وإذا ما عمد الخصوم إلى التشكيك في الآية التي وصفت الحادثة، وقد كان هذا هو شأنهم، أن يشككوا في كل شيء، إذا ما هم فعلوا فإن سؤالاً هاماً يطرح نفسه بمثابة الرد على هؤلاء: هل سيأتي محمد بآية – يختلقها هو من عنده – لكي تصف حالهما في الغار، وما اعترى أبا بكر من خوف شديد، وتطمين محمد له في حوار جرى بينهما؟ أي مصلحة له في ذلك؟ هل يعمم امرؤ يبتغي زعامة وقيادة على من يطمع في تزّعمهم وقيادتهم اختباءه في غار أو كهف، وخوفه ورفيقه كل ذلك الخوف الذي أفصح عنه أبو بكر، والذي جاءت الآية نفسها لتؤكده..!؟ أما كان الأجدى والأكثر حصافة ادِّعاء الشجاعة في هذه المغامرة، ورواية القصة على نحو آخر يكون كفيلاً بإكسابه مهابة يتوخاها في عيون من يتوجه إليهم بالخطاب؟ أولئك الذين يدعوهم إلى اتباعه والانضواء تحت رايته وزعامته؟ نعرف أن الناس قد يستعرضون شجاعتهم لا مخاوفهم في مثل هذه الأحوال…؟
تصف هذه الوقائع الآية:
إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة:40)
ونبوءة أخرى ذات طابع مختلف لتعلقها بموقف مختلف. تلك هي قصته مع عمه أبي لهب. وهي كما ترويها كتب السيرة: (صعد محمد يوماً الصفا ونادى: يا معشر قريش : قالت قريش محمد على الصفا يهتف. وأقبلوا عليه يسألون ماله؟ قال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم. أنت عندنا غير متَّهم. وما جرَّبنا عليك كذباً قط. قال فإني نذير بين يدي عذاب شديد. يابني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تميم، يا بني مخزوم، يا بني أسد. إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين. وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله. فنهض أبو لهب – وكان رجلاً بديناً سريع الغضب – فصاح: ((تبّاً لك سائر هذا اليوم..! ألهذا جمعتنا؟)) استاء محمد وهو ينظر إلى عمه يقف منه هذا الموقف. ثم ما لبث أن جاءه الوحي بقوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ. سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (المسد:1-4)
من المسائل اللافتة للانتباه، ولها من الدلالة ما يدعو إلى إعمال الفكر في هذه المسألة غير العادية. ذلك أن أبا لهب لم يسْعَ بعد سماعه ما جاء في حقه من قرآن إلى التصرف بما يبطل نبوءة أبن أخيه حول حتمية دخوله النار في آخرته. ما كان عليه سوى إعلانه إسلامه – ولو تظاهراً أمام قريش – وعندئذ سوف يُسقط في يد محمد (عليه السلام)، حيث لا يمكن عندئذ توعُّد أبي لهب بمضمون الآية. إذ هل يمكن أن يقال له: برغم أنك أعلنت إسلامك لكنك سوف تصلى النار ذات اللهب؟ وكيف يمكن ذلك وهو الذي يعلن أن الإسلام يجبُّ ما قبله؟ وحجة أبي لهب عندئذ سوف تكون قوية ومنطقية: لماذا يدخل في الإسلام إذن مادام المصير سيكون واحداً، وهو النار سواء أسلم أم لم يسلم؟ أو ــ سوف يقال ــ إن أبا لهب سيدخل الجنة ويبطل مفعول ذلك الوعد والوعيد، وينفي احتمال دخوله النار، الأمر الذي سيبطل مضمون الآيات. كيف ذلك والذي توعده هو الله؟ تناقض لا يمكن حلُّه في هذه الحالة. ولكن إرادة الله ومشيئته وعلمه بما هو كائن، وبما سيكون صرفت الرجل وامرأته عن التفكير في السعي إلى الإسلام، ولو من قبيل التحدي وإبطال مفعول النص – كما أسلفنا – لقد عاشا زمناً بعد ذلك دون أن يُلْهَما النطق بالشهادة، على بساطة النطق بها (لا إله إلا الله محمد رسول الله). لماذا لم يقولاها؟ وكيف اتفق أن يظل كلاهما على نفس الموقف؟ أليس ذلك لأن الآية توعدتهما معاً؟
كان الرجل يعرف تماماً – مما كان يعلنه محمد – أنه ليس عليه سوى النطق بالشهادة، فينجو ولا يحق عليه القول بدخول النار خالداً فيها. ولم يثنه عن موقفه المكابر المتعنّت دخول الناس في دين الله أفواجاً، ولم تصرفه عنه كافة التطورات اللاحقة التي كانت قمينة بأن تدفعه إلى تغيير ذلك الموقف، كما فعل أبو سفيان مثلاً، اقتناعاً أو رضوخاً أو مسايرة للأمر الواقع.
يرد الآن هذا التساؤل: - لماذا لم يخش محمد نفسه أن يصدر عن أبي لهب ما ينقض الوعيد الذي تنـزل في حقه قرآناً؟
وتساؤل آخر: -لماذا لم يرد محمد على أبي لهب في اللحظة ذاتها (لحظة المواجهة) بتلك الآيات (السورة)؟
الجواب هو أن الوحي تنزل عليه فيما بعد وليس ساعة الحادثة.


* * *

هزيمة الروم المؤقتة
ومن النبوءات، على صعيد مختلف ما جاء في سورة الروم:
الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ,. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم:1-6)
كانت الحرب قائمة بين الفرس والروم. فنزلت الآية في ساعة إنتهاء المعركة تنبئ أن الروم قد غُلِبَتْ. وإذ لم تكن هنالك وسائل اتصال تحمل الأخبار إلا بالوسائل البدائية البطيئة، التي تتطلب أياماً وأسابيع وربما شهوراً، فكيف علم محمد بهزيمة الروم لحظة وقوعها على ذلك البعد (في أدنى الأرض) وأخبر بذلك مَنْ حوله لولا أن الخبر قد جاءه من السماء ..؟ ولما كان المسلمون أمْيَل إلى الروم منهم إلى الفرس يومئذ، لأن أولئك أهل كتاب. فهم أقرب إليهم على نحو ما، فقد حزن المسلمون لدى سماعهم للنبأ. أما القرشيون (الوثنيون)، فقد سرَّهم أن تهزم الروم وينتصر الفرس. بيد أن الآية نفسها لم تلبث أن طمأنت المسلمين بأن الروم سوف ينتصرون من بعد. بل إن الآية التالية حددت وقت النصر القادم ((في بضع سنين)) وذلك ما حدث فعلاً. فقد انتصر الروم، بعد سبعة أعوام، برغم القناعة التي سادت إثر هزيمتهم، لدى كثير من المعاصرين في تلك الربوع، بأنه لن تقوم لهم قائمة بعد ذلك. ولمزيد من التأكيد، ولأن الأمر موثوق تماماً بأنه لابد واقع أُتبعت الآية المتعلقة بانتصارهم بآية التأكيد ((وعد الله لا يخلف الله وعده)).
يرى علماء معاصرون أن (أدنى الأرض) تعني المكان الأخفض في الأرض. وأن الموقعة بين الفرس والروم وقعت هناك، في وادي الأردن تحديداً. حيث إن هذه المنطقة ــ وفيها البحر الميت ــ تنخفض عن سطح البحر بنحو من خمسمائة متر. وليس هناك مكان أخفض منها على الكرة الأرضية.
هذه الحقيقة المدهشة تؤكد أيضاً أن مصدر القرآن هو الله سبحانه، لعجز أي كان، في ذلك الزمان، عن معرفتها جيولوجياً، الأمر الذي لم يعرف إلا في زمن متأخر.
كيف تسنى لمحمد أن يتأكد من هذه الوقائع الشائكة، وهي ما برحت في طيّ الغيب؟ وكيف يتفق له أن يصف الناس بأن أكثرهم لا يعلمون لو كان حريصاً على خطب ودِّهم على حساب الحقيقة والمبدأ؟ بل ولماذا يتصدى لمثل هذه المسألة الحساسة والخطيرة أصلاً، والتي كان من شأنها الإساءة لمسعاه إلى الزعامة فيما لو لم تتحقق لو كانت الزعامة رائده؟ وهو إذ يدمغهم بالجهل لما وقع وما سوف يقع بعد بضع سنين إنما يؤكد في الوقت نفسه أن مصدر معرفته وعلمه بكل ذلك، هو الواثق العليم بما وقع وسوف يقع في الزمن القادم.


* * *

التنبؤ بموت النبي عليه السلام
وكما سلفت الإشارة، ليس في وسعنا أن نعرض لكافة النبوءات التي تحققت، سواء في عهد الرسول أو من بعده. ولكننا نشير إلى واحدة منها تدعونا إلى التسليم بأنه (عليه السلام) لم يكن ينطق عن الهوى. قدم الرسول في حجة الوداع لخطبة الوداع الشهيرة وللآية الأخيرة من القرآن بالقول:
((أيها الناس. اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بموقفي هذا، أبداً.
ثم مضى يلقي خطبته، كما أوردتها كتب السيرة. ولما أتمَّها نزل عن ناقته القصواء، وأقام حتى صلى الظهر والعصر. ثم ركبها حتى بلغ الصخرات. وهناك تلا عليهم قوله تعالى:
..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ ديناً.. (المائدة:3)
ولما سمعها أبو بكر بكى إذ أحسَّ بأن النبي وقد تمت رسالته قد دنا يومه الذي يلقى فيه ربه)( ).
أليس عجيباً أن يتنبأ إنسان بموعد موته وهو ليس في حالة مرض؟ وليس هناك مقدمات أو موجبات ذلك أو أسبابه الداعية. كان في تمام صحته وقوَّته، ومن العمر لم يتجاوز الثالثة والستين، وهي سنٌّ عطاء عاش كثيرون في تلك الأيام أطول منها، ومنهم أحد أصحاب المعلقات (زهير بن أبي سلمى) الذي يقول:
رأيت المنايا خبط عشواء من تُصِبْ تُمِتْهُ ومن تخطئ يُعمَّرْ فيهرمِ
سئمت تكاليف الحياة ومن يَعشْ ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ
لم يكن هناك سبب ظاهري، واحد يدعوه إلى الاعتقاد بأنه لن يلقاهم بعد ذلك العام، بل وأن يعلن ذلك على ملأ من أصحابه وسائر المسلمين، وعلى محمل أن الأمر حتمي الوقوع. كانت المسألة بينه وبين ربِّه وحياً.
((بدت إثر ذلك إشارات توحي باقتراب التحاقه بالرفيق الأعلى. فلقد أرِق ذات ليلة أول ما بدأ يشكو. وطال أرقه. وحدثته نفسه أن يخرج في ليل تلك الأيام من الصيف فيما حول المدينة. خرج ولم يصطحب معه أحداً سوى مولاه أبي مويهبة. ذهب إلى بقيع الغرقد حيث مقابر المسلمين على مقربة من المدينة. فلما وقف بين المقابر قال يخاطب أهلها: ((السلام عليكم يا أهل المقابر. ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم. يتبع آخرها أولها. الآخرة شرٌّ من الأولى)). حدث أبو مويهبة أن النبي قال له أول ما بلغا البقيع ((إني أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي)). فلما استغفر لهم وآن له أن يؤوب قال ((يا أبا مويهبة. إني قد أتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)). قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي: فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فقال: ((لا والله يا أبا مويهبة. لقد اخترت لقاء ربي والجنة))..
(مرض النبي واشتد به المرض. وخرج إلى الناس تثقله أكبر الشواغل: جيش أسامة، ومصير الأنصار من بعده، الذين أوصى بهم قبل ذلك ببضعة أيام، وكان مريضاً بقوله: (يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي( ) التي أويت إليها فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم). ومصير الأمة التي ربط الدين الجديد بينها. لذلك حاول أن يقوم في غده ليصلي بالناس كما عودهم، فإذا هو لا يقدر، إذَّاك قال: (مروا أبا بكر فليصلي بالناس). صلى أبو بكر بالناس كأمر النبي... ( ) (وبلغت به الشدة في المرض حدّاً آلمه. وكانت ابنته فاطمة تعوده كل يوم. وكان يحبها ذلك الحب الذي يمتلئ به وجود الرجل لابنته الواحدة الباقية له من عقبه. لذلك كانت إذا دخلت على النبي قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه. فلما بلغ منه المرض هذا المبلغ دخلت عليه فقبلته، فقال: مرحباً يا بنيتي. ثم أجلسها إلى جانبه وأسرَّ إليها حديثاً فبكت. ثم أسر إليها حديثاً آخر فضحكت. فسألتها عائشة في ذلك، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفي ذكرت أنه أسرَّ إليها أنه سيقضي في مرضه هذا فبكت. ثم أسرَّ إليها أنها أول أهله يلحقه فضحكت، وكان يعاني من الحمَّى أشد الكرب، حتى قالت فاطمة يوماً وقد حزَّ الألم في نفسها لشدة ألم أبيها: واكرب أبتاه! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم. يريد أنه سينتقل من هذا العالم عالم الأسى والألم)( ) وكان عنده (صلى الله عليه وسلم) أول ما اشتد به المرض سبع دنانير، خاف أن يقبضه الله إليه وما تزال باقية عنده، فأمر أهله أن يتصدقوا بها، لكن اشتغالهم بتمريضه أنساهم تنفيذ أمره. فلما قام يوم الأحد الذي سبق وفاته سألهم: ما فعلوا بها؟ فأجابت عائشة إنها ما تزال عندها. فطلب إليها أن تحضرها. ووضعها في كفه ثم قال: (ما ظن محمد بربه لو لقيه وعنده هذه) ثم تصدق بها على فقراء المسلمين.
ولما شقَّ عليه النزع توجه إلى الله يدعوه (اللهم أَعنِّي على سكرات الموت). قالت عائشة: (وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه، فإذا بصره قد شخص وهو يقول ((بل الرفيق الأعلى من الجنة)) قلت: خيِّرت فاخترت والذي بعثك بالحق. وقبض الرسول بين سحري( ) ونحري لم أظلم فيها أحداً..) كان ذلك يوم الاثنين من حزيران عام 632 م.
وقد نستخلص من هذه النبوءة تحديداً معاني كثيرة ذات دلالات بالغة. لقد كان في قصة وفاته عليه السلام أكثر من نبوءة على أكثر من صعيد، تحققت جميعاً. منها تنبؤه باقتراب رحيله. وإذا خطر بالبال سؤال: لماذا لم يتنبأ بيوم الوفاة أيضاً وتحديداً، بحيث ورد في خطبة الوداع قوله. (لعلي لا ألقاكم). (لعلًّ) لاتقطع ولا تحسم، هي الانتظار والاحتمال والتوقع والتمني وما ذلك إلا لأن الله لا يطلع على غيبه أحداً في مسائل منها الموت. و(أحداً) تشمل هنا الجميع دون استثناء، وإلا تناقض ذلك مع قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان:34)
نبوءة أخرى ضمن النبوءة ذاتها في هذه المرحلة، هي حديثه إلى ابنته الرضية فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وإبلاغها أنها سوف تكون أول من يلحق به من آل البيت. وذلك ما حدث، فقد توفيت رضي الله عنها عقب وفاة أبيها بنحو من ستة أشهر، وكانت بالفعل أول المتوفين من بعده من آل البيت. وما من شيء كان يشير يومئذ أو يوحي بأن فاطمة، المعافاة القوية – بالمقاييس الدنيوية العادية، في حساب الصحة والمرض – على أبواب الرحيل بمثل هذا القرب.
* * *

نبوءات تحققت في تتابع حتى عصرنا
كذلك نبوءته فيما حدَّث به أهل القبور في حضور مويهبة مولاه. يخاطب أهلها بالقول ((أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم..)). ألم يحدث ذلك فيما بعد؟ لم يمض وقت طويل حتى جاءت الفتنة الكبرى لدى مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وما ترتب عليها من فتن تلاحقت. وفتنة كبرى في حرب معاوية – للاستئثار بالخلافة – والإمام علي كرم الله وجهه، والتي قضى فيها كثير من الصحابة والمسلمين ظلماً، فشكل ذلك خسارة فادحة للإسلام والمسلمين. ولاسيما إذا أخذنا في الاعتبار الخديعة التي تمت في قضية ما سمي بالتحكيم، التي أفضت إلى خلع أبي موسى الأشعري لصاحبه عليّاً كرم الله وجهه، في حين ثبَّت عمرو بن العاص صاحبه معاوية، خلافاً لما اتفق عليه بين الحكمين. وكان لذلك ما كان من عواقب أليمة وخطيرة معروفة. ثم تعاقبت الفتن إثر ذلك يأخذ بعضها برقاب بعض، فكانت واحدة من أكثرها فداحة وخطراً. تركت أثرها على دنيا الإسلام، وما برحت حتى اليوم، ألا وهي فتنة مقتل سيدنا الحسين (أبو الشهداء)، ومقاتل الطالبيّين التي ينفطر لها قلب كل مسلم، كلما قرأ عنها، وعن وقائعها الأليمة على آل البيت. وليس المقام هنا متيحاً لنا الخوض في غمار هذا الحديث. ولقد جئنا بنزر يسير منه، شاهداً على صدق نبوَّة الرسول عليه السلام. وإنا لنقرأ في الأحداث والوقائع وكأنه يعيش اليوم بيننا، ويصف حالنا، كما لو كان يشاهدها مشاهدة العيان. ويكفي أن نعود لقراءة حديثه الشريف: قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً بعض صحابته:
((توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعة الطعام. قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم. وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهَنْ. فقال قائل: وما الوهَنْ يارسول الله؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت.))(*)
ألا يبدو حقاً من هذا الحديث وكأن الرسول عليه السلام يعيش اليوم بين ظهرانينا. يصف الحال، كما هو واقعنا تماماً؟ هذه الأمم المتداعية علينا – دول الغرب واليهود – يجاهرون بالعداء. بل وينقضُّون على بلاد المسلمين، بحيث لا يكاد يسلم منها بلد. والعداء اليوم موجَّه لنا وحدنا دون غيرنا، في حروب غير مبررة، واعتداءات لا تتوقف في مكان إلا لتظهر في مكان آخر. لا باعث عليها سوى عدائهم للإسلام والمسلمين. وهم يتداعَوْن فعلاً ويتجمعون من كل مكان كما يتداعى الأكلة على وليمة. يختلقون الأسباب والمبررات والذرائع الواهية التي لا تقنع أحداً، تغطية وستراً لما في دواخلهم، فما يعلنونه هو (ما يقولونه بأفواههم) والحقيقة أن (ما تخفي صدورهم أكبر). هذا كلام الله أيضاً يصف الحالة ذاتها، وموقفهم منها، وما هو عليه الحال تماماً، وكما سيقفونه على الدوام، إذ هم الأعداء الألدَّاء منذ فجر الإسلام.
ألم يعلنوا جهاراً نهاراً – بعد زوال الاتحاد السوفياتي – أن العدو هو الإسلام كأيديولوجية، والمسلمون كأمة؟ ألم يجهر أحد رؤسائهم، بل رئيس الدولة الأهم والأكبر فيهم أنها (حرب صليبية)؟ وليس مهمّاً محاولات الاستدراك لما أسموه (زلَّة لسان) يومئذ. فاللسان حين يزلُّ فعلاً إنما يبدي ما هو مكبوت، وما يحرص صاحبه على إخفائه. زلَّة اللسان لا تأتي من فراغ في مثل هذه القضايا. وهم يستعملون تعابير معاصرة مضلِّلة ومصطلحات تمويهية تكشف عن عدائهم الدائم، كمقولة: (صراع الحضارات) التي لا يعنون بها غير (حضارة الإسلام موضوعاً للصراع مع حضارتهم حسب رؤيتهم واعتقادهم). أما نحن فكما وصفنا رسول الله أيضاً. فنحن اليوم (كثير) حقّاً. نحن ربع سكان المعمورة. مليار ونصف المليار تعداد الأمة الإسلامية. عدد هائل لأمة الإسلام، يدعو إلى المهابة – على الأقل – والردع لمن تسوِّل له نفسه الاعتداء عليها. أو هذا ما هو مفروض أن يكون عليه الحال. ولكن هذا العدد (منزوع المهابة فليس هو أكثر من غثاء (كغثاء السيل) فعلاً. لا يخيف أحداً، ولا يَرهَبْه أحد. ولا يضفي على أهله هيبة يرعاها ويخشاها من أعداء الأمة أحد.
مردّ ذلك هو تتمة النبوءة الصادقة: (حب الدنيا وكراهية الموت). عدا أولئك ممن عصم ربك من المجاهدين في سبيله هنا وهناك، يستشهدون دفاعاً عن أمتهم ورسالتها. لكنهم استثناء على أية حال. حبُّ الدنيا والإقبال عليها.. السعي وراء المال.. الجري وراء الملذات والمواقع والمناصب.. التكالب على التافه من الأمور وعارضها ... سيادة عادات الاستهلاك والترف والرفاه بغير حدود ... وإلى حدّ السفه، تعمُّ كل مكان في بلاد المسلمين، بحيث أمسوا يخشون الموت حقّاً كيلا يحرموا مما هم فيه، مما يحسبونه خيراً لهم وما هو سوى الشر الوبيل في أسوأ صوره وأكثرها انحطاطاً. في سبيل ذلك هم يضحُّون بالقيمَ والمثُل والمبادئ والتعاليم التي جاءهم بها دينهم الحنيف.
ونعود إلى السؤال الذي لا يفتأ يكرر نفسه، ولكن لابد من العودة إليه من حين لحين، ما دام هو موضوع الكتاب:
ترى لو كان رسول الله معنا اليوم هل كان له أن يصفنا بغير ما ورد في حديثه هذا؟ ألا يبدو الحديث وكأنه صدر عنه خصيصاً ليصف الوضع الراهن القائم للمسلمين في عالم اليوم؟ أي إعجاز في القول بحيث تغني بضعة سطور هي نص الحديث – عن سفر ضخم يدبّجه محلل سياسي – اجتماعي – أديب..؟ بل إن عشرات المؤلفات صدرت وتصدر من حين لآخر لو أنك أجملتها لما وجدتها في النهاية تقول غير هذا.

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 50 : 07 PM   رقم المشاركة : [15]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الحادي عشر
سنة الله في الكون
السلوك البشري



[align=justify]
السنن لا تتخلف
لم يغفل القرآن شيئاً من واقع الكون والحياة والإنسان دون الخوض فيه. من ثم فقد جاءت آياته محذّرة ومنذرة ومبيِّنة لكل ما فيه إنارة الطريق لهذا الإنسان في مسعاه الدنيوي ومصيره الأخروي على حد سواء، ضارباً الأمثلة، عارضاً الصور، شارحاً معللاً، ومفسراً ومعلِّماً، حتى أن ما من شأن يهم الإنسان في الدارين لم يتطرق إليه. هذه الشمولية التي وسعت كل شيء، ما كان لها أن تصدر عن فرد بمفرده، أو عن جماعة من البشر مجتمعين، وأن يضمن لها ذلك الفرد، أو تلك الجماعة، صحَّتها وصدقها على المدى الزمني القادم، فلا يأتيها الباطل من خلفها ولا من بين يديها. فالرؤية البشرية، بسبب محدوديتها، لابد أن يعتريها القصور والخطأ والمحدودية. وإن هي صلحت في زمن ما، فسوف يتبين خطؤها أو ضحالتها أو قصورها في زمن لاحق. وإن هي صلحت لجماعة من البشر فإنها قد لا تصلح لسواهم . ومع ذلك تظل مسألة نجاحها نسبية في كافة الأحوال. ولابد أن تبقى موضع خلاف أو نقد أو عدم اتفاق أو معارضة، حسب مقتضى الظروف والأحوال القائمة عند ظهورها أو بعد ذلك. ولكن المستقبل كفيل دائماً بأن يكشف العيوب والمثالب وجوانب القصور. بمعنى أنه ما من نظرية إصلاحية أو مبدأ وضعي يمكن أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان. وأوضح مثال على ذلك ما شهدناه في عصرنا هذا، نظريتا الشيوعية والرأسمالية. الأولى سقطت ذلك السقوط الذريع الذي نعرف، والأخرى ليست عما آل إليه حال أختها ببعيدة. كلتا النظريتين لم تحققا للإنسان والإنسانية سوى المزيد من التعاسة والشقاء، بسبب من توجهاتهما المادية الصرفة، بعيداً عن منهج إلهي أو حتى إنساني. واليوم يتبين أن القرآن جاء للبشرية بكل ما يوفر لها سعادة الدنيا والآخرة. ولا غروَ في هذا فمصدره خالق الكون والحياة والإنسان، العالِم بما تنطوي عليه هذه الأقانيم جميعاً ، العارف لما يصلح لها وتصلح به، لأنه هو المطَّلع على الزمان، والمكان، والنفس البشرية في أحوالها جميعاً. وسنعرض في هذا الفصل عدداً من الآيات – وهي قليل من كثير – التي تصور الحالة البشرية، وآيات أخرى تنطوي على التحذير، أو لنقل على المحاذير والنذر الكونية التي يجب على الإنسان أن يمعن النظر فيها، لكي تكون معيناً له على تبيُّن منفعته وما يُصلح من شأنه، ويدخل في تقرير مصيره. من ذلك ما يصوِّره القرآن، كحالات متأصلة في البشر، كانت على مر العصور، ولم تزل أشبه بالظاهرة الكونية، وكأنها من سنن الخلق التي لا يعتريها التغيير، ولا تؤثر فيها الفلسفات المتعاقبة، ولا النظريات المتعددة، التي باءت بالإخفاق جميعاً. وبقيت سنة الله في خلقه سرمدية. لا تبديل لها، من هذه الظواهر تفاوت الناس في درجاتهم الوظيفية والاقتنائية ومستويات حياتهم واختلاف مواقعهم. كقوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنعام:165)
ولئن كان دعاة المثالية لأفلاطونية واليوتوبيا، بعيداً عن الواقعية المعاشة والملموسة، لا يحبون أن يكون الناس درجات، ثم يدعون إلى غير ذلك ولكنهم فشلوا دائماً. ونحن معهم نتمنى لو تساوى الناس في المصائر والحظوظ، ولكن ذلك ضرب من المحال لأن الله أراد غير ذلك تماماً لواقع البشر منذ وجدوا على ظهر هذه الأرض. هل تغير شيْ من هذا؟ أم أن الفوارق وتفاوت الدرجات بينهم ازدادت شدة وحدة. كما اتسعت الهوَّة، وكبرت الفجوة فبلغنا في هذا العصر بوناً شاسعاً، من الفرقة والخصومة، والضلال، والظلم، ربما يصعب إصلاحه، أو حتى على تضييق مداه.

ظواهر كونية مخيفة
من آيات التحذير والتنبيه للإنسان .. وربما الإنذار في صيغ منها:
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (لأعراف:98-99)
أهل القرى كناية عن البشر في التعبير القرآني.. ومكر الله هو غضبه وتدبيره. فهل يأمن الناس أن يقع بهم زلزال، أو يلم بهم طوفان، أو يثور عليهم بركان، أو يكتسحهم إعصار، أو أن تقوم حرب يشنَّها بشر هم أشد وأقسى وأعتى مما تأتي به الزلازل والأعاصير؟ وهل ذلك كله إلا من بأس الله، الذي قديداهم الناس وهم في غفلة من أمرهم، لاهين منشغلين بالصغائر والكبائر، أو بالخلافات والعداوات التي لا ضرورة لها لو كانوا يعقلون؟ أليس هذا هو الواقع القائم الآن وكان قائماً على الدوام؟ ومن ذا يستطيع أن يقي الناس أيّاً من أسباب الدمار آنفة الذكر؟ أوَ لسْنا نشهد أحداثاً من قبيل هذه وتلك في كل يوم، في هذا المكان أو ذاك من الأرض؟ وهل يدري أحد متى يمكن أن تحلَّ واحدة من هذه الكوارث المدمرة، سواء من حيث التوقيت أو الموقع، أو الكيفية، التي تتم بها، أو الآثار التي تنجم عنها. ناهيك عن أن يكون في مقدور أحد الحيلولة دون وقوعها، برغم منجزات العلم وقدرات التكنولوجيا المعاصرة؟ وكما كانت هذه النوازل تقع في قديم الزمان؟ ما انفكت عن ذلك اليوم. ولا يقي الإنسان شرورها غير الله حين يشاء... علوم البشر كافة لم تغيّر في طبيعتها شيئاً أبداً. الشيء الوحيد الذي يملكون بعض القدرة عليه هو: تقدير الأضرار، وحساب آثار الدمار بعد أن يقع... وليس غير..! وفي هذا السياق يقول تعالى:
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً. أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (الإسراء:68-69)
وفي سياق غير بعيد عنه يتعلق بسنن الله الأزلية في الكون والتي ليس لأحد قدرة على إحداث تغيير فيها أو تعطيلها سواه، حين يشاء:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (القصص:71-73)
لو تخيلنا حدوث هذا: نهار متواصل تلبث الشمس فيه ساطعة طول الوقت. فما الذي سيحدث؟ سوف تحترق الأرض بمن فيها وما عليها في وقت وجيز. وسوف تختلط المواقيت والتواريخ والمواعيد لكل شيء، وليس للإنسان وحده. وأما إذا جعل الله الليل قائماً سرمداً فسوف يحل البرد ويغمر الصقيع أرجاء الأرض كلها. وسوف تختفي الطاقة وكل ما ينجم عنها. وفي الحالتين سوف تستحيل الحياة بفقدان مقوِّمَيْها الأساسيين، هذين الغائبين عن البال نظراً لاعتيادهما، ولأن ذلك لم يخطر ببال أيضاً وبحكم الألفة، حتى ليبدو وكأن لنا عهداً مع جهة ما بألا يحدث. وقد نضيف بأن الشمس لو اقتربت عما هي عليه قليلاً، أو أنها ابتعدت قليلاً لحصلت النتيجة ذاتها. الدمار ونهاية الحياة. فمن ذا الذي وضعها في مكانها هذا بعد أن أجرى حساباً دقيقاً محكماً كيما تستقر الأمور على النحو الذي نألف، وتجري الحياة في مسارها الذي نعرف؟ من ذا الذي صنع الكون على هذا النحو لكي يكون صالحاً للحياة؟ أهي المصادفات كما يحلو لبعض أدعياء المعرفة؟ ومن ذا الذي يجبر الشمس على الشروق في أوانها؟ أليس دوران الأرض على محورها، بتدبير من لدن بارئ الخلق، هو سبب تعاقب الليل والنهار، طبقاً للعلم الحديث؟ تفسِّر هذا وتقرره الآية من كتاب الله:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (لأعراف:54).
وقوله تعالى:
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (الزمر:5)
وقد تحسن الإشارة هنا إلى قوله تعالى:
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (الرحمن:5)
وليس المعنى هنا الحساب الزمني بالسنة القمرية والسنة الشمسية وحسب، كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. وإنما المقصود هو أن للشمس كما للقمر نظاماً ربّانياً محسوباً بدقة لا يستطيع البشر إدراكه بحساباتهم إلا مقاربة، في جوانب أخرى من المسألة منها الحجم (الكتلة) والبعد والحرارة، وما هو مقدر ومحسوب أن يصلنا من أشعة الشمس وضوء القمر. وهذه كلها عوامل مؤثرة في وعلى الأرض ومن عليها. إلى درجات تتعلق بالوجود ذاته على ظهر هذا الكوكب.
يكفي أن نعلم بأن ما يصلنا من حرارة الشمس ليس أكثر من (جزء من 2 مليون جزء) ومع ذلك نرى ما يقع لنا في أيام الصيف من عناء، وما يصدر عنا من التشكي بسبب من شدة الهجير. حرارة الشمس في داخلها تبلغ عشرين مليون درجة مئوية فيما حرارة سطحها نحو ستة آلاف درجة. ناهيك عما يضطرم في داخلها وعلى سطحها من أعاصير وعواصف من النار والزوابع الكهربائية ــ المغناطيسية. تفاعلات نووية وهيدروجينية تنشأ عنها طاقة هائلة لا يمكن لنا أن نتصورها بقدراتنا العقلية المحدودة.
وإذا ما جاءت اليوم معطيات العلوم لتتطابق مع ما جاء في كتاب الله قبل أربعة عشر قرناً فهل يبقى مكان لمشكِّك أو مستريب يسعه غير الإقرار بأن مصدر هذا الكتاب هو خالق الكون سبحانه؟


* * *

فتنة الأزواج والأولاد وتكريم الإنسان
وآيات في سياق أخر حول قواعد كونية ثابتة ذات علاقة بالسلوك البشري والعلاقات الإنسانية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (التغابن:14-18)
الأولاد والأزواج (رجالاً ونساءً) كثيراً ما يكونون أعداء فيما بينهم. بل إن منهم من يجلب الأذى لذويه بمن فيهم الأبوين. ومنهم من يتسبب في أن يلحق بأبويه غضب الله جراء سيآتٍ وذنوب يقترفونها، ولا يحول الآباء دون وقوع أبنائهم فيها. فيما هم قادرون على ذلك، لكنهم لا يفعلون، إما مسايرة، أو إهمالاً في شؤون تربيتهم. وكم عرفنا في الوقائع المشاهدة في المحاكم والمجتمعات من عقوق أبناء لآبائهم، وما يجرُّونه عليهم من متاعب كانوا في غنى عنها لولاهم. بل ما أكثر من يتمنون لو أنهم لم ينجبوا أبناءهم هؤلاء أصلاً. أما الحالة بالنسبة للزوجات والأزواج فقد تكون أدهى وأمر، وليس في وسعنا الإفاضة فيها هنا لضيق المقام أولاً، ولأن معظمنا يعرف طرفاً منها أو الكثير عنها ثانياً. والآية تشير إلى أن الأولاد فتنة، فضلاً عن كونهم مصدر عداء وأذى أحياناً. وإن الأموال لكذلك. فالأموال قد تفضي بصاحبها إلى سوء المصير في الدنيا والآخرة. فالغنى يورث البطر أحياناً، ويغري بالسعي وراء الملذات مادام صاحبها قادراً على دفع الثمن. وإذا ما أنفق المال في غير سبيله الصحيحة كان وبالاً على صاحبه، فهو من ثم عدوٌّ له، بدلاً من أن يكون صديقاً نافعاً، يعينه على تكاليف الحياة وأعبائها، واكتساب الثواب والحسنات، إذا ما هو أنفقه في الصدقات وأعمال البر. ومن المشاهد في الحياة أنك ترى إنساناً حسن السيرة، على استقامة وهدى ولكن ما إنْ يغتني، بطريقة أو بأخرى، حتى ينقلب إلى إنسان آخر لا تعرفه. أوَ لا يكون ذلك المال أعدى أعدائه إذن في هذه الحال، حين يصرفه عن عمل الخير، وينزع به إلى مواطن الفتنة والإثم والمغريات المحرمة؟
ويصبح المال ــ عند إساءة استخدامه ــ عدواً للإنسان في جوانب أخرى تمكن الإشارة إلى شيء منها.
قد يُطمع ما يملك المرء من مال الكثيرين، ممن حوله، مما قد يعرِّضه لاحتمالات شتى منها السرقة ومنها الرشوة، ومنها رغبته ــ التي يسعِّرها المال ــ في الافتئات على العباد، أو اكتساب منافع ومزايا لا حق له فيها، وعلى حساب حقوق آخرين في مجتمعه. وهي أمور نلمسها ونراها كل يوم.
ليست هذه دعوة، بطبيعة الحال، إلى تجنب اقتناء المال وإنما هي تنبيه وتحذير للإنسان كي يتلافى ويتفادى احتمالات سلبية قد يتعرض لها إذا هو لم يتصرف في ماله على نحو سليم، ناهيك عن أن يكون مصدر المال غير مشروع.
وفي الجانب الديني كذلك. على المسلم أن يدفع زكاة ماله، فإذا هو لم يفعل كان جانب من هذا المال في عداد الأعداء بالنسبة لصاحبه. وإذا لم يؤتِ صاحب المال قرباه والمستحقين من الفقراء، تبرعاً أو صدقة فإن ذلك سوف يعرضه لسخط هؤلاء ونقمتهم، أي أنه سوف يكون مجلبة عداء له، بسبب من حرصه على اكتنازه والاستئثار به.
يقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة:34-35)
ولتنظر في هذه الآيات مليّاً أيضاً:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً. فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (الطلاق:8-10)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (الملك:15-17)
ألا تثير هذه الآيات الروع في نفوسنا؟ من يضمن للبشر جميعاً – أيّاً كانت القوى والتقنيات التي يملكونها – ألاَّ يقع لهم شيء مما يتوعد الله به الضَّالين والظالمين من عباده، لأن هذا السخط غالباً ما يحلُّ بهؤلاء. وقد يصيب بأذاه من هم حوله وهم أبرياء. ففي قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (لأنفال:25) ما يؤكد هذه الحقيقة.
في منحى مختلف ينبؤنا القرآن عن إنفاق المال في وجوه مستحبة إيجابية، وعن عفة النفس نحو ما في أيدي الآخرين منه كقوله تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (البقرة:261-264)
لا ضير إذن في إبداء الصدقات، ولكن من غير منٍّ أو إيذاء للمشاعر لمن تقدم إليهم. بيد أن إخفاءها يبقى هو الأفضل. كما أننا في (الآية الثانية) نلاحظ وصفاً لفقراء في المجتمع، قد يمنعهم الخجل أو تحول كرامتهم دون اللجوء إلى المطالبة. من ثم سوف يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء مكتفين، ماداموا محجمين عن إبداء الحاجة إلى العون.
إلى هذا الحدّ يحرص القرآن على (السلوك الحضاري) بين الناس في تعاملهم. وهو يفوق، بما لا يقاس، ما يدَّعى خصومه من (حضارة). إذ هم حين يمنحون قرضاً أو يقدمون مساعدة لدولة أو لشعب ما، لا يفعلون ذلك إلا بشروط ــ سياسية غالباً ــ مجحفة مفروضة هي الثمن المقابل. وهم لا يتورعون عن الإعلان على الملأ بوسائل إعلامهم عن ذلك، مما قد يدفع بصاحب الحاجة إلى رفض المعونة أو القرض مادام المقابل هو الإذلال، وربما الاستعباد( )، وقبل ذلك أو معه إدامة حاجته إليهم، لكي يخضع في النهاية إلى إملاء اتهم السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية. وقد عرف العالم نماذج كثيرة من هذا القبيل، وما برحت هذه الممارسات قائمة حتى الساعة. بل لعلها أصبحت السياسة الوحيدة المعتمدة بين الدول الغنية والدول الفقيرة. أما فيما يتعلق بالأفراد في مجتمعاتهم نفسها، فما من أحد يقدم عوناً لأحد، حتى لو رأى أحدهم جاره – مثلاً – يقضي نحبه جوعاً وفاقة.
فما بالنا نرى محمداً عليه السلام يسمو (حضارياً) إلى ذلك المستوى الذي عرفنا؟ وهو يدعو الناس كافة إلى الارتقاء في سلوكهم ومعتقدهم لصالح الإنسان، فرداً ومجتمعاً، دون أن يتيه عليهم، أو يدَّعي الفضل. بل إنه حين سها- على سبيل المثال- عن الاهتمام بابن أم مكتوم لم يتردد في إعلان الآيات التي جاءت تعاتبه وتأخذ عليه ذلك الموقف، مع أنه عليه السلام لم يقدم على ما يجرح ابن أم مكتوم في كرامته. فهو لم يتعمد تجاهله استصغاراً لشأنه، وإنما لظنِّه أن الاهتمام بمن كانوا لديه من علية القوم في قريش كان أولى وأجدى للدعوة. أي أن المسألة (ترتيب أولويات) لصالح الدعوة نفسها. إذ رأى أن تأجيل الحديث إلى ابن مكتوم لن يكون فيه ضرر يصيب الرجل. لم يُسبَق محمد إلى مثل هذا من قبل. أما قومه فقد كانوا على العكس تماماً: غلاظ الطباع، قساة القلوب، خشني السلوك، وأبعد ما يكونون عن مسلكه الحضاري الذي لا يضاهى.
ليس في وسعنا المضي في عرض الشواهد والبينات على مصدر القرآن إلى ما لا نهاية، سواء من آياته أو من شواهد أخرى، في حياة الرسول وزمنه أو الأزمنة اللاحقة حتى وقتنا الراهن. ليس في إمكاننا الإفاضة، بله الإحاطة إلا بالنزر اليسير مما احتواه الكتاب الكريم.
أوَ ليس عجزنا هذا، في القديم وحتى اليوم، في حدِّ ذاته أسطع برهان، وأنصع دليل على عظمة كتاب الله وأمانة رسوله؟ لا سيما إذا ما ذهبنا إلى مقارنة عصره بعصرنا، آخذين في الاعتبار فارق الإمكانات، ودرجة التقدم الإنساني في كلٍّ من العصرين، وفي مضمار العلم على وجه الخصوص.
أو ليس في هذا ما يقطع باليقين بأنه لم يكن لمحمد من الأمر شيء في مسألة القرآن، سوى تكليفه بحمله رسالة هدى ورحمة للعالمين؟


* * *

خرق السنن والعادات الإسراء والمعراج والعلم
كانت واقعة الإسراء والمعراج برسول الله عليه الصلاة والسلام (عام 621م) مثار جدل واختلاف منذ نيف وأربعة عشر قرناً، وما برحت كذلك حتى يومنا. وقد تنوعت وجوه الخلاف وأسبابه، وهي في جملتها ــ إذا استبعدنا غير المصدقين والمنكرين ــ تدور حول ماهية الإسراء، والمعراج. هل كانت بالروح فقط ــ كالرؤيا مثلاً ــ أم كانت بالروح والجسد. ولكل من أصحاب وجهتي النظر حججه وحيثياته لتدعيم وجهة نظره.
في معجزة الإسراء يقول الله تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء:1)
وفي معجزة المعراج يقول تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (لنجم:1-18)
هذه الآيات واضحة الدلالة، لا تحتمل التأويل بعيداً عما نصَّت عليه. تصف الآيات مشهداً تراه العين وتلمسه الحواس. كما إنها تعيِّن المكان (المسجد الحرام والمسجد الأقصى)، كما تشير إلى الآفاق الكونية والمغيبات التي رآها الرسول رأي العين في حين يعجز الخيال الإنساني عن ارتيادها.
العلم الحديث (ومنه علم الروح) لا ينفي إمكان حدوث الإسراء والمعراج بالروح والجسد، وإن كان لا يستطيع تعليل الظاهرة الخارقة على نحو قاطع. يعترف العلم بأن هناك ظواهر تحدث في الكون، وأن هناك أسراراً فيما وراء الطبيعة (الميتافيزيق) يقف أمامها حائراً، بل عاجزاً عن إدراك كنهها وكيفية وقوعها. يتخذ العلم في هذه الحالات موقف الحياد، فلا ينفي أو يثبت، لأن وسائله للنفي أو الإثبات تكاد أن تكون إما متعادلة وإما منعدمة.
كان الناس عامة، في عهد الرسول عليه السلام ــ وإلى زمن طويل بعده ــ على قدر من البداءة من الناحية العلمية تجعل من العسير عليهم أن يدركوا بعقولهم وحدها، احتمال حدوث ظاهرة عجيبة خارقة لنواميس الطبيعة وسنن الكون وقوانينها الثابتة كما عرفوها في زمانهم.
ونحن لا نجد هنالك من الأسباب المقنعة ما يدعو إلى إنكار قصة الإسراء والمعراج. الذين ينكرونها يعجزون تماماً عن الإتيان بدليل على بطلانها، اللهم إلا أن يكون الدليل هو أن عقولهم عجزت عن فهمها، كما أسلفنا، وأن خيالهم قصر عن تصورها. هذا القصور طبيعي في الإنسان. ولكن هل معنى ذلك أن كل ما لا تسمو إليه المدارك، ولا تستوعبه الأفهام مستحيل الوقوع أو الوجود؟ لو أخذ الناس بهذا المنطق لأنكروا الرسالات والعقائد وما وراءها إذ إن ذلك من الغيبيات. لكن هؤلاء ينسون أن هذا من صنع الله القادر على كل شيء، ولا حدود لقدرته وسلطانه، وأنه هو واضع السنن، وهو من ثم القادر على خرقها وإبطال مفعولها حين يشاء.
أضف إلى ذلك أن الحسابات الفلكية الكونية غالباً ما تقع خارج نطاق حساباتنا ومداركنا. وقد سبق أن أوردنا آيات كريمة في مسائل الزمن الكوني والسرعات الفلكية المتفاوتة بين جرم وآخر. فأيام الله التي يبلغ الواحد منها ألف سنة مما نعد، ومنها ما يعدل خمسين ألف سنة. وهناك غير ذلك مما لا نعلم بالتأكيد. فأي غرابة إذن بأن يُسرى برسول الله عليه السلام جسداً وروحاً إلى المسجد الأقصى من المسجد الحرام في مكة. أو يعرج إلى السموات العلى حتى يكون (قاب قوسين أو أدني) من (سدرة المنتهى) إذا ما شاء الله ذلك؟
الروح الأمين يعرج إلى السماء بالسرعات آنفة الذكر، وروح الكائن البشري، حين تغادر أجسادنا ــ أثناء النوم أو عقب الوفاة ــ تنطلق إلى حيث يشاء لها الله من آفاق بسرعات لا يعلم حقيقتها أحد غيره.
ونحن في عصرنا الراهن نعرف عن طريق العلم الكثير مما كان يصنَّف فيما مضى ضمن العجائب والغرائب. نعرف الآن عن سرعات فيزيائية مختلفة كسرعة الصوت، والسرعة التي تتخطى حاجز الصوت (كطائرة الكونكورد) على سبيل المثال، وسرعات السفن الفضائية. كما نعرف سرعة الضوء التي تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية، بحيث لا يصلنا ضوء الشمس إلا بعد ثماني دقائق من صدوره عنها. أي أن الشمس التي نراها في هذه اللحظة ليست سوى الشمس التي كانت هنا حيث نراها (بالوهم) قبل ثماني دقائق. بمعنى أنها غادرت نقطة الرؤية هذه منذ ثماني دقائق.
ليس بخافٍ على أحد، فيما نرى، الاختلاف في أيام الكواكب والنجوم في سائر الأجرام السماوية. إن مجموعتنا الشمسية ذاتها تختلف السرعات الكوكبية فيها بين كوكب وآخر، حسب بعدها عن الشمس، فيوم الأرض غير يوم المشتري ويوم أورانوس أو نبتون أو المريخ، يختلف واحدها عن الآخر. كذلك تختلف أيام أقمارها الدائرة في أفلاكها، فلكل قمر سرعته وزمن دورته التي تشكل يومه أو عامه حسب بعده عن كوكبه من جهة، وبعدهما معاً عن مركز الشمس. مع علمنا أيضاً بأن لبعض الكواكب أكثر من قمر، فهناك أقمار المشتري وقمري المريخ وحلقات زحل وغير ذلك مما ليس هنا مكان تفصيله.
من الخوارق المعجزة المشابهة في مسألة الرفع والانتقال بالروح والجسد، رفع سيدنا عيسى عليه السلام عن أرضنا إلى رحاب الله سبحانه. يقول تعالى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (آل عمران:55)
ويقول تعالى:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (النساء:157-158)
هذه الآيات واضحة الدلالة على أن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام رفع إلى السماء جسداً وروحاً ولم يعد. ويرى مسيحيون ومسلمون أنه عائد آخر الزمان ليشيع في الأرض المحبة والسلام.
معجزة الإسراء والمعراج إذن لم تكن الوحيدة في تاريخ البشر. المسيحية والإسلام متفقان على وقوع المعجزة، تؤكد كل منهما وقوعها لنبيِّها على اختلاف في الحالة والظرف والمعطيات، كما شاء لها الله أن تكون. ولسنا هنا بصدد عرض لموقف كل منهما أو تفسيره للظاهرة بقدر ما نحن في صدد تبيان حقيقة كونية، هي إمكان وقوع المعجزة بقدرة الله العلي القدير، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون.
هذه الحقيقة تستبعد احتمال أن يكون الإسراء مجرد رؤيا. إذ لو أنها كانت كذلك لما كان لها أن تأخذ هذا الحيِّز العريض من الجدل، والأخذ والرد في شأنها وفي ماهيتها. بل ما كان للرسول أن يتحدث عنها كمعجزة وقعت له وأكرمه الله بها لغاية يعلمها، ولها دورها في التمكين للرسالة. هذا فضلاً عن القرآن الذي نزل بشأنها تصرِّح آياته بخطورة المسألة وأهميتها، إذ تبدأ آية الإسراء ممجدة اسم الجلالة، وعظمة قدرة الله بالقول سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، ثم تحدد الزمان في قوله ليلاً وتحدد المكان في قوله مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، ثم الغاية من الرحلة وهي قوله لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا. أما في شأن المعراج فسورة النجم تصور وقائع محسوسة مرئية بالعين، مستنكرة إنكار الرؤية العيانية التي أتيحت للرسول عليه السلام، إذ تقول بعد وصف واضح بيِّن مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. ثم يأتي تحديد شديد الوضوح في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.
أيعقل أن يكون هذا الخطاب الصريح المحدد في نصوص الآيات القصيرة السريعة، الجازمة المثيرة للرهبة، أيعقل أن يتعلق هذا (برؤيا)، مجرد رؤيا قد تعرض لكثير من البشر دون أن تثير استغراباً أو أن تكون مدعاة للعجب؟ (الرؤيا) في حد ذاتها اعتاد الناس عليها وإن تكن في حالات خاصة، ولكن الله أراد أن يرينا معجزة حقيقية خارقة لما اعتاده الناس، وإلا فأين وجه الإعجاز في المسألة؟
ولمزيد من التوضيح قد يحسن أن نتحدث عن خوارق خاصة بالزمن. منها قصة أهل الكهف ومكوثهم ثلاثمائة وتسع من السنين في كهفهم، وعند صحوهم حسبوا أنهم لم يلبثوا فيه أكثر من يوم أو بعض يوم( ).
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (الكهف:19)
هذه التوصيات لموفدهم كي يحضر لهم طعاماً كانت بسبب من تصورهم أنهم مازالوا يعيشون في عهد الطاغية الذي دفعهم إلى الاختفاء عن الأعين في ذلك الكهف.
ومنها قصة (عزير) الذي أماته الله مائة عام ثم أحياه بعدها ليجد طعامه لم يتغير طعمه ولم يفسد. وعزير يحسب أيضاً أنه قضى يوماً أو بعضه نائماً وليس أكثر. يقول تعالى في شأنه:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة:259)
وهناك من الخوارق معجزات كرَّم الله بها رسله، وهي كثيرة منها:
إحياء سيدنا عيسى عليه السلام للموتى بإذن ربه. وإبراء المرضى، وغير ذلك من معجزات أجراها الله على يديه.
يقول تعالى فيه عليه السلام:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ. وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران:48-49)
ومنها ما وقع لسيدنا إبراهيم في مواقف كثيرة، كإحياء الطير بعد أن قطعه إلى أربعة أجزاء وضع كلاً منها على جبل ثم دعاهن إليه فعاد طيراً حياً كاملاً بإذن الله.
ومنها ما كان يقع لسيدنا سليمان من تسخير للجن، ونقل لعرش بلقيس في اقرب من لمح البصر، وغير ذلك من خوارق ومعجزات ذكرها القرآن الكريم وتحدث بها رسول الله عليه السلام.
الأمر الذي لاشك فيه إذن أن العقل وحده لا يمكن أن يكون حكَماً في سائر المسائل البشرية والكونية، فهو غير مؤهل لذلك. العقل لا يدرك بقدراته النسبية المحدودة من حقائق الكون الهائل المذهل إلا النزْر اليسير، مصداقاً لقوله تعالى:
.. وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (الإسراء:85)
وقوله: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (آل عمران:66)
وقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (النحل:74)
ليس هذا القصور في العقل البشري، وفي أجهزة الإنسان الحسية بالذي ينفي المعجزات والمغيبات والحقائق الكونية الخافية عن الإنسان. وعلى الرغم من أن الإنسان حقق إنجازات كثيرة عن طريق العلم والتجربة والممارسة، إلا أن هناك حقائق كثيرة وأسراراً أكثر ما برحت طيَّ الخفاء، قد يكشف العلم عن بعضها، ولكنه بالقطع لن يتوصل في أي وقت من الإلمام بأكثر مما هيأه الله له، وما شاء الله له الاطلاع عليه. ستظل هناك خفايا وحقائق وأسراراً لن يُتوصل إليها أبداً، فخلق الله ومجالات قدرته ورحابة كونه أوسع وأعظم وأكبر من أن يحيط بها علم كائن من بني الإنسان.
أما رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فما كان له أن يؤلف قصة كالإسراء والمعراج، بل ما كان لها أن تخطر له على بال، فهي ــ وما شاكلها ــ ليست من متطلبات الزعامة ومقوماتها بالضرورة فيما عرفنا من تاريخ الأمم لسببين:
أولاً: أنها كانت خليقة بأن تحدث بلبلة في نفوس الكثيرين. وأن تثير حيرة وتساؤلات لدى الكثير من المؤمنين لصعوبة القدرة على تخيلها، وإمكان وقوعها. ناهيك عن أنه كان من شأنها إثارة شكوك ما كان أغناه عنها. أضف إلى ذلك ما أتاحته من فرصة للخصوم للطعن في مصداقية الرسالة ومصداقيته هو نفسه.
ثانياً: أنَّى لمحمد عليه السلام القدرة على صياغة النص الإلهي المعجز هذا؟ وهل في وسع أحد مضاهاة كلام الله؟
كل ما في الأمر أنه صلوات الله عليه وسلامه وقع له ذلك فأنبأ به من أُرسل إليهم، غير آبه بسائر الاحتمالات.. وفي هذا فصل الخطاب.


* * *

من سنن الله في الكون الحرية و(الديمقراطية)
من سنن الله سبحانه وتعالى في الخلق أن يولد الإنسان نزَّاعاً إلى الحرية بالفطرة. إذ هي جزء لا يتجزَّأ من تكوينه.
يملك الإنسان، منذ ولادته، خصائص لا يملكها غيره من سائر المخلوقات، أهمها أمران يميزانه عنها جميعاً: عقل يفكر ولسان يعبِّر. وقد أعطي الإنسان حرية الاختيار بين منحيين، أو لنقل ثنائيتين: الخير والشر، الصواب والخطأ، الهدى والضلال. في هذه يقول الله تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(البلد:8-10)
من هنا جاءت مسؤولية التكليف مادام الإنسان مسؤولاً عن اختياره بمحض إرادته. ولكن الله سبحانه ــ رحمة منه بالإنسان ورعاية له ــ لم يدعه نهباً لنوازع الهوى في نفسه، ونزغات الشيطان المتربِّص به على مدى حياته، يزيِّن له الغواية والضلال. بعث إليه الرسل يحملون كتبه وكلماته الهادية إلى سواء الطريق، لكي يحسن الاختيار، وإلى معرفة ربه ومن ثم عبادته. ولولا ذلك لما وجب عليه الحساب أو حقَّ عليه العقاب.
يقول تعالى تأكيداً لهذه الحقيقة في آيات كثيرة: منها:
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء:15)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (الأنعام:48)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (فاطر:24-25)
الحرية إذن هبة إلهية فطر الإنسان عليها. وهي ليست منحة من إنسان لإنسان آخر. هي حق طبيعي للإنسان يملكه ويدخل في نسيج تكوينه النفسي والعقلي والغريزي معاً. والناس (قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). هي سنة من سنن الله في خلقه.
الحرية والديمقراطية لهما فهم معين لدى الغرب، حسب ثقافته السائدة وتجربته بالممارسة، وإن هي اختلفت في نسقها وتفصيلاتها الفرعية بين بلد وآخر، فهي في أمريكا غيرها في بريطانيا مثلاً. وهذه الديمقراطية الغربية تختلف في مفهومها عن ما يقابلها في الإسلام تحت عنوان الشورى.
الديمقراطية مصطلح يوناني الأصل مؤلف من كلمتين هما (سلطة الشعب). لها فلسفتها الخاصة، وتنبثق منها إجراءات تنظيمية كالانتخاب والاستفتاء، والبرلمان، وما إلى ذلك مما عرفناه في النظم الغربية. يقابلها في الإسلام نظام الشورى في الحكم، والبيعة للحاكم. وهي حق انتخابي (المبايعة) لكل فرد في المجتمع. أما الحاكم فيشترط فيه حيازة مواصفات لابد من توفرها فيه: الأمانة، والعدل، والعلم بالشرع، وحسن الخلق، ونظافة اليد، أمور لا تشترطها (الديمقراطية) الغربية في الحاكم بالضرورة.
لم تدخل الديمقراطية المعاصرة ــ لدى الغرب ــ حيِّز التطبيق الفعلي قبل عصر النهضة والإصلاح الديني، ثم الثورات في بريطانيا بزعامة كرومويل، وفي فرنسا برجالاتها الموالين والمعارضين إلى حين استتبابها: جان جاك روسو ــ العقد الاجتماعي ــ وروبسبير وميرابو ونابليون. أي أنها عرفت على الصعيد التطبيقي ــ بما لها وما عليها في هذا المكان أو ذاك ــ خلال الأربعمائة سنة الأخيرة أو نحوها في القرن السادس عشر، في حين عرف الإسلام مبدأ الشورى هذا قبل أربعة عشر قرناً ونيِّف، وإن أساء بعض المسلمين تطبيقه كنظام فيما بعد. بيد أن الديمقراطية الغربية لم تستقر هناك دون ثورات وحروب ومذابح. بل إن دعاتها أنفسهم كانوا أحياناً ضحايا لها. الثورة الفرنسية ــ على سبيل المثال ــ دفعت إلى المقصلة بما ينوف على ثلاثين ألف إنسان. يكفي أن نذكر من سوء تطبيق الديمقراطية في الغرب أنها أنتجت حربين (عالميتين) في النصف الأول من القرن الماضي ذهب ضحيتهما نحو خمسين مليون إنسان. إذ كان وصول الزعامات إلى مناصب الحكم مثل هتلر في المانيا، وستالين في روسيا، وموسوليني في إيطاليا من الأسباب المباشرة لما لا يحصى من الضحايا والمآسي، ليس فقط ما وقع من إحداهما على الأخرى وإنما في بلد المنشأ ذاته. ضحايا ستالين في عهد حكمه الذي لم ينته إلا بمفارقته الحياة عام 1953، أسفر عن عدة ملايين من الضحايا من الروس والبلدان التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي، في معسكرات السخرة والاعتقال في سيبيريا، حيث كان الناس يموتون جوعاً وبرداً وهواناً. وكذلك الأمر كان في ألمانيا ــ هتلر على أيدي ما عرف بالجستابو. من أقوال هتلر في تبرير أفعاله (الضمير اختراع بشري). ومن أقوال ستالين: (موت شخص مأساة أما موت مليون فمسألة إحصائية). كان يكفي وضع علامة (×) من يسرى ستالين بقلم ليعدم (بيربا) قائمة تتضمن آلافاً من الأفراد، الذين لا ذنب لمعظمهم على الإطلاق، سوى الشبهة في ألا تكون (أفكارهم) مؤيدة لما يجري هناك. حتى لو كانت تلك الأفكار مجرد خواطر، أو شبهة على النوايا التي لا تضمر للنظام شراً والتي لم تكن قادرة عليه بطبيعة الحال. بل ربما كانت (استياء) فقط من الظلم الواقع على أصحابها أو على الشعب.
نقول هذا للذين قد يحلو لهم ــ كما يحدث دائماً ــ التحدث عما كان يقع في بعض أنظمة الحكم في الدولة الإسلامية. ما من أحد يبرئ أولئك. وليس ذلك في حدِّ ذاته يمكن أن يكون اتهاماً للإسلام، فالإسلام نفسه بريء مما اقترفوا، وهم أول من أساء إليه. نقول هذا لكيلا يظن أو يدعي بعض مناوئي الإسلام، حتى من بين أبناء المسلمين المنبهرين بالغرب، لكيلا يظنوا أو يزعموا أن ديمقراطية الغرب كانت (سمناً على عسل) لأصحابها مذ عرفوها.
أما إذا تحدثنا عن (ديمقراطية أمريكا) فلربما احتجنا إلى مجلدات. يكفي أن نذكر بعض رؤسائهم وما لصق بكل منهم من جريمة نكراء في حق البشرية. من نذكر؟ الرئيس هاري ترومان ــ وقنبلتي هيروشيما ونغازاكي. والمائتي ألف قتيل في لحظات صاعقة، إضافة إلى آثارهما التدميرية الشاملة بحيث لم يبق من معالم المدينتين بناء واحد قائم. وما تبع ذلك من دمار للصحة والبيئة مازالت مجموعات من البشر هناك تعاني منها حتى الساعة، ومن بينهم من ولدوا بعد الكارثة بما ورثوه عن والديهم من أمراض وتشوهات أنتجتها الإشعاعات الذرية؟ أم نذكر مَنْ كانوا قبله من الرؤساء ودورهم في إبادة ملايين من سكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر)؟ أم نذكر الرئيسين جونسون ونيكسون وملايين الضحايا على أيدي جنودهما بأسلحتهم التدميرية الشاملة في كوريا وفيتنام وكمبوديا؟ أم نذكر ريجان وغواتيمالا ونيكاراغوا؟ أم نذكر جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن، ومئات الألوف من الضحايا في العراق وإيران وأفغانستان وباكستان وو..؟ أم نذكرهم جميعاً، مجتمعين ومتفردين، في مأساة العصر والدهر فلسطين؟ ولماذا نغفل تلاميذهم ــ بل قل موجهيهم النجب ــ من أمثال شارون وبيريز ورابين وديان وسائر قائمة الصهاينة في إسرائيل؟ فضلاً عن مجموعات اللوبي والجماعات الماسونية واللوثرية وغيرها من مسميات هناك تتلاعب بأرواح البشر، وتتباهى بابتكار ضروب من الأسلحة أيها أقدر على الفتك بالإنسان؟
مازال هذا يجري ــ في أكثر من مكان في العالم ــ حتى هذه الساعة، والنوايا المبيتة للمضي في هذا النهج التدميري للإنسان، أكرم خلق الله ما برحت قائمة، بل دائبة على البحث في أي الوسائل أنجع وأقدر على القتل والتدمير، وأي بلد يقع عليه الاختيار.. ولابد أن يكون البلد المختار والشعب المستهدف عندهم إسلامياً كأولوية..! ألم يدمغوا المسلمين كافة بسمة (الإرهاب) تبريراً للجرائم والمذابح التي جرت والتي ستجري بعد..؟؟
وعَوْد إلى موضوعنا في شأن الحرية والديمقراطية، بعد هذا الاستطراد الذي لم يكن منه بد، بالتداعي للمقابلة والمقارنة.
لقد أرسى الإسلام قاعدة الجدل، ومبدأ الحوار في شتى الشؤون بدءاً من العقيدة، مروراً بالقضايا السياسية والاجتماعية والعسكرية، وليس انتهاء بالاقتصادية والمسائل الشائكة الأخرى. مشترطاً الرِّفق وحسن الحوار، على عكس ما يحدث اليوم في كثير من الدول التي تدعي تطبيق الديمقراطية على مواطنيها، حيث نرى القسر والإجبار والفرض بالقوة حيناً، والتزوير وشراء الأصوات بالمال أو بالجاه أو بالنفوذ، أو بوسائل الإغراء الكثيرة حيناً آخر. يصاحب ذلك برامج حزبية صاخبة (كاذبة غالباً) تصرف عليها الملايين، وتسخر وسائل العصر الإعلامية والإعلانية، لا يهدف أصحابها من ورائها سوى تحقيق مصالحهم ومآربهم الشخصية. وما أكثر ما تخرج النتائج مزورة تتعرض للطعن في سلامتها. بل لقد أوصى الإسلام بان يكون الجدل والحوار (بالتي هي أحسن). وقد ضرب القرآن المثل بتصرف الرسول عليه السلام في مثل هذه الأحوال والمسائل:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159)
كما في الآية التالية في مسألة الشورى، فضلاً عما حوته من إرشاد وتوجيه في سورة عنوانها (الشورى):
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (الشورى:38)
كان الإسلام إذن أسبق في مفهوم الحرية. كما كانت نظرته أعمّ وأشمل. لقد جاء التعبير عنها كمبدأ إلهي تحت عنوان (كرامة الإنسان) في قوله تعالى:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء:70)
وقد ورد ذكر الإنسان هنا (بني آدم) على إطلاقها، أي عموم بني آدم. فإذا كانت إرادة الله قد شاءت أن يتبوَّأ الإنسان هذا الموضع، وأن تضفي عليه هذا التكريم، فهل يعقل بعد ذلك، ألا تنعم عليه بالحرية، والكرامة النابعتين من الاستقلالية الذاتية؟ وهل يكون التكريم بغير الحفاظ على حرية الفكر والمعتقد، وحرية الرأي والتعبير عنه، وصيانة الحقوق كافة، والحماية اجتماعياً من التعرض للظلم والامتهان؟ وهل هناك حرية أوسع مدى من حرية الاختيار بين الإيمان والإلحاد، وإن كان ذلك مصحوباً في الوقت عينه، بالتنبيه والتوجيه والتحذير من العواقب المترتبة على كل من المنحيين. آيات كثيرة نجدها في كتاب الله تنص على مسألة التخيير هذه كقوله تعالى في هذه الآيات:
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.. (الكهف:29)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان:3)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.. (البقرة:272)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل:125)
حرية الاختيار طواعية مبدأ ثابت في الإسلام. في حين أننا رأينا في (ديمقراطية) الغرب (حرية الإجبار)، ومحاكم التفتيش ــ على سبيل المثال ــ ومحاسبتها الإنسان على الرأي والفكر والمعتقد والنية، حيث خيِّر الناس بين اعتناق دين معين خروجاً على معتقدهم الأصلي، وبين التعذيب والقتل والنفي والتهجير، على عكس ما كان عليه موقف المسلمين الذين لم يجبروا أحداً على تغيير معتقده وإلزامه بالدخول في دين الفاتحين يومئذٍ. أسبانيا مثال على ذلك. وقل مثله في سائر الأقطار والأمصار التي وصلوا إليها. لم يعهد عنهم أو فيهم اللجوء إلى مثل ما لجأ إليه الصليبيون الغربيون والتتار في غزواتهم للديار الإسلامية. لقد قتل الصليبيون في القدس وحدها، في مجزرة واحدة نحواً من ستين ألف من المصلين، حسب المراجع التاريخية الموثوقة. نقول (المصلين) وليس (المحاربين). فهل وقعت في التاريخ الإسلامي كله حادثة أو واقعة واحدة من هذا القبيل؟ ولم يتوقف الغرب عن منحاه هذا ومسلكه حتى اليوم وطوال عهد الاستعمار الغربي لبلدان في آسيا وأفريقيا، بل وفي أوروبا نفسها إزاء المسلمين (البلقان مثال ذلك).
يكفي أن هذه الحضارة أنتجت نظامين لا يقل أحدهما سوءاً عن الآخر. لقد ظهرت الرأسمالية والاستعمار بداية، (ثم تلتها الإمبريالية والعولمة) يقابلهما الشيوعية. وكان لكل من هذه الآثار السلبية والتدميرية على البشر في كل مكان على ظهر البسيطة ــ بما في ذلك أصحابها أنفسهم ــ ما تعجز عن وصفه وإحصائه مجلدات ومجلدات.
لقد تصدت هذه الحضارة لكل نزعة دينية أو اتجاه ديني سواء كان الإسلام أو غيره. فالغرب بنزعته العلمانية وفصله الدين عن الدولة والحياة أغفل الجانب الإنساني الأخلاقي تماماً. معتمداً فكرة تقول بأن الله لا دخل له في تفاصيل حياتنا وسائر أعمالنا. ومن هنا انطلق إلى التنكيل بالشعوب المستضعفة. مستبيحاً حقوقها كافة وكرامتها الإنسانية، مستغلاً لثرواتها سارقاً لمقتنياتها ومواردها دون وازع من ضمير أو دين. وأما الجانب الآخر فقد نزع إلى الإلحاد ونكران وجود إله لهذا الكون أصلاً وبذلك كان لا يقل شراسة ووحشية في حق الشعوب أفراداً وجماعات. ولم يكن موقفه الإلحادي معادياً للإسلام وحده، بل تجاه كل نزعة دينية بما فيها المسيحية.
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى اليهود واليهودية. لقد دعا النظامان الشيوعي والرأسمالي ــ قبل هذه الحقبة التي استطاع اليهود اللعب فيها عليهما واستغلالهما إلى حد يشبه السيطرة على توجهاتهما السياسية والاقتصادية واللاأخلاقية ــ ولم يكن لليهود من حياة مستقرة آمنة إلا في ظل الدولة الإسلامية التي عاملتهم كأبنائها المسلمين دون افتئات على حقوقهم وإنسانيتهم.
ولقد قامت الشيوعية بالتنكيل ــ كما أسلفنا ــ بسائر التوجهات الدينية. فأحرقت الكنائس كما أحرقت المساجد. كما نكلت بالرهبان ورجال الإكليروس والقسس تماماً كما فعلت بعلماء المسلمين. وكانت منافي سيبيريا هي المآل لهؤلاء وأولئك. ملايين من المسيحيين والمسلمين ماتوا جوعاً وبرداً وتعذيباً هناك. وكما قتل الملايين في الجزائر وليبيا والصومال وفلسطين والعراق وإيران والهند وغيرها وغيرها على أيدي الاستعمار الغربي، فقد قتل الملايين كذلك في دول أوروبا الشرقية على أيدي الشيوعيين والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي.
مما يؤسف له أنه لم تجر إحصائيات للأعداد الهائلة من الضحايا البشرية، خلال الأربعمائة سنة الماضية على أيدي (المتحضرين). انطلاقاً من فلسفة هذه (الحضارة) العنصرية المتعالية النفعية، الأمر الذي لم يسبقهم إليه أحد من قبل. وحبذا لو قامت جماعات محايدة، بمعنى نظيفة، تملك رؤية عادلة من المؤرخين بهذا العمل، من أجل الحقيقة وحدها على الأقل، فعن أي حضارة يتحدثون؟
ولعل هذا هو ما حدا بمفكر كالدكتور (روجيه جارودي) لأن يقول ما معناه أن أكبر كارثة حاقت بالبشرية كانت يوم توقف المسلمون عند معركة بلاط الشهداء (بواتيه). لو لم يحدث ذلك واندفع الإسلام حتى يشمل أوروبا (العالم القديم) لكانت صورة العالم اليوم أبهى وأفضل، أكثر عدلاً وأسمى حضارة إنسانية. ولكان ممكناً لملايين من البشر ألا تذهب ضحايا الجشع الغربي وأطماعه وجبروته. كانت تلك الهزيمة وبالاً على مستقبل البشرية منذ ذلك التاريخ وما بعده.
فيا أيتها (الديمقراطية) الغربية كم من المظالم والجرائم حلَّت بالبشر تحت اسمك..!؟
معذرة عن هذا الاستطراد الذي هو من قبيل الشيء بالشيء يذكر، أو هو من قبيل التداعي ساقتنا إليه الرغبة في المقارنة بين حضارتين إحداهما تزعم أنها (حضارة) وما هي إلا دعوى باطلة مغرضة حملت الشر والأذى لسائر البشر ــ برغم إنجازاتها في حقل المادة وحدها ــ والأخرى لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، من قبل ومن بعد، برغم ما ساد بعض وجوهها وحقبها من إساءات في التطبيق بسبب من عوامل غالباً ما كانت خارجة عن مضمونها.
لقد أسس الإسلام مدرسة غير مسبوقة للحرية والعدالة والمساواة (معادل الديمقراطية)، تجلت في أسمى صورها فيما بعد، لدى الخلفاء الحكام في صدر الإسلام، قبل أن يحوله الأمويون إلى ملك وراثي أو ما يشبهه.
بعد أن تمَّت البيعة لأبي بكر رضي الله عنه قام يخطب في الناس يقول:
»أما بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدقُ أمانة، والكذب خيانة. الضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله«.
رجل من العامة يصيح بأعلى صوته، وعلى ملأ من الصحابة في وجه الخليفة »والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بحدِّ سيوفنا«. ويرد أبو بكر على القائل: »الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم اعوجاج الخليفة بحدِّ سيفه«.
ترى هل عرف العالم، فيما مضى وفيما هو راهن في العالم (المتحضر) تحديداً، و(الديمقراطي)، ما يشبه هذا من قريب أو بعيد بين الحاكم والمحكوم. ولو أنه حدث ماذا كان يمكن أن يحلَّ بالرجل؟
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ــ وهو أمير المؤمنين ــ يجيب متسائلاً في المسجد عن سبب طول ثوبه، زيادة عما نال أي فرد من المسلمين من القماش الذي وزِّع عليهم، يطلب إلى ولده عبد الله ــ وعمر فوق المنبر ــ بأن يبيِّن للمتسائل ما غمُض عليه. ويتبيَّن عندئذٍ أن عبد الله تنازل عن نصيبه لأبيه لكي يصنع له ثوباً يناسب طوله.
ونراه في موقف آخر حين تصدت له امرأة من المسلمين في مسألة لم ترضها فتواه فيها، مستشهدة بآية من القرآن الكريم تصويباً لرأيه في تلك المسألة، فيقرُّ لها، معترفاً على مسمع من جمهرة المصلين، مجاهراً بالقول: »لقد أصابت امرأة وأخطأ عمر«.
ولا ننسى للخليفة عمر مقولته الشهيرة لابن عمر بن العاص ووالده ــ وهو والي مصر يومئذٍ ــ حين اعتدى ذاك على مصري قبطي مفاخراً بأنه (ابن الأكرمين) بقوله مؤنِّباً: (متى استعبدتهم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). بل ويطلب إلى المصري أن يقتصَّ أمامه وفي حضرته من (ابن الأكرمين) بمثل ما اعتدى عليه. وبقية القصة معروفة.
بل إن تقوى أصحاب رسول الله تدفعهم إلى توخي الأمانة في تطبيق منهج القرآن على الناس. من ذلك مبدأ العدل، والعدل أهم سمات الحرية والمساواة (الديمقراطية). مثال واحد من ذلك إحدى وصايا الخليفة عمر بن الخطاب لقاضيه أبي موسى الأشعري يقول له فيها:
»ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك من أن تقضي بخلافه غداً فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل«.
هل ترانا بحاجة إلى المقارنة بين هذه الصورة الرائعة وبين ما يجري في عالم اليوم، في معظم أرجاء الأرض.. ودعاوى الحرص على حرية الإنسان وديمقراطية المجتمع..!؟
أما الرسول صلوات الله عليه وسلامه، فقد كان هو القدوة المثلى لمن حوله، توجيهاً وتعليماً من خلال مسلكه إزاء مختلف المواقف. فها نحن نراه في موقفه من اليهودي الدائن يجيء لمطالبته قبل أوان الاستحقاق، لمجرد المماحكة وتعمُّد الإساءة. يغلظ اليهودي في القول لرسول الله. ورسول الله، كدأبه يتحلى بالصبر، ويتعامل مع الموقف بالحكمة واللين. بيد أن ذاك يتمادى في القحة على شخص النبي إلى حدِّ أن أخذ يشده من بردته حتى لتوشك أن تدمي عنقه، مما أثار حفيظة المحيطين به من الصحابة، فهمّوا أن يبطشوا به. لو كان غير محمد عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف لتركهم، ــ بل ربما أوعز إليهم ــ بان يلقنوه درساً، تنفيساً عن غضبه وانتقاماً لشخصه ممن أساء إليه. لكن رسول الله يبادر إلى منع صحابته من إيذاء الرجل، مخاطباً إياهم بقوله: (دعوا الرجل، ما كان أحوجه إلى أن تطلبوا منه اللين في المطالبة وما كان أحوجني لأن تطلبوا إليَّ حسن الأداء). الرسول يقول لهم (تطلبوا إليَّ). والرسول يقول لهم (حسن الأداء) وهو الذي لم يكن قد أساء الأداء أو قصر في السداد مادام موعده لم يحن بعد.
كان من شأن ذلك أن أسلم اليهودي.
هذه وقائع جرت كل منها بين راس الدولة وفرد من (الرعية) حسب تسميات ذلك الزمان. وكان الرد عليها ما شهدنا. ويأبى المتشدقون والمنافقون، وأدعياء الحرص على حقوق الإنسان وحرية الإنسان، الذين ملأوا الدنيا ظلماً وجوراً وفجوراً وفساداً إلا وصف الإسلام ب‍ (التطرف والتخلف) والمسلمين ب‍ (العنف والإرهاب)..!
للحرية كما للشورى في الإسلام حدود لا ينبغي للفرد تجاوزها إلى ما يفضي للإضرار بالغير (فلا ضرر ولا ضرار). هي حرية منضبطة، محكومة بشروط عادلة حفاظاً على سلامة المجتمع والفرد سواء بسواء، وعلى حدود الله في الشريعة.
يعزِّز إحساس الإنسان المسلم بما خصَّه الله من تكريم قوله تعالى:
.. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (المنافقون:8)
للمؤمن عزة وكرامة. ولا تكون العزة والكرامة إلا مع الحرية بداهة. يتوطد هذا الفهم لدى الإنسان المسلم ليصبح جزءاً من سلوكه، دونما رقيب عليه إلا نفسه. أي أن الوازع يغدو ذاتياً كما هي الرقابة والحافز، مما يحول دون الافتئات على الآخرين، أو الخروج على تعاليم الشرع. ليس عن طريق القسر الخارجي ومخافة السلطة، فالسلطة لا تملك القدرة على مراقبة كل إنسان كل الوقت لكي تتحكم في سلوكه، لكنها تعتمد على القوانين التي تضعها. القوانين الوضعية ليس لها فاعلية القانون الإلهي إذا ما آمن به الإنسان فأصبح الرقيب (منه ــ عليه) في قرارة نفسه ذاتها، وتغدو من ثم الموجِّه له في سلوكه وممارساته، سواء كان ذلك في شؤون العبادة أو فيما بينه وبين المجتمع. والناس عامة. مثال ذلك حال الصائم إذ يكون وحيداً، مع نفسه دون غيرها لكنه، مع ذلك يمتنع من تلقاء نفسه عن مبطلات الصيام، وهي في متناوله. كذلك شأنه مع الصلاة، كذلك الأمر مع الزكاة، يحتسبها بدقة، دونها دقة محاسبي الضرائب (التي يتهرب الناس عادة من تقديم كشوف صحيحة عنها لأنها ليست شرعاً إلهياً ملزماً)، لكي يؤديها إلى مستحقيها الذين حددهم القرآن في كثير من آياته. منها قوله تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (البقرة:177)
ولكيلا يذهب بعضهم إلى حسبان الزكاة منّة وتفضلاً من المزكي يقول تعالى مبيّناً أنه واجب عليه، وحق للآخر المزكَّى له:
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذريات:19)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (المعارج:24-25)
أما تحديد مقدار الزكاة فقد بيَّنه الشرع من خلال أحاديث الرسول وعمله في شأنها.
ثم نأتي إلى مسألة أخرى تثير الكثير من الجدل على الدوام هي مسألة الرق. يحدث دائماً من قبل مناوئي الإسلام، الباحثين عن مآخذ وهنات (لن يجدوها فيه واقعاً) ينبري من بينهم من يقول بأن الإسلام لم يمنع الرق، فأين هي الحرية التي تتحدثون عنها؟
مسألة الرق كانت مادة للأخذ والرد والجدل، وما انفكت كذلك، لا لشيء إلا لكي يجد هؤلاء مدخلاً للطعن، حتى لو كان الرد عليهم ميسوراً وإنه لكذلك، من خلال الكيفية التي عالج بها الإسلام مسألة الرق.
الإسلام هو أول من حارب الرق وسعى إلى تصفيته، في وقت كان الرق فيه من الممتلكات الخاصة كأي مال وعقار، غير مستنكر لدى سائر أمم الأرض وشعوبها. بما في ذلك دولتي الفرس والرومان. كان وجود الرقيق أمراً طبيعياً تماماً، إلى أن جاء الإسلام فجعل الخلاص منه بين أولوياته، من أجل قيام مجتمع لا عبودية فيه إلا لله وحده.
كان هذا سبقاً تاريخياً، وقبل أن تتعارف الدول حديثاً، في القرن التاسع عشر، على منع تجارة الرقيق. لكنها في الواقع استبدلت بتجارة الرقيق استرقاق الشعوب. فالرق والعبودية والنخاسة ما برحت قائمة، وإن يكن تحت عناوين أخرى في المجتمعات المعاصرة. يحدث هذا للرجال والنساء والكبار والصغار على حدٍّ سواء. تتبدى مظاهره في صور شتى: في المرأة على خشبات الملاهي العابثة. في عروض الأزياء شبه عارية. في الأغاني الرخيصة التي لا تروج دون نساء شبه عاريات. في مسابقات الجمال. تؤمر المرأة فيها كيف تمشي، وماذا ترتدي، أو لا ترتدي أمام نظّارة يرمقونها بأبصارهم شهوة من قبل الرجال، وحسداً وغيرة واستنكاراً من قبل النساء، ولا تصل واحدتهن ــ غالباً وباعتراف صحف ومجلات متخصصة ــ إلى هذا الموقع ــ على وضاعته ــ قبل أن تدفع من شرفها ثمناً. أما عن امتهان كرامتها في الدعاية والإعلان عن بضائع رخيصة المستوى تافهة المحتوى فحدث ولا حرج. كما تتبدى صور من العبودية للعامل والأنظمة الرأسمالية المجحفة بحقوقه. يتحكم أرباب العمل وأصحاب الشركات في وقته وجهده وسلوكه وحركة جسده حسب المطلوب، ولقاء أجر بخس لا يحصل من ورائه إلا على الحدّ الأدنى من وسيلة العيش لنفسه ولأسرته. في إجبار المجندين ــ باسم الوطنية ــ على الذهاب بعيداً عن أوطانهم حيث يقتلون من اجل تحقيق الأهداف والمصالح الاستعمارية الاحتكارية كتجارة النفط وتجارة السلاح وغيرها بحيث يدفع هؤلاء أرواحهم تحقيقاً لمصالح (ملاَّكيهم) تحت عناوين خادعة وذرائع مضللة مريعة.
أليست هذه بعض مظاهر الرق بعينه؟
ألم تستعبد الدول الاستعمارية ــ الإمبريالية شعوباً احتلت بلادها واستولت على ثرواتها تحت مسمى (التفوق الحضاري)، أو دعوى (الحرية والمساواة والإخاء)؟ وما إليها..؟
في كتاب له في علم الاجتماع، صادر في النصف الثاني من الخمسينيات يقول الأستاذ حافظ الجمالي ما يلي:
»من المؤكد أن الإسلام لم يلغ الرق لا في نصّ واضح ولا في نصّ غامض. ولو هو قد فعل لأضعف نفسه جداً تجاه أعدائه. بل لم يكن من المعقول أن يلغيه أبداً..«.
ورد هذا ضمن مواضيع أخرى أثارها الأستاذ الجمالي في كتابه الموما إليه مما أثار ضجة في الوسط الثقافي يومئذٍ، بين مؤيد ومعارض. من بين ردود كثيرة كان ردنا الذي نعرضه فيما يلي عن (جريدة صوت العرب ــ عدد 518 في كانون الثاني 1956).
(أما أن الإسلام لم يلغ الرق لا في نص واضح ولا في نص غامض ــ على حدِّ تعبير الأستاذ الجمالي ــ فهذا ليس صحيحاً. ذلك أن الإسلام ألغى الرق في نص واضح صريح، بعد أن مهَّد الأجواء لتقبّل ذلك الإلغاء. فنظام الرق كان معروفاً يومئذٍ في كافة أنحاء المعمورة كشيء طبيعي جدّاً، لا ينكره ولا يستهجنه أحد. وكان يعتبر نوعاً من المال، كالأرض والبيت والنقد فجاء الإسلام يعالج هذه المشكلة، التي لم تكن مشكلة في الواقع إلا في نظر الإسلام الذي يأبى أن يستعبد الإنسان أخاه الإنسان، علاجاً جذرياً حاسماً. والعلاج الجذري هو القضاء على مصادر الرقيق التي ينبع منها ــ إن صح هذا التعبير ــ وهذه الطريقة التي اتبعها الإسلام كانت تحتاج بعض الوقت لكي تتم مما جعل بعض الناس يظنون أن الإسلام تغاضى أو حتى أقرَّ العبودية.
أما مصادر الرقيق التي عرفت آنذاك فهي:
(1) التوالد بين الأرقاء:
عالج الإسلام هذا المصدر بوسائل شتى وأساليب متعدِّدة. منها أنه جعل للأَمَة (المرأة الرقيق) التي يبني بهاسيدها من المكانة والمنزلة ما للزوجة الحرة. وينطبق هذا التحرر بالتالي على أبنائها منه. ومنها أمره بتحرير الرقاب كفارة عن الذنوب وعتقهم بالمكاتبة. كما فرض الإسلام معاملة العبد الرقيق كفرد من أفراد الأسرة (يطعم مما تطعم ويلبس مما تلبس).
(2) استرقاق المدين. إذا عجز عن وفاء دينه:
أمر الإسلام بتأجيل مثل هذا الدين. إلى أن يستطيع المدين أداءه. وإن يعفو صاحب الدين فذلك أكرم عند الله وأعظم أجراً. (كان عامل التقوى يومئذٍ من القوة بحيث لا يتردد الناس في الاستجابة لهذه الدعوة ابتغاء مرضاة الله).
(3) أسرى الحرب وهم المصدر الأكبر:
نزلت الآية الكريمة تقول في نصٍّ صريح لا يحتمل التأويل .. فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً.. (محمد:4). أي أن الأسرى بعد الآن إما أن يفتدوا أنفسهم بالمال (كان المسلمون في حاجة إليه يومئذٍ)، وإما أن يُمَّن عليهم فيطلق سراحهم إن لم يستطيعوا الفدية.
»كانوا يفتدون أنفسهم أيضاً مقابل تعليم كل منهم لعشرة من المسلمين القراءة والكتابة«.
(الشق الآخر من موضوع الأستاذ الجمالي في قوله: (الإسلام لو ألغى نظام الرق لكان أضعف نفسه جداً تجاه أعدائه الحريصين على بقاء هذا النظام)، يرد عليه بسؤال: كيف لا يخشى الإسلام عواقب ذلك الضعف حين يجبههم بما هو أهم وأخطر فيقول لهم في آياته (أنتم وما تعبدون حصب جهنم)، (أنتم وآباؤكم في ضلال مبين). لماذا لا يخشى الضعف حين يلغي آلهتهم ويندد بمعتقداتهم، وقد كانوا، بلا شك، أحرص على معتقداتهم وآلهتهم منهم على عبيدهم، فالعقيدة أثمن عند الناس من أي مال، حتى من الحياة ذاتها، وليس الإسلام بالذي يحابي أو يتساهل أو يداهن تملّقاً للجماهير على حساب العقيدة).
(صوت العرب، كانون الثاني 1956)
لمزيد من التأكيد على هذه المسألة، قد يستحسن أن نورد هنا آيات تحث على عتق الرقيق الذي كان قائماً. بل تجعل منه سبباً للتوبة وكفارة عن الذنوب، من بين شروط أخرى تفضي في النهاية إلى إلغائه عملياً، بعد تجفيف منابعه عن طريق (المنِّ) أو (الفداء).
يقول الله تعالى:
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (القصص:3)
هذا شرط ملزم لمن يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، أي يريدون العودة عن مظاهرتهم لنسائهم، وذلك بأن يعمدوا إلى تحرير رقبة أي عبداً رقيقاً. وفي الآية التي تليها ما يشبه الوعد بعقوبة لمن يخالف الشرط آنف الذكر في الآية. كما تنص الآية (177 من سورة البقرة) على تحرير الرقبة أوردناها في مكان آخر.
ويقول تعالى:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة:60)
هي هنا فريضة ضمن فريضة الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام تأكيداً على أهميتها واستحقاقها.
ويقول تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء:92)
تحرير الرقبة يتكرر ضمن شروط ملزمة وضمن تشريع، إضافة إلى اعتباره جزءاً من الإيمان، بحيث من لا يستطيعه مادياً فعليه الصيام لشهرين متتابعين توبة من الله. كم يلقى المرء من عنت عندما يصوم شهرين متتابعين في وقت لا يصوم فيه الآخرون. ولكن لماذا هذا الشرط الصعب؟ أليس من أجل دفعه إلى السعي طاقة جهده، كي يأخذ بالجانب الأسهل، وهو تحرير الرقبة إن كان يملكها، أو أن يشتري العبد ويحرره كفارة عما حدث؟
ويقول تعالى سبحانه:
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (المائدة:89)
كما يقول في محكم كتابه:
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (البلد:11-14)
لقد دعا الإسلام إلى تحرير الإنسان من ربقة عبوديته للإنسان الآخر. دعا إلى الأخوَّة الإنسانية، وإلى المساواة بين الناس أمام خالقهم، وإلى تحقيق العدالة بينهم. نورد فيما يلي آيات مما ورد في كتاب الله في هذا الشأن. يقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (النساء:135)
إذن لا تمييز ولا استثناء بسبب من قرابة أو غنى أو فقر بما في ذلك النفس أو الوالدين. هي المساواة في أجلى صورها واسمى معانيها.
كما يقول سبحانه في آيتين جامعتين مانعتين، تشكلان دستوراً لو اتُّبع لصلح به الفرد والمجتمع. تتضمن الآيتان الأمر بتأدية الأمانة، والتوصية باليتيم كي يغدو عضواً صالحاً حين يبلغ رشده فيجد حقوقه مصانة ومستقبله مضموناً. وفيهما نص صريح على إيفاء الحقوق حتى في أمور تجارية بحتة مثل الكيل والميزان. حتى القول، مجرد القول يأمر الله بألا يجافي الحقيقة التي هي رائد المسلم، نظراً لما يترتب على الأقوال من عواقب ومن نتائج قد تكون سلبية أو تكون إيجابية حسب مقتضاها والمواقف المختلفة المطلوبة فيها، لصالح الأطراف المعنية جميعاً.
يقول تعالى:
وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام:152-153)
ليس الصراط المستقيم في الآخرة وحدها ــ كما يذهب إليه ظنُّ البعض ــ وإنما هو في شؤون الناس في دنياهم أيضاً، بمعنى أنه الطريق السوي والنهج السليم في التعاطي بين الناس. وتقوى الله في ذلك هي الأساس.
جاءت هذه المبادئ في الإسلام سابقة زمنياً، أقوى وأصدق مضموناً، أحرص على الإنسان من ذاته، والإنسانية من نفسها. وقد طبّقها رسول الله، عليه السلام، في مجتمعه لكي يكون قدوة لمن يجيئون بعده. كما طبقها الإسلام في البلاد التي فتحها دونما تمييز بين أهلها، على شتى مذاهبهم وأعراقهم وعقائدهم من جهة، وبين هؤلاء والمسلمين أنفسهم من جهة، سواء بسواء. كان ذلك التزاماً بما جاء في كتاب الله.
لا يفرِّق الإسلام بين الناس في هذه القضايا. فهو يلزم أتباعه بإحقاق الحق، عدلاً وإنصافاً ومساواة، حتى لو كانت هناك أطراف لا تلتزم بشيء من ذلك. ليكن ذلك شأنهم. ولكنه لا ينبغي أن يخرج المسلمين عن الالتزام بمبادئ الإسلام.
يقول تعالى في ذلك:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:8)
كما يوصي الإسلام أتباعه بالتسامي في التعامل مع غير المسلمين وبرّهم ما داموا لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم. وهذه إشارة ــ كما سنرى في الآيتين التاليتين ــ إلى الذين فعلوا ذلك مع الرسول في بدايات الدعوة، حين أخرجوه من مكة، (أحب بلاد الله إليه كما كان يقول). وها هي تنطبق الحالة إياها في أيامنا هذه في فلسطين، وما فعله في أيامنا هذه أعداء الله والمسلمين من يهود هذا الزمن، ومن ظاهرهم على ذلك من الغربيين، أي من أعانوهم على ذلك. يقول تعالى في هذا الشأن:
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الممتحنة:8-9)
ولكيلا يذهب الظن بالمسلم إلى أن الناس جميعاً ينبغي أن يكونوا على شاكلته، ويسيرون على نهجه متبعين مبادأه، يبين القرآن له بأن الناس لن يكونوا كذلك، وأن هذا تدبير إلهي وإرادة إلهية بأن يكون الناس (مختلفين ولذلك خلقهم). على المسلم أن يعي هذه الحقيقة، حتى لا يحول فهم خاطئ لديه دون تطبيق المبدأ، فالاختلاف بين الخلق سنة من سنن الله، إذ يقول سبحانه:
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (النحل:93)
ونلاحظ هنا أن الله سبحانه يوجه الخطاب إلى فئتين من البشر. للناس بعامة مسلمين وغير مسلمين خطاب، وللمؤمنين به خاصة خطاب، فهو سبحانه حين يقول يا أيها الناس فإنما يخاطب البشر جميعاً كقوله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)
وحين يقول:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (الناس:1-5)
وآيات أخرى كثيرة على هذا النحو فإنما يعني سائر بني الإنسان فهو إلههم جميعاً. أما المؤمنون والمسلمون فيخاطبهم بتسميتهم (مؤمنين) و(مسلمين).
وآيات كثيرة جداً ترد في كتاب الله تخاطب هؤلاء بوصفهم مؤمنين ومسلمين.
أما على صعيد التطبيق العملي لمبادئ الإسلام وشعائره في حياة المسلمين، وبما أن الرسول عليه السلام هو المنوط به توضيح ما أغلق عليهم فهمه من كتاب الله، ولكي يلتزموا بأحكامه جاء قوله تعالى مخاطباً رسوله:
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (آل عمران:32)
وبقوله سبحانه:
.. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر:7)
كما إن عمل رسول الله وقوله تشريع أيضاً يلتزم به السملمون، إذ لا ينطق الرسول عن الهوى، وإنما هو وحي يوحى إليه من ربه.
ومن الآيات في هذا الشأن وتأكيداً على الالتزام المطلق بإطاعته عليه السلام قوله تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (النساء:13-14)
هذه هي الحرية في الإسلام. وهذه هي (الديمقراطية) بمضمونها الحق وجوهرها الأصيل. فأين منها ما جرى ماضياً وما يجري راهناً في هذا العالم؟
وإذا ما استخدمنا تعبير الديمقراطية ــ وهو ليس مصطلحاً إسلامياً كما أسلفنا الإشارة ــ فإنما نفعل ذلك تسهيلاً للأمر بما أصبح مفهوماً عن هذا المصطلح في وقتنا الراهن.
وكما سبق أن عرضنا في بداية هذا البحث من أن الحرية هي هبة الله للإنسان وهي عنصر من عناصر تكوينه ومقومات وجوده ينبغي أن تكون لها مكانة القداسة في أي زمان ومكان، إذ يقول تعالى في شأنها:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم:30)
وإنها كذلك لسنة من سننه لا تبديل لها ولا حِوَل عنها. أما مغتصبوها ومزيِّفوها فحسابهم عند ربهم، ولدى شعوبهم إذا ما أزفت ساعة الحساب، فالشعوب لا تقيم على الضيم أو الضلال على مدى الزمن.
ما نحسب أحداً في زمن محمد عليه السلام بقادر على اجتراح هذه الحقائق الكونية في محتواها ومبناها. أما محمد رسول الله ونبيُّه صلوات الله عليه وسلامه فقد تلقاها وحياً منزلاً من ربه بارئ الخلق والأرض والسموات وما بينهن.
ألم يكن الإسلام إذن سبَّاقاً في (أولاً) مفهوم الحرية و(الديمقراطية) الشورى و(ثانياً) في نظرته إلى توفرها بالفطرة في الإنسان منذ ولادته، وهي في هذه الحالة منزهة عن الغاية والغرض في غمار نزعات الأنفس والأهواء، وهي بهذا أصفى وأنبل من سائر ما اخترع البشر بعد ذلك. فما جاء به البشر من نظريات وفلسفات غالباً ما كان مغرضاً أو ظالماً لفئات من الناس، هم الأضعف أو الأدنى شأناً من آخرين توصلوا إلى السلطة أو إلى التحكم بالثروات ومفاتيح الاقتصاد، وهذه جميعاً لم تكن يوماً في مصلحة الإنسانية بعامة. ألم يتخذ معظمها الميكافيلية نبراساً مقدساً، فالغاية عندها تبرر الوسيلة في حين ألزم الإسلام أتباعه بأن تكون الوسيلة من جنس الغاية في شرفها ونبلها.
هذه القضايا على خطورتها الفائقة وأهميتها البالغة هل كانت متاحة لرجل في الزمان والمكان، حيث كان الرسول وقومه لو لم تكن تنزيلاً من رب العالمين؟


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 01 : 08 PM   رقم المشاركة : [16]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الثاني عشر
القرآن والعلم الحديث
نظريات ومنجزات



[align=justify]
في أصل الحياة
في كثير من بلدان العالم أصبح هناك اختصاصيون في شتى فروع العلم وضروب المعرفة، يبحث واحدهم في جانب واحد، أو أكثر قليلاً ،من آلاف المواضيع من ميادين البحث والدراسة، في سائر أوجه النشاط الإنساني، ومسائل الكون والطبيعة وفروع العلم. غير أن أحداً من الناس لا يستطيع استقصاء بحث ما حتى نهاياته بحيث يشمل سائر تفاصيله وجزئياته، ناهيك عن أن يحيط علماً بسائر قضايا الكون وخفاياه، وأسرار الوجود، ومظاهر الطبيعة في كوكبنا الأرضي: كيفية تكوينها، نشأتها ومآلها، أسباب الحياة لسائر الكائنات على ظهر الأرض، والعوامل المؤهلة لبقائها وديمومتها ضمن منظومة من السنن والقوانين الأزلية التي لا يد للإنسان فيها. الإحاطة بكل ذلك ليست غير ضربٍ من المحال. ولو كان ذلك في مقدور أحد ــ فرداً كان أو جماعة ــ لأغنانا عن الألوف المؤلفة من الجامعات ومعاهد البحث ومراكز الدراسة المنبثة في سائر أرجاء المعمورة. غير أن هذا كله توفَّر عليه كتاب الله، مجملاً حيناً، ومفصلاً حيناً دون أن يعتريه ما يصيب الجهد البشري، من قصور أو عجز أو احتمال الخطأ، وهي من الصفات الملازمة للإنسان في مضماري العلم والمعرفة بحكم تكوينه ومحدودية ملكاته وقدراته.
سنعرض هنا جوانب مما سلفت الإشارة إليه، هي أقرب إلى رؤوس المواضيع، منها إلى الإفاضة والتفصيل فيها.
لقد جاءت آيات القرآن مجملة في صياغتها على الأغلب، لكي يفهم منها أهل كل عصر معنى يتناسب مع ما توافر لهم فيه من إلمام معرفي. وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع اتساع دوائر المعرفة الإنسانية.
يقول تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء:82)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (الأنعام:104)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد:24)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان:6)
ولنأخذ بداية واحدة من هذه المسائل الكونية، ولتكن (الماء). يقول تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا.. (فاطر:27)
ويقول سبحانه:
.. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء:30)
لقد أثبت العلم مؤخراً أن أصل الحياة حيثما تكون مائي. وأن الماء هو العنصر الأول المكوِّن لكل خليَّة حية. فلا حياة ممكنة من دون الماء. يتفق هذا مع معطيات العلم الحديثة. أول سؤال يطرح اليوم حول احتمال وجود حياة على سطح كوكب ما في مجموعتنا الشمسية أو غيرها- هو:
هل يحتوي هذا الكوكب على الماء..؟
وكلمة (ماء) تعني المياه بأنواعها، العذب منها والمالح، ماء المحيطات، وماء الأنهار، وماء السماء.
وهذه آيات أخرى تؤكد هذا المعنى:
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (قّ:9-11)
.. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (طـه:53)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (النور:45)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (لنجم:45-46)
يقول موريس بوكاي:
(سواء كان المقصود هو أصل الحياة عموماً أو العنصر الذي يجعل النباتات تولد في التربة، أو كان المقصود هو بذرة الحيوان فإن كل عبارات القرآن تتفق تماماً مع المعطيات العلمية الحديثة، ولا مكان مطلقاً في نص القرآن لأي خرافة من الخرافات التي كانت منتشرة في عصر تنزيل القرآن)( ).
آيات أخرى عديدة تعرِّفنا بدور الرياح في تلقيح النبات وإخصابه، الأمر الذي لم يعرف إلا في وقت متأخر من ناحية علمية. وغالباً ما تربط هذه الآيات بين عنصري الماء والرياح معاً، بحيث يُحدِثُ تزاوجهما ظاهرة المطر.
وهذه نماذج منها في قوله تعالى:
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ. فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (المؤمنون:18-19)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (النور:43)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (لأعراف:57)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (الفرقان:48-49)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (الزمر:21)
تختلف هذه الآية عن سابقاتها في أنها تحدد مصدر الينابيع في الأرض. كما أنها تبين مراحل تطور المزروعات، مختلفة الألوان، زاهية يانعة في البداية، إلى أن تصبح هشيماً وحطاماً في نهاية تلك المراحل. وإن هذه الظاهرة ينبغي أن تكون مصدر تأمل للإنسان ليعزز إيمانه ويثري معلوماته. ففي مثل هذه الآية يتبين للمرء أن الإسلام يحثنا دائماً على التعلُّم وبحث الظواهر الطبيعية والكونية، إذ نرى كثيراً من مثل هذه الآيات تبدأ بتساؤل ((ألم تر)). ونرى أن هذا السؤال أصبح عند الغرب مبدأ للبحث العلمي فيما بعد، لا سيما في القرون الأخيرة، ولكن الغرب- للأسف- هو العامل على إجابة للتساؤل ــ وإن يكن عن غير قصد ــ راهناً ومنذ نحو من أربعة قرون، فيما كان نصيبه الإهمال من جانبنا نحن الذين كان أولى بنا، وأجدى لنا، أن نستجيب للتوجيه القرآني قبل غيرنا.
ولا بأس أن نأتي بآية لو تأملناها مليّاً لاعترتنا الرهبة لمجرد تصوُّر وقوع ما تحذِّر منه، الأمر الذي قلما يتنبه إليه الإنسان، والتي ترينا كم هو الماء ثمين، بل وربما أثمن ما في الأرض على الإطلاق- مع الهواء- وكيف أن الحياة نفسها وبكافة صورها سوف تتوقف، ثم تنعدم لو خلا كوكبنا يوماً من الماء.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (الملك:30)
هل هناك ما هو أكثر رعباً وأفدح خَطْباً بالإنسان لو حدث ذلك؟
العالم (ر. آمينيراس) في مقاله (الهيدرولوجيا) بدائرة معارف (أوينغرساليس) يصف المراحل الرئيسية في علم المياه مستشهداً بأعمال الريّ القديمة الرائعة- تعبيره هو- التي أنجزت في الشرق الأوسط. كما يلاحظ أن المعرفة العملية قد سادت كل هذه الإنجازات على حين كانت الأفكار في الغرب صادرة عن مفاهيم مغلوطة. ثم يردف قائلاً: (ويجب أن ننتظر حتى عصر النهضة – ما بين 1400- 1600 تقريباً- حتى تخلي المفاهيم الفلسفية الصرف المكان لأبحاث تعتمد الملاحظة الموضوعية للظاهرات الهيدرولوجية.
فقد ثار ليونارد دافنشي (1452 – 1519) على دعوى أرسطو. ويعطي تفسيراً واضحاً عن دور الماء، وخاصة عن تموين الأمطار للينابيع)( ).
ويعلق موريس بوكاي على ذلك بقوله:
(أليست هذه بالتحديد هي الإشارة التي نجدها في الآية (21) من سورة الزمر الذي تُذكر اتجاه مياه الأمطار نحو الينابيع في الأرض، والتي سلفت الإشارة إليها. إن المطر والبرق والبرد موضوعات الآية (43) من سورة النور، وكذلك الآيات من سورة الواقعة من (68- 70) وتؤكد ذلك:
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (الواقعة:68-70)
الإشارة إلى أن الله، لو شاء، أن يجعل الماء بطبيعته مالحاً، شديد الملوحة، لا يصلح للشرب، هو التعبير عن القدرة الإلهية. وطريقة في التعبير عن هذه المقدرة نفسها: تحدي الإنسان أن يُنزل الماء من السحاب)( ).
من الواضح أن الإنسان عاجز عن التحكم في المطر والرياح، ومازال التحكم في مسائل كالمطر والطقس حتى اليوم حلماً على الأغلب لن يتحقق.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الآيات حين تعرض لهذه القضايا- التي يتفق العلم معها- إنما تأتي لتعريف الإنسان بالله وفضله عليه. ومن ثم وجوب عبادته له، وانصياعه لأوامره ونواهيه. ولكي يكون مسلكه نافعاً لبني جنسه ولنفسه، يذكِّره الله بهذه النعم، التي لولاها لما كان له وجود على الأرض. ولكي يرى بنفسه مقدار عجزه عن الاستغناء عما أغدق الله عليه من فضل، إذ هيّأ أسباب الحياة والمقام على ظهر الأرض للخلائق جميعاً، وعلى رأسها الإنسان الذي غالباً ما تراه جاحداً ومنكراً، أو جاهلاً غير مدرك. من ثم اقتضت حكمة الله ورحمته، أن يبعث إليه بالرسل في مراحل شتى من زمن وجوده عليها. ومن الطريف أن المخلوقات الأخرى ــ بما فيها الحيوان الأعجم والنبات ــ لم تكن بحاجة لمن ينبهها إلى هذا، بل هي اهتدت إليه بالفطرة.
وتتحدث الآية التالية في موضوع اللقاح والتلقيح في النبات، وضرورته التي لا غنى عنها (مبدأ الزوجية). كما هو ضرورة في عالم الحيوان عن طريق التناسل. يقول سبحانه:
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (الحجر:22)
أنَّى لبشر، أيّاً كانت قدراته الخاصة أن يأتي بمعلومات جامعة شاملة مؤكدة كالتي وردت في الآيات الكريمة. وإذا كان العالم بأسره لم يعرف هذه الحقائق أو تفسير هذه الظواهر قبل عصر النهضة، في أوروبا، فإن محمداً عليه السلام، جاء بها ليسبق قروناً عديدة ما توصلت إليه الأبحاث والمنجزات العلمية مسألة تلاقح النبات لم تعرف علميّاً إلا حديثاً.
غزارة المعلومات هذه التي جاء بها القرآن، وانطباقها على الوقائع والمكتشفات ألا تثير الدهشة، وتدعو للانبهار. ولكن أين هي الغرابة والقائل هو الله سبحانه:
.. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام:38)
.. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (الأنعام:80)
ولكي يحفز الإنسان على التقصي والبحث في آلاء الله وملكوته، وعلى خوض غمار العلوم وارتياد آفاق المعرفة التي لا تعرف حدوداً، يقول تعالى لنبيِّه، ولنا بطبيعة الحال، حاثّاً على طلب المزيد من العلم:
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (طـه:114)

* * *
من الحقائق العلمية الحديثة
في الآية التالية ما يثير الدهشة لظاهرة طبيعية كانت خافية على الأقدمين المعاصرين لنزولها. فلم تبلغ التفاسير، من ثم يومئذ، ما رمت إليه. بيد أنه أصبح في وسعنا اليوم تفسيرها وفهمها على نحو جليّ، إذ نحن نعيشها واقعاً ملموساً مجرَّباً الآية:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (الأنعام:125)
لعله سبق لك أن سافرت بالطائرة. لا بد أنك عانيت عندئذ شيئاً من الضيق في صدرك، وأن الضيق يشتد كلما ارتفعت الطائرة أكثر. ذلك على الرغم من أن صانعي الطائرة- لمعرفتهم بالظاهرة بالعلم والتجربة معاً- زُوِّدت بأجهزة تعمل على تعديل (الضغط الجوي) بما تتطلبه الحالة داخلها. ولولا ذلك لما استطاع أحد ارتياد الفضاء والطيران، وتحمل الضغط الجوي حين يبلغ مداه، دون أن تتفجر الشرايين في صدره، وسائر أنحاء جسده.
تعمد الآية إلى التشبيه بين حالتين: حالة من يضلل الله، وحالة من يصّعَّد في السماء ارتفاعاً، في وقت لم تكن ظاهرة الضيق بسبب (الضغط الجوي)(*) قد عرفت. ومن البديهي أن أحداً لم يصعد إلى الفضاء في ذلك الزمن لانعدام الوسيلة، لكي يشعر بالضيق.
وتستخدم الآية تحديداً تعبير ((يصَّعَّد)). وهي دقيقة للغاية في وصف الحالة وإلى حدٍّ مدهش. لكأن الآية تخاطب إنسان زماننا. والتصعيد كما تشير إليه تدريجي، وهو ما يحدث تماماً في حالات الصعود إلى الفضاء. لم يأت التعبير اعتباطاً إذاً. وأي كلمة غيرها لا يمكن أن تعطي معناها على هذه الصورة الرائعة. منجزات التقدم العلمي في هذا العصر، وحدها، كشفت عن هذه الحقيقة، فعرفنا من ثم، المعنى الذي رمت إليه الآية الكريمة.
الحقيقة العلمية تقول إن الإنسان عند صعوده في الفضاء، يضيق صدره بسبب تخلخل الهواء وقلة الأوكسجين وانخفاض الضغط الجوي الخارجي عن الضغط الداخلي لجسم الإنسان الذي يظل كما هو. فيتخل التوازن بين الضغطين. والضغط الخارجي للهواء يتناقص تدريجياً كلما ارتفع الإنسان وبمقدار ارتفاعه. من هنا جاء التعبير الدقيق تماماً بكلمة (يصعَّد).
ولقد ظن معاصرو التنزيل عند سماعهم هذه الآية الكريمة أن القرآن إنما قصد (الصعود) مجازاً لا حقيقة. وفسروا الآية حسب هذا الفهم اعتقاداً منهم بأن صعود الإنسان إلى الفضاء ضرب من المستحيل.
لم يكن في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام أحد يدرك هذه الحقيقة، ولم يكن هناك ما يضطرُّه إلى الخوض فيها أيضاً، ولكن لأن الله تعالى يعلم أن الإنسان سوف يصل إلى هذه الأوضاع في يوم من الأيام، أنزلها في كتابه على رسوله. وإلا فكيف عرف أن الإنسان عندما يرتفع سوف يضيق صدره ما لم يكن ذلك وحي من السماء؟ أليس هذا إعجازاً خارقاً؟ ولكن الله ينبؤنا بهذا قبل المرور بتجربته في قادم الأيام بقوله تعالى:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (النمل:93)
في هذا الصدد، وتأكيداً على قيمة العلم والعلماء، يروي العلامة الهندي (الدكتور عناية الله خان) حكاية له مع الفلكي (الدكتور سير جيمس جينز)، ملخَّصها أن هذا الأخير كان يحاضر في علوم الفلك. وكان يبدو عليه التأثر بظواهر الكون. حدثه ذات مرة بقوله: (عندما ألقي نظرة على روائع الخلق يبدأ وجودي بالارتعاش من الجلال الإلهي..) فأستأذنه الدكتور عناية الله بأن يقرأ عليه آية من كتابه المقدس (القرآن): ثم قرأ له:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر:27-28)
هتف السير جيمس: ماذا قلت؟ هل قلت إنما يخشى الله من عباده العلماء؟ كم هذا مدهش.. وعجيب حقاً.. وغريب جداً. إنه الأمر الذي كشفت عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة. ومن أنبأ محمداً به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله. ثم يستطرد قائلاً (لقد كان محمد أميّاً. ولا يمكنه أن يكشف عن هذا السر بنفسه، والله هو الذي أخبره به.. هذا مدهش وغريب جدّاً)( ).
لا نعني بما أوردناه أننا ننتظر شهادة (مستر جيمس) في القرآن حتى نؤمن به. ولكننا نريد أن نقول إن هذه حادثة أو هي موقف جاءت به المصادفة وحدها، وليست عن طريق السعي من قبل مسلمين للتعريف بالإسلام، مما يدلنا على مدى تقصيرنا في عصرنا الحالي، في حق إسلامنا وحق أمتنا الإسلامية. بل إننا تركنا الساحة العالمية لأعداء الإسلام كي يصولوا ويجولوا فيه عاملين على تشويه صورته والإساءة إليه وإلى أهله. ويمكننا القول كذلك أننا لو أحسنَّا عرض الإسلام، ولو أننا حملناه إلى الغرب بأسلوب علمي مدروس، مبيِّنين لهم حقيقة مضامينه، وما ينطوي عليه، واتفاق معطيات العلم مع ما جاء به في حينه لاختلفت النظرة إلى المسلمين في العالمين عما هي عليه الآن. والغريب أننا ــ كما أشرنا من قبل ــ نفشل في عرض روائع ديننا على الناس في حين ينجح أعداؤه في تشويه صورته المشرقة والتعتيم على نوره.
أما مواقف الدفاع التي يلجأ إليها مفكرون من العرب والمسلمين، بدافع الغيرة غالباً، فإنها قد تسيء وتضر أكثر مما تجدي، ذلك أنهم بهذا إنما يقرون بأن الإسلام في موقف المتهم، وحريٌّ بأصحابه الدفاع عنه. على هؤلاء أن يرفضوا مجرد فكرة وضع الإسلام في قفص الاتهام. بدلاً من ذلك ينبغي العمل على عرض مضامينه وشرح تفاسير حديثة لمحتوياته، وتبيان حقيقته، التي لو عرفها غير المسلمين، لتغيرت مواقفهم منه إلى النقيض مما هي عليه الآن. وفي يقيني أن هذا يوشك أن يكون فرض عين على كل مثقف ومفكر وعالم من المسلمين لا فرض كفاية. فهذه صورة من صور الجهاد الحق.
ومن ظواهر الطبيعة التي وردت في القرآن ما يتحدث عن ا لكهرباء الجوية. ولم يكن محمد وقومه في بطاح مكة يعرفون شيئاً من أمرها. كقوله تعالى:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (الرعد:12-13)
وآيات أخرى في السورة (الرعد) منها الآية 43 التي ورد ذكرها من قبل، تصف البرق والسحاب، وتعرِّف بالعلاقة بين تشكل السحب والبرَد، ووقوع الصواعق والكهرباء الكامنة في السحب.
لقد عكف العلماء طويلاً على دراسة هذه ا لظاهرة، وتوصلوا إلى حقائق مذهلة، نستنتج منها:
أولا أن ظاهرة تكوُّن السحب وما يصاحبها ويرافقها من عمليات- موضوع الآيات آنفة الذكر- هي عمليات معقَّدة للغاية. (لا سبيل إلى شرحها والدخول في تفاصيلها هاهنا).
ثانياً أن مصدر هذه الآيات هو الله الذي يجادلون فيه، كما يجادلون في المصدر، في حين أنها تصف ظاهرة في الطبيعة لم يكشف الغطاء عن حقيقتها وكنهها وآليتها إلا العلم التجريبي والبحثي اللاحق لنزولها بزمن طويل.
وإن القرآن ليتحدث عن أنواع من السحب مختلفة في طبيعة تكوينها، كما في أثرها وتأثيرها في الأرض والمخلوقات من إنسان وحيوان ونبات ومناخ وهي أمور توصل العلم إلى معرفتها في عصرنا فقط. كقوله تعالى في نوع منها:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (الروم:48)
وهذا نوع آخر من السحاب في قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (الرعد:12)
وهذا نوع ثالث هو السحب الركامية في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (النور:43)
السماء في هذه الآيات تعني ظاهر الأمر، فما دام السحاب فوقنا أي نحو السماء فلفت النظر إليه بهذا اللفظ هو تحديد اللهجة التي يأتينا منها. وفي القاموس تعريف يقول (كل ما علاك هو سماك).
ولكي نفي هذا الجانب من البحث بعض حقه سنعرض إلى آيات تتعلق بطبيعة النبات، من زرع وشجر، وحاجة الإنسان إليها، كضرورة حياتية لتأمين غذائه وكسائه، ومآرب أخرى لا غنى له عنها أبداً. ويقتضي التنويه، مرة أخرى بأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن بحاجة- لكي يبسط زعامته على القبائل في شبه الجزيرة العربية، بعد أن قرر أن السبيل الأفضل لذلك هو إدعاء النبوة، الأمر الذي ذهب إليه المرجفون- نقول لم يكن بحاجة لأن يخوض أيضاً في قضايا النبات والغذاء، بعد أن خاض في أمور الفلك والخلق والكون إذ إن أيّاً من هذه وتلك ليست من المقومات الضرورية لباحث عن زعامة دنيوية.
ــ ببساطة، ما جدوى ذلك؟
وأهم من هذا، أو ما لا يقل عنه أهمية:
ــ كيف تسنت له القدرة على الخوض فيها بمعرفة واقتدار؟
ــ كيف اتفق أن تثبت الأيام على مر الزمن منذ التنزيل، وحتى أيامنا هذه، صدق كل الذي جاء به، دونما استثناء وفي مسائل علمية بحتة؟
كما أثبتتها جميعاً وأكدتها الأبحاث العلمية، التي ما برحت عاكفة على الدرس والبحث والتقصي في سائر العلوم على مدى قرون أخصّها القرن المنصرم.
ــ كيف حدث هذا على الرغم من كونها المسائل الأساسية ذات الأهمية البالغة في الحياة البشرية، الفردية والمجتمعية. لا بل هي قضايا كونية، ومنها ما هو عماد الحياة نفسها؟
وكيف اتفق أن أمكنه الإتيان بآيات تعالج كلاً من هذه الشؤون في سطور قليلة، استوعبت فيما احتوته ما يضع فيه العلماء، من بعد، أسفاراً تملأ رفوف المكتبات، تغص بالبحث وتزدحم بالتحليل، ثم هي لا تخرج في النهاية بغير ما جاء به محمد في المضمون وإن هم دخلوا في تفصيلاتها ومجالات استخدامها للإفادة منها عملياً. كما أنها لم تأت ــ في الوقت نفسه ــ بما ينقضه أو يناقضه؟ وإذا كان ذلك هو شأن المضمون والمحتوى فيما بلغ من ذرى، فقد كان ذلك أيضاً شأن الأسلوب في العرض والتقديم. كان آية في روعة البيان، مع أننا نعرف أن البحث في قضايا علمية كهذه يتسم عادة بالجفاف والتجريد، ويظل قصيَّاً وعصيّاً على لغة الإبداع البياني وجمالياته البلاغية. لقد جمعت الآية بين دقة المعلومة وبلاغة القول وسحره.
ولنأخذ عدداً من الآيات في هذا السياق:
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (الرعد:4)
وبهذه المناسبة سوف أورد خاطرة كثيراً ما شغلتني:
لطالما حيرتنا حقّاً هذه الظاهرة الواردة في الآية المذكورة، على الطبيعة وبالمشاهدة. أنظر إلى مجموعة الأشجار في حقل أو بستان. كل منها تحمل اسم نوعها، وتبدو للوهلة الأولى متقاربة الشبه. أغصان وأوراق وجذوع وأزهار للأشجار جميعاً.. صفة مشتركة بينها. ولكنك سرعان ما تلحظ التغير الهائل عند الإثمار، على الرغم من أن هذه الأشجار جميعاً منغرسة في التربة ذاتها، تحيط بها العوامل البيئية ذاتها، كما أنها تسقى بماء واحد. ولكنك سوف تراها في النهاية تنتج أنواعاً مختلفة تماماً. كل منها، في موسمها، تنتج نوعها الذي لا تدري كيف ومن ذا الذي يحدد لها وظيفتها بحيث تعطيك ــ وكأنها مرغمة ــ الصنف ذاته تحديداً لا تحيد عنه أبداً. أكثر من ذلك ترى في النوع الواحد ألواناً مختلفة، سواء في الطعم أو الشكل أو الحجم. تلحظه في كافة الأنواع من الفواكه إلى الخضار إلى الحبوب. تلك البذرة الصغيرة لأيٍّ منها، تحمل الصفات الموروثة والمورِّثة – الجينات- لكي تعطيك، إذا ما أينع الزرع أو الشجر، الصفات ذاتها التي لا تخرج عنها أبداً.. كيف؟ مسألة محيِّرة تماماً. ومن ثم جاءت الآيات الكثيرة في التنبيه إلى هذه الحقائق تأكيداً على قدرة الله وبديع صنعه في خلقه.


* * *

ظواهر الطبيعة
.. وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (الحج:5)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأنعام:99)
يفصِّل العلم في هذه المسألة، فيبيِّن أن الثمرة نتاج عملية تناسل النبات. والمرحلة التي تسبق الثمرة هي مرحلة الزهرة، بأعضائها الذكورية (الأبر)، وأعضائها الأنثوية (البويضات). وبعد نقل اللقاح- غالباً عن طريق الرياح أو تنقل الحشرات كالنحل والفراش وغيرها- تعطي هذه الثمار، التي تعطي بدورها الحبوب بعد النضج من أجل الزرع وبدء الدورة من جديد. إن كل ثمرة تتضمن وجود أعضاء ذكورة، وأعضاء أنوثة، وهو ما ذهبت إليه الآية.
وإذا كانت تتكرر كثيراً الآيات، حول عنصري الزوجية في النبات، فإنها تسجل مفهوم التزاوج في إطار أكثر عمومية بحيث تشمل الكائنات الحية كافة:
يقول تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (يّـس36)
ويقول تعالى:
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات:49)
.. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. (الرعد:3)
هنا تأكيد على مبدأ الزوجية، الذكورة والأنوثة.. السالب والموجب في سائر الكائنات والأشياء، كمبدأ كوني، وقد أثبت العلم هذه الحقيقة.. حتى الذرة نفسها تخضع للمبدأ ذاته. إذ تتكون من الإلكترونات والنيوترونات وكذلك شأن الكهرباء.
أما قوله وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ في الآية أعلاه (يس:36) فهي الشاملة، وتشير إلى قصور علمهم في ذلك الحين عن إدراك الكثير مما يحيط بهم من عناصر الطبيعة وآفاق الكون وأسراره. بل وأنفسهم ذاتها.. أي الإنسان بكل ما انطوى عليه جسداً وروحاً. وتعبير (مما لا يعلمون) بما يكتنفه من غموض بالنسبة لأناس ذلك العصر، وربما لما بعده بزمن، وجهلهم بحقائق كثيرة حتى ذلك الحين، إنما جاء من قبيل تسجيل التحفظ والحيطة لما سوف تستجد معرفته فيما بعد، وهو ما حدث بالفعل. فوظيفة التزاوج أو الزوجية قائمة فيما يخص العوالم المتناهية الصغر، كما في تلك المتناهية الكبر، في عالم الأحياء، كما في عالم الجمادات. ولنلاحظ مرة أخرى أننا لا نرى في القرآن تضاداً أو تناقضاً مع العلم على أي صعيد. كما في سائر المسائل والشؤون التي أخضعها العلم لأبحاثه ودراساته.
وسأنقل هنا ملخَّصاً لرأي علمي مستفيض في قضايا الغذاء، وردت في كتاب (الإسلام يتحدى للباحث وحيد الدين خان) تلخيصاً، قدر الإمكان لصفحات كثيرة في المسألة.
هذه الآية (وكذلك الآية 49 من سورة الذاريات) تشمل كل ما هو على ظهر كوكب الأرض. فالنبات هو قوام الحياة للكائنات جميعاً، سواء كان في شكل غذاء للإنسان والحيوان، أو كان دوره في تشكل الأوكسجين والكربون للتنفس لسائر الكائنات الحيّة. وأما البشر أنفسهم فمعروف أنهم الذكر والأنثى. ثم تأتي المواد والعناصر الأخرى التي تتكون منها مادة الأرض.
إن قائمة الأغذية التي يقررها لنا القرآن الكريم تحرِّم (الدم). وكان الإنسان في ذلك العصر، وبعده بزمن طويل، غافلاً عن أهمية هذا التحريم وموجباته وقد دلت التحليلات أن الدم يحتوي على كمية كبيرة من حمض البوليك (Acid Uric). وهو مادة سامة ضارة بالصحة لو استعملت غذاء. وهذا هو السر في الطريقة الخاصة التي أمر بها القرآن في ذبح الحيوانات. وهي قطع الوريد الرئيسي في العنق فقط، حتى يمكن استمرار علاقة المخ بالقلب إلى أن يموت الحيوان، تفادياً للصدمة العنيفة فيما لو قتل الحيوان بطريقة أخرى، إذ عندها تتجمد الدماء في العروق، وتسري إلى أجزاء الجسم الذي سوف يتسمم عند سريان حمض البوليك في أنحائه. وقد حرَّم القرآن لحم الخنزير، ولم يعرف الإنسان السَّر في ذلك التحريم يومئذ، ولوقت طويل بعد ذلك. إلا أنه بات معروفاً اليوم أن لحم الخنزير يسبِّبُ أمراضاً كثيرة. إذ إن كمية مادة الحمض الكبيرة التي يحتويها دم الخنزير تصبح جزءاً من لحمه. ولذلك يشكو الخنزير من آلام المفاصل. والذين يأكلونه بكثرة يصابون بالروماتيزم.
تقول الآية في هذا الصدد:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. (المائدة:3)
لم تعرف هذه الحقائق إلا متأخرة، وعلى مراحل في القرن العشرين. وكما عرَّفنا القرآن بمضار أصناف من الأغذية، ذكر لنا منافع أصناف أخرى. منها العسل، ومنها اللبن. وقد جاءت سورة بكاملها عن النحل، من آياتها:
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (النحل:68-69)
إن سلوك جماعات النحل، ونظمه وقدراته الفذَّة في بناء بيوته (خلاياه) من الشمع، في الجبال وعلى الأشجار وغيرها من الأدوات الحديثة، وجمعه الرحيق من الأزهار، ثم إفراز العسل، فضلاً عن نظامه الاجتماعي البديع والمدهش في آن معاً، ناهيك عن هندسة البناء المذهلة في خلاياه وأقراصه متناهية الدقة والجمال. كل ذلك بوحيٍ من الله كما في الآية (وأوحى ربُّك إلى النحل..). وكل ذلك أيضاً كان من أسباب حفز العديد من العلماء على القيام بدراساتٍ متخصصة في شأن النحل. ومن هؤلاء من حاز على جائزة نوبل على دراساته أمثال: فون فريش، ولورنزن، وتبنرجن.
أما اللبن، كعنصر غذائي هام للإنسان بأنواعه ومشتقاته جميعاً، فقد قام العلماء بدراسة مكوِّناته، في العصر الحديث. ولم يجد العلماء في دراساتهم ما يخرج عما جاء في القرآن الكريم. واللبن هنا هو الحليب:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ (النحل:66)
كيفية تكوُّن اللبن، هذه العملية المعقدة - في رأي العلماء والباحثين - لا سيما تلك الآلية المحِّيرة، من مروره بين الفرث والدم في جسم الحيوان المعقد في تركيبه أيضاً، دون أن يتعرض للتلوث من هذين العنصرين المخالفين في تركيبتهما تماماً لطبيعة اللبن الصافية النقية، ليخرج بعد ذلك صافياً ناصعاً طهوراً، كما نعرفه، سائغاً لذيذ الطعم. وليشكل بمشتقاته العديدة الوفيرة عنصراً غذائياً من أهم مقومات الحياة للبشر، التي تدخل، بطريقة أو بأخرى عن طريق معالجتها، في الكثير من ألوان الطعام، التي غدا إنسان العصر يبتكر منها ما قد يدخل في أبواب (الفنون) الغذائية، من طهاة ومتخصصين من رجال ونساء بحيث يستمتعون بلذة طعمها ويزيِّنون بها موائد الحفلات والمناسبات.
أليس في كل ذلك ما يدعو إلى الدهشة والانبهار أمام عجيب صنع الله، والخشوع أمام عظمته وقدرته، فيما هيأ للإنسان على ظهر الأرض من أسباب الحياة والبقاء، والاستمتاع أيضاً.
ويتفق أن تأتي معطيات العلم، ونتائج الدراسات والأبحاث المستفيضة، مطابقة لما ورد في القرآن في هذه المسألة، كما في غيرها.
فيما نعرف جميعاً- ليس العرب ولا المسلمون وحدهم وإنما العالم برمته ومن قبيل تحصيل الحاصل- أن محمداً لم يقم بأبحاث (علمية). حتى هذا المصطلح لم يكن متداولاً يومئذ.
كما أنه لم يذهب إلى البحار والمحيطات والأنهار ليتذوق ماءها، ليعرف من ثم أن المالح لا يختلط بالعذب. وهو كذلك، لم ير ولا رأى غيره من البشر عياناً بأن الجبال تمر مرَّ السحاب، وأن الأرض تدور في فلك. وكذلك الشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية. وهو لم يكن يدري- أو ربما كان يدري- أن العلم سوف يمخر عباب الفضاء بالسفن الفضائية والصواريخ، وأن هذه سوف تنفلت بطاقات الدفع والقوة التي تملكها من أسر الجاذبية الأرضية، كي (تنفذ) من أقطار السموات، أي خارج أحزمة اليونسفير، والأتوسفير، وطبقة الأوزون، بعيداً إلى المريخ والمشتري ونبتون، حين جاء تحدي البشر بأن ينفذوا من أقطار السموات والأرض إن هم استطاعوا، مؤكِّداً لهم أنهم يستطيعون ذلك بالقوة (بسلطان).
من قوله تعالى:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33).
لم يكن محمد عالماً جيولوجيّاً أو فلكياً أو فضائياً حين بلَّغنا عن أسرار الطبيعة هذه.. الجبال والمياه، وطبقات الأرض، والبراكين، وما في باطن الأرض من معادن وثروات. ولا هو كان طبيعيّاً ومنطقيّاً أن يحدِّث عن الأرحام والأجنَّة ومراحل التكوين، كل ذلك وغيره مما أخبرنا به، ونقله إلينا قبل نيف وأربعة عشر قرناً.
ثم يأتي العلم أخيراً ليقول كلمته: إن كل ما جاء به محمد صحيح وصادق، وأنه كما كان (الأمين) في قومه خلقاً ومسلكاً، قبل بعثه نبياً ورسولاً، كان (الأمين) في نقل الرسالة، الكاملة الشاملة الهادية، إلى البشر أجمعين.


* * *

الإنسان الكائن الفريد
ثم نأتي إلى الإنسان الذي أتى عليه حين من الدهر لم يكن فيه شيئاً مذكوراً. الآيات جميعها، القرآن من أول حرف حتى أخر آية فيه جاءت تخاطب الإنسان. هو وجهتها ومرماها لكي تأخذ بيده- إن شاء الله هدايته- نحو خيره في الدنيا وسعادته في الآخرة، يوم يلقى وجه ربه.
هذا الإنسان الذي خلق ضعيفاً كما يصفه القرآن الكريم، ليس عند بداية خلقه أكثر من نطفة تُمنى، ولا هو أكثر من سلالة من ماء مهين، قبل أن يسوِّيَه الله وينفخ فيه من روحه، لن يلبث أن نراه عندما يصبح رجلاً يخوض غمار الحياة وحتى نهاية عمره، كائناً يتجبر، ويمارس الظلم والعدوان كلما تهيأت له الأسباب، - إلاَّ من رحم ربك- على الرغم من أنه يعلم أن له عمراً محدوداً، وأنه لا يملك من أمره شيئاً. فهو قد جيء به إلى هذا العالم دون معرفة منه أو رغبة أو إرادة، أو توقيت لحياته ومماته. لا يختار أبويه، وقومه، وموطنه، ولا عصره ولا مكانه في الأرض، أو مكانته بين الناس، ولا جنسيته، ولا تكوين ذاته، كلون بشرته وعينيه، وطوله، وملامحه، وسماته، يجد نفسه هكذا كما هو قد وجد في ذات مكان وزمان، وانتهى الأمر. ذلك كله قضاء جرى عليه، لا دور له فيه ولا قدرة له عليه. عجزه إزاء ذلك كله مطلق. ثم إن هذه جميعاً عوامل تسهم في الصورة التي سوف تكون عليها حياته الدنيوية.. وربما الأخروية في نهاية المطاف. وإن كان في رحلته الدنيوية هذه قد ملك العقل والحواس، هبة من الله ومنحة، لكي يُسأل في أخراه ويحق عليه الحساب، ومن ثم الثواب أو العقاب.
يعرض القرآن لسائر هذه القضايا دون أن يغفل أيَّاً منها، عرضاً شافياً وافياً. وكثيراً ما تأتي الآيات في صيغة التعليم والتوجيه، وفي حالات يقتضيها المقام، التنديد والتعريض، أو الإنذار والتحذير، والعرض لصور الحياة الآخرة، وما ينتظر كل إنسان هناك يوم يلقى ربَّه فرداً:
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (عبس:34-37)
هذا كله جاءنا به محمد بن عبد الله، فأنَّى له هذه القدرة التي تتجاوز إمكانات الإنسان عادة؟ ومن أيِّ نبعٍ ثرٍّ استقى العلم والمعلومات، والتحليل والتعليل، والحكم والمواعظ، والقَصَص والروي ما لم يكن من لدنه تعالى.
الغاية والمبتغى من وراء ذلك أن يتخذ الإنسان من مسألة خلقه تحديداً ما يطامن من سلوكه ونهجه في الحياة، وما يقوده في سبيل الهدى والرشاد، وليس المكابرة والعناد. ولننظر في هذه الآيات في شأن الإنسان:
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (الانفطار:6-8)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (القيامة:36-40)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (النحل:4)
لا تني الآيات المبثوثة في ثنايا السور عن وصف الإنسان في سائر أطوار حياته منذ الولادة والطفولة، حتى بلوغه سن الرشد، وبعد ذلك حتى مماته. والآيات تعرِّف الإنسان تعريفاً واقعياً محدِّداً لتكوينه وجبلَّته، شارحة أسراره وخفاياه وما ينطوي عليه في دخيلته من نوازع الخير والشر. ولم يحدث منذ نزلت هذه الآيات على رسول الله أن رأت البشرية تغيُّراً طرأ على تكوين الإنسان الفيزيائي ينقض ما ذهبت إليه في تعريفه ووصفه أو زادت عليه شيئاً. والحديث هنا عن الصفات والمقوِّمات الأساسية للكائن البشري- الفصيلة الإنسانية. وهو ما ينفي ويردُّ مسبقاً على ما جاء به (دارون) في نظريته (أصل الأشياء) التي أثبت بطلانها بحاثة معروفون بعد أن سادت بعض الوقت وأوشك أن يقتنع بها كثيرون في غير قليل من الإعجاب. وهو ــ بالمناسبة ــ من يهود. ثم نعود إلى ما كنا بصدده بعد هذا الاستطراد فنقول إن هذا لا ينفي – بطبيعة الحال- الاختلاف في الصفات الفردية بين إنسان وإنسان. فالإنسان كفرد حالة خاصة قائمة بذاتها، فما من إنسان يشبه إنساناً في المطلق، لا شكلاً ولا موضوعاً. وهذه معجزة أخرى محيِّرة. يتشابه البشر فيما يملكون من خصائص عامة، من حواس وأعضاء. لهم جميعاً وجوه وأرجل وأيدي وحواس خمس، غير أنه ما من إنسان – في الوقت نفسه - يتطابق مع إنسان آخر على وجه الأرض. لم يحدث هذا في الماضي وحتى اليوم، برغم المليارات التي لا يحصيها عدد من البشر الذين وجدوا على الأرض. أليس هذا وجهاً آخر من وجوه الإعجاز الإلهي في الخلق؟
وقل مثل ذلك في مشاعر البشر وأحاسيسهم ودخائل نفوسهم وأمزجتهم، وأخيلتهم، وشطحات أرواحهم. إذن العناصر العامة واحدة، لكن الخصائص الفردية مختلفة ومتفردة. ما من وجه يشبه وجهاً بتطابق تام. ولا أعين تشبه أعيناً.. وهكذا في سائر الأعضاء.
والبصمات المختلفة لكل فرد عن غيره تأكدت علميّاً. ومؤخَّراً تبين أن للأعين بصمات، وللجلد بصمات، لا يشبه أيٌّ منها أيّاً منها. يأتي واحدنا إلى هذا العالم ثم يمضي لا يتكرَّر أبداً. كان واحداً، ومضى واحداً بلا شبيه من قبل ومن بعد. وإذا ما تشابهت أو اشتبهت على البعض مظاهر تشابه أو تقارب بين كائنين بشريين فما ذلك سوى وهم رؤية خادع، ويبقى جوهر المسألة الذي هو أن كل حالة هي تلك الحالة بعينها، وحيدة فريدة.
في هذا الشأن، أي في الصفات البشرية العامة، أي التي هي من خصائص الإنسان عامة نقرأ:
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (العلق:6-7)
إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (العاديات:6-8)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ. أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(البلد4-5)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (الفجر:19-20)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (القيامة:20-21)
يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (الانشقاق:6)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (التكاثر:1-4)
إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (المعارج:19-21)
وسورة عنوانها (الإنسان) تبدأ بقوله تعالى:
هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (الإنسان:1-3)
هذه الآيات جميعاً تصف الإنسان عامة. وأما الحالة الفردية فيأتي التأكيد عليها في آيات أخرى كثيرة منها:
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (مريم:95)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً. كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً. وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (مريم:77-80)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (الأنعام:94)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (يونس:54)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (الزمر:70)
هذه الآيات، وآية مثل كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (المدثر:38) في ماهية الفردية للإنسان تحدد لكل نفس مصيرها حسب كسبها. والكسب هنا يختلف عند كل نفس عن الأخرى. الكسب هو محصلة مجموع المواصفات والصفات المكونة لهذا الإنسان، بما في ذلك وجوده في زمان ومكان معينين من الحياة البشرية على الأرض، ناهيك عما تجني يداه حسب كينونته وكيانه شكلاً ومضموناً. هذا كله يسهم، بل يشكل قدَره ويحدد مصيرَه في الدارين. إذن هو (رهن) هذه العوامل والعناصر مجتمعة. وقدر كل إنسان (فرد) مختلف عن قدر أي إنسان (فرد) آخر باختلاف العوامل آنفة الذكر. الكسب هنا، منه ما هو قدري رباني، ومنه ما هومكتسب بالعقل والممارسة والاجتهاد، وكل منهما متمم للآخر.
وحسناً أن (سيجموند فرويد) و (كارل يونج) و (أدلر) وتلامذتهم جاءوا في هذا الزمان، عقب قرون عديدة من تنزُّل الوحي على محمد عليه السلام، لكي يوغلوا في مجاهل النفس البشرية بحثاً وتنقيباً، ومع ذلك لم يبلغ أيٌّ منهم مطمحه في كشف خبايا النفس وأسرارها الخفية. لقد غاصوا إلى الأعماق – أو هم ظنوا كذلك- من ذلك البحر اللجي المتلاطمة أمواجه، بيد أنهم لم يخرجوا باللآلئ . كان حليفهم الإخفاق في الكثير مما ذهبوا إليه. ولم تمكِّن هؤلاء أبحاثهم من التوصل إلى نتائج حاسمة. لأن هذا النوع من العلم لا يخضع للتجربة المخبرية، شأن العلوم الأخرى في الفيزياء، والكيمياء، والطب، وما إليها، تمشيّاً مع القاعدة العلمية المعروفة لدى الغرب، والقائلة بوجوب تسجيل النتائج الفعلية المرئية المتحصلة عياناً، عن طريق التجربة المخبرية هذه، وإلا فلا اعتراف بها إلا في حدود ضيِّقة تبقيها ضمن دائرة الشك واحتمالات الظنون.
كلا لم يبلغ هؤلاء من تعريف النفس والإنسان بعض ما بلغته آيات الكتاب القصيرة المكثفة في النص، الشاسعة الأبعاد، في المعنى والمضمون، والتي تغني عن أسفار وضعوها في هذا العلم، (علم النفس) (Psychology). وتفرعاته العديدة، تحت عناوين أكثر عدداً، لأجل الإبهار والإثارة والتظاهر بالعلم المحيط والمعرفة المطلقة. وقد ظهرت أبحاث كثيرة فيما بعد أثبتت خطل الرأي، وسوء الاستنتاج والمحصِّلة لدى فرويد وصحبه..!
وإذا كان لا مفر من الاستشهاد بمقولة لعالم غربي – كما عودنا كتَّابنا ومفكرونا- فإننا سوف نستشهد بعدد يسير منهم. مثل هذه الشهادات قد تأتي محايدة وموضوعية من قبل عالم نزيه أو مستشرق مغرض.
ولكن يظل هناك دائماً منصفون يتسمون بالنزاهة والموضوعية، رغم أنهم لم يدخلوا الإسلام، وبعض منهم دخل فيه عندما تبين له الحق، إما عن طريق العلم، أو عن طريق الاقتناع بالعقل والمنطق. من بين هؤلاء وهؤلاء: الألمانية د. زيغريد هونكه، والمستشرق ليوبو لدفايس النمساوي، والعالم الفرنسي د. روجيه جارودي، والدكتور الطبيب موريس بوكاي الفرنسي. يقول هذا الأخير:
(وكما قلنا فلا بد من مقارنة كل من هذه المقولات القرآنية بالمعلومات التي ثبتت في العصر الحديث. إن توافق المقولات القرآنية مع المعلومات الحديثة يتضح جلياً. ولكن من المهم مقابلتها بالمعتقدات التي كانت سائدة في عصر تنزيل القرآن. وليس هناك أدنى شك في أن أولئك المعاصرين لم يعرفوا في ذلك العصر تفسير هذا الوحي مثلما ندركه اليوم. ذلك أن معطيات المعرفة الحديثة تعيننا على تفسيره. الواقع أن المتخصصين لم يكتسبوا معرفة واضحة إلى حد ما في هذه المسائل إلا خلال القرن التاسع عشر (في القرن العشرين تأكدت بدقة أكثر ونهائية). وقد ساعد اختراع المجهر والأجهزة الحديثة على ذلك.
عرف الناس القرآن بما يربو على ألف عام من قبل هذا العصر الذي كانت المعتقدات الوهمية تسوده. إن مقولات القرآن عن التناسل البشري تعبر عن حقائق أولى أنفقت مئات من السنين لمعرفتها)( ).
وحسبنا أن نذكر عناوين أبحاث لزيغريد هونكه وردت في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب)، وهي تتحدث عن الحضارة العربية:
• مستشفيات مثالية وأطباء لم ير لهم العالم مثيلاً
• أحد أعظم أطباء الإنسانية إطلاقاً (الرازي)
• ابن النفيس والدورة الدموية
• نصب تذكاري للعبقرية العربية
• المعجزة التي حققتها العرب
• هدايا العرب للغرب
• أبو القاسم الزهراوي من أهم جراحي العرب وأعظمهم فضلاً
وتقول:
(لقد نقل العرب للأطباء الغربيين صور الأدوات الجراحية العربية).
أما الفيلسوف الألماني جوته فيقول في الديوان الشرقي الغربي:
(وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو. كما نجح في هذا محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد).
هذه هي الحضارة التي نشرها الإسلام الذي جاء به النبي الأمي محمد عليه السلام، لتظل نبراساً لهداية البشرية، وليشهد بذلك الدارسون من غير المسلمين في القرون اللاحقة للتنزيل.
وما دمنا بصدد الحديث عن هذا المخلوق (الإنسان) فلابد لنا من الإشارة، قبل الانتقال إلى حديث آخر، إلى أن كيفية خلقه وتكوينه عرض لها القرآن الكريم، ثم جاءت الأبحاث العلمية المعاصرة لتؤكد كل كلمة وحرف نطق بها القرآن، بحيث تطابق معطيات هذه الأبحاث ما ورد في كتاب الله. يقول تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون:12-14)
في تصوير المراحل المتتالية للخلق، لم يتوصل علم الأجنة في عصرنا هذا إلى غير ما ورد في القرآن الكريم.
أليست هذه حجة دامغة بالغة على أن هذا هو كلام الله، والله أصدق القائلين..؟
* * *

السبق إلى حقائق فلكية
لم يكن محمد بن عبد الله عالماً فلكيّاً أو فيزيائياً أو رياضياً ـ كما سبق لنا القول ـ. وهو نفسه لم يدَّع ذلك. وهو قد جاء إلى هذا العالم قبل مجيء اسحاق نيوتن، وكوبر نيكوس، وجاليليو، وفاسكودي جاما بنحو من عشرة قرون. وقبل البرت أينشتاين بثلاثة عشر قرناً. وقبل زماننا بنحو ذلك. وهو الذي أخبرنا – مع هذا- بما جاء به من قرآن بحقائق ومعلومات كونيَّة وفلكية وأرضية وبشرية ما أثبت العلم صحتها. حدث هذا في وقت لم يكن أحد في العالم كله يومئذ يعرف شيئاً عن هذه القضايا التي كانت طيَّ الغيب. وقد لبثت البشرية، على مدى قرون، وفي كل حقبة من الزمن تتكشف علوم جديدة في ناحية أو أخرى من نواحي الحياة، وفروع العلم والمعرفة. ولعل القرن الأخير كان الأكثر تسارعاً في ميادين العلم التي وصل إليها بفروعه المختلفة.
ولسوف تعتريك الدهشة حين ترى ذلك الذي كشف عنه العلم قد ورد، من قبل، في القرآن لاسيما وقد ملك المختصون بهذه الشؤون، من العلماء، ما لم يملكه محمد من وسائل البحث والاستكشاف وأدواتها: من التلسكوب إلى المجهر والمختبر والأقمار الصناعية ومجسَّات الفضاء والأجهزة الإلكترونية والحاسوب وغيرها مما لا سبيل إلى حصره. وكلما تحققت هذه الأجهزة من نظرية أو كشف ما التفتنا إلى الوراء لنجد أن القرآن قد جاء على ذكرها في الكليات وليس في التفاصيل باعتباره ليس كتاباً علميّاً صرفاً.
من نافلة القول أن نشير ــ مرة أخرى ــ إلى أن محمداً لم يكن مضطراً إلى الخوض في مثل هذه القضايا المعقدة الحافلة بالأسرار والخفايا لو كان الأمر له. لم يكن من الضرورات الحتمية لرسالته الإحاطة بقضايا لها هذه الصفات المعقدة، والتصدي لما لم يعرف بعد من حقائق كونية. نقول أنه لم يكن حتماً عليه التعرُّض لها، وفي ذلك ما فيه من احتمالات ومخاطر لولا أنها وحي من الله. ولأنها كذلك جاءت الأيام على مدى قرون تثبت صدقها، وحتَّمت وقوعها وظهورها في وقتها.
لم يبق أمامنا، والحالة هذه، سوى الإقرار بأن ما جاء به محمد لم يكن من عنده. وأن ما جاء به كان فوق قدرات البشر، وخارج نطاق ملكاتهم وإمكاناتهم، إذ هو من أنباء الغيب التي لن ينكشف الغطاء عنها إلا عبر قرون قادمة بعد التنزيل.
يقول د. موريس بوكاي:
(إن القرآن يدعو إلى المواظبة على الاشتغال بالعلم. إنه يحتوي على تأملات عديدة خاصة بالظاهرات الطبيعية، وبتفاصيل توضيحية تتفق تماماً مع معطيات العلم الحديث. وليس هناك ما يعادل ذلك في التوراة والإنجيل)( ).
يحفل القرآن الكريم بالآيات الكثيرة التي تتحدث في أسرار الكون، كخلق السموات والأرض والكواكب والنجوم، وهي أمور قلما تطرق إليها الدارسون في ذلك الزمان دون الوقوع في أخطاء التفسير والاستنتاج. فلقد كانوا يعتبرونها ألغازاً تتصل بالفلسفة والمغيَّبات أكثر منها بالعلم. ذلك أن الوصول إلى إدراك كنهها كان فوق إمكاناتهم البشرية المتاحة من الناحية العلمية ومعطيات العصر.
القرآن وحده كان بدعاً في ذلك غير مسبوق. صحيح أن التوراة عرضت لمسائل كونية، في سفر التكوين. ولكن ما ورد فيها لم يكن سوى خيالات وأساطير لا نصيب لها من المصداقية حسب ما كشفها وفنَّدها الطبيب الفرنسي موريس بوكاي في كتابه (العلم في الكتب المقدسة)( ).
ولم يحدث أن جاء العلم أو العلماء بما يخالف أو يناقض ما ورد في القرآن منذ عصر النهضة في أوروبا بعد القرن الخامس عشر الميلادي، ولو لمرة واحدة. أليس هذا مما يدعو إلى الدهشة لو كان واضعه من البشر في وقت لم تكن البشرية قد بلغت من النضج والتطور ومستوى العلم ما يؤهلها لذلك؟
كانت أوروبا طوال الوقت- بما فيه وقت نزول القرآن- وحتى عصر النهضة، المشار إليه، تحظر التطرق إلى مثل هذه القضايا، وتعتبرها تجديفاً وهرطقة، يستحق المقدم عليها الحرق حيّاً بأمر من محاكم التفتيش، التي كانت سائدة آنئذ. والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة.
لقد جاء محمد عليه السلام- قبل ذلك بنحو عشرة قرون- يحثُّ الإنسان على التأمل في ملكوت الله. والبحث والدراسة والتقصي في مسائل الخلق. بل في خلق الإنسان نفسه، وهو في حدِّ ذاته أعجوبة الأعاجيب:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران:190-191)
أليست هذه دعوة صريحة للتفكُّر في خلق السموات والأرض والظواهر الكونية كاختلاف الليل والنهار وما تدلُّ عليه هذه الحركة، كما في خلق الإنسان نفسه وتكوينه، وما منحه الله من ملكات.
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الرعد:3)
مسائل مثل ((مدّ الأرض)) والرواسي والأنهار، أليست قضايا تثير التفكير؟ أما (مسألة الزوجين) فقد عرَّفها العلماء على أنها السالب والموجب. وهذه سنة الله في الخلق جميعاً. السالب الأنثى، والموجب الذكر، بالنسبة للحيوانات وسائر الأحياء. وهي كذلك بالنسبة لغيرها من عناصر ومواد تدخل في بنية الكون، ولقاح الثمر والنبات. والذرة بالكتروناتها ونيوتروناتها.
وقد عرضنا لهذه المسألة في صفحات سبقت.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة:164)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (النور:43)
تتحدث الآيات - التي ما كان لبشر أن يأتي بمثلها- إضافة إلى الآيات السابقة من آل عمران، عن الفلك والمطر وتصريف الرياح، وعن السحاب ومواقعه بين السماء والأرض. وإحياء المطر للأرض بعد موتها، وما بثَّ فوقها من دواب متعددة الأنواع والفئات. في كل أولئك دعوة للنظر والتأمل.
بيد أن آيات أخرى كثيرة مبثوثة في ثنايا سور القرآن، تدخل أكثر في الجزئيات والتفاصيل في شأن العلم والتعلُّم والكشف عن الحقائق الكونية. كالآيات التالية:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء:30)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت:11)
يعرض القرآن في هاتين الآيتين ــ كما في غيرهما في مواضع أخرى من كتاب الله ــ للظاهرات التي تبحث في عملية تشكُّل الكون. وقد جاءت العلوم الحديثة في القرن العشرين بنظرية تقول إن الكون كان في الأصل كتلة غازية (والدخان)) في الآية قوام غازي تتعلق به جزئيات دقيقة من مواد صلبة أو سائلة، تفضي بعد تكاثرها، ثم ثقل وزنها النوعي إلى عملية ((فتق)) أي انفصال وتكوُّن النجوم والكواكب جرَّاء ذلك. وهذه نظرية توصَّل العلم إليها حديثاً فقط.
ويقول تعالى:
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (نوح:15-16)
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً. وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً) (النبأ:12-13)
ونحن نعرف اليوم أن الشمس جرم ملتهبٌ تضطرم فيه نيران هائلة، ناجمة عن التحام (اندماج) ذرات الهيدروجين فيها، فتقذف حممها في الفضاء التي من شأنها أن تنير الكواكب الدائرة في فلكها ومنها الأرض. وما نور القمر (الذي ليس بنار كالشمس) غير انعكاس لضوء الشمس على الأرض، والقمر يبدو عندئذ منيراً يمنحنا الضياء. من ثم كان وصف الشمس بالسراج (المشتعل) والقمر بالنور (المضيء) وهذه حقيقة علمية أخرى. وبهذه الطريقة تضيء الشمس نهاراتنا ويجمِّل القمر ليالي البشر على الأرض فضلاً عن دوره وأثره على حياتنا، كالمد والجزر، وحساب الشهور والسنين.
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (الأنبياء:32)
ألا تقول لنا الآية أن هناك (سقفاً) يحفظ الأرض في السماء؟ لم يكن أحد يعرف شيئاً عن ذلك. وقد ذهب المفسرون في شأنها مذاهب شتى، شأنها في ذلك شأن آيات كثيرة، لم يكن التطور العلمي يومئذٍ يتيح لهم إمكان الوصول إلى مضمونها الحقيقي. أما الآن فقد أصبحنا نعرف أن الإشارة هنا قد تعني طبقة الأوزون الحافظة للأرض من الأشعة الكونية، القاتلة للأحياء والحياة لو لم تكن هذه الطبقة موجودة، فهي سقف محكم فعلاً. والعلم اليوم يصف هذه الطبقة بـ (السقف) وحين خرق هذا السقف وحدثت فيه فجوة لأسباب معروفة تسببت في إشكالات بيئية هي الآن محل دراسة، بل نزاع بين الدول حول كيفية علاجها.


* * *

أهناك كواكب مأهولة؟
ونعرض لآيات تتحدث عن حياة موجودة في أرجاء الكون الشاسع. أما عن ماهيتها وكنهها فعلم ذلك عند الله، لكنها لابد أن تكون عاقلة، كما تشير الآيات:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (الطلاق:12)
تشير هذه الآية إلى وجود كواكب أخرى تشبه الأرض في تكوينها، على نحو أو آخر وإلا فلمن يتنزل الأمر إذا كن خاليات من الكائنات العاقلة؟. وجود مثل هذه الكواكب تقول به نظريات علمية حديثة لم يمض على ظهورها أكثر من ربع قرن.
إن لفظة (بينهن) في الآية تعمم وبصيغة الجمع. أي أن هناك أراض لا أرضاً واحدة. ونفهم من الآية كذلك أن الله (ينزل الأمر بين هذه الأراضي السبع والسموات السبع. و(التنزيل) من ثم لابدّ أنه موجه إلى مخلوقات تعقل.
ولننظر في هذه الآيات أيضاً:
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (طـه:6)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (قّ:38)( ).
وتجدر الإشارة إلى أن أيام الله هي غير الأيام التي نعرفها، وأيام أرضنا واحدة منها. وسنأتي على هذه المسألة فيما بعد. ولكننا نقول هنا أن الأيام المعنية هي مراحل التطور في الكون. هناك ستة مراحل للخلق. كما أن هناك تداخل في مراحل خلق السماوات مع خلق الأرض.
هناك إذن تعدُّد السموات وتعدُّد الكواكب التي تشبه الأرض، فضلاً عن تعدد النجوم والمجرات. كما أن هناك خلق وسيط بين السماوات والأرضين.
أما مسألة اختلاف الأيام الكونية فقد وردت في عدد من الآيات كنماذج عما هو موجود وقائم في الكون.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (السجدة:5)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (المعارج:1-4)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (الحج:47)
تختلف الأيام الكونية إذن باختلاف مواقع الأجرام السماوية، يدخل في ذلك الأبعاد الممتدة بينها والكتل لكل منها، والتابعية للدورة الفلكية لكل منها، على غرار أيامنا الأرضية من حيث المبدأ.
الشمس وتوابعها من الكواكب لا تمثل إلا حيّزاً صغيراً جداً من مساحة المجرة التي تتبعها مجموعتنا الشمسية، ومنها أرضنا واسمها، (طريق التبانة). وهذه تحوي عدداً هائلاً من النجوم المشابهة لشمسنا. وهذه المجرة على فداحة مساحتها لا تمثل إلا جزءاً »محدوداً« من الكون، الذي يحتوي عدداً لا يحصى من المجرات. ولا يعلم عددها غير الله. إن الضوء وهو وحدة القياس للمسافات الكونية بين النجوم والأجرام السماوية وسرعته 300 كم في الثانية يحتاج إلى 90 ألف سنة ضوئية لكي يصل ما بين طرفي مجموعة النجوم التي تتكون منها مجرتنا وحدها. هذه الأرقام بحسب علماء الفلك المعاصرين وما يملكون من مراصد فلكية.
يقول موريس بوكاي:
(لقد وصل علماء الفلك إلى درجة عالية من المعرفة عن التطور العام لتكوُّن النظام الشمسي، يمكن تلخيصه فيما يلي: تتكثف المادة الغازية وتنكمش في حالة دوران، ثم انفصال إلى أجزاء، ثم وضع الشمس والكواكب ــ ومنها الأرض ــ في أماكنها. إن معطيات العلم عن السديم الأوَّلي وطريقة انقسامه إلى كمية لا حصر لها من النجوم المجتمعة في مجرات لا يسمح بأقل شك في شرعية المفهوم القائل بتعدد العوالم)( ).
ويرى العديد من العلماء أيضاً أنه لا بد وأن تكون هناك كواكب مشابهة، على نحو أو آخر، للأرض، إذ لا يعقل أن هذا الكون الشاسع المساحات والمسافات، وفيه المليارات بلا عدد من الأجرام لا حياة فيه إلا في الأرض. والمدهش أن في القرآن إشارات واضحة لهذا الاحتمال، كما مر معنا. وأمامنا في كتاب الله ما يرجح ــ إن لم نقل يؤكد ــ هذا الاستنتاج كهذه الآيات:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (يونس:55)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. (الإسراء:55)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ.. (يونس:66)
لفظة (مَنْ) لا تستعمل لغير العاقل. والآية الأولى تحوي لفظة (مَنْ) مرتين. واحدة عند ذكر السموات، وواحدة عند ذكر الأرض. وإذا قال أحدهم أن المقصود هو الملائكة في السموات فإن آية أخرى تنفي تلك الفرضية هي:
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (النحل:49-50)
في هاتين الآيتين تأكيد قاطع على وجود خلائق غيرنا في الكون. فالدابة، كما هو معروف لغة، كل ما يدبُّ على الأرض مشياً أو سعياً. ولما كانت الآية تُرجع وصف الدابة إلى تواجد في السموات، كما في الأرض سواء بسواء، فإن مثل هذا الوجود يبدو طبيعياً وممكناً. ثم يأتي بعد ذلك ذكر الملائكة منفصلاً، مضافاً بواو العطف، تضميناً بعبادتهم وسجودهم، ون استكبار. وهذا الفصل بين من ذكرت الآية ممن يسبحون الله في السموات والأرض وبين الملائكة دفعاً للالتباس في الفهم والاستنتاج.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (الرعد:15)
فكلمة (كرهاً) تنفي تماماً أن تكون (مَنْ) العائدة للسموات تعني الملائكة إذ تذكر الآية (49) في سورة النحل الواردة أعلاه أنهم (لا يستكبرون). ومن ثم فهم مشمولون بالتعبير (طوعاً) في الآية (15) من سورة الرعد.
وهذه آيات تقول:
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (الإسراء:44)
لا نفقه تسبيحهم بمعنى أننا لا نسمعه ولا ندركه لأننا لم نؤت القدرة على ذلك بسبب القصور في ملكاتنا وحواسنا. نحن لسنا مؤهلين في الأصل لمثل ذلك.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (مريم:93-95)
(مَنْ) في هذه الآيات تشير إلى كائنات في السموات كما في الأرض على صورة يعلمها الله وحده. والسياق لا يوحي بأن الملائكة هم المقصودون. فالإحصاء والعدّ الفردي يعني قطعاً كائنات أخرى - ربما عاقلة - غير الملائكة. ذلك أن إجراءات كهذه التي ذكرتها الآية تسري على مخلوقات مثلنا (على نحو أو آخر في شبه قريب أو بعيد) لها صفات ومواصفات غير تلك التي للملائكة. أما الملائكة فلابد أن لهم أوضاعاً وحسابات ومقاييس تسري عليهم وحدهم من دوننا نحن وأولئك الذين تشير الآيات لوجودهم في أماكن من الكون.
وهذه آيات أخرى في الشأن نفسه، دلالة على أهميته وتأكيداً على حقيقته.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (الأنبياء:20)
بعد أن تذكر الآية لفظ (مَنْ) في السموات والأرض تردف بالقول (مَنْ عنده)، وهم الملائكة تحديداً. أي أن الكائنات العاقلة التي في السموات والأرض- فضلاً عن الملائكة- لا تستكبر عن عبادة الله. وهذه الكائنات هي غير الملائكة وليست لها صفاتهم.
أدلة قاطعة لا إبهام فيها، ولا شبهة عليها، دليلاً على وجود حياة وأحياء في أماكن من الكون، تتنزَّل الملائكة بينها جميعاً. دون أن تستثني الآية أرضاً منها أو سماء. ولعل العدد هنا (أراضٍٍ سبع) كناية عن التعدد، وليس شرطاً أن يكون تحديداً للعدد بالرقم نفسه، والله أعلم.
أما العلوم الحديثة فتؤكد ذلك على ألسنة، وبأقلام الكثير من العلماء.
يقول ب. جيران (P. Guerin) العالم الفلكي:
(كما هو واضح فالنظم الكوكبية منتشرة في الكون بكثرة شديدة وليس النظام الشمسي والأرض فريدين. ويستتبع ذلك أن الحياة، مثل الكواكب التي تؤويها، منتشرة في كل الكون، في كل مكان وجدت فيه ا لظروف الفيزيقية- الكيميائية اللازمة لتفتحها وتطورها).
وفي الآية التالية دليل قاطع آخر على وجود مخلوقات عاقلة في كواكب أخرى، في أرجاء الكون، بحيث لا تدع مجالاً للشك بحال من الأحوال:
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (الشورى:29)
الدابة مخلوق (يدبُّ) على الأرض – كما أسلفنا- وهي ليست من جنس الملائكة حتماً. والآية تقول أنها موجودة في السموات أي في أماكن أخرى في الكون، كما في الأرض. الآية تضم (الأرض) إلى (السماوات) ثم تنص على (ما بثَّ) (فيهما) من دابة والمثنى هنا يعود للسموات والأرض معاً كما هو واضح.
وكلمة »دابة« لا تعني إلا كائنات حية يشكل الماء العنصر الرئيسي في تركيبها العضوي لقوله تعالى في تعريف دقيق للغاية للدابة المقصودة:
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (النور:45)
والمعاجم تفسر معنى السماء بالقول (كل ما أظلَّك وعلاك فهو سماك). ثم تؤكد لنا الآية بان الله قادر على جمع هؤلاء بأولئك، أي (مَنْ) في السموات مع (مَنْ) في الأرض إذا شاء. بمعنى أن المسالة تتوقف على مشيئته. فهل هناك من دلالة أكثر توكيداً..؟ لا سيما وأن الجمع بين مخلوقات مثلنا لها صفاتنا الفيزيقية غير وارد مع ملائكة هي من جنس آخر وطبيعة أخرى. المرئي لا يجتمع بغير المرئي لاختلاف التكوين. ناهيك عن كنه الملائكة المختلف تماماً عن تكويننا المادي وأجسادنا الفيزيقية.
وفي كتاب اله آيات أخرى قد نفهم منها ما يؤكد هذه الحقيقة، منها قوله تعالى في معرض ذكره لتكريم بني آدم:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الاسراء:70)
إذن فضل الله جلا وعلا الإنسان على (كثير) ممن خلق. ,إذن هناك خلق كثير وتفضيل الإنسان هنا ليس على إطلاقه. صحيح أن هناك آيات تعني تفضيل الإنسان وتكريمه على سائر الخلق في الأرض. ولكننا ندرك من هذه الآية أن هناك مخلوقات أخرى متعددة. الملائكة هم خلق مفضل على الإنسان، ولكن ظاهر الآية يوحي بل يصرح بتعدد، بمعنى ان هناك خلق غير الملائكة لم يفضل الإنسان عليهم، وهذا الخلق ربما كان موجوداً في كواكب وأماكن أخرى من الكون. وقد فضل الله الإنسان على كثير منهم، ولكن من هذا الكثير من هو مفضل عند الله على الإنسان لأسباب لا نعلمها، وعلمها عند بارئ الخلق وحده.
لقد دأب العلماء على البحث والتقصي في هذا الشأن منذ زمن. والأبحاث العلمية الأخيرة أوشكت أن تثبت وجود حياة في كواكب غير كوكبنا الأرضي. ونحن لا نرى بأساً في أن ننقل هنا بعض ما جاء في صحيفة (الوطن العربي)، ـ في هذا الصدد ـ نقلاً عن صحف وتقارير أجنبية، تحت عنوان (كائن حيّ من الفضاء يزور تركيا- والعلماء يتساءلون هل يوجد أحد هناك؟) ما سننقله عن تلك المجلة طويل نسبيّاً، إلا أننا ـ توخيّاً للدقة العلمية والتماساً للحقيقة الكونية ـ نستميح القارئ عذراً عن ذلك. تقول ا لمجلة:
(أنْباء هبوط كائن فضائي على متن طبق طائر في إحدى القرى التركية سيطرت على اهتمامات الصحف وشبكات التلفزيون العالمية. وهذه تقول إن رجلاً تركياً وسيدتين شاهدوا معاً طبقاً طائراً يهبط في منطقتهم الزراعية، ويخرج منه كائن قصير القامة يرتدي ملابس رمادية اللون وحذاء أحمر، وتنبعث من بطنه شعلة كحزمة من الأشعة الفضية. حاولوا التحدث إليه فلم يرد عليهم. وقبل ذلك بأسبوعين قالت وكالة (انترفاكس) الروسية أن السلطات اضطرت إلى إغلاق أحد المطارات في سيبيريا بسبب وجود طبق طائر فوق المدرج الرئيسي للمطار. العلماء يعتقدون الآن أن هناك كائنات حية تزورنا أحياناً، ربما للتعرف علينا وعلى ما نفعله في كوكبنا. وأنه ربما هناك العديد من الكواكب توجد عليها مخلوقات لا نعرف عنها شيئاً، خلقها الله بأشكال وطبائع تتلاءم مع مناخ الكوكب الذي يعيشون عليه.
(والسؤال هنا- والحديث مازال للصحيفة- هل فعلاً توجد مخلوقات أخرى في الكواكب السابحة في الفضاء أم نحن وحدنا أصحاب العلم و الحضارة؟ بجوار التكنولوجيا المتقدمة والمتمثلة في التلسكوبات العملاقة هناك أيضاً المركبات التي تجوب الفضاء، والتي وصلت إلى مدارات المشتري وزحل والزهرة والمريخ (مارينز وفايكنج)، وهبط بعضها بالفعل فوق هذه الكواكب، وأرسلت إلينا صوراً ومعلومات لم نكن نحلم بها يوماً. الفلكيان (د. جافري مارس وبوك باتلر) من جامعة سان فرانسيسكو اكتشفا مؤخراً كوكبين جديدين لم نكن نعرف عنهما شيئاً، لا يدوران حول الشمس التي نعرفها، ولكن حول شموس أخرى في مجموعات شمسية خارج نطاق مجرتنا. يقولان: يبدو أننا لسنا وحدنا في هذا الكون الفسيح، بل توجد حياة أخرى من نوع مختلف على كواكب أخرى، ولكننا لا نعرفها حتى الآن.
وبعد شرح مستفيض لا نرى المجال متيحاً لنا عرضه يقولان:
(يجب أن نعلم أن هذين الكوكبين يدوران حول نجوم مثل الشمس التي تدور حولها الأرض. كما أن كليهما له درجة حرارة معتدلة بما يكفي لوجود الماء. ويقول سائر علماء البيولوجيا أن الماء هو شرط أساسي سابق لنشوء الحياة ثم استمرارها( ).
يقول العالم الأمريكي (هيوبرت ريفز) أن الأرض والشمس والقمر بالنسبة للكون تبدو جميعها وكأنها حبة رمل على شاطئ المحيط. ويقول العلماء إن هناك دلائل علمية تشير إلى وجود حياة فوق سطح القمر (أوروبا) التابع لكوكب المشتري في مجموعتنا الشمسية. ويعود هذا إلى إمكانية وجود مناخ وتربة ملائمة كما هو موجود على سطح الأرض. ولديهم اعتقاد راسخ بأن هناك حياة خارج الأرض لأنه لا يعقل أن يضم الكون ملايين الملايين من النجوم والكواكب التابعة لها من أجل الإنسان وحده. وأن من يعتقد ذلك هو في منتهى الأنانية والغرور. ولقد تم إنشاء مركز علمي على المحيط الهادي بولاية كاليفورنيا، يجلس فيه علماء على مدار الساعة يترقبون أية إشارة قادمة من الفضاء الخارجي، أو من كواكب بعيدة عن كوكبنا. ولكن تبقى المشكلة الحقيقية في سؤال هام: هل هذه المخلوقات قادرة على الاتصال بنا بنفس وسائل الاتصال ونفس الذبذبات أم أن لها طرقاً أخرى للاتصال لا نستطيع حتى الآن استيعابها، وفهم مكوناتها، وبالتالي لا نستطيع التواصل معها؟ تركز الأبحاث الآن على قمر المشتري (أوروبا) وقمر (نيتان) الذي يدور حول كوكب زحل المغلف بالسحب الكثيفة. كما يركز العلماء على بناء تلسكوبات عملاقة لرؤية أعماق الفضاء الشاسع، ومحاولة رصد ما يدور داخل مجرة (التبانة) التي تعتبر الأرض حبة رمل على شاطئها، كما سلف. وكذلك الكشف عما يحيط بنا من مجرات أخرى بعيدة، لأن العلماء أصبحوا واثقين من أن هذا الكون لم يخلق لخدمة غرور الإنسان وحده)( ).
ويمكننا أن نضيف أنه قد سبق لكثيرين، في أماكن كثيرة من بلدان العالم، أن شاهدوا صحوناً طائرة، أو أجساماً فضائية رأوها رأي العين، وأسهب بعضهم في وصفها، وذلك منذ أواسط القرن الماضي.


* * *

تمدد الكون وحركة الأجرام
جانب آخر لا يقل أهمية عما سلف عرض له القرآن الكريم. ذلك أن العلم قد أثبت اليوم بأن المجرات تتسع، وأن الكون يتمدد- كما البالون- باستمرار، وبسرعات هائلة فوق أي قدرة على التصور. وقد رصدت المراصد، ومنها (هابل) في أمريكا سرعات ابتعاد المجرات بعضها عن بعض، بحيث أن الضوء الذي صدر عنها قبل عدد من السنين الضوئية قبل الآن، وصلنا الآن فقط. وفي هذا الشأن تسجل الآية سبقاً معجزاً عمره ما تعلم من القرون.
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (الذريات:47)
ما هي ضرورة القول (إنا لموسعون) إذا لم يكن المعنى هو تمدد الكون أي توسعه؟ بل إن وصف العملية بالتوسع أكثر دقة من وصفه بالتمدد ــ التعبير المعاصر. والآية تتحدث عن حاضر النزول والمستقبل وليس بصيغة الماضي، مما يفيد بأن التوسع مستمر على إطلاقه في المضارع.
يؤكد علماء الفلك أن توسُّع الكون هو أعظم ظاهرة اكتشفها العلم الحديث، وأكثرها إدهاشاً للعلماء ووقوفهم حيارى أمامها.
(حينما رأى الفلكيون في الثلث الأول من القرن العشرين ضوء النجوم ينحاز إلى الطيف الأحمر تساءلوا: هل هذا يعني أن النجوم تتباعد عنا؟ ودار جدل طويل خلال النصف الأول من القرن المنصرم حتى ثبت للعلماء أن الكون الذي نحيا فيه دائم الاتساع. وذكروا بأن من صفاته الحالية أنه كون مستمر في الاتساع. ولذلك تتباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض بسرعات تقترب من سرعة الضوء( ).
حتى عجزنا وقصور مداركنا وحواسنا عن استيعاب أبعاد الكون وآماده ومكوناته يشير إليها القرآن في مواضع كثيرة. كقوله تعالى:
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ(الملك:3-4)
وقوله تعالى:
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (الكهف:51)
ثم تمضي الآيات إلى الكشف عن ظواهر كونية- فلكية أخرى، خاصة بمداري الشمس والقمر وحركة الأرض. فالآيات تعلِمُنا بوجود مدار لكل من الشمس والقمر والأرض، وتنقُّل كل منها في الفضاء، بحركة خاصة به ومدار له محدَّد.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (الأنبياء:33)
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يّـس:40)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (الحج:61)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (الزمر:5)
وآيات أخرى كثيرة تشير إلى حركة الأجرام السماوية وإلى مداراتها كل منها حسب موقعها.
تكوير كل من الليل والنهار على الآخر هو الوصف الدقيق للحالة الكونية- الفلكية لطبيعة الحركة بين الأرض والشمس، كما هو واقعها تماماً، وتداخل كل منهما مع الآخر نتيجة لتلك الحركة وكروية الأرض. وهذه حالة مثيرة للخيال. إذ يفهم منها أنه في كل لحظة من ساعات اليوم الأربع والعشرين تغيب الشمس عن مكان لتشرق فيما يحاذيه تماماً بسبب التكوير، وعلى مدار الوقت الأزلي. وقد شاهد هذه الظاهرة الفلكية رواد الفضاء أجمعون. إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، في تداخل متصل، وصف يحدد كروية الأرض ودورانها حول نفسها تماماً. أمور لم تكن معروفة على الإطلاق يوم تنزل القرآن على رسول الله.
المفسرون القدامى لم يفطنوا إلى هذه الحقيقية بطبيعة الحال وطبيعة العصر.
يقول موريس بوكاي:
(في إحدى الآيات، وعلى ضوء المعارف الحديثة نجد مستحيلاً أن يكون المقصود بها إلا الأجرام السماوية التي نعرف أنها كواكب. إذ تقول الآية 6 من سورة الصافات (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب). ترى أيشير تعبير القرآن (السماء الدنيا) إلى النظام الشمسي؟ المعروف أنه ليس هناك بين العناصر السماوية الأكثر قرباً منا عناصر أخرى دائمة سوى الكواكب.
والشمس هي النجم الوحيد في ذلك النظام الذي يحمل اسمها. وعلى ذلك فإن التفسير المعطى يكون صحيحاً. كما يبدو أيضاً أن القرآن يذكر وجود الكواكب على حسب التعريف الحديث)( ).
ويضيف بوكاي في مكان آخر بعد مقارنات يعقدها عن حركتي الشمس والقمر وسباحتهما في الفضاء:
(ويظهر أن هناك فرقاً كلاميّاً دقيقاً يشير فيه القرآن إلى الحركات الخاصة لكل من الشمس والقمر. ولقد أكد العلم الحديث حركات هذين الجرمين السماويين، ولا يمكن تصور أن رجلاً في القرن السابع الميلادي قد استطاع تخيُّل هذا مهما يكن عالماً في عصره، وليس ذلك حال محمد صلى الله عليه وسلم.. من وجهة النظر العلمية والعلمية فقط نجد في القرآن ذكر عديد من الموضوعات المتعلقة بالمعارف الحديثة دون أن تكون به أي دعوى مناقضة لما أثبته العلم في عصرنا) ( ).


* * *

كروية الأرض
يقول تعالى:
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (الحجر:19)
المدّ معناه البسط. ولكن أي بسط. لم تحدد الآية أرضاً بعينها. بل تركت كلمة الأرض على إطلاقها. بمعنى أنك حيثما تكون من الأرض فهي أمامك منبسطة. وهذا لا يحدث إلاّ أن تكون الأرض كروية. فلو كانت غير ذلك (مثلثة أو مربعة مثلاً) فإنك ستصل عندئذٍ إلى حافة، ثم الفضاء بعد ذلك، فهل هذا هو الحال، أو ما يمكن تصوره عقلاً؟ فهم بعضهم أو هو استنتج من قوله تعالى (والأرض مددناها) أي أنها منبسطة وغير كروية مما يناقض الواقع علماً وتجربة. أما الذين فهموا النص قرأوا فيه إعجازاً حين جمع بين ظاهر الأمر (انبساط الأرض) والحقيقة الكونية (كرويتها). وكان القرآن بهذا أول كتاب يذكر أن الأرض كروية. بمعنى أن ظاهر الأمر لنا هو انبساطها وامتدادها كما نراها ونحن نعيش على ظهرها في حين أنها كجرم كوكبي ليست كذلك، بل هي كروية الشكل.
أما في مسألة دوارنها حول نفسها فتقول آية أخرى (من بين آيات كثيرة):
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (الزمر:5)
الليل والنهار خلقا على هيئة التكوير فيما يتعلق بكوكب الأرض. من ثم لابد وأن يكون نصف الكرة مظلماً ونصفها الآخر مضيئاً بالتتابع المتواصل، بدليل آية تقول في شأن حركة الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس:
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل:88)
وفي قوله ((تحسبها جامدة)) أي أنه يخيل إليك أنها جامدة واقفة في مكانها لا تتحرك، في حين أن الواقع غير ذلك. لقد خفي عن أبصارنا رؤية حركة الجبال لأنها تتحرك مع كتلة الأرض فتبدو من موقعنا منها جامدة. الجبل يتحرك مع الأرض ولا يتحرك من مكانه لأن الجبال (رواسي) و(أوتاد) لحفظ توازن الأرض كيلا (تميد) بمن عليها. يقول تعالى:
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (النحل:15)
ويقول:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (النبأ:6-7)
وهذه آيات واضحة الدلالة تضيف إلى فهمنا ما لا يدع سبيلاً إلى غير الإيمان والاقتناع بأن هذه هي حقاً كلمات الله التي أنبأتنا بكل هذا قبل عصر العلم والاكتشافات العلمية بقرون طويلة، وقبل أن يخطر ببال أحد من معاصري نزول القرآن بأن العلم سوف يأتي بهذه الحقائق المصدقة لما بين يدي كتاب الله. وهذا هو الإعجاز عينه، وهو الدليل نفسه على أن هذا القرآن تنزل على محمد عليه السلام وأن آياته تتكشف للبشر واحدة إثر أخرى على مر الزمن. وهذا الإعجاز، في حدِّ ذاته، ما بعده إعجاز.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يّـس:37-40)
حول هذه الآيات يقول موريس بوكاي:
(إن الشمس تضيء بشكل دائم ــ فيما عدا فترات الخسوف ــ نصف الكرة الأرضية التي تقع أمامها، على حين يظل النصف الآخر مظلماً. وقد رأى روَّاد الفضاء هذا وصوروه من مركباتهم الفضائية من بعد بعيد عن الأرض.. من على القمر مثلاً. وبدوران الأرض حول نفسها على حين تظل الإضاءة ثابتة، فإن المنطقة المضاءة منها – وهي على شكل نصف كروي- تؤدي في أربع وعشرين ساعة دورتها حول الأرض، على حين يتم النصف الآخر المظلم في نفس الوقت نصف الرحلة. والقرآن يصف بشكل كامل هذه الدورة التي لا تكف أبداً للنهار والليل. وهي اليوم يسيرة على الإدراك الإنساني. هذه العملية الدائمة في التكوُّر مع الولوج المستمر لقطاع في آخر، يعبر القرآن عنها، وكأن اكتشاف استدارة الأرض كان قد تم في عصر تنزيل القرآن، وبالطبع لم يكن هذا قد حدث بعد)( ).
كما إن القرآن يصف تعدُّد المشارق والمغارب في سياق دعوته. الإنسان للإيمان بما يكشف له من أسرار الكون وخفاياه، إذ تقول الآيات:
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (المعارج:40)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (الرحمن:17)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة:115)
الشمس تشرق من مواضع مختلفة وتغرب في مواضع مختلفة. إن العلامات التي تتخذ على كل من الأفقين تحدد نقاطاً قصوى تشير إلى مشرقين ومغربين توجد بينهما نقاط على مدار السنة. وهذا الذي ورد في القرآن نقله إلينا محمد عليه السلام هو ما يتطابق مع المفاهيم العلمية الحديثة.
أما عن تعدد المشارق والمغارب ــ بصيغة الجمع ــ فهو تَغيُّر مواقع الشروق والغروب على مدار السنة حسب حركة الشمس وعليها بنوا خطوط الطول والعرض. ونحن نلاحظ هذه الفوارق في ذلك التغيير واختلافها بين الشتاء والصيف وما بينهما، وفي طول ساعات الليل والنهار، تطول حيناً وتقصر حيناً بما يعني أنه ليس للشمس مشرق واحد ومغرب واحد وإلا تعادل طول الليل مع طول النهار لو كان المشرق واحداً يقابله مغرب واحد مادام موقع الشروق وموقع الغروب ثابتاً لا يتغير. حقائق وحسابات سجلها العلم حديثاً (الانقلاب الربيعي والانقلاب الخريفي نموذج معروف عن هذا مؤكداً تعدد المشارق والمغارب).
كما أنها تعني أيضاً مشارق ومغارب كواكب أخرى غير أرضنا، فهي جميعاً لها مشارق ومغارب بطبيعة الحال، إذ ليس الأمر مقتصراً على أرضنا وحدها أو على مجموعتنا الشمسية وحدها.
ومن الظواهر الكونية العجيبة، ذات الدلالة على كروية الأرض، وهي في الوقت عينه، واحدة من آيات الله التي تتجلى فيها عظمة قدرته، تلك هي ظاهرة الظل والآيات التي أشارت إليها، داعية البشر إلى النظر فيها مبتدئة ــ كما في آيات كثيرة ــ الدعوة بالتساؤل ((ألم تر)). يقول تعالى في شأن الظل:
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (الفرقان:45)
قد يتساءل بعضهم: وماذا يعني (مدّ الظل) ولماذا يضرب الله به مثلاً.. إذ تبدو لهم هذه المسألة لا خطر لها أو أعمية جديرة بالذكر. ولكن الله سبحانه لا يضرب أمثالاً هامة وأخرى أقل أهمية. كل مثل يضربه لنا له من الخطورة والأهمية ما لو أمعنا فيه النظر لأدركنا أبعاده وآماده، التي قد تصل إلى كينونتنا ذاتها وإلى وجودنا على ظهر الأرض، ومعنا سائر الكائنات والمخلوقات. هذه الآية لو نظرنا فيها مليّاً كما تطلب منا بالتساؤل (ألم تر) لأدركنا الأبعاد الخطيرة المنطوية عليها. وقد يتساءل المرء أحياناً كيف يمكن أن تكون هناك شمس تشرق ثم ترتفع في كبد السماء ثم تمضي حثيثاً إلى أن تغرب ولا تكون هناك ظلال تخلفها سواء للإنسان أو الأشجار أو المباني، ومواقعهم منها في هذا الوقت أو ذاك من ساعات النهار.
طلعت علينا الأنباء العلمية منذ وقت ليس ببعيد تقول بأن كوكب عطارد وهو أحد كواكب مجموعتنا الشمسية، يعطي الشمس وجهاً واحداً دائماً، ومن ثم فإن نهاره سرمدي على هذا الوجه وليله سرمدي على الوجه الآخر. وكذلك القمر (قمر الأرض). ومن ثم لا تكون هناك ظلال ولا تكون هناك حياة أصلاً لكائنات. فلو حدث هذا للأرض لما وجدنا على ظهرها، ولا وجدت سائر المخلوقات والكائنات قط. وذكر الشمس هنا للدلالة على أنها دليل الظل وهي مسبِّبته عن طريق حركتها (الظاهرية) في يومنا، وتعاقب الليل والنهار بما يمكننا من العيش على الأرض. وفي مكان آخر من كتاب الله نقرأ آيات أخرى تؤكد هذا المعنى، وكأنها تقول لنا إن هذا كان يمكن أن يحدث، وأن تكون الأرض كعطارد والقمر، وربما كثير غيرها في كون الله الواسع الآماد والأبعاد، وكان من فضله ونعمته علينا أن أعطانا ما نحن عليه في نظامه الكوني وقدره للأرض وأي نظام أراد لها. تقول الآيات (وقد سبق أن أوردناها في مكان ومقام آخر من الكتاب حيث تطرقنا إلى ظاهرة تعاقب الليل والنهار:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (القصص:71-73)
أرأيت إلى خطر آية الظل وعظيم شأنها التي قد لا تبدو أهميتها كذلك للوهلة الأولى لمن لا يتدبر ولا يتفكر؟
والآيات هذه التي أدرجناها تعرض براهين للإنسان على وحدانية الخالق من خلال عرض الأمثال والنماذج التي تقطع الشك باليقين.
ترى من أدرى محمداً بهذا كله؟ أيكون هذا من عنده؟ أليس مثل هذا الظن من خطل الرأي وعمى البصيرة؟


* * *

أقطار السموات
عندما جاء (ج هـ ويلز) الكاتب البريطاني، بتخيلات عن الفضاء في أوائل القرن الماضي (ومثله جول فيرن)، دهش الناس، ولاسيما عندما تحققت بعض تخيلاتهما التي اصطلح، فيما بعد، على تسميتها (بالخيال العلمي). ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم جاءنا بآيات، من قبل ذلك، تخبرنا عن غزو الإنسان للفضاء، في المستقبل.
يقول تعالى منبئاً إيانا بأمرٍ سيحدث في قادم الأيام، وقد تحقق بالفعل بعد أربعة عشر قرناً:
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ. فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (الانشقاق:16-20)
ترى هل هناك ما هو أكثر وضوحاً وأشد تأكيداً من هذا الوعد: (لتركبن طبقاً عن طبق) في صيغته المستقبلية؟ وإلا فما معنى التأكيد بالقسم على حتمية وقوع هذا في عصر لم يكن أهله يعرفون شيئاً عن الأطباق و(الأطباق الطائرة)؟ أليست الأقمار الصناعية والسفن الفضائية حين تنطلق إلى الفضاء إنما تنطلق على مراحل تُخلِّفُ كل واحدة منها وراءها طبقاً (صاروخاً) ينفصل عنها للتخفيف من حمولتها، ولتزيد من قوة دفعها وانطلاقها؟
والمدهش أن الآيات التي سبقتها تتحدث عن (الشفق)، والليل (وما وسق) والقمر (إذا اتّسق). إذن هي تتحدث عن الفضاء وما سوف يستجد مستقبلاً في شأنه.
وهذه الآية التي نعيد ذكرها هنا حول التصريح للإنسان بالنفاذ إلى الفضاء (أقطار السموات والأرض) عندما تمكنه الظروف من ذلك، عن طريق العلم ووسائله وآلياته التي سوف يتوصل إلى ابتكارها. وهو ما حدث في زماننا هذا. تقول الآية الكريمة:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33)
واستطاع الإنسان بالفعل النفاذ إلى أقطار من السموات قريبة نسبيّاً، عندما تمكَّن من الانفكاك من الجاذبية الأرضية.. دار الإنسان حول الكرة الأرضية لأول مرة في أواخر الخمسينات. وكان الرائد الأول روسياً هو (يوري غاغارين). كما سبقت الإشارة إلى هذا السلطان الذي امتلكه الإنسان للنفاذ من أقطار الأرض هو قوة الصاروخ، وعلوم التكنولوجيا الحديثة. كما استطاع الإنسان الصعود إلى القمر والنزول على سطحه عام 1967 (نيل آرمسترونج – وزميله) وقد تزايدت أعداد رواد الفضاء من مختلف الجنسيات منذ ذلك الحين. والمحاولات للنزول على سطح كواكب أخرى ما زالت جارية. أما السفن الفضائية ــ غير المأهولة ــ فقد نزل منها عدد محدود على كواكب كالمريخ والزهرة، في حين اقتصر بعضها على الدوران حولها وعلى مقربة منها، كالمشتري ونبتون.
وتقول آية أخرى في السياق ذاته أو قريباً منه:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصلت:53)
يعدنا الله سبحانه في هذه الآية بأن الإنسان سوف يحقق إنجازات علمية، وأن الناس سوف يرونها في وقتها، لكي تكون شاهداً على صدق ما جاء به محمد عليه السلام:
من هذه الآيات أيضاًَ واضحة الدلالة مؤكدة على هذا المعنى، أي إنباء القرآن بما سوف يحدث مستقبلاً قوله تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (صّ:87-88)
لكم هو مدهش هذا التعبير إشارة إلى أنباء العلم التي ستجيء بعد حين من زمن التنزيل. وكما هو واضح أن الخطاء موجه بصيغة الجمع للمضارع ــ المستقبل ــ إلى الرسول والناس في زمانه.
ولأن العلم لم يكن قد توصل بعد إلى تحقيق هذه الإنجازات، جاءت الآية من سورة (فصلت 53) بصيغة المستقبل نبوءة (سنريهم). وهي تخاطب ناس ذلك الزمان الذين لم يكن يخطر لهم على بال أو ما يملكون من خيال، ما سوف يتمخض عنه المستقبل الآتي في القرون التي ما برحت طيَّ الغيب. كذلك شأن (ولتعلمنَّ) نبأه (بعد حين) (من سورة ص)، أي بعد زمن من الآن. كما تحدثت الآيات عن (الآفاق) وليس عن أفق واحد. عن آفاق سيرتادها الإنسان. والآيات هنا بمعنى العلامات والحقائق والظاهرات الكونية والإنسانية.
كيف عرف محمد عليه السلام أن ذلك سوف يحدث في المستقبل البعيد البعيد؟ وأن الناس يومئذ سوف يعرفون الكثير- كما تقول الآيات- عن أنفسهم التي هي في حد ذاتها لغز وأي لغز. لسوف يعرفون- مع ذلك- خفايا النفس، أو شيئاً من هذه الخفايا والمكنونات، على الأصح. كما سيعرفون أسرار الجسد الإنساني، أو بعضها أيضاً. ما توصلت إليه الأبحاث العلمية مؤخراً في الشؤون الطبية والبيولوجية والفيزيائية وغيرها كالجينات، والكروموزومات، والحمض النووي، وعمل الخلايا وتكوينها، وخصائص الدم ومكوناته، وخلايا الدماغ، والأعصاب، ذلك كله لكي يتبين للناس أن الله هو الحق، وهو الشاهد على كل ذلك العليم به. وهنا نلاحظ أن هناك مزجاً، أو لنقل ربطاً، بين ما هو فلكي كوني وما هو إنساني:
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (الحجر:14-15)
تخبرنا الآيتان عن الدهشة التي سوف تلم بمن سيرتادون الفضاء – وهو ما حدث بالفعل لكافة رواده- لما يبدو لهم من ظواهر ومشاهد كونية غريبة تأخذ بالألباب كفعل السحر. وهل هناك تعبير أكثر وضوحاً مما تشير إليه الآية (فتح باب من السماء)- أي الفضاء يعرجون فيه، أي يصعَّدون إليه تدريجاً. وهذا يشير أيضاً إلى ممارسة واقعية بالجسد وليست خيالية أو روحية.
ولقد ثبت عن طريق الرواد والسفن الفضائية، أنه على مبعدة مائتي كيلو متر في الفضاء يكون نور الشمس على الأرض ساطعاً كما نعرفه. أما الذين تجاوزوا هذا البعد فإنهم يدخلون في ظلام كوني، وتظهر لهم الشمس قرصاً منيراً وسط تلك الظلمة الفاحمة، حتى لو كان الوقت نهاراً على الجانب المواجه لهم من الأرض. ولقد قال أحد الرواد الذين تجاوزوا (المائتي كيلو متر) هذه تعبيراً عن دهشته لتلك الحالة الفريدة، هذه الجملة بالنص كما نقلت عنه:
قال : (كأني فقدت بصري لحظةً عندئذٍ واعتراني شيء من السحر)(*)
وكما نرى أن الجملة التي صدرت عن الرجل تنطبق تماماً على وصف الآية الكريمة للحالة الظاهرة، بل تكاد أن تكون الكلمات ذاتها. وهو لم يكن عربياً ولا مسلماً. كان روسياً، وليس لديه أيّ معرفة بالقرآن ولا بأصحابه. والعروج في السماء هو الصعود التدريجي. وفتح أبواب السماء هو الخروج من الجاذبية الأرضية، ومن سقف الأوزون الذي تصفه الآية (السقف المحفوظ)، والولوج إلى عالم الفضاء الفسيح الغامض بالنسبة لنا كبشر.
ونحن عندما نقابل النص القرآني بالمعطيات العلمية الحديثة كيف لا تعرونا الدهشة، فلا ننبهر بتلك التحديات، التي لا يمكن افتراض صدورها عن فكر إنساني صرف عاش قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.
يقول وحيد الدين خان( ):
(رغم نزول القرآن قبل قرون كثيرة من عصر العلوم الحديثة، لم يتمكن أحد من إثبات أو اكتشاف أية أخطاء علمية فيه. ولو أنه كان كلاماً بشرياً لكان هذا ضرباً من المستحيل. لم يطرأ على مقال القرآن أي تغير رغم انقضاء قرون وعصور طويلة. وهذا في نفسه دليل على أن منبعه عقل جبار يحيط بالأزل وبالأبد علماً. وهو يعلم سائر الحقائق في صورها النهائية من جهة، والحقيقية من جهة ثانية، ولا يخضع علمه ومعرفته لحواجز الزمان والمكان والأحوال. ولو كان هذا الكلام صادراً عن بشر محدودي النظر والعلم، لكان الزمان قد أبطله منذ عصور عديدة، كما يحدث لكل كلام إنساني في مستقبله).
وآيات تعرض لمسائل لم تعرف إلا حديثاً – نسبياً- كالجاذبية التي اكتشفها (إسحاق نيوتن). وكيف كان ذلك؟
كان الرجل يجلس تحت شجرة تفاح، سقطت إحدى حباتها مصادفة أمامه. شرع يفكر في سبب سقوط التفاحة، هكذا من تلقاء نفسها- كما يبدو ظاهرياً- وليس بسبب ريح هبت في تلك اللحظة. إلى أن توصل بعد تجارب عمد إليها، أوصلته نتائجها إلى حقيقة قانون (الجاذبية الأرضية). وسمي ذلك، في حينه، اكتشافاً علمياً عظيماً.
الجاذبية- كما بات معروفاً- هي التي تعمل على بقاء الأجرام السماوية- من كواكب ونجوم ومجرات- في مواقعها دائرة في أفلاكها. وهي عماد الانتظام لتلك المدارات قاطبة. ولئن كانت الآيات لا تسمي الأشياء بأسمائها دائماً، والتي أصبحنا على معرفة بها، وذلك لأسباب بلاغية يقتضيها المستوى اللغوي البلاغي في القرآن، فتعمد من ثم، إلى التشبيه، والترميز، والإشارة، والكناية والمجاز وغيرها من أساليب القول والبيان، فهي تترك لنا التفسير والبحث عن المعنى، حفزاً لعقولنا على العمل والتدبر، سعياً للوصول إلى المقصد. من هنا يمكننا القول بأن القرآن علَّمنا وعرَّفنا على الرمز قبل أن يعرفه الرمزيون في الأدب، ودلالات الألفاظ على المعنى، قبل أن يعرفها البنيويون واللسانيون بزمن طويل.
تقول آيات كريمة في هذا الشأن:
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (الرعد:2)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (فاطر:41)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم. ٍهَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (لقمان:10-11)
تحدٍّ آخر مفحم.. (هذا خلق الله).. (فأروني ماذا خلق الذين من دونه). ويسائل المرء نفسه:
إذا كانت السماء مرفوعة بغير عمد كما نراها، فما الذي يمسكها إذن إن لم تكن الجاذبية؟ لاسيما وأن الأفلاك (تجري) تدور في مداراتها فتتولد الجاذبية من حركتها. أما الرواسي التي هي الجبال- كما في آيات كثيرة- فوظيفتها استقرار الأرض ومنعها من أن تميد بمن عليها، إذ هي تجري أيضاً ولا تمسكها إلا قوة الجاذبية، بقدرته تعالى وحسب سننه ونواميسه ومشيئته. فالأرض تدور في فلكها بفعل الجاذبية حول الشمس. كما أن القمر تمسكه جاذبية الأرض التي يدور في فلكه حولها. تسري هذه القاعدة الكونية على سائر الأفلاك، بطبيعة الحال، بوصفها من سنن الله في الكون.
والآيات في ظاهرة إرساء الأرض بالجبال كثيرة (عشر آيات). ولم تعرف هذه الحقيقة علمياً أيضاً إلا منذ ثلاثة عقود. والجبال تتحرك مع دوران الأرض حول محورها، وتتحرك معها قيعان البحار والمحيطات والجبال تثبت بامتداداتها العميقة كتل القارات، ومن ثم تستقر الأرض ولا تميد. والظاهر من الجبل فوق سطح الأرض يمثل ثلث كتلة الجبل فقط، والثلثان الآخران في الأعماق. فهي إذن أشبه بالأوتاد كما تصفها الآيات القرآنية تماماً. يقول تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (النبأ:6-7)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (النازعـات:31-32)


* * *

بدايات الكون ونهاياته
وإذا كانت هناك آيات تصف بداية الخلق والكون والكائنات فهناك آيات تصف النهايات لهذه جميعاً. عن البدايات يقول تعالى:
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (نوح:15)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر:49)
أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (مريم:67)
الكون حادث بمعنى مخلوق. ولكن متى خلق الله الكون، علم ذلك عنده وحده. للكون إذن بداية. ووجود الخالق لاريب فيه، لأن ما من شيء وجد من تلقاء نفسه. والمنطق الجدلي يفترض: مادام هناك مخلوق فللمخلوق خالق، كما أن للمصنوع صانع وللنظام منظِّم واضع له؟
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الحديد:3)
ثم يأتي بعد ذلك مباشرة، أي بعد إثبات وجوده الأزلي السابق لوجود الكون يأتي بعد ذلك قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد:4)
ويقول تعالى:
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (الأنعام:101-102)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (طـه:55)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت:20)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ. الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (الملك:2-3)
الآيات في شأن الخلق كثيرة جداً، نجدها في ثنايا كتاب الله، في كثير من السور. وقد سبق لنا أن أوردنا بعضاً منها في الفصول السابقة حيثما اقتضت المناسبة في البحث. وهي حيناً تتحدث عن خلق الكون (السموات والأرض وكل ما في الكون)، وحيناً في خلق الإنسان والكائنات الحية عموماً، فضلاً عن حاجاتها ومقومات بقائها.
ولما كانت للكون بداية، فلابدَّ من أن للكون نهاية.
أما عن النهاية فالآيات كثيرة جداً أيضاً، منها قوله تعالى:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (إبراهيم:48)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (النمل:87)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الأنبياء:104)
أجمع العلماء على أن هذا ممكن بعد اكتشافهم ما أسموه (الثقوب السوداء) التي قد تبتلع الكرة الأرضية، التي تصبح لحظتئذٍ في حجم كرة القدم لشدة كثافتها. هذه صورة تبدو فوق مداركنا. ولكن دراساتهم تقول أن هذه أصبحت حقيقة ثابتة علمياً.
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(القيامة:7-9)
وهذه الآية تصور تهاوي الأجرام واصطدامها بفعل انجذاب الأصغر للأكبر كما يحدث للقمر الذي سيصطدم بالشمس فيتلاشى.
هذا الكون إذن إلى اندثار بكواكبه ونجومه ومجراته وسائر أجرامه:
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (الانفطار:1-4)
تنشق السماء، وتتناثر الكواكب وتتفجر البحار بالبراكين وتبعثر القبور. السورة نفسها تحمل عنوان (الانفطار) ذي المدلول الواضح الرهيب.
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (التكوير:1-6)
صور رهيبة تجسد النهاية المرتقبة للأرض، ولغيرها من أفلاك في نهاية المطاف. وتكون هذه النهاية عودة إلى البدء لما كان عليه الكون قبل التشكل التالي لتلك البداية مصداقاً لقوله تعالى:
.. كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الانبياء:104)
ويقول تعالى:
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (قّ:15)
نظرية علمية حديثة تقول بأن الاندماج لعناصر النجوم يحدث لكثير منها، فيصغر حجمها إلى حدٍّ يفوق تصوراتنا، ولا تتسع له ملكة التخيل عندنا وهذه ــ كما سلفت الإشارة ــ تسمى (الثقوب السوداء). وهذه الثقوب السوداء أشارت إليها الآيتان: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (التكوير:15-16). النجوم والكواكب سوف تتجاذب وتتقارب بعد أن يبلغ اتساع الكون مدى يشاؤه الله، لتعود الأجرام كلها كتلة واحدة، تماماً كما كان عليه حالها عند البداية، حين كانت كتلة واحدة انفجرت فيما يعرف اصطلاحاً بالانفجار العظيم (Big Bang). أي أنها كانت رتقاً (كما تقول الآية) قبل أن تتفتق (كما تقول الآية أيضاً) وتتناثر وتتوزع في أرجاء الكون.
وهذه آيات أخرى في السياق والظاهرة معاً نضيفها إلى ما سبق ذكره لمزيد من البيان.
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً. لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً (طـه:105-107)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (الدخان:10-11)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً. وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً (الواقعة:4-6)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً. وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (النبأ:17-20)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ.  (الحاقة:13-16)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (القمر:50)
يتحدث العلم اليوم عن جزء من مليون من الثانية.
فلمح البصر إذن حقيقة كونية خاضعة لأمر الله. هي سرعة متناهية في الصغر، شاء الله أن يقربها لمداركنا حين وصفها بلمح البصر.
وإذا كان علماء الفلك قد أثبتوا في النصف الأول من القرن العشرين مسألة توسع الكون- كما سلفت الإشارة إلى ذلك- بيد أنهم أضافوا أن هذا التوسع لا يستمر إلى مالا نهاية، وإنما سيأتي وقت تتناقص فيه عملية الطرد إلى الخارج، والتي نتجت في الأصل عن الانفجار العظيم. وسيؤدي ذلك إلى تناقص قوة الجاذبية. وعندها يبدأ الكون في الانكماش والالتحام على ذاته، حتى تتكدس كل مادة الكون وسائر طاقته. كما يتلاشى كل من الزمان والمكان في جرم متناهٍ في الصغر حتى يكاد أن يقترب من الصفر أو العدم، شبيه تماماً بالجرم الابتدائي الأول الذي انفجر فخلق منه الكون. يسمون تلك العملية (بالانسحاق الشديد). وهنا نعود إلى الآية الكريمة التي أوردنا من سورة (الأنبياء 104). ولا يحدث هذا اضطراراً، أو كضرورة حتمية تحدث من تلقاء نفسها بحكم تلك الضرورة، وإنما يحدث بتدبير من مبدع الكون سبحانه.
فأي إعجاز هذا الذي سبق القرآن إليه عصر هذه الكشوف العلمية جميعاً بأربع عشرة قرناً؟
تلخص الأمر كله – لكي يعرف الإنسان أي مصير ينتظر البشرية ومعها الكائنات والأكوان جميعاً- الآيتان:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ (الرحمن:26-27)
مشاهد النهاية هذه مثيرة لتصورات مرعبة، لا يملك الإنسان أمامها سوى الوقوف خاشعاً، مسلِّماً لمشيئة الله وقضائه وقدره.
فمن أدرى محمداً عليه السلام بهذا كله في ذلك الزمن البعيد غير بارئ الكون؟


* * *

حداثة الكون والخلق
شواهد طبيعية كثيرة تثبت أن الكون لم يكن موجوداً منذ الأزل. كما تثبت الدراسات أن له عمراً محدوداً، فعلم الفلك يقرر أن الكون الذي يتسع بالتمدد الدائم – كما أسلفنا- وأن مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة فلكية تفوق الخيال. والعلماء متفقون ومجمعون على أن للكون نهاية. ولكن متى؟ هذا ما لم يتسنَّ لهم الوصول إليه. بعضهم جاء بنظريات، غير أن أحداً لم يزعم أن لديه علم ذلك على وجه اليقين. يقول جلَّ من قائل:
يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (لأعراف:187)
يقول تعالى تأكيداً على ذلك:
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (الأنعام:134)
ومن أدرى محمداً- غير ربه- بعظمة مواقع النجوم وخطر شأنها في ذلك العصر، وهو يروي ما يتنزل به عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (الواقعة:75-78)
يقول عالم فلك أمريكي في تحقيق علمي حديث:
((وهكذا أثبتت البحوث العلمية- دون قصد- أن لهذا الكون بدايةـ فأثبتت تلقائياً وجود الإله، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته (من تلقاء نفسه). لابد أن يحتاج إلى المحرك الأول. الخالق الإله))( ).
هذا بحث لا ينتهي عند نقطة محددة، فالعلم يكتشف كل يوم جديداً.. وآيات الله لا تنفد أبداً، حتى لو كان البحر، وسبعة أبحر من مثله مداداً. ويخاطب الباري عز وجل، الجاحدين والمنكرين، بقوله:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان:4-6)
الله وحده يعلم السر في السموات والأرض، وسيظلّ الأمر كذلك، مهما حاول البشر في أبحاثهم ودراساتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. يقول كثير من العلماء إن ما توصل إليه العلم حتى الآن ــ على أهميته البالغة ــ ليس أكثر من نقطة في بحر ما.
آيات كثيرة جداً تتحدث عن هذه الحداثة، عندما تنص على خلق السموات والأرض، وسائر ما تحوي من عناصر وكائنات وخلائق، تعمم حيناً وتخصص حيناً، لكي يقتنع الإنسان بالرؤية العيانية، مستخدماً حواسه، وبالإدراك الفكري والمنطقي، مستعيناً على ذلك بما وهبه الله من عقل. بمعنى أن الخلق هو (استحداث) شيء غير موجود في الأصل. يقول تعالى في آية واحدة جامعة مانعة، من بين آيات تحفل بها صفحات كتابه العزيز:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (لأعراف:54)
ويقول تعالى في آيات أخرى:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (السجدة:7)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (الكهف:51)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (إبراهيم:20)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(البقرة:164)
آية واحدة في سطور قليلة حوت من المعاني ما لا تتسع له مجلدات لو أرادت الحديث عن كل واحدةٍ من موضوعاتها. لقد بدأت بمسألة الخلق، ثم مضت تحكي عما استتبع ذلك من تطورات وظاهرات كونية، وأخرى حياتية تخص الإنسان وسبل عيشه على الأرض، وما هيأ الله له ولغيره ممن خلق على ظهرها من أسباب الحياة. وسائر ما ذهبت إليه الآية مُحدَث من قبل الله من غير سبق. وغاية الآية من وراء ذلك أن يتفكَّر البشر من ذوي العقول في آيات الله الكونية ومعجزات خلقه، لكي تكون عبادتهم لله عن وعي ويقين تلك العبادة التي خلقهم من أجلها:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذريات:56)
ويخاطب الله رسوله قائلاً جلّ من قائل في شأن التنزيل:
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل:102)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (الكهف:1)

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 07 : 08 PM   رقم المشاركة : [17]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الثالث عشر
الروح والحياة بعد الموت



[align=justify]
الروح والحياة بعد الموت
لم يتعرض كتاب من قبل، ولا من بعد، لثنائية الحياة والموت بشمولية وإحاطة، لا يعتريها الخطأ، كما تعرّض لها كتاب الله. وكانت هذه من صلب العقيدة في الإسلام. لهذا فإنك ستجدها منبثَّة في أكثر سوره باقتضاب أو بتفصيل. أما في شأن الروح، محور الارتباط بين إقنيمي الحياة والموت، فإن القرآن اقتصر على جواب حاسم وقاطع، معلناً أنها من أمر الله وحده، وأبقى سرَّها خفياً عنا لحكمة أرادها، حين لم يفصح عنها كتابه بأكثر من ذلك. بيد أنه أشار في الوقت نفسه، إلى أن البشر لم يؤتَوْا من العلم إلا قليلاً، مما يجعل من المتعذر عليهم معرفة حقيقتها وإدراك ماهيتها. ربما لأنها أعقد، أو أكبر، أو أهم، أو أقدس من أن تحيط بها مداركهم المحدودة، أو تفقه أمرها عقولهم القاصرة، التي ليس من وظيفتها ولا من طبيعتها القدرة على الخوض في شأنها. وربما لأن الروح عنصر سماوي، وليست ذات طبيعة مادية، فلا ينطبق عليها وصف دنيوي مما نعرف، ولا تقع ضمن حدود مدرَكات الحواس والعقل البشري، وما يملك البشر من مفردات اللغة والكلام والقاموس. هي من ماهية مختلفة، وعقولنا خلقت وبرمجت لإدراك المعارف ذات الصلة بحياتنا في دنيانا. أما ما وراء ذلك، وما قصرت العقول عن إدراكه بحكم محدودية تكوينها فقد جاءت به الرسالات السماوية، تبليغاً وإعلاناً عن وجوده غير المدرَك، عن طريق الرسل والأنبياء من البشر، والرؤى الصالحة والإلهام الصادق.
وقد ذهب نفر من المفكِّرين والمفسِّرين إلى أن الناس، عند نزول القرآن لم يكونوا قد بلغوا من العلم ذلك الشأو الذي يؤهلهم لإدراك خفايا الروح، وغوامض أسرارها. يخلصون من ذلك إلى أنه ليس هناك ما يمنع- عندما يتقدم العلم، وتتسع آفاق المعرفة- أن تبلغ طوراً يؤهلها للتعرف على حقيقتها أو الاقتراب منها. وقد أخذ بهذا الرأي، قياساً على آيات سبق أن أعلنت خفاء أمور في زمن التنزيل، لكنها أشارت إلى أننا سوف نعرف عنها فيما بعد، وأننا سوف نحيط بها علماً في مراحل لاحقة في المستقبل، تبعاً لتطور العلم وتوافر المعلومات والشروط التي تمكِّن من ذلك. كقوله تعالى:
لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (الأنعام:67)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (النمل:93)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (صّ:88)
(هذه الآيات وردت في فصول أخرى في سياق مختلف).
وهذا ما حدث فعلاً فيما بعد، وعلى مراحل من تاريخ البشرية، بعد نزول القرآن، وقطْع الإنسان أشواطاً على دروب المعرفة وآفاق العلم، بحيث أننا قلَّما نجد حقبة مرَّت خلت من كشف جديد ومعرفة جديدة.
وقد جاءت الآيات الكونية بصياغة مجملة يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني، يتناسب مع ما توافر لهم عنده من معرفة ومن إلمام بخفايا الكون وأسرار الخلق، والعلوم هي سبيل ذلك. وقد صدق رسول الله في وصفه القرآن الكريم بأنه ((لا تنتهي عجائبه ولا يَخْلقُ على كثرة الرد)).
من المسائل التي عرض لها القرآن ثم جاء العلم اليوم يكشف عن جانب من خفاياها مسألة الروح. كانت الروح ومازالت سرّاً خفيّاً يَشغل العقل والوجدان لكل إنسان وجد على الأرض. يقول الله تعالى في شأنها:
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (الإسراء:85)
تتوفر في الغرب اليوم- ومنذ بدايات القرن الماضي- دراسات مستفيضة في علم الروح. وهناك معاهد في دول أوروبا وفي أمريكا تخصصت في الدراسات الروحية، يطلقون عليها علوم (الباراسيكولوجي Paraphsycolgy).
وقد صدرت كتب كثيرة ودوريات متخصصة، الكثير منها يتفق مع ما ورد في القرآن الكريم. هذا ما تبيَّناه نحن المطَّلعين على آياته. أما هم فلم يقصدوا إلى ذلك، حيث هم لا يعرفون القرآن من جهة، ولأنهم أيضاً غير معنيِّين بإثبات صحة معطيات آياته وتوافق أبحاثهم معها.
من قبيل هذا- على سبيل المثال- قولهم بأن الروح تغادر الجسد في حالتين اثنتين لا غير: حالتي النوم والموت. فالنوم يشبه الموت. وهو ميتة صغرى( ) في الواقع.
يقولون إن هناك جسداً أثيرياً غير مرئي- بطبيعة الحال- في نطاق حياتنا العادية. وهذا الجسد الأثيري مطابق تماماً لجسد الكائن الحي بكل تفاصيله وسائر أعضائه. وأن الروح في حال المغادرة النهائية لهذا الجسد الفيزيقي تنطلق بعيداً عنه. أما في حالة النوم فتبقى مرتبطة بالجسد بما يسمونه في مصطلحاتهم (الحبل الأثيري). وهو حزمة من الأشعة (غير المرئية). تطوف الروح حيث تشاء من عالم الأرض، أو بعيداً عنها في ملكوت الله الواسع. ثم تعود لتحل في الجسد من جديد. وما تراه الروح في تجوالها إما أن يكون حلماً أو يكون رؤيا. وهناك فرق بين الحلم والرؤيا بطبيعة الحال. مسالة (الرؤيا) ليست ضمن ابحاثهم ولكنها تقع ضمن أدبياتنا وموروثنا الإسلامي.
صحيح أن الأحلام حسب تفاسير (سيجموند فرويد) و (كارل يونج) و (أدلر) وغيرهم( ) من علماء النفس هي انعكاس للحالة النفسية للإنسان أو صورة – إلى حد ما وعلى نحو ما- من واقع حياته اليومي. وهي تعبِّر عن مخاوفه وآلامه، وطموحاته وآماله ورغباته المكبوتة. وأنها قد تكون تنفيساً عن هذه الرغبات، أو هي تأتي بحلول وهمية لمشاكله، لتخفيف الضغط النفسي عليه فيما هو نائم وهذا من عمل العقل الباطن. لكن هؤلاء عجزوا عن تقديم تفسيرٍ شافٍ مقنع (للرؤيا) التي غالباً ما تكون تنبؤاً بأمور لم تقع بعد، ولكنها سوف تقع. وهذه لا تتناقض مع غيب الله كما قد يذهب إليه البعض، إذ إن الله يهبها لمن يشاء. هي خرقٌ للعادة التي لا يقدر على خرقها سواه.
وما أكثر ما يرى النائم في رؤياه، ثم يتحقق ما رأى. ولا شك أن كلاً منا مرَّ بهذه التجربة، ولو مرة واحدة في حياته.
وقد تلتقي الروح، فيما هي تجوب آفاق الكون، بأرواحٍ لأناس كانت تعرفهم قبل وفاتهم، لا سيما من الأهل والمقربين. وقد يتبادل بعضهم معها حديثاً، وقد تنبئ بأمور في واقع حياة الملتقي بها. ولسوف يدهشه، فيما بعد، أن يتحقق ما رأى وبحذافيره أحياناً، واقرب إلى الرمز أو الإشارة في أحايين أخرى.
كما أنك قد تجد اثنين ينامان في مكان واحد، أو حتى في فراش واحد، كالزوج والزوجة، ومع ذلك يرى كل منهما حلماً مختلفاً. فلربما رأى أحدهما حلماً مزعجاً ومخيفاً، في حين رأى الآخر حلماً مبهجاً ومريحاً. وما ذلك إلا لأن روح كل منها ذهبت في اتجاه مختلف عندما غادرت الجسد.
من قبيل الرؤيا الصادقة التي تتحقق لصاحبها على الواقع، ما تعرضه سورة يوسف على نحو رائع، فيما وقع له مع أخوته، وفيما رآه عزيز مصر عن البقرات السمان التي تأكل البقرات العجاف، ورؤية رفيقه في السجن، الذي رأى الطير تأكل من فوق رأسه. وكان يوسف قد أوتي من تأويل الأحاديث- الأحلام- ما مكَّنه من تفسير تلك الرؤى جميعاً، وتحققها جميعاً أيضاً. بل إن خططاً وبرامج وضعت يومئذٍ لتفادي كارثة المجاعة، على أساس منها، وذلك حين عيَّنه عزيز مصر أميناً على خزائن الغلال، من أجل تقنين الغذاء في سنوات القحط والجفاف القادمة على أهل مصر، إثر تفسيره رؤيا السنين السبع العجاف والبقرات السبع السمان، إلى آخره. وهكذا تحققت الرؤيا واقعاً مُعاشاً لعدد من السنين لشعب مصر برمته.
هذا ما يحدث في حالة النوم، إذ تعود الروح أخيراً إلى الجسد الفيزيقي لكي يعاود حياته من جديد إلى أن يشاء الله، وإلى أن يحين الأجل المحتوم، وتكون المغادرة النهائية التي لا عودة بعدها.
أما الحالة الثانية، أي مغادرة الروح نهائياً، ودونما عودة، فهي الموت.
هنا ينقطع (الحبل الأثيري) الواصل بين الروح والجسد وتختفي منه علامات الحياة، وتنتقل الروح إلى بارئها. في التراث الإسلامي نجد أن الروح تذهب إلى مكان يسمى البرزخ، وهو ما يفصل ما بين الدنيا ويوم القيامة. وتلبث الروح هناك مع غيرها من الأرواح حيَّة (كروح) إلى يوم البعث والنشور. وأما ما يقوله (علم الروح) الحديث- وهو غربي عموماً وليس مرجعه إسلامياً- بأن الروح ومعها الجسد الأثيري فتذهب إلى أماكن في الكون وتلتقي بأرواح من سبقوها. قد تسعد وقد تشقى حسب ماضيها الدنيوي.
وهذه الروح لا تنقطع تماماً عن الأحياء على الأرض، بل هي تراهم وتعرف عنهم وتهتم بشؤونهم، ولكنها فقط تعجز عن الاتصال بهم كما يتصل الأحياء. إذ إن طبيعة اهتزازاتها الأثيرية تختلف عن الاهتزازات الأثيرية الأرضية، ولا يحدث مثل هذا الاتصال إلا نادراً في الرؤيا التي يراها النائم عند مغادرة جسده الأثيري لجسده الفيزيقي، كما أسلفنا في رأس هذا الموضوع.
لكن هذه قصة أخرى لسنا بصددها الآن.
وهذا الذي عرضنا له هنا لعله ما تقول فيه الآية الكريمة:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزمر:42)
في هذه الأيام فقط- القرن الماضي- جاءت الدراسات التي سلفت الإشارة إليها، لتقدم – عن غير قصد- المعنى الذي انطوت عليه هذه الآية حسب دراساتهم وتجاربهم. فالروح التي غادرت ثم عادت هي التي ((لم تمت في منامها)) أي أن الحبل الأثيري الواصل بينها وبين جسد صاحبها لم ينقطع. فقد ((أرسلها الله)) بمعنى أعادها إليه و(إلى أجل مسمى)، أي إلى أن يحين الأجل النهائي المحتوم لصاحبها.
وتشبهها في المعنى والمقام ذاته الآية:
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (الأنعام:60-61)
وغني عن القول أن الحياة بعد الموت مؤكدة، أي أن الإنسان عند موته تنتقل روحه ولا تفنى، وإنما هي حيَّة باقية، سعيدة أو شقية حسب ما قدمت، وحسب ما قدر الله لها.
وفي علوم (الباراسيكولوجي) التي أصبح لها مؤسسات ترصدها وأكاديميات بحث في الغرب- كما أسلفنا- تبين أن الإنسان عند احتضاره يرى فعلاً أرواحاً- هكذا تقول دراساتهم- على مقربة منه. وهي أقرب إليه من كل ما حوله، حقائق عرفت مؤخراً فقط وإلى عهد قريب.
أما الآيات فتقول في هذا الشأن:
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (قّ:19)
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (الواقعة:83-85)
وإذا كان هناك علماء غربيون خاضوا في هذه المسألة وأصدروا العديد من، الكتب والدراسات أمثال: أوليفر لودج واليكس كارليل، وهنري برجسون.. وغيرهم كثير، توصلوا إلى هذا في زمننا الراهن فإن القرآن قد سبق إليها تنزيلاً على رسول الله محمد عليه السلام.
إذا كان هؤلاء قد جاءوا بدراساتهم متأخرين في الزمان، فقد كان لعلماء المسلمين السبق عليهم جميعاً في مسألة الروح، مما يؤكد هنا أيضاً أن ما جاء به الرسول محمد هو من عند الله. فلقد حفل التراث بكمٍّ هائل، في هذا الشأن، من الكتابات والشروح والتفاسير منذ فجر الإسلام. وقلما تجد عالماً من العلماء، ورواة الحديث، والمفسرين والمناطقة وأصحاب المذاهب والمتصوفة، لم يتعرض لهذه المسألة الشائكة الحافلة بالأسرار. نذكر منهم ابن حزم، وابن تيمية، والترمذي، وابن حيان، وابن ماجه، والنسائي، والبخاري، ومسلم، والبيهقي، وأبي داود، وأحمد، وابن قيم الجوزية. وفي مقدمتهم جميعاً أقوال كثيرة للرسول صلى الله عليه وسلم منها( ):
(الناس نيام فإذا ما ماتوا انتبهوا)).
((الأرواح جنود مجنَّدة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف))
((إن الميت ليسمع قرع نعال المشيعين إذا ولَّوا منصرفين)). (يقصد بعد الدفن).
وسنكتفي هنا إيثاراً للإيجاز بالنقل عن ابن القيِّم تلخيصاً لعدد من الشواهد وردت في كتابه (الروح): يقول( ):
(إن الله سبحانه جعل الدور ثلاثاً، دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها.
(وقد أرانا الله سبحانه من ذلك أنموذجاً في الدنيا من حال النائم. فإن ما ينعم به أو يعذَّب في نومه يجري على روحه أصلاً والبدن تبع له. وترى النائم في نومه يضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك.
(وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم.. وهذا روحه في العذاب.. وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر.. فأمر البرزخ أعجب من ذلك.
يقال للروح عند الموت، وعند البعث، على سبيل البشرى:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (فصلت:30)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر:27-30)
يقول ابن القيم( ): اتفق معظم المفسرين والمجتهدين على أن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى. وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام، وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها ما يكون محبوساً على باب الجنة. ومنها ما يكون محبوساً في الأرض لم تعلُ روحه إلى الملأ الأعلى..)
تؤكد هذا المعنى، كما تثبت حقيقة (البرزخ) الآيات الكريمة في قوله تعالى:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون:99-100)
صورة تبعث القشعريرة في الجسد والنفس، وتثير الخيال فيما ينتظر الإنسان عند لحظة الموت قد تعدل حياته الماضية كلها.
ما أحسب أن محمداً عليه الصلاة والسلام إلا متلقياً لهذا الوحي، ومبلِّغاً أميناً لمن أرسل إليهم. آيتان في سطرين اثنين تعرضان لصورة تشمل الحياة والموت وما بعدهما. في الآية الأولة حال هذا الذي (جاءه الموت) وموقفه الرهيب أمامه يرجو العودة إلى الحياة الدنيا، مردفاً (في بداية الآية الثانية) بالوعد على أن (يعمل صالحاً). ثم نرى في نفس الآية الرد القاطع المفحم (كلا إنها كلمة هو قائلها). ثم يأتي التعليل باستحالة العودة إذ إن هنالك (برزخ) قائم إلى يوم البعث.
هل دار هذا كله في خلد محمد عليه السلام، ثم استطاع أن يوجزه على هذا النحو، ودون أن تعوزه ــ في الوقت نفسه ــ البلاغة المدهشة، في هذا الإيجاز المذهل، صياغة ومحتوى؟
وتحت عنوان:
هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران يورد ابن القيم شروحاً وأقوالاً لآخرين ثم يقول:
(النفس في القرآن تطلق على الذات بجملتها كقوله تعالى:
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا .. (النحل:111)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (المدثر:38)
(سمِّيت النفس روحاً لحصول الحياة بها. الفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات. يقال فاضت نفسه، وخرجت نفسه، كما يقال خرجت روحه وفارقت.
(الروح التي تتوفى وتقبض روح واحدة، وهي النفس. وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى:
.. أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ .. (المجادلة:22)
وكذلك الروح التي أيَّد بها روحه المسيح بن مريم في قوله تعالى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ .. (المائدة:110)
والقرآن الكريم يؤكد على استمرار حياة الروح بعد الموت مباشرة، وليس يوم القيامة فقط فيما يذهب إليه بعضهم، الأمر الذي تؤكده الدراسات الحديثة. ولكن هذه الأخيرة ليست موضوعنا`إلا بقدر ما تفيدنا في هذا البحث، وبقدر ما يمكنها أن تقنع من يبحث عن دليل معاصر.
لننظر في هذه الآيات:
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (البقرة:154)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران:169-171)
هم إذن أحياء يأتيهم رزق من الله. وهم سعداء أيضاً يتمَّنوْن لمن خلفهم من الأحياء من أقاربهم وإخوانهم أن يلقوا ذات المصير: الشهادة، ثم الحياة بعد الموت عند بارئهم. ولكيلا يذهب الظن إلى أن هذه صورة معنوية رمزية لما يلقى الشهيد من تكريم رمزي أيضاً، لا بأس من الإشارة إلى أن الحياة بعد الموت حالة يتساوى فيها الجميع. أي أنها تشمل غير الشهداء أيضاً، كما سائر البشر. ولكن مع الفارق بطبيعة الحال. فالأشرار، في الجانب الآخر. الذين سلكوا حياة حافلة بالشرور والآثام لهم حياة من نوع آخر، هي العذاب جزاءً وفاقاً لما جنت أيديهم في الحياة الدنيا.
ولننظر في الآيات التالية في شأن هؤلاء والتي تؤكد على أنهم أحياء أيضاً.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (الأنعام:93-94)
هذا وصف لحال إنسان يواجه الموت عند الاحتضار ثم ما يعْقُب الموت مباشرة. فلمن الخطاب؟ هل يكون لميت لا يسمع ولا يبصر ولا يشعر ولا يدرك؟
تصف الآيات الموقف على شموله واتساعه عند الموت. فالملائكة باسطو أيديهم لتلقي روح المحتضر، منذ رينه بعذاب ينتظره. ثم حديثهم هذا إليه عقب الموت مباشرة ((ولقد جئتمونا فرادى)) و (تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم). فها هو ذا وحيد، لا صديق ولا قريب، ولا ولد ولا أسرة، بل هم أولاء يعنِّفونه، ويذكِّرونه بمن تقطعت بينه وبينهم الأسباب ساعتئذ، ممَّن كان يحسب أنهم شركاء يركن إليهم عند الاقتضاء.. من كان يحسبهم عوناً وسنداً، أين هم الآن في هذا الموقف العصيب؟
وآيات في السياق ذاته:
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (لأنفال:50)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (الصافات:16-19)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (السجدة:11)
مسألة على هذا القدر من الغموض والإبهام والتعقيد ــ أكثر مما هي أي مسألة أخرى ــ كان من شأنها أن شغلت الإنسان منذ وجوده على الأرض. كما ذهب المفكرون والباحثون شتى المذاهب في أمرها. ودُبِّجت الكتب ووضعت التصانيف والتآليف في شأنها على مدى قرون، وما برحت شغلهم الشاغل. وموضوعاً أثيراً للدارسين والفلاسفة والمفكرين. هذه المسألة، على خطر شأنها وجلال أمرها، وغموض كنهها، يأتي بالقول الفصل في أمرها محمد النبي الأمي قبل أربعة عشر قرناً. أيعقل إذن، والحالة هذه أن يكون المصدر غير الوحي الإلهي المنزَّل على رسوله من لدن العليم الخبير بأحوال البشر، أحياءً وأمواتاً؟

معجزة نجاة جسد فرعون
ومن الحوادث التي ذكرها القرآن الدَّالة على بقاء الروح بعد الموت، لسائر البشر على حد سواء، موت فرعون لدى مطاردته النبي موسى عليه السلام:
.. حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (يونس:90-92)
هنا نرى فرعون حين أدركه الغرق، أي عندما حضره الموت، يعلن إيمانه للملائكة المكلَّفين بقبض روحه، ظناً منه أن ذلك الإيمان الطارئ، الناجم عن فزعه في مواجهة الموت، سوف يشفع له وينجيه. ولكن الملائكة تجيبه مستهزئة: الآن فقط، وعند الموت، جئت تزعم الإيمان وتدَّعي الإسلام بعد أن أسرفت في العصيان وعثت في الأرض الفساد؟
الشاهد هنا هو أن روح فرعون باقية بعد الموت لكي يتلقى ما استحق من عذاب وعقاب.
ولا تفوتنا الإشارة إلى ذكر فرعون (الإسلام) كدين عندما أعلن عزمه الإيمان بالله. فالإسلام إذن كان دعوة الأنبياء السابقين، ومنهم موسى عليه السلام، وإلاَّ كيف عرف فرعون أن هذا هو المطلوب. وإذا كان هذا ورد على لسان فرعون، ساعة محنته، فقد سبق أن جاء من قبل على لسان إبراهيم عليه السلام، أبو الأنبياء. وعلى ألسنة بنيه كذلك، إسماعيل وإسحق، ومن بعدهم جميعاً يعقوب وذريته حسب وصِّيته لهم: .. فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (البقرة:132).
كما تشير الآيات إلى غفلة الناس عن آيات الله ومعجزاته. وهم لا يعلمون ما حدث لفرعون، ولا يدرون من أمره شيئاً، لولا أن الله سبحانه هو الذي أخبرنا بما جرى. كما أن الناس كانوا غافلين عن مسألة نجاة جسد فرعون زمناً طويلاً جداً لكي يراه الناس في أيامنا هذه. أي بعد نحوٍ من أربعة آلاف سنة، في المتحف المصري بالقاهرة، جسداً سليماً محنَّطاً، تراه بأم عينك. لم يدرك المعاصرون للرسول عليه السلام هذه الحقيقة، ولم يدرك المفسرون ما ذهبت إليه الآية، أي أن جسد فرعون كان موجوداً يومئذٍ ولكنه سوف يظهر في عصر لاحق آية للناس يومئذٍ.
يشهد كاتب هذا النص أنه رأى بأم عينه جثة فرعون المحنطة في المتحف المصري. في زيارة للمتحف القائم في ميدان التحرير بالقاهرة، وبعد جولة في أرجائه توقفت ــ في قسم الموميات ــ أمام تابوت لإحداها على أنها مومياء (فرعون موسى)، إذ كانت مومياء رمسيس الثاني الذي عرف لبعض الوقت على أنه هو ذلك الفرعون. ولكن الدليل المرافق ــ وهو شاب مثقف تابع لدائرة الآثار ــ لفت نظري إلى أن هذه ليست مومياءه. ثم أشار إلى تابوت آخر على أنه هو تابوت فرعون موسى هو الفرعون أمنيتاح.
أمعنت النظر في الجزء البادي من الجثة، الوجه والعنق والرأس وقد بدت واضحة المعالم، كوجه مصري معاصر في سمرته وتقاطيع وجهه. كانت تعتريني في موقفي ذاك مشاعر متباينة، هي مزيج من الرهبة والخشية والدهشة معاً، فيما أتأمل آيات الله التي أنبأت عن موقفي هذا وأمثالي من أبناء هذه الحقبة من الزمن التي نعيش، على أننا نحن (مَنْ خلفه) القادمون ــ باعتبار ذلك الزمن ــ في عصور لاحقة يوم كنا في علم الغيب في ذلك الزمن البعيد. وعندما سألت الدليل بدافع الفضول كيف تأكد لهم أن هذه هي مومياء (فرعون موسى) دون غيرها. لفت نظري إلى بقع وخطوط ذات لون بين الأبيض والرمادي على أنها آثار ملح البحر الذي غرق فيه فرعون، والذي بقي عالقاً بها عند استنقاذها، عندما (نُجِّيَ ببدنه).
أليست هذه معجزة حقيقية مذهلة؟
أوَ ليس هذا دليلاً قاطعاً آخر على المصدر الإلهي للقرآن الكريم الذي تنزل على محمد عليه السلام.



* * *

حياة بعد الموت
(ولَّى أهل مكة الأدبار كاسفاً بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم. أما المسلمون فأقاموا ببدر إلى آخر النهار. ثم جمعوا الذين قتلوا من قريش فحضروا لهم قليباً فدفنوهم فيه. وإذ جنَّ الليل جعل محمد يفكر في نصر الله المسلمين على قلة عددهم، وخذلانه المشركين الذين لم يكن لهم من قوة الإيمان عضد تعتز به كثرتهم. جعل يفكر في هذا حتى سمعه بعض أصحابه جوف الليل وهو يقول:
(يا أهل القليب.. يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أميَّة بن خلف، يا أبا جهل ابن هشام..) واستمر يذكر من في القليب واحداً بعد واحد:" يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً..) قال له المسلمون( ): يا رسول الله: أتنادي قوماً جيَّفوا؟ قال عليه السلام: ((والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. إنهم يسمعون ولكن لا ينطقون فلا يستطيعون الإجابة)( ).
أتكون محض مصادفات أن يأتي العلم اليوم في هذا الصدد، بعد أن نما وتطور وتقدم، ليكشف أن محمداً عليه السلام قد سبقه إلى العلم بها بما أوحي إليه..؟
لا مشاحَّة في أنه ما من أحد في عصره، بين الخلائق جميعاً، قد أتى على ذكر لمثل هذه المعلومات، أو عرف شيئاً في شأن الروح والعالم الآخر، ومسألة الحياة بعد الموت على وجه اليقين. فأنَّى لمحمد إذن القدرة على الإحاطة بها من تلقاء نفسه؟ ثم ما الذي يدفعه إلى الخوض في أمر شائك ومعقد كهذا، تفاصيله وحيثياته مجهولة لكافة معاصريه؟ وما هي ضروراته ودواعيه في صدد مسعاه لكي يغدو قائداً للعرب، وزعيماً لما هو أبعد من ديارهم وبلادهم؟ أوَلا يُتوصل إلى الزعامة إلا بالخوض في مثل هذه الشؤون. لعمري إن العكس ينبغي أن يكون الأسلم، والأدعى للحيطة ولتفادي الخصومة، واحتمال الإخفاق. ذلك أن زعيماً دنيوياً لا ينبغي له الانغماس في غمار غيبيات (ميتافيزيقية)، وعوالم خفيَّة، وما إليها، مما سوف يصرفه عن تحقيق مطمحه الدنيوي، ويصرف الناس عنه كذلك ممن لا يرغبون مشايعته حين يذهب بهم إلى متاهات لا عهد لهم بها، ولا ضرورة لها في حياتهم المعيشة القائمة. ولكنه لم يكن في وارد شيء من هذا فما هو إلا رسول مبلِّغ عن ربه، فلم يكن في وسعه أن يكتم ما كُلِّف بإعلانه على الناس. إن لبَّ رسالته هو تبليغ ما أوحي إليه لمن حوله ولسائر البشر. ففي شأن التبليغ يقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة:67)
وفي شأن الموت وحياة الروح من بعد وما يسجل على الإنسان في حياته، يقول تعالى:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (الزخرف:80)
ويقول تعالى:
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (الدخان:56)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الجاثـية:26)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الجاثـية:29)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الجاثـية:28)
(الجمع إلى يوم القيامة) بعد الموت مباشرة يعيدنا إلى مسألة البرزخ التي عرضنا لها فيما سلف نقلاً عن ابن قيم الجوزية في كتابه (الروح).
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (آل عمران:25)
(الآيات في سورة الجاثية من 26 إلى نهاية السورة 37 ذات علاقة بالمسألة هذه)
في التفاسير (أمة) تعني الفرد أيضاً، أي أن ما ينطبق على الفرد ينطبق على الأمة، والعكس صحيح. وكأن الآية تقول إن الجميع في أي أمة سوف يدعى كل منهم إلى كتابه. وهذه من صور البلاغة، المألوفة والمعروفة في كتاب الله وعنه. أما استنساخ العمل، فهو كما أوردنا في مكان آخر، كاستنساخ القول أيضاً، فلا يضيع من عمل الإنسان في حياته الدنيا شيء، عملاً كان أو قولاً، حتى أو نيَّة.
إن ما انطوت عليه آيات الكتاب، وما زخرت به من معانٍ ومضامين ومغازٍ ومرام عميقة الأغوار بعيدة الآماد، لمما يجعل من العسير على المرء الإحاطة بها إحاطة تامة من شتى وجوهها. بيد أننا، تنويهاً وإيجازاً في حدود القدرة المتاحة لجهد متواضع كهذا، سنأتي بشواهد قد تعين على توسيع مساحة الفهم، وأفق الرؤية لبعض آياته، في قرآنه وفي خلقه.
الآيات التي تصور مشاهد يوم القيامة، ومصائر البشر بعد الموت وفي الحياة الآخرة لهي فوق قدرة فرد من البشر، أو سائرهم مجتمعين، تخيُّلها ناهيك عن إدراك كنهها ، أو معرفة حقيقتها، على وجه اليقين، من تلقاء أنفسهم، لاسيما مسألة الحساب والمحاسبة، والكتاب – السجل الذي يحمله الإنسان معه لكي يحاسب بموجبه الأمر الذي حيَّر الألباب والعقول لعجزها عن إدراك كيفيته.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (قّ:19-22)
ولكن العلم الحديث، تحقيقاً للوعد الإلهي للإنسان بأن يريه آياته في الآفاق مستقبلاً، توصل إلى ما يلقي الضوء على جانب من هذه المسألة. وكان ذلك مطابقاً لما ورد في القرآن بشأنها على الأرجح. تقول نتائج أبحاث العلماء أن للإنسان هالة من الأشعة غير المرئية تحيط بجسده إحاطة كاملة، كأنها غلاف لذلك الجسد، تسجل على خيوطها- تسمى كذلك تجاوزاً وتقريباً للفهم- الدقيقة كافة أعمال الإنسان وأقواله في حياته، بل وبما تحدثه به نفسه أيضاً- النوايا- لا تذر صغيرة ولا كبيرة، شاردة ولا واردة إلا وأحصتها عليه. وعند مغادرة الروح الجسد الفيزيقي حاملة معها الجسد الأثيري للإنسان، وهالته هذه، ليحاسب، من ثم على ما قدمت يداه في حياته. والمدهش أن الإنسان في حياته لا يدرك هذا ولا يحس به فيما هو جزء من تكوينه. ومما لا يدركه الإنسان أيضاً أن هناك مجالاً مغناطيسياً لجسده موازٍ للهالة، الأمر الذي لبث الإنسان زمناً طويلاً على جهل مقيم به.
(ونلاحظ هنا أن وصف البصر (بالحدة) عند الوفاة وعقبها مباشرة تؤكد أن الروح حية وأن الموت يصيب الجسد الذي هو مجرد غلاف لها وأعضاءه أدوات لازمة للحياة تحركها الروح التي ما إن تغادر الجسد حتى يتحول سريعاً إلى التلاشي والفناء).
اقتضت حكمة الله أن يظل هذا كله خافياً علينا لا تدركه حواسنا. ومن هذه الحقيقة يمكننا التوصل إلى الاستنتاج بأنه ليس كل ما لا تدركه حواسنا غير موجود، كوجود الله سبحانه (فإن لم نكن نراه فهو يرانا)، ووجود الملائكة والجن وخلائق كثيرة ــ والأرواح كذلك ــ بل إن منها ما هو موجود في حياتنا ويترك آثاره واضحة علينا، ومع ذلك نحن لا نراه وقد لا ندركه كالفيروس والجراثيم والميكروبات هذه التي تصيبنا بشتى أنواع المرض. كذلك الذرات التي هي قوام الموجودات المدركة. كما أننا لا نرى الأثير، مع أننا نلمس آثاره فتبدو لنا كالأحاجي والألغاز لأننا لا نرى الأثير، هذا الذي يحمل لنا الصوت والصورة. وهو غير الأثير الروحي الذي هو أخف وأكثر شفافية، وهو مختص بأمور غير دنيوية كالهالة والجسد الأثيري.
ولكن ماذا تقول الآيات، وهي كثيرة في هذا الصدد. نأتي بعدد منها:
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (قّ:18)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (يّـس:65)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (الكهف:49)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النور:24)
وحين يسأل الإنسان أعضاءه مندهشاً، كيف شهدت عليه، يكون جوابها مرعباً ومذهلاً، حتى ليبدو وكأنها ليست أعضاءه التي يملك، وإنما هي كيان قائم بذاته منفصل عنه.
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (فصلت:20-22
ولربما كان فيما نشهده في حياتنا المعاصرة من منجزات العلم أدلة قاطعة على ما ورد في القرآن. ولعل في ذلك ما يقرب الصورة إلى الفهم. لاسيما وأنها أصبحت جزءاً من حياتنا. من ذلك الإذاعة المسموعة كصوت، والتلفزة المسموعة – المرئية، والرادار، (والرموت كونترول)، التحكم عن بعد، والـ (موبايل)، وما إلى ذلك مما يصعب حصره. العامل الوسيط لهذه الأجهزة وانتقال عملها وفعلها إلينا هو الأثير غير المرئي ولا الملموس. فعبر الأثير ينتقل الصوت والصورة والحركة المتحكمة.
يحدث ذلك في جزء لا يكاد يذكر من الثانية، بمقياس سرعة فلكية من الصعب أن نتصورها. ينتقل الصوت أو الصورة من أقصى أطراف الأرض إلى أقصاها في سرعة كلمح البصر- سرعة الأثير 7 دورات كاملة حول الكرة الأرضية في الثانية- ونحن لذلك نسمع صوت المذيع ونشاهد صورته في اللحظة التي ينطق فيها كلمته أو تطلُّ علينا صورته، حيثما كان موقعه على سطح الأرض. من لندن إلى بكين، من واشنطن إلى القاهرة- من أي مكان إلى أي مكان. يحدث هذا لدى كل من فتح جهاز استقباله على الموجة الخاصة بهذه المحطة أو المركز. وتسمع بالوضوح ذاته، وفي اللحظة ذاتها لو استقبلتها ملايين الأجهزة، دون أن يضعف ذلك شيئاً من قوتها وصلاحيتها وضوحاً للسمع والبصر. كما اصبح لدى البشر أجهزة الكمبيوتر التي تسجل 15 مليون عملية في ثوانٍ. إذا كانت هذه الأجهزة – صنع البشر- تملك هذه الإمكانات فكيف بقدرة الخالق. ونستغفر الله عن المقارنة، لكنها مع الفارق الذي لا قياس له بطبيعة الحال. ما ذلك إلا من أجل تقريب الصورة إلى الأذهان. وإذا كانت هذه حال (كمبيوترات) أرضية، فقد تكون هناك (كمبيوترات) كونية، بحيث تبدو قدرات أجهزتنا قزمية بالمقارنة. ويعرف الإنسان الآن أنواعاً من الأشعة، يسمع عنها ولكنه لا يبصرها، بل يلمس آثارها وحسب، في حين لا يدرك كنهها ولا يعرف ماهيتها، وإن هو عرف فعلها. من قبيل ذلك الأشعة تحت الحمراء والأشعة البنفسجية وما فوقها، ورنتجن، وجاما، وباتا، واكس، وغيرها، ناهيك عن الأشعة الكونية الأشد خطراً. وهناك الإشعاع الخاص بكل معدن معروف على حدة، أوضحها وأبرزها أثراً اليورانيوم والراديوم والليثيوم والكاديميوم والكوبالت وغيرها وغيرها. وأنت اليوم تسجل على قرص صغير للغاية (الدسك والـ CD) عدداً هائلاً من المعلومات والكتيبات.
فإذا كانت هناك – وقد عرفت هذا كله- هالة من الأشعة محيطة بجسدك دون أن تدركها أو تحس بها، فلا تستكثر أن تحوي أعمالك وأقوالك على مدى زمن حياتك، التي مهما طال بها الأمد، فهي قصيرة، بل هي غاية في القصر، في مثل هذه الحسابات. ومن العلماء اليوم من يؤكد بأن الأصوات البشرية لا تذهب بدداً في الفضاء- وغيرها من الأصوات أيضاً- بل إنها موجودة ومحفوظة في طبقات الأثير المحيطة بالأرض، لا تفنى ولا تضيع بدداً أبداً، بدليل التقاط جهازك للصوت الذي يحمله الأثير إذا ما استخدمت الموجة الخاصة بمركز انطلاقه. وكذلك الأمر مع كل من يضع المؤشر على المركز ذاته. وما دام هذا هو ما يحدث للصوت الذي تسمع، إذ هو يدور في مدار محدد- حسب الموجة- من الفضاء، فكيف، ولماذا نتصور أنه سوف يفنى بعد ذلك؟ بل وأين يذهب بعدئذ إذا كان الأمر كذلك؟ لا شيء يؤكد أنه انتهى عندك إطلاقاً. بل إنه تابع دورته بعد أن مرَّ بك، وما انفك يدور في فلك ومدار بدليل أن غيرك مما يليك بمسافات بعيدة يسمعه ويراه أيضاً كرؤيتك وسماعك له تماماً وفي اللحظة نفسها. ومن العلماء من يقول بأن العلم سوف يأتينا في وقت ليس ببعيد، بأصوات من نشاء من الغابرين.
هذا ما يقولون. والمسألة- في رأيهم- أصبحت ثابتة ومؤكدة، وكل ما في الأمر مما يعيقهم، هو أنهم لم يستطيعوا بعد، وإن كانوا بصدد البحث عن وسيلة تدلُّهم على كيفية التقاط تلك الأصوات واستخلاصها من بحار الأثير. ولعل هذه هي المهمة الأسهل- في رأيهم أيضاً- كما أنهم لم يعرفوا الوسيلة إلى تحديد هوية صاحب الصوت.. إذن فالفضاء يعج بأصوات كل من مرُّوا على ظهر هذه الأرض، مذ وجدوا ووجدت.


* * *

أسرار كونية لم تكشف بعد
وإذا كان من شأن هذه الإنجازات العلمية أن تفضي بأصحابها- أو ببعضهم- إلى الغرور، وببعض إلى الإلحاد، وإلى الإحساس الخاطئ بالعظمة، حين يتصورون أنهم (صنعوا) معجزات علمية خارقة غير مسبوقة- هي فعلاً هامة ومدهشة- فإننا نذكِّر هؤلاء بالحقائق التالية:
إن ما استطاعوا إنجازه ليس إلا كشفاً عن بعض خفايا الطبيعة وأسرار الكون. لكن هذه كانت موجودة وقائمة منذ الأزل. كما أنها ما انفكَّت طيَّ الخفاء حين كان الإنسان عاجزاً عن إدراكها طوال العصور والأحقاب الماضية. وغني عن القول بأن الكشف عن شيء وإظهاره بعد أن كان خافياً عن الأعين والمدارك شيء، وإيجاد الشيء نفسه من العدم شيء آخر، مختلف تماماً. ولقد حفل تاريخنا الإسلامي بالكثير من العلماء، والعظيم من الإنجازات التي مهَّدت هي نفسها للكشوفات الحديثة والإنجازات المعاصرة( )، بيد أن أحداً منهم لم يبلغ به الغرور هذا المبلغ، بل كان من شأنها أن زادتهم إيماناً بقدرة مبدع الوجود. لم يمنُّوا على الآخرين بإنجازاتهم. كما إنهم لم يحاولوا استغلال ذلك في ابتزاز الآخرين واستغلالهم كما هو حادث اليوم ومنذ عصر النهضة الأوربية.
إن الله هو الذي (خلقهم وما يعملون). إذ إن العقل الذي مُنحوه هو نفسه هبة الله وصنعته. بدليل أن أحدهم يتوصل إلى كشف حقيقة علمية دون غيره من علماء وغير علماء، فيما هي موجودة قبل ذلك وبعد ذلك للجميع، في انتظار من يزيل الغطاء عنها. وآخر يتوصل إلى كشف حقيقة أخرى في زمن آخر، تترتب عليها- في كلتا الحالتين- إنجازات وصناعات وآثار هيِّنة الشأن أو خطيرته. لكن هذه مختلفة عن تلك فيما توصلت إليه. معنى ذلك أن واحدهم منح عقلاً مختلفاً عن غيره متميزاً عليه، في قدراته أو طرائق تفكيره، وهذه أيضاً ليست من عنده. وما كان له يد فيها. ولولا ذلك لكان كل الناس علماء وموهوبين، أو كان كل الناس بلا استثناء قادرين على كشف هذه الأسرار والتوصل إلى هذه الحقائق. إذن كل إنسان على حدة منح عقله الخاص، بإمكاناته المحدَّدة المعينة المختلفة، دنوّاً أو علوّاً على غيره، ولكنه أيَّاً كانت قدراته ـ عقلاً وذكاء ـ فهو لن يتجاوز حدوده المعطاة. وإذا ما ضربنا مثلاً بصانع آلة النسيج – لتوضيح الصورة- فهو الذي يصنع الآلة، ثم تقوم الآلة بصناعة النسيج، فهل للآلة عندئذ أن تتيه على النسيج أو أن تباهي بأنها هي صانعته؟ الصانع للنسيج في حقيقة الأمر- وإن كانت الآلة في الظاهر- هو صانع الآلة ومصممها في الأصل. فالله الذي خلقكم (وما تعملون) هو الذي أوجدكم تالياً لوجود الكون بكل ما فيه من عناصر وقوى، الظاهر منها والخفي، وهو الذي صمم عقولكم على اختلافها، ومكَّن هذا العقل أو ذاك من أن يبلغ من العلم ما يلغ، وأن ينجز، بواسطته تحديداً، ما أنجز دون سائر البشر.
إن حكمة الله اقتضت أن يبلغ أناس من بني البشر من العلم شأواً معيناً، في زمن معين، لكشف حقيقة كونية ما، لكي يكون ذلك مدعاة للإيمان بعظمة الخالق، وما أودع في الكون من حقائق كامنة وأسرار خافية. ولكي يري الإنسان - من جهة ثانية- مدى قصوره ومحدوديته. وكأن سؤالاً مفحماً يوجه للإنسان في كل لحظة: أين كنت؟.. وأين كانت قدراتك العقلية قبل هذا الكشف؟ هذه آية من آياتي أتحت لك أنت القدرة على رؤيتها، وسؤال هام يرد على الذهن ضمن هذه التساؤلات. لماذا تأخرت الكشوفات حتى أتى كل منها في زمانه؟ ولماذا لم تعرف كلها مرة واحدة؟
حريٌّ بالإنسان إذن أن يدرك، كلما توصل إلى مزيد من الكشوف والإنجازات كم هو جاهل، كما يقول سقراط في الفلسفة، التي هي أم العلوم وصاحبة الريادة فيها: »كلما اكتشفت حقيقة جديدة أدركت كم أنا جاهل«. فالحقيقة التي لم أعرفها إلا اليوم تؤكد جهلي بها حتى اليوم. ترى كم هي الحقائق التي ما برحت كامنة خفية لم يكشف النقاب عنها بعد؟ بل هل يحق لنا السؤال عن كمٍّ عددي؟ لعلها بعدد ذرات الرمال على شواطئ البحار إن لم يكن أكثر..
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (الكهف:109)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (لقمان:27)
قد لا يكون في وسع عقل أيٍّ منا أو خصوبة خياله استيعاب المعنى والمضمون والصورة لهاتين الآيتين من سورة لقمان وسورة الكهف. هل يمكن للإنسان أن يتصور أن كل ما في الأرض من شجر قد تحول إلى أقلام وأن البحر ــ بل سبعة أبحر ــ تحولت إلى مداد لكتابة آيات الله وآلائه وخلقه في كونه العظيم لما وسعها ذلك. المسألة ليست في عجزنا أو في قدرتنا على التخيل والاستيعاب، إذ إن هناك الكثير الكثير مما نرى ونشهد لا نزال غير قادرين على استيعابه أو استجلاء كنهه. ومن هذا القبيل مشاهد وحقائق رآها أو عرفها العلماء على وجه اليقين. ألم يقر العلم، وبالرؤية العيانية عن طريق التلسكوب، بأن هناك ملايين النجوم في مجرتنا وحدها؟ وأن هناك ملايين المجرات مثلها، أكبر أو أصغر منها؟ أوَ لم يقل العلم بأن شمسنا ومجموعتها من الكواكب ــ عطارد، الأرض، الزهرة، المريخ، زحل، المشتري، أورانوس، نبتون، بلوتو ــ هذه جميعاً ليست أكثر من نقطة في زاوية من مجرتنا المسماة (طريق التبانة). علماً بأن المسافة بين شمسنا وأرضنا مائة وخمسين مليون كيلومتر. أما بين الشمس وأبعد كواكب المجموعة الشمسية (التي هي أسرة الشمس) فتحسب بآلاف الملايين من الكيلومترات. هذه الحقائق باتت معروفة علمياً، بل إن بعضها رؤي بالعين خلال المراصد. هذه الآيات تؤخذ إذن على محمل الحقيقة وليس المجاز. أما التشبيه للشجر بالأقلام والبحر بالمداد فما ذلك إلا من أجل تقريب المضمون إلى أفهامنا. أي أن الله سبحانه يخاطبنا على قدر عقولنا، وضمن الأشياء التي تحيط بها مداركنا والصور التي تعيها ذاكرتنا.
لماذا جئنا بهذا كله؟
أتينا به، وعلى قدر من الإيجاز كبير، بغية الوصول إلى اليقين المطلق بعظمة خالق الكون، وما ينطوي عليه من أسرار وخفايا، وآيات وعجائب لا تنقضي على الزمان، وبما أوحي منها وتنزَّل على محمد عليه السلام، سواء كان ذلك قرآنا يتلى (بصائر للناس)، أو شواهد من الكون المحيط بنا، أو حياتنا التي نحيا.
وما كان لمحمد عليه السلام أن يعلم شيئاً من هذا ــ وقد أثبت الكثير منه العلم الآن فقط ــ لولا أنه وحي ربه.
.. مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف:111)

* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 14 : 08 PM   رقم المشاركة : [18]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الرابع عشر
الإنسان والحياة الآخرة
في القرآن


[align=justify]
وصف الحياة الآخرة
حفل القرآن بأخبار الآخرة، وما يلقى فيها الإنسان من حساب على ما قدمت يداه في حياته الدنيا. ونحن إذا نظرنا في المسألة بحيادية تامة، وجدنا أن الآخرة والحساب فيها ضرورة تقتضيها عدالة الله، التي سوف تنصف المظلوم من الظالم، وإلا لكانت حياة البشر على الأرض عبثاً. فلا يعقل أن يلقى المصير ذاته، إنسان قضى حياته ظالماً، مقترفاً آثاماً وجرائم في حق بشر آخرين، وإنسان أمضاها سعياً إلى الخير وعملاً في خدمة بني جنسه. هل يعقل مثلاً أن ينجو القتلة ومبيدو الشعوب من حساب وعقاب؟ لابد من مصير مختلف". نقول هذا لمن لا يعترف بالقرآن وما جاء فيه بهذا الشأن، سواء من بين المسلمين أو غيرهم، وإظهاراً للحق والحقيقة ليس إلاّ.
آيات كثيرة في القرآن الكريم تذكِّر الإنسان بالآخرة. تصف الجنة والنار، والملائكة، وقيام الساعة، والحشر، والبعث، تنطوي على الترغيب والترهيب، والتحذير والتنبيه. هذه جميعاً من المغيبات التي لا يستطع الإنسان بجهده الذاتي، وبما يملك من حواس محدودة معرفتها من تلقاء نفسه، على وجه اليقين. وما من إنسانٍ بقادر على الإتيان بشيء مما جاء به القرآن في شأن أي من هذه المغيبات. الآخرة عالم حافل بخفايا وأسرار هي فوق قدرات العقل البشري، والله وحده العليم بحقيقتها وماهيتها.
ما جاء به القرآن عن الآخرة وعلى هذا النحو من الإفاضة والشمول في الوصف، كان جديداً وغير مطروق من قبل في ميادين النشاط الإنساني، سواء عن طريق العقل أو بوساطة الحواس.
كان محمد عليه السلام حين يتلو الآيات التي تصف الجنة والنار، ومشاهد يوم القيامة والبعث والنشور والحساب، تتبدى عليه سمات الخشية والرهبة، وهو الرسول الذي ضُمنت له الجنة. وما نحسب إنساناً يقول أشياء من عنده، يختلقها للناس ثم يصدقها هو فيفرَق منها أو يخشاها، وهو يعرف أنها من صنعه وتدبيره.
ولننظر هنا في هذه الآيات التي تصوِّر جانباً من مشاهد يوم القيامة، وهي ليست سوى غيْضٍ من فيْض:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (الحج:1-2)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (قّ:42-44)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (الكهف:49)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (التكاثر:5-8)
وفي سورة الرحمن:
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (الرحمن:37-44)
هذا عن النار ومشاهد يوم القيامة.
أما عن الجنة فالقرآن حافل بآيات تصفها وتبشر بها المؤمنين. منها هذه الآيات:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. ذَوَاتَا أَفْنَانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (الرحمن:45-55)
ويقول تعالى:
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (المطففين:22-26)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (المرسلات:41-44)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (هود:108)
آيات تلقى في النفس بعبارتها القصيرة المكثفة من الأحاسيس، ما يصعب على المرء وصفه. هي غاية في البلاغة والتأثير النفسي بإيقاعها وجرسها وانسيابها.
ومن تصوير مشاهد يوم القيامة لكلتا الحالتين هذه الآيات:
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ. يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الحديد:12-15)
في آيات أربع فقط تكثف المشهد الأخروي العظيم. وصفٌ للمؤمنين في مظهرهم البهيج، والنور يسعى بين أيديهم. فيها بشرى بالجنة، ثم وصف للجنة والخلود. ثم الحوار بين المؤمنين والمنافقين لتصوير حال الأخيرين هؤلاء. والفصل بين الفريقين بسور باطنه الرحمة لهؤلاء المؤمنين وظاهره- الجانب الآخر منه- العذاب لأولئك المنافقين. ثم تنديد المؤمنين بالمنافقين وكيف أنه سبق وأن حذَّر هؤلاء أولئك في أيامهم الدنيوية من هذا المصير الذي لن تنجيهم منه فدية يقدمونها، وذلك من قبيل الاستهزاء بهم وبمنطقهم الذي ألفوه. يقول تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة:36)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الحديد:15)
ترى هل في وسع كاتبٍ مهما بلغت به موهبته الأدبية أن يكثِّف هذه الصور ويعرض الأحداث ليوم من أيام القيامة، بحيث تكون شافيةً وافيةً ولو في سفر ضخم؟ وهل في وسعه أن يحيط بشيء مما أحاطت به هذه الآيات؟ وليكن هذا الكاتب قاصّاً أو شاعراً من عصر محمد عليه السلام، أو ليكن معاصراً لنا يعيش بين أظهرنا.
ولننظر أيضاً في هذه الآيات:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ. إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (الحاقة:19-37)
هنا أيضاً لا يملك المرء إلا أن يقف مشدوهاً أمام هذه الصور الحافلة بما سيلاقي الإنسان في الآخرة. صور من الهول يشيب لها الولدان، دفق غزير كشلال هادر، في بنيان محكم لا مثيل لقوته وجبروته، وبيان معجز مشرق لا سبيل إلى بلوغه في أيّ مقام. كما هو الحال في وصف من أوتي كتابه بيمينه، وكان من أهل الجنة وما سيلقى فيها من نعيم مقيم أشارت الآيات إلى ملامح منها.
ثم تأتي الآيات- القَسَم جواباً على التساؤلات.
فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (الحاقة: 38-40) لتؤكد لنا أن في الكون ــ كما سبق أن عرضنا في فصل سابق ــ إلى جانب ما نبصر أسراراً وخفايا وعوالم لا نبصرها، فلا تدركها حواسُّنا القاصرة، ولأنها من اختصاص الخالق سبحانه في ملكوته العظيم المهيب، منها الجنة والنار. والقسم بعد ذلك في وصف الرسول وما يحمله إلينا من آيات ربه.
ومن مشاهد يوم والقيامة المرعبة هذه الآيات المحكمة، الزاخرة بالصور والمشاهد المثيرة للرهبة وللخيال معاً، للمصير الكوني بما في ذلك البشر وسائر المخلوقات:
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ. وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (الحاقة:13-18)
وآيات تنبِّه الناس إلى ما ينتظرهم. ولكنها في الوقت نفسه تشرح حالة إنسانية معروفة. تصفها وصف الخبير بالنفس البشرية، العالم بأحوالها وكوامنها وما فطرت عليه، وهي أن الإنسان غالباً ما يمضي سادراً في غيِّه رغم النذر والمحاذير، والنصائح والعظات:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (الأنبياء:1-2)
اقتراب يوم الحساب، فيما الناس في غفلة وإعراض عن آخرتهم، تلهيهم الدنيا بمباهجها ومتاعبها على السواء. كما أنها تشير إلى ما سبق للبشر أن جاءتهم الرسل بالبينات فأعرضوا عنها، وكذلك سوف يظل شأنهم على الدوام سادرين في الضلال إلا من شاء له الله الهداية والرشاد.
القرآن حافل بأوصاف لكل من الجنة والنار، منها ما يمكننا تصوُّره على نحو ما، ومنها ما لا سبيل إلى تخيُّله، بسبب من عجزنا وقصور في مداركنا وملكاتنا. وفي هذا يلخِّص الرسول عليه السلام وصفاً للجنة بقوله:
»في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر«(*).
هنا لابد أن نلحظ الفرق بين الحديث والآية في الصياغة والأسلوب.
* * *

تأثر الآداب بمشهديات القيامة
وما أحسب أننا نخرج عن السياق إذا ما أشرنا إلى أن القرآن في تصويره لمشهديات يوم القيامة، والحياة الآخرة، في صورتيها، الجحيم والنعيم، الجنة والنار. هذه الثنائيات كانت مصدر إلهام لإبداعات كثيرة في الشرق وفي الغرب على حدٍّ سواء.. فرسالة الغفران ــ على سبيل المثال ــ لأبي العلاء المعري( ) كانت واحدة من هذه الإبداعات الرائعة التي خلَّدت اسم صاحبها في عالم الأدب. وما زلنا نقرؤها بعد نحو من ألف سنة، ليس على نطاق بلاد العرب والمسلمين وحدها، وإنما على مستوى العالم كله، فكم من العلماء الغربيين والمستشرقين قرءوا، ودرَّسوا (رسالة الغفران) في جامعات الغرب.
ثم جاء الإيطالي (دانتي الليجيري) لينسج على منوالها، ويكتسب جرَّاء عمله هذا شهرة واسعة، ومجداً أدبياً رفيعاً يتغنى به الأوروبيون إلى اليوم. ودانتي اطلع أيضاً – حسب المصادر - على التراث العربي، كما اطلع على القرآن. ولكنه بما انطوى عليه من حقدٍ على الإسلام، شأنه شأن معظم الغربيين، من العامة والنخبة، على حدٍّ سواء، وبسبب من حملات التشويه التي لم تتوقف يوماً على الإسلام والمسلمين، والتي مهدت للحروب الصليبية في حينه، ثم استمرَّت بعدها دون توقف حتى هذه الساعة، وإن هي اتخذت أشكالاً وصوراً مختلفة استعماراً وتحكّماً واستيطاناً حسب تطور الزمن والعلاقات السياسية والثقافية. فالغرب بعد انحسار موجات حملاته الصليبية عسكرياً، انعطف نحو محاربة المسلمين والإسلام عن طريق الفكر والثقافة والعلم والاقتصاد متخفياً غالباً وراء ستار دعوى الموضوعية. لكنه يعود في أيامنا إلى المجاهرة بعدائه القديم المستديم، وإلى مباشرة حروبه ضد المسلمين على شتى الصعد، وفي ديارهم ذاتها. بحيث لا يكاد بلدٌ إسلاميٌّ واحد يخلو من حروب عدوانية في صورة ما يشنُّها عليه الغرب مجتمعاً، أو متمثلاً في دولٍ معينة منه. لن نسعى هنا إلى الإسهاب في عرض النماذج والحالات، فليس هذا هو المقام. ولكن قد تجدي الإشارة إلى صورة واحدة من ذلك العداء الفكري الشرس، وفي مضمار الأدب والثقافة تحديداً. من ذلك ما عمد إليه دانتي الليجيري( ) من تحريفٍ وتجديفٍ في حقِّ الإسلام. وفي حق نبي الإسلام. وما هذه الإشارة إلا من قبيل التذكير، على سبيل الشاهد، اقتضته الضرورة، وعلى الرغم من أن دانتي لم يفلح في تصوير الفردوس والجحيم بأكثر من ديباجة اللفظ، إلا أنها- مع ذلك- أكسبته شهرةً طبقت الآفاق في أوساطهم، لا لشيء إلا لأنها حفلت بالإساءة إلى الإسلام ونبيِّه على وجه الخصوص، في صياغة شعرية اتخذت من الجحيم والفردوس ميداناً لها، متسربلة بثياب الفن الأدبي.
أما فيما يتعلق بالموت، الموضوع الذي قلما يخلو من التعرض له والخوض في شأنه عمل أدبي، فإن القرآن يحفل بالآيات الكثيرة جداً فيه أو عنه. حيناً من أجل العظة والعبرة، وحيناً لتعريف الإنسان بمصيره الحتمي المنتظر، لكي تشعره بضعفه وعجزه حياله، وأنه لا مهرب ولا مفرَّ منه، وحيناً من أجل تعريفه بعاقبة سلوكه في حياته الدنيا، وأنه لا شيء يضيع أبداً. أو يذهب بدداً. والموت هو البوابة إلى الآخرة، ومن هنا جاءت ضرورة تعرُّضنا لمسألة الموت. وفي آيات كثيرة وصف لحالة الموت وكيفيته، والاحتضار الذي يسبقه، ودور الملائكة في شأنه. ولا تأتي الآيات على ذكر الموت كحادثة مجرَّدة، وإنما هي تربطها بمصير الإنسان في الآخرة، أي أن لها ما بعدها، وأنها ليست نهاية أخيرة، بمعنى أنها ليست فناءً مطلقاً. وفلسفة الموت هنا شائكة معقدة ومركبة، كما هي في الآن ذاته، على قدر من السهولة والبساطة. فهي حالة طبيعية تماماً. هي الشق الآخر للوجود الأرضي: حياة يقابلها موت. لا تجري على الإنسان وحده وإنما على سائر الكائنات والمخلوقات. ولطالما شغلت مسألة الموت المفكرين والفلاسفة والعلماء والأدباء على مر العصور كما قلنا آنفاً. وكانت موضوعاً أثيراً لأعمالهم، برغم الغموض الذي يكتنف موضوع الموت، والإبهام الذي يحيط به. وكأنهم في سائر كتاباتهم يحاولون حلَّ لغزه المحيِّر، ولكن دونما طائل. وظاهرة الموت كانت، وما برحت، مثار البحث وموضع الدراسة والتساؤل، مذ وعى الإنسان حقيقته، ومنذ قابيل وهابيل. ولكن أحداً لم يستطع الإتيان بقولٍ شافٍ قاطع في مسألة الموت مثلما فعل القرآن. وما أحسب أن أحداً سوف يماري بالقول بأن ما لم يستطعه الجميع، على مرِّ الحقب وتعاقب العصور استطاعه أمِّيٌّ في مكة، لم يؤت من علوم الدنيا والآخرة قبل بعثته إلا إرهاصاً وتكهنات. وما هو بالذي قرأ تاريخ الأمم والشعوب وفلسفة الإغريق والرومان. ولا هو بالذي خطَّ حرفاً بيمينه على ورقة أو قرأ في كتاب. وحتى أولئك الذين يتجاهلون أحداثاً وقعت في عهد الرسول، وبين قومه وعشيرته أكَّدت أميته، أولئك أنفسهم لم ينكروها، وكانوا أولى بذلك، لو لم تكن حقيقة معروفة وأمراً شائعاً.


* * *

القيامة والمصير البشري
وإذا كان لابدَّ من الاستشهاد بأقوال علماء من الغرب، من أجل أولئك الذين يسلِّمون على الفور بما يأتي من قبل هؤلاء يقول الدكتور (الكيس كارلل) في مسألة الموت بوصفه بوابة الآخرة:
(إن الإنسان لن يسأم أبداً من البحث عن (الخلود) والسعي وراءه، مع أنه لن يظفر به إلى الأبد، فتركيبه الجسماني يخضع لقوانين معينَّة. إنه يستطيع أن يوقف الزمن (الفيسيولوجي) لأعضاء الجسد، حتى يؤخِّر الموت لفترة قصيرة، ولكنه لن يتغلب على الموت أبداً) ( ).
أما في شأن القيامة ونهاية العالم الحتمية، فيقول عالم آخر ما ملخَّصه: (لم تعد مسألة نهاية العالم غير مفهومة، فنحن على علم بالقيامات الصغرى التي تقع على سطح الأرض، وهي التي ستحدث مرة أخرى على نطاق أوسع، حتى تشمل الأرض المأهولة كلها..
(إن الظاهرة الأولى التي تنذرنا بإمكان القيامة هي الزلازل. فبطن الأرض يحتوي على مادة شديدة الحرارة، نشاهدها عندما ينفجر البركان. وهذه المادة تؤثر على الأرض بشتى الطرق، فمنها ما تصدر عنه أصوات مروِّعة رهيبة، وما نحسُّ به من الهزَّات الأرضية، التي نسميها (الزلازل).. إنها لا تزال كلمة رهيبة في حياة الإنسان المعاصر، رغم تقدم العلوم والتكنولوجيا، كما كانت كذلك في حياة الإنسان القديم. هذه الزلازل هي حملة الطبيعة ضد الإنسان، الذي لا يملك شيئاً يقاوم به الزلازل، فهي نذير يذكره دائماً بأنه يعيش فوق مادة حمراء ملتهبة جهنمية، لا يفصله عنها سوى قشرة جبلية رقيقة، لا يزيد سمكها عن خمسين كيلو متراً. وهذه ليست، بالنسبة إلى الكرة الأرضية، إلا بمثابة القشرة من ثمرة التفاح.
(إن الزلازل لا تقرع أبواب المدن إلا بغتة، دون سابق إذن أو إنذار. والإنسان لا يستطيع أن يتنبأ بمكان الزلازل، ولا بموعد وقوعها، وهي نفسها تنبئ عن قيامة كبرى سوف تفاجئنا غداة يوم على غرَّة من ا .. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً.. (لأعراف:187).. إن هذه الزلازل دليل ناطق بأن خالق الأرض قادر على تدميرها كما يشاء. وهذه هي حال الفضاء الخارجي. فالكون فضاء لا حدود له، تدور فيه نيران هائلة لا حصر لها، هي السيارات والنجوم). وهذا الدوران يمكن أن يتحول في أي يوم إلى صدام عظيم لا يمكن تصوره. وفي تلك اللحظة الرهيبة يكون ما في الكون أشبه بآلاف من القاذفات النفاثة المليئة بالقنابل النووية، وهي تواصل رحلتها في الجو، ثم تصطدم كلها مرة واحدة! إن اصطدام الأجرام السماوية ليس بغريب مطلقاً. بل الغريب حقاً هو عدم وقوع هذا الاصطدام. هذا الواقع هو بعينه ما نسميه ((القيامة))( ).
يقول تعالى:
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (الانفطار:1-4)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (التكوير:1-6)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا. وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (الزلزلة:1-5)
ويقول سبحانه:
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ. فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ. وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ. وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (المرسلات:7-14)
وتحت عنوان ضرورة الآخرة يقول وحيد الدين خان( ):
(إن الحياة الآخرة ذات هدف عظيم هو المجازاة على أعمال الدنيا، خيراً كانت أو شراً. للإنسان ثلاثة أبعاد يعرف في الآخرة من خلالها هي: نيته، وقوله، وعمله. وهذه تسجل بأكملها في الأثير (الفضاء) – وفي أقوال أخرى تسجل على الهالة المحيطة بجسد الإنسان طوال حياته- إن هذا الواقع يؤكد إمكان وجود سجل كامل لأعمال الإنسان في حياته، عندما يبدأ حياته الأخرى، فإن وجوده نفسه سوف يشهد على الأعمال والنيات التي عاشها:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (قّ:16)
ثم يسهب في الحديث عن القول والعمل، مؤكداً عن طريق العلم والعلماء الدارسين في ميادين الفضاء والأثير والكون، بأن الصوت والصورة لكل ما يصدر عن الإنسان في حياته مسجلة ولا تذهب بدداً يقول تعالى:
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (قّ:17-23)
وقد ثبت قطعيّاً أن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير إلى الأبد، بعد حدوثها للمرة الأولى، ومن الممكن سماعها مرة أخرى- كما مرَّ معنا من قبل-.
(إن جميع تحركاتك تسجل على شاشة الكون، حيث لا يسعك الهرب منها أو منعها، سواء كنت في الظلام أو النور، فحياتك كالقصة التي تصور في الاستديو، ثم تشاهدها على شاشة السينما بعد حقبة طويلة من الزمن، وعلى بعد كبير من مكان التسجيل، ولكنك تشعر كأنك موجود في مكان الأحداث، وهكذا شأن كل ما يقترفه الإنسان، وشأن الأحداث التي يعيشها، فإن فيلماً كاملاً لتلك الأحداث سوف يوضع بين يدي كل فرد يوم القيامة، يقول تعالى:
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً. وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (الكهف:48-49)
(هل قامت مسرحية العالم كلها لتنتهي إلى كارثة أليمة؟ إن فطرتنا تقول: لا. فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان. لا بد من يوم يميز بين الحق والباطل. ولا بد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارهما. وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه عن فطرة الإنسان. إذا لم يكن هناك قيامة فمن ذا الذي سوف يحاكم هؤلاء الطواغيت)( ).
وفي دراسة مستفيضة للدكتور دوكاس يقول في نهايتها:
(يتضح من هذا أن عقيدة بقاء الحياة بعد الموت- التي يؤمن بها الكثيرون كعقيدة دينية- ليس من الممكن أن تكون واقعاً فحسب، وإنما لعلها هي الوحيدة، من عقائد الدين الكثيرة التي يمكن إثباتها بالدليل التجريبي( ).
أما موعد الساعة فما من أحد يعلمه سوى الله سبحانه:
يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (لأعراف:187)
ولننظر في هذه الآية الواحدة لنرى كم موضوعاً حوت على قصرها:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران:185)
وآيات أخرى في السياق:
الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (آل عمران:168)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (آل عمران:154)
نخلص من هذا كله إلى نتيجة قاطعة حول المصير الإنساني والقيامة عندما تحين الساعة. فالساعة آتية لا ريب فيها. ولكن توقيتها مسألة اختص الله بها نفسه فلم يطلع عليها من خلقه أحداً. وذلك لحكمة يعلمها هو وحده.
ألم يكن في وسع محمد عليه السلام أن يتظاهر بالمعرفة وأن يدعي العلم بأمرها. ومن ذا الذي سوف يحاسبه على دعواه التي لن يظهر صوابها من خطئها في زمانه أو حتى بعد دهور من الزمن؟ ومن ذا الذي يعلم عن المسألة شيئاً من بين سائر الخلق لكي يحاسب؟ ولكن حاشاه أن يفعل وهو رسول الله الأمين.
أوَ ليس عجز الإنسان حتى اليوم، وبرغم ما بلغه من شأو في مضمار العلوم، دليل آخر على صدق القول الإلهي فيما جاءنا به؟
نرى في القرآن، وفي أحاديث الرسول عليه السلام، ما ينبئ باقتراب موعدها. والاقتراب هنا ليس وفقاً لحساباتنا المعروفة بالسنين والقرون الأرضية، إنما هي بحساب الكون ومقاييسه، التي لا يحيط بها غير الله سبحانه أيضاً. من ذلك قول رسول الله (إنما بعثت بين يدي الساعة)( ). ومنها قوله تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (القمر:1)
وقوله:
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (الأحزاب:63)
وقوله:
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (الشورى:17-18)
حتى نبي الله لم يعط علم الساعة، إذ تؤكد سائر الآيات المتعلقة بها بأن الله وحده هو المختص بعلمها، سواء في كيفيتها أو ساعة وقوعها.
وقد نرى في الآيات التالية تلخيصاً وافياً وتوصيفاً دقيقاً للوجود البشري على الأرض، والمصير النهائي للإنسان فرداً والإنسانية جماعة. تصف هذه الآيات حال الإنسان والإنسانية برمتها في نهاية المطاف.
يقول تعالى:
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى. فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى. وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا. إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا. إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (النازعـات:34-46)
تاريخ البشرية كله، وعهدها بالأرض سيبدو عندئذٍ وكأنه لم يكن أكثر من عشية ذات أمسية أو ضحى ذات يوم.


* * *

النفس الإنسانية
من الطريف أن نفس الإنسان التي تنطوي عليها جوانحه، ويقوم عليها وبها كيانه، نفسه هذه هي الأكثر غموضاً عليه من أي شيء آخر. وجه الطرافة في المسألة أنها هي هو..! وهي ذاته في الحياة وبعد الممات وبرغم ذلك فهو لا يكاد يعرف من أمرها شيئاً. والنفس غير الروح، ولكنها مثلها غامضة مجهولة الأبعاد والآفاق من قبل الإنسان. ينطبق هذا القول على نفوس الآخرين كانطباقه على نفس الإنسان الخاصة به أي أنه يجهل مكنونات أنفسهم ودخائلها. ولعل هذا الغموض هو ما حيَّر الإنسان على مر العصور. بل لقد أضنته وأرهقته، أيّ ضنى وأيّ إرهاق محاولاته للتعرف إلى نفسه، بيد أن الإخفاق كان نصيبه دائماً. وكالسراب، كانت النفس مراوغة على الدوام، كلما حسب أنه أوشك أن يبلغ سرها، لم يجد عند السراب شيئاً، وألفاها أبعد منالاً.
إن الإنسان لم ينطلق إلى أجواء الفضاء، ولا هو غاص في أعماق الأرض وأغوار البحار إلا هرباً من نفسه حين أعياه البحث عنها دونما جدوى. وهو من ثم يمضي يبحث عن أشياء تلهيه عن الجلوس إليها منفرداً، حيث لا يخيف الإنسان شيء أكثر من انفراده بنفسه، ما دام على جهل بحقيقتها، بكنهها وماهيتها. ناهيك عن أن يعرف نفس الآخر. وهو يُمضي جلَّ عمره محاولاً معرفة تلك النفس، وما تنطوي عليه، ما تريد ومالا تريد، ما توسوس له، وما تحدِّثه به، وهل هذا الحديث معها في مصلحته، ومن أجل خيره أم هو في أذاه وشره. بل إن الإنسان ليحسبها أحياناً كائناً منفصلاً عنه فيخاصمها أو يصالحها. يطلق لها عنان الحرية إلى مداه الأقصى، أو هو يقمعها قمعاً ليس في مكنة أعدائه أنفسهم أن يبلغوه منها.
إنَّ القارة غير المكتشفة حتى الآن. وبالرغم من سائر إنجازات التكنولوجيا والعلم الحديث هي نفس الإنسان، التي لم يستطع سبر أغوارها ولن يستطيع إلى ذلك سبيلاً. إن صراعه الرئيسي وعراكه الأساسي هو معها. ووجه آخر للمفارقة أيضاً هو أنه لا يسعى في حياته كلها إلا من أجلها في الوقت عينه. يريد إمتاعها وإسعادها بتحقيق رغباتها – العشوائية الهوجاء غالباً- على حساب أيِّ شيء آخر أو أحد آخر.
وقد تبدو النفس وكأنها كائن منفصل مستقل جموح يلقى صاحبها الكثير من العنت في محاولة تطويعها وترويضها، ينجح في مسعاه حيناً ويخفق حيناً. وتظل المعركة بينهما قائمة مدى الحياة.
وتبقى النفس، ذلك اللغز الغامض الذي اختص الله وحده بعلم خفاياه وأسراره. وقد لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن معظم الآيات القرآنية محورها النفس الإنسانية، سعياً لهداية صاحبها الإنسان، ولإخراجه مما تسوِّل له هذه النفس من سوء نحو الخَلْق، وكفرانٍ نحو الخالق. من ثم كان الحديث عنها وحولها منذ بداية البدايات. فالنفس هي التي تمكَّن منها إبليس فأخرج أبوينا من الجنة. والنفس هي التي سوَّلت لقابيل، منذ بدء الخليقة قتل أخيه. ومن ثم كانت هي السبب، وهي المحور المحرِّك لعوامل النشاط الإنساني كله. فهي التي تضرم الحروب بين البشر، وتثير الخصومات، وهي أيضاً التي تقيم العلاقات النافعة الصالحة بين الأفراد والجماعات. هي مصدر الحب والكره، وهي عماد الصداقة والعداوة، هي موضع الصلاح والتقوى حين تتوجَّه إلى الله ويمنُّ عليها بالهداية، كما هي موطن الشرور والآثام حين تنقاد إلى همَزات الشياطين.
آيات القرآن تؤكد هذه المعاني الحقائق. وتبين لنا أن الله وحده العليم بنفوس البشر، ما تبدي من أمرها وما تعلن. ولقد جاءت أوصاف القرآن للنفس البشرية مدهشة لدقتها في وصف حالاتها المختلفة.
نورد فيما يأتي آيات قليلة، من كثيرة في شأنها، حيث لا سبيل إلى الإحاطة في هذا النطاق الضيق، بكل ما ورد في شأنها:
يوجِّه الله سبحانه وتعالى الخطاب إلى النفس الخيَّرة فيقول:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر:27-30)
ويتحدث الخطاب إلى النفس- من نوع آخر- الظالمة مثلاً فيقول:
.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (الأنعام:93)
ومن الآيات في النفس في سياق آخر:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (الأنعام:158)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (الأنعام:164)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (يونس:100)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (يونس:108)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (النحل:111)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (الإسراء:25)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (المؤمنون:103)
وللتأكيد على أن الأنفس بيد الله، هو الذي يلهمها الهداية أو الضلال بمعنى يدُّلها، وليس على أنه يجبرها أو يسيِّرها في سبيل الضلال والغواية كقوله:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس:7-10)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (النساء:110)
الدليل على ما ذهبنا إليه هو نسبة الفلاح أو الخسران إلى صاحب النفس ذاته. (قد أفلح من زكاها) فالإلهام هو فتح الطريق أمامها في كلا الاتجاهين: الهداية والضلال ثم هي التي تختار بعد ذلك، وتتحمل من ثم مسؤولية اختيارها. ولأن النفس هي المسؤولة في الحالتين تقول الآية:
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (قّ:21-22)
وهذا يعود بنا ثانية إلى مسألة انتقال الروح بعد الموت، وأن الروح باقية، فها هي ترى بوضوح أكثر حدَّة بعد أن تخلَّصت من ثقل الجسد المادي، الذي كان يحجب الكثير من الحقائق عنها، مما أبقاها في غفلةٍ عن هذا المصير، لا سيما وأن إرضاء الجسد والنفس كانا من أسباب الشقاء الأخروي للإنسان. وفي السياق ذاته:
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (غافر:17)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (الذريات:20-23)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (الروم:8)
وآيات عن الإنسان دون ذكر النفس ولكنها تعنيها. من هذه الآيات ما هو خليق بأن يدفع الإنسان إلى التفكير مليَّاً في آلاء الله، بل وإلى إطلاق العنان لفكره وخياله في ملكوت الله، لكي يرى ببصيرته مالا يراه ببصره مما تنطوي عليه القدرة الإلهية من عظمة، ومن احتفاء بالإنسان في الوقت عينه، بحيث يهتم الله بأمره هذا الاهتمام كله. فيبعث إليه بالرسل في شتى الحقب والأزمنة (خاتمهم محمد عليه السلام بكتاب يلبث بين أيديهم ما بقي من الزمان)، وكيف يفصِّل له الآيات تفصيلاً، وينبهه إلى مصيره، ويرشده إلى سبل هدايته ويحثُّه على النظر في ملكوته وفي خلقه، وفي نفسه ذاتها، لكي يخرج في نهاية المطاف بمحصلة أفضل لدنياه وآخرته على حد سواء. من هذه الآيات:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج:46)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (الكهف:103-104)
لأن الإنسان يلبث في غفلة من أمره، لا يتذكَّر مصيره الذي سيلقاه، ولأن الحقيقة تتبدى له واضحة كالشمس في لحظات احتضاره وعند موته، عندئذ فقط يندم على ما فرَّط فيها، فيطلب مستحيلات لا تتحقق أبداً، إذ يصحو ولكن بعد فوات الأوان.
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون:99-100)
ومن حالات النفس الإنسانية:
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (فصلت:51)
إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ (المعارج:19-22)
في كلمات قليلة مكثَّفة تصوِّر حالاتٍ إنسانية، تمثل حياة الإنسان كاملة على ظهر الأرض، بما في ذلك خفايا نفسه ونوازعها، والطبيعة البشرية المتأصلة غريزياً وفطرياً في سائر الناس. ولكن القرآن يدعو إلى تهذيبها والتخفيف من غلوائها. يدلها على هفواتها وزلاَّتها وأخطائها، للعمل على الخلاص منها، والتوجُّه نحو الخير والفضيلة، والتطلُّع إلى موقع في جنة الله بعد موته، إن هو تقيَّد بأوامره ونواهيه، وأخذ بأسباب الهداية والرشاد التي سيقوده إليها عقل منحه الله إياه من أجل ذلك.
ومزيد من هذه الآيات في تصوير الإنسان وتبيان حقيقته، سواء تلك التي جبل عليها، أو تلك التي يكتسبها وكثيراً ما تكون وبالاً عليه.
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (البقرة:205-206)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب:72)
ولكن آيات أخرى تطمئن الإنسان إلى أنه قادر أيضاً على تجاوز نزعات النفس الأمارة بالسوء، بل وإخضاعها بما يملك من إرادة حازمة إن شاء لكي يكون سلوكها سوياً:
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعـات:40-41)
في صدد فضل القرآن في التعريف بالنفس، كما في دعوته وتوجيهاته إلى الارتقاء بها، رفعةً وسموّاً، عن طريق مسلكها في الحياة الدنيا. يقول هيكل في كتابه حياة محمد تحت عنوان فرعي (القرآن وأدب النفس):
(لو شئنا أن نجيء بطرف مما في القرآن في أدب النفس، وتهذيب الأخلاق لانفسح المجال إلى مالا تنفسح له خاتمة الكتاب. وحسبنا أن نذكر أنه ما حضَّ كتاب على الخير والفضل ما حضَّ القرآن، وما سما كتاب بالنفس الإنسانية ما سما بها القرآن، وما تحدَّث كتاب عن البر والرحمة، وعن الإخاء والمودة، وعن الصدق والإحسان، وعن الوفاء وأداء الأمانة، وعن سلامة القلب وصدق الطوية، وعن العدل والمغفرة، وعن الصبر والثبات، وعن التواضع والإذعان، وعن الخير والمعروف، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والإقناع والإعجاز في الأداء ما تحدث القرآن. وما نهى كتاب عن الضعف والجبن، والأثرة والحسد والبغض والظلم، والكذب والنميمة، والتبذير والبخل، والبهتان واللمز، والاعتداد والإفساد، والغدر والخيانة، وعن كل رذيلة ومنكر، ما نهى القرآن، وبالقوة والإعجاز التي نزل بها الوحي على النبي العربي)( ).
ويقول في كتابه تحت عنوان فرعي آخر (الرجل الكامل في القرآن):
(لقد طالما صوَّر الكتَّاب في مختلف العصور والأمم صورة الرجل الكامل. صوَّره الكتَّاب والشعراء والفلاسفة والمسرحيون في العصور القديمة وما يزالون حتى اليوم. مع ذلك لن نجد صورة لهذا الرجل الكامل كهذه الصورة الفذَّة التي وردت في سياق سورة الإسراء. وهي ليست إلا بعض ما أوحى الله إلى رسوله من الحكمة. لا يقصد بها إلى تصوير الرجل الكامل، وإنما يقصد بها أن يذكر الناس بعض ما يجب عليهم)( ). يقول تعالى:
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً. وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً. وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (الاسراء:23-38)
فهل كان محمد عليه السلام محيطاً بكل هذا من تلقاء نفسه لو لم يكن رسول الله؟


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 12 : 10 PM   رقم المشاركة : [19]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل الخامس عشر
قيمة العقل والفكر في القرآن



[align=justify]
دعوة لاستخدام العقل
كثيرة هي الآيات التي تحضُّ على استخدام العقل، والتفكير في آلاء الله، وشؤون الحياة والإنسان والكون، وبارئها جميعاً. لكي تحقق للإنسان المعرفة بالحقائق الكلية وموقعه منها، ومن ثم موقفه منها، وإيمانه بها القائم على يقين لا يزيغه الهوى ولا ينحرف به الضلال.
لم يعرف عن الأديان الأخرى أنها جاءت في هذا الشأن، بمثل هذا الفهم الذي جاء به القرآن (وهذا ليس طعناً فيها). غير أن هناك من ظلُّوا ينكرون هذه الحقيقة، ويعملون على الطعن فيها، بوسائل شتى، وذرائع مختلفة، برغم تهافت الذرائع وعجز الوسائل. والغريب أن هؤلاء على استعداد أن يتقبلوا نسبة القرآن لأي جهة أو إنسان عدا مصدره الحق، وهو الله. –كما أسلفنا في مكان آخر- من ثم كان أسهل شيء عليهم نسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلم كأصل في المسألة، سواء كان مؤلفاً أو ناقلاً. ولكنهم يتجاهلون حقيقة موضوعية هي من مكونات الطبيعة البشرية، وهي أن الإنسان، في العادة، يعادي أو يتنكر- على الأقل- لمن يتفوَّق عليه في مضماره. ناهيك عن أنه، لا يجنح إلى تمجيده وتعظيمه إلى حدِّ وصفه بأنه أعظم منه إذا ما كانا في صدد تنافس في ميدان ما. من ثم يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل الذي نجد أنفسنا بحاجة إلى تكراره باستمرار في هذا الصدد ابتغاء الوصول إلى القناعة اليقينية في موضوعنا هذا:
كيف ينسب محمد إلى جهة، أياً كانت، عملاً على هذا القدر من العظمة دون أن يطلب إليه أحد ذلك أو يرغمه عليه؟ لماذا لا يكون هو صاحبه، ما دام هو صاحبه..؟ وإذا كان هو أمِّياً فلماذا، وكيف يتأتى له أن يدعو إلى تعظيم الفكر، وإلى استخدام العقل للتفكر والتدبر في سائر شؤون الحياة والكون؟ أمي عادي لن يقدم على ما يكشف نقصه. ناهيك عن التنديد بالجهل، والضلال، والقصور الفكري، والتخلف المعرفي؟ ثم نتيجة لذلك تصبح دعوته هذه، والآيات التي يأتيهم بها حفية بالدعوة للعلم والمعرفة. كما تصبح مصدراً لملايين التآليف والتصانيف، والكتابات والدراسات، في شتى حقول العلم والمعرفة، منذ بعثته وفيما بعد. كما تصبح مصدراً للجدل والحوار واللدد والموافقة والمعارضة، والأخذ والرد، ليس من قبل معاصريه وحسب، وليس من قبل أمة بعينها من أمم الأرض فقط، وإنما تغدو شغل العالم الشاغل من أنصار وخصوم على مر السنين. وهل من قضية شغلت البشرية ما شغلته قضية الإسلام منذ جاء به رسوله عليه السلام؟ أليست ظاهرة الاستشراق التي شملت معظم أقطار الغرب منذ قرون حتى الآن مما يسترعي الانتباه ويلفت النظر؟ ومن بين المستشرقين من يُمضي جلَّ عمره باحثاً منقباً فيما جاء به محمد من قرآن برغم عدم إيمانه بالإسلام كدين. وغالباً ما يكون هؤلاء من النخبة المفكرة في أعلى الدرجات العلمية الأكاديمية.
فإذا كان ما جاء به محمد هيِّناً غير ذي بال أو قيمة، فلماذا كل هذا الاحتفاء به، موافقة أو معارضة. يحدث هذا إزاء دعوى صاحبها في نظرهم ليس إلا رجلاً أمياً من العرب؟ ولكن هذا الرجل (الأمي) يعلن للعالمين بلسانه هو هذه المرة: (اطلبوا العلم ولو في الصين)( ). ويعلن (تفكر يوم خير من عبادة دهر)( ). كيف استطاع هذا الرجل، بهذا الكتاب، أن يشغل الدنيا بأسرها على مرِّ الزمان؟ أليس هذا في حدّ ذاته مدعاة للاقتناع اليقيني بأنه كتاب غير عادي، ليس كأي كتاب ظهر للبشر، إذن لابد أن مصدره مغاير تماماً لما عرفوا وما ألفوا؟
وهذا الذي أسلفنا أنموذج من حديثه. بل هو يعتبر من يموت وهو في طريقه إلى أماكن بعيدة، باحثاً عن علم هو في مصاف الشهداء. أما في القرآن الكريم فالآيات المتعلقة بالعلم المعرفي، والحثِّ على طلبه أكثر من أن تحصى، هادفة وداعية إلى تعلُّم الإنسان ما لم يعلم، وإلى التذكُّر وإعمال الفكر. نورد من هذه الآيات كأمثلة:
.. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (إبراهيم:25)
وتقول آية، على سبيل التساؤل لإثارة الفكر:
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (البقرة:266)
وفي استخدام العقل:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران:190-191)
وفي تمجيد العقل والحكمة:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (البقرة:269)
ومثل من واقع الحياة والأحياء:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24)
ولمقارنة الفرق بين العلم والجهل وتشبيه الجهل بالعمى، بعد الآيات التي تصف الفريقين:
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (هود:24)
وآيات أخرى في العلم والفكر والتدبر والمعرفة:
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء:36)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (الاسراء:71-72)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (يونس:5)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (الأنعام:104)
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (الأنعام:50)
هذا الحشد الهائل من الآيات ليس إلا نزراً يسيراً من كثير لا سبيل إلى الإحاطة به في هذا المقام.
الآيات تقدم رداً مفحماً على الذين يتهمون الإسلام بالجمود وعدم الملاءمة لروح العصر في الأزمنة اللاحقة على نزوله. هؤلاء جهلة أو مغرضون. فمنهم من يتخذ من حال الأمة الإسلامية الراهن دليلاً على ذلك. ومنهم من يزعم معاداة الإسلام للعلم والمعرفة، بدليل وقوف المسلمين عند الموروث عن السلف قبل عديد من القرون، فضلاً عما هم عليه من تخلف وتراجع.
هذان فريقان، أحدهما من المسلمين أنفسهم المنبهرين بـ (الحضارة) الغربية. ثانيهما من غير المسلمين: الغربيون الاستعماريون منهم واليهود أعداء الإسلام التقليديين على مرّ العصور.
لا بد من التنويه إلى أن هناك خلطاً في الفهم والتقييم أدَّى إلى عدم التفريق بين الإسلام، بكل عظمته كمبدأ وعقيدة ومنهاج للحياة، وبين ما هو عليه حال المسلمين من تقصير وإساءة فهم للإسلام، وابتعادهم عنه وأخذهم بما يشبه الثوب المرقع من هنا وهناك، دونما إدراك أو تدبُّر، فعمَّت في مجتمعاتهم الفوضى الفكرية والثقافية، وتخلفوا صناعياً وعلمياً وسياسياً عن موكب المدنية المنطلق منذ قرون إلى آفاق أمسى من غير اليسير عليهم اللحاق بها حتى لو شاءوا. فما بالك في كونهم- أو كون معظمهم- ما انفكُّوا غير مدركين لواقع الحال من جهة، ولما ينبغي أن يكونوا عليه من جهة ثانية. المسلمون اليوم- في عبارة واضحة محدَّدة- لا يمثلون الإسلام على الإطلاق. وهم من ثمَّ يسيئون إليه أمام الأعداء والخصوم، إذ يحسبونهم ممثليه، وأن الإسلام هو هؤلاء، وأن ما يعانون من تخلف كان الإسلام سببه.
ولقد سبق للإمام محمد عبده أن شخَّص هذه الحال، منذ أوائل القرن الماضي حين زار أوروبا، وتأثر بما رآه هناك من تقدُّم مدني، مقارناً إياه بما كان عليه حال المسلمين في الشرق- ولا يزال- فقال كلمته المشهورة: (رأيت في أوروبا مسلمين من غير إسلام وعندنا يوجد إسلام بغير مسلمين). قد يكون لنا رأي متحفظ أو تفسير لما ذكر الإمام ليس هنا أوانه.
كذلك كان الأمر مع المفكر العربي في تلك الحقبة، الأديب شكيب أرسلان الذي عرض للمسألة في كتابه (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم).
صورة المسلمين اليوم في اسوأ حالاتها. ولكن ليس الإسلام هو سبب ذلك. بل إن الإسلام هو أول ما يدينهم على واقعهم الذي هم عليه. فهو يريد لهم الوحدة أولاً تحت لواء العقيدة كما يريد لهم، التقدم والتفوق ليكونوا طليعة للآخرين- وليس العكس- بما يتيح لهم، فيما لو طبقوه في مجتمعاتهم وشؤون حياتهم. الإسلام يدعوهم لأن يكونوا الطليعة في قيادة البشرية، من أجل خيرها، بما ينشره من عدالة ومساواة بين البشر، حيث لا أحمر ولا أسود ولا أبيض إلا سواء في الإنسانية. وحيث لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والصلاح وفعل الخير، بصرف النظر عن العرق والجنس واللون والانتماء، الأمر الذي ما برحت البشرية تعاني بسببه في معظم صراعاتها. فما الأثنية والتطهير العرقي والتمييز بين الأعراق والأجناس. سوى آفات العصر التي أفرزتها (حضارة) الغرب وقادته وعلى رأسهم اليهود.
لقد نسي العالم، والمسلمون أنفسهم أو شكوا على نسيان حقيقة ناصعة: هي أن ما جاء به الإسلام إلى البشرية لم يؤت مثله، برغم سائر الدعاوى والفلسفات والنظريات التي ما برحت تظهر هنا وهناك، من حين لآخر عبر القرون، وكان نصيبها جميعاً الإخفاق. فلم تحقق للإنسانية سعادة ولا خيراً. بل على العكس من ذلك تماماً. الغربيون أنفسهم أصحاب هذه الدعاوى ليسوا سعداء تماماً بما هم عليه. صحيح أنهم ينعمون بالكثير من مظاهر المدنية، وأدواتها المريحة (للجسد وحده)، ولكنها لم تشبع أرواحهم ونفوسهم، وهم في أمسّ الحاجة إلى ذلك، وإلا لما رأينا حالات الكآبة والانتحار بين الأفراد، في مجتمعاتهم. ولقد أينا ونرى في كل يوم لجوء الكثيرين منهم إلى اعتناق ديانات وعقائد أخرى، لأن (حضارتهم) الراهنة وفلسفاتهم المادية المتجاهلة لإنسانية الإنسان أبعدتهم عن كل انتماء روحي حتى عن المسيحية نفسها.
إن معظم أسباب المعاناة وضروب المآسي والمظالم القائمة في عالم اليوم هي التقدم العلمي (المادي) الذي بلغته المدنية الغربية (ولا نقول الحضارة) دون أن يواكب ذلك ما يوازيه من تقدم روحي وأخلاقي – لا يأتي إلا عن طرق الدين- فالإنسان ليس جسداً فقط وإنما هو جسد وروح. ولعل إشباع حاجاته الروحية أكثر ضرورة وإلحاحاً من حاجاته الجسدية.
وعود إلى موضوعنا بعد هذا الاستطراد
القرآن يتوجه دوماً بالخطاب إلى أولي الألباب وإلى الذين يعقلون وأولي الأبصار و الذين يتفكرون و الذين يعلمون. كما يحثُّ على الإطلاع والدراسة والبحث التي هي وسائل الإنسان إلى المعرفة والعلم. كما يرد فيه، وبكثرة، ذكر القلم والكتاب وفعل الكتابة:
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (يونس:101)
أليست هذه دعوة للبحث العلمي الشامل، دونما تحديد أو حدود في آفاق (السموات والأرض)؟ النظر المطلوب في الآية يقتضي توفير أدوات ووسائل تستخدم في البحث والدراسة والتقصي لماهية ما ينظر فيه.
أول سورة تنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم كانت:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق:1-5)
نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (القلم:1-2)
وهناك الآية الخاصة بالكاتب بالعدل في سورة البقرة رقمها 282 فليرجع إليها.
وآيات أخرى في شأن الكتاب والكتابة:
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (الاسراء:13-14)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (البقرة:285)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (الفرقان:5)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ. قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (النمل:28-29)
(القلم) هو الأداة الأولى اللازمة في أي محاولة للبحث والتعلم لكي يعلم الإنسان ما لم يكن يعلم قبل ذلك.
وحثّاً على التحصيل العلمي كذلك يقول تعالى:
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (طـه:113-114)
ولأن العلم بلا حدود فيظل طلب الزيادة في العلم بلا حدود أيضاً، لاسيما حين يكون المطلب شاملاً آفاقه السموات والأرض بكل ما فيها وما تزخر به.
وفي سورة البيَّنة نقرأ الآيات:
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً. فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (البينة:1-3)
وقد أوردنا فيما سلف آيات تبدأ بالسؤال ألم تر. هذا التساؤل المثير الخطير ألم تر ماذا يعني غير الحضِّ على الرؤية والتبصر، وتضمين التنديد- في الوقت عينه- بمن لا يفعل.
الرؤية هنا قد تكون معاينة: كرؤية الشمس والقمر والنجوم وسائر المخلوقات في الأرض، والإنسان نفسه مما يفضي، بعد التأمل إلى الوصول إلى حقيقة بدهية، هي أن لهذه جميعاً خالقاً يدبر أمرها. وقد تكون الرؤية مجازية، بمعنى استشراف الآفاق الكونية بالبصيرة والعقل، وتحليق الخيال للتصوُّر والتأمل في آيات الله. فالإنسان لم ير السموات والأرض حين كانتا رتقاً. وهو لم ير كيف يبدأ الله الخلق ثم يعيده، والإنسان لم يشهد أحداث الأزمنة الماضية. ومصائر الأمم الغابرة، ولكنه يدعو إلى الرؤية بإعمال العقل والفكر والمخيلة، ليستخلص المعنى، ويستنبط الحقيقة. وتأكيداً على هذا المعنى- عدم الرؤية المحسوسة- يقول تعالى:
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (الكهف:51)
ثم تأتي آية جامعة مانعة تشمل الكثير من المسائل التي حاولنا التعامل معها كقوله تعالى:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (الكهف:54)
مؤكدة لحقيقة إنسانية عامة وملموسة، هي أن الإنسان كان حقاً ((أكثر شيء جدلاً)). ذلك فضلاً عما تمضنته من تأكيد على أن القرآن جاء للناس بكل مثل ونبَّه إلى كل حقيقة.
وما أكثر الآيات التي تدعو إلى النظر والتمعن في مسائل الخلق، وهي دعوة إلى العلم والمعرفة عن طريق النظر سواء بالحواس أو بإعمال الفكر كهذه الآيات:
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (لأعراف:185)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (الغاشية:17-20)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (قّ:6-7) وإلى الآية:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت:20)
من علامات تقصير المسلمين في حق إسلامهم، وبالتالي حق أنفسهم بعد أن كانوا سباقين في شتى العلوم، مسترشدين بما حفل به قرآنهم من نور وهداية وإرشاد، يمكننا القول- بأكبر قدر من الإيجاز- بأنه لا ينكر هذه الحقائق إلا مكابر. فالغرب نفسه يعرف لكنه لا يعترف بأن حضارته قامت على إنجازات العلماء المسلمين. وهم يعرفون ابن سينا، وابن الهيثم، والفارابي، وابن حيان، والرازي، وابن النفيس، وابن زهر، وابن رشد، وابن خلدون، وغيرهم وغيرهم، مما لا سبيل إلى إحصائه.كما أنهم يعرفون- وإن أنكر الكثيرون منهم ذلك فنسبوه إلى اليونان- أن أوروبا أخذت عن هؤلاء أسس نهضتها التي بدأت فيما يسمونه هم (عصر النهضة). فقد كانت الجامعات الإسلامية في أسبانيا وصقلية، وشمال أفريقيا مقصد الأوروبيين لتلقي العلم فيها، تماماً كما يفعل طلابنا اليوم في ذهابهم إلى أوروبا وأمريكا. كما كانت الحروب الصليبية سبيلاً لاحتكاك الأوربيين بالديار الإسلامية ونقل الكثير عنها مما بلغته آنئذٍ من علم ومدنية ومعارف.
ومن الأمثلة على جحود الغربيين وتنكرهم لفضل العرب على الحضارة:
يقول الغربيون إن (أرسطو طاليس) الإغريقي كان أول القائلين بكروية الأرض. ولكن طاليس لم يقل بدورانها، بل كان يعتبرها مركز الكون. وذلك خطأ فادح تنزهت عنه آيات القرآن الكريم. كما أن طاليس قال بكروية الأرض واستدارة كاملة لها، في حين أن شكلها بيضوي. والقرآن أول من قال ذلك للناس.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (النازعـات:30-31)
معروف أن الدحية تشبه البيضة.
كما أنه لم يعرف- ولا عرف غيره- آنذاك أن الأرض مائلة على محورها بسبب نقص في طرفها عند المحور، وأن أطراف القارات يعتريها النقصان المستمر. القرآن قال ذلك:
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (الأنبياء:44)
ولنلاحظ تلكما الآيتين: أولاهما وصفت الأرض كالدحية. أي شكلها الحقيقي تماماً. والثانية ذكرت الزرع والنبات الذي يخرج من الأرض بسبب النقص الذي يميلها على محورها، في مواجهة الشمس، لتتكون الفصول التي لولا تعاقبها لما كان هناك نبات، وبالتالي لا حياة على ظهرها، لبشر أو حيوان، أو طيور أو حشرات، أو أحياء برية وبحرية، على وجه الإجمال.
أما (كوبر نيكوس) فيقول بأن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس. ولكن الآية جاءت قبل نحو من ألف سنة من كوبر نيكوس، تقول:
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل:88)
لقد فهم المفسرون القدامى أن ذلك من أحداث يوم القيامة. ولعلهم معذورون فيما ذهبوا إليه، حسب معطيات عصرهم العلمية الشحيحة. كان تفسيرهم خطأ بطبيعة الحال. فالإنسان عندما تقوم الساعة، ويُرى ((الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)) لن يكون في وضع يسمح له بتلك الرؤية، بل إن الإنسانية كلها تكون، عندئذ في حالة تصفية ونهاية لقيام القيامة، فكيف يتسنى للناس أن يروا الجبال أو غيرها وهم في حالة الذهول والروع المحيقة بهم؟ أي ((ناس)) معنيون هنا؟ وهل سيكون هناك أحياء؟ فالقيامة ((كلمح البصر أو هي أقرب)). ثم إن الجبال سوف تدمر تماماً.
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (طـه:105-106)
المعنى المقصود في الآية الكريمة، وحسب معطيات العصور اللاحقة لعصور المفسرين القدامى، هي الرؤية والتأمل والإدراك بأنها تدور مع دوران الأرض. فهي ((تمر مرَّ السحاب)) برغم أنك تراها ((فتحسبها جامدة)) ساكنة في مكانها وحقيقة أمرها غير ذلك. (سبق أن عرضنا لشيء من هذا).
أما الشمس، فما من أحد عرف من قبل أنها وهي تسبح في فلكها لها مستقر نهائي ((تجري لمستقر لها))، وأنها سوف تصل إلى ذلك المستقر ذات يوم يعلمه الله وحده. ولقد تبين أخيراً عن طريق العلم بأدواته وآلياته المختلفة أن الشمس تسعى نحو برج النسر، الذي يجري بدوره ((وكل في فلك يسبحون)) لغاية أخرى وفي مدار آخر. والشمس إذ تفعل ذلك تسحب معها مجموعتها من الكواكب السيارة. لكن سرعتها سوف تدرك سرعة برج النسر في وقت ما لتستقر داخله وينتهي أمرها، ومن معها من توابع. ومن شاء فليعد إلى المراجع العلمية الفلكية، ففيها تفصيل ذلك. ومنها الثقوب السوداء التي اكتشفت وجودها المراصد في وقت ليس ببعيد، والتي يمكن أن تبتلع الشمس وكواكبها معاً فلا تبقي لها أثراً. وهذا مصداق قوله تعالى:
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الأنبياء:104)
وقوله تعالى:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (الزمر:67-68)
هذه الحقائق العلمية لم تكن متاحة في عصر محمد عليه السلام، ولا في عصور لاحقة تجاوزت قروناً من بعده، إلى أن جاء الزمن الذي عرفت فيه البشرية هذه الحقائق والمكتشفات التي مضت تظهر تباعاً وتدرجاً عن طريق العلم، وليس دفعة واحدة لحكمة اقتضتها إرادة الله.
الحث على العلم إذن، والحضُّ على إعمال الفكر في هذه الآيات، بغية الوصول إلى الإيمان عن طريق المعرفة. وهي متسقة مع الآيات التي تشرح العمليات الجارية في الكون، في السموات والأرض، على الحياة والأحياء، واستنباط النظريات العلمية لتفسير هذه الظواهر، والإفادة منها في شتى ميادين النشاط الإنساني، الهادف إلى تطور الإنسان وتقدمه على مر الزمن. فالله سبحانه لم يخلق الكون عبثاً، وكذلك الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا عبثاً:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (صّ:27)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (الدخان:38)
صدق الله العظيم.
ما تضمنته الآيات الكريمة من معطيات ومعلومات كشف عنها العلم تباعاً لما يصير العجب والدهشة، إن لم نقل الذهول. فأني لمحمد أو لأهل زمانه والحالة هذه القدرة على الإحاطة بها؟ لكأن العلم شاء له الله أن يرد في متوالية متواصلة على مدى الزمن تصديقاً لما بين الأيدي وما في الصدور من كتاب الله. لكأنه ــ فيما يبدو ــ يأتي منجّماً في فضائيْ الزمان والمكان.


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 07 / 2008, 19 : 10 PM   رقم المشاركة : [20]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: القرآن ومحمد .... لمؤلفه : د.يوسف جاد الحق

الفصل السادس عشر
حفظ القرآن
المعجزة الأزلية



[align=justify]
الوعد ـ المعجزة
إننا نقرأ اليوم قوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9)
ولا يخلف الله وعده فنقرأ في كتابه:
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (إبراهيم:47)
إننا نقرأ الآية الكريمة اليوم كما تنزلت تماماً، وبعدما ينوف على أربعة عشر قرن من الزمان. إنها المعجزة التي لا سبيل لمكابر أن ينكرها. القرآن اليوم في كل منزل لدى مليار ونصف من المسلمين هو هو كما تنزل يومئذٍ على محمد رسول الله عليه السلام من هنا تصبح في حكم المستحيل احتمالات ضياعه أو تزويره أو العبث في محتواه.
لو لم يكن الوعد إلهياً، ولو لم يكن الرسول ناقلاً لذاك الوعد لما صمد التحدي حتى يومنا هذا. من ذا الذي يمكنه ـ في أي زمان أو مكان ـ أن يصدر وعداً للمستقبل وأن يقطع عهداً يقول منذ البداية بأنه لن تكون هناك جهة أو قوة أبداً قادرة على العبث به أو تغييره أو تبديله، ولو بالكلمة الواحدة أو الحرف الواحد؟ من ذا الذي يجرؤ على فعل ذلك ويضمن النتيجة سلفاً لقرون سوف تأتي. والقرون حافلة بالمتربصين والمناوئين والمعارضين بالقلم وبالسيف معاً تماماً كما هو الحال عند صدور الوعد.
لو كان صاحب القول من البشر هل كان يضمن لقوله بقاء على الزمان؟ ثم يقيَّض له البقاء فعلاً وواقعاً؟
معجزة إلهية تتحقق نراها اليوم رأي العين. فلقد حفظ الله قرآنه من أي عبث أو ضياع، فبقي كما تتنزل على نبيِّه، على الرغم مما تعرّض له منذ ظهوره من محاولات التحريف والتجديف والتقليد. وعلى الرغم مما واجه من عداوات وخصومات وحروب، لم يهدأ لها أوارٌ أبداً. وكانت على الدوام من قبل قوى باغية لها رؤاها وتوجهاتها، رأت فيه خطراً على مصالحها. ولم يكن ذلك صحيحاً بطبيعة الحال، فهي لو وعته وأدركت معانيه ومراميه، لأقبلت عليه وتنكَّبت طريقه، لوجدت فيه الخير والفلاح دنيا وآخرة لها ولغيرها، على حد سواء، واستلهمت منه الوسائل والسبل لحلِّ مشاكل الإنسان ومعالجة قضاياه وهمومه في سائر الأزمنة وكافة الأمكنة.
كان اليهود وراء ذلك العداء للإسلام منذ البدايات، وما برحوا كذلك. ولقد عملوا دون كلل على جبهتين. أولاهما: محاربة الإسلام والتنكر لأصحابه. ثانيتهما: العمل على تضليل البشرية بتشويه صورة الإسلام في نظرها، لإبعادها عن محاولة الاقتراب منه وفهمه على حقيقته. وكانت أهدافهم سياسية دائماً. كان من شأن ذلك الإساءة للبشرية نفسها بسبب ما عمدت إليه هذه الفئة الضالة من البشر من تضليل، انجرفت معه ووراءه دول وشعوب برمتها مما يدعو للأسف والأسى معاً. فلقد حرموا الأجيال المتعاقبة من البشر نور الإسلام وهدايته. ولقد عمدوا، فضلاً عن ذلك، إلى نشر مفاهيم وممارسات وثقافات سيئة تقوم على تعميم الانحلال والمفاسد والتحلل من القيم والأخلاق، وحتى المشاعر الإنسانية ذاتها. وقد زيَّنوا لهم ذلك بدعاوى ضمَّنوها مقولات جذابة براقة، ابتكروا لها مصطلحات ومسميات ونظريات يطلقونها على متبنيها من قبيل (حضاري)، (متطور)، (علماني)، (متقدم)، (عقلاني)، (حداثي)، (عصري)، وما إلى ذلك من مفردات برعوا في اختراعها ثم تعميمها. أما على الجانب الآخر- الإسلامي- فراحوا يبتكرون أيضاً مسميات ومصطلحات تروقهم وتشوِّه صورة الإسلام في الأعين، من قبيل: (متخلف)، (متطرف)، (رجعي)، (بدائي).. ثم أخيراً (إرهابي).
وقد يتساءل المرء لماذا يعمد اليهود إلى صنيعهم هذا على الدوام؟؟
ولعل الإجابة على السؤال تحتاج إلى حيِّز أوسع. لكننا نجمل فنقول:
إن اليهود يعتقدون بأن بقاءهم وسلامتهم- لقلة عددهم وحسب تفكيرهم المريض في الوقت نفسه - يتطلب إثارة العداوات والحروب بين شعوب الأرض وأممها قاطبة، لكي ينشغل هؤلاء عنهم فيما بينهم من جهة، ولكي يستغلوا الجميع لمصالحهم من جهة ثانية. من أجل ذلك لا بد لهم من العمل على إشاعة الفوضى في كل مكان، وتدمير الأخلاق والذمم وإهدار المبادئ والقيم، وهو ما نراه شائعاً ومنتشراً اليوم على نطاق واسع. بل إن جلّ ما يعاني العالم الآن من ويلات ومآسٍ وفواجع أتت على كل ما هو جميل وخيِّر في الإنسان والإنسانية، لا سيما في حقبة المائة والخمسين سنة الأخيرة.. كل ذلك كان من صنيعهم. وكان دأبهم – إبان ذلك كله- مواصلة حربهم على الإسلام والمسلمين دون هوادة، وعلى كل صعيد. ولا يعني هذا أن المسيحية والمسيحيين يسلمون من مؤامرتهم، ومن عداوة يكنُّونها لها ولهم، ولكنهم كعادتهم- فيما عرف عنهم من قدرة على النفاق واستغلال للظروف والمعطيات كافة- يتظاهرون لهم اليوم بالموالاة والصداقة، تأميناً لمصالحهم، ودفعاً للأذى عنهم، من جهة، ولكي يستعينوا بهم في معاداة الإسلام والمسلمين في حربهم على هؤلاء من جهة ثانية.
أن يلبث القرآن – على الرغم من كل ذلك- محفوظاً كما تنزَّل على رسول الله لهو المعجزة في أعظم تجلياتها.؟
أليس هذا عجيباً في أي حساب وبأي مقياس بشري؟
كيف تنجو دعوة كالإسلام، ويسلم كتاب كالقرآن أمام عداءٍ مستديم ينهض في وجهه، من قبل أعتى قوى الأرض نفوذاً وحيلةً ومكراً؟ قوى لا يردعها خلق ولا دين ولا مبدأ، تبرر كل وسيلة إجرامية من أجل غاياتها، وأولى تلك الغايات عندها محو الإسلام والمسلمين عن ظهر هذا الكوكب- لو استطاعت- ومن غاياتها تشويه القرآن والسعي بكل جهدها ووسائلها إلى تحريفه إن لم يكن إزالته من الوجود. ثم بعد هذا كله نراها لا تفلح في كلا الأمرين، فيبقى الإسلام على الرغم من كل ذلك. ولئن شاب المسلمين ضعف، في زمن ما فإنه لن يدوم، وأما القرآن فيبقى على ألقه وبهائه الذي كان عليه يوم تنزل به الوحي الأمين. ومن المثير للدهشة أن ضعف المسلمين، ومرورهم بما سمي (عصر الانحطاط) الذي دام قروناً، لم يمكِّن خصومه هؤلاء من تحقيق أهدافهم، مما يلقي في الروع بأن الله هو الحافظ لقرآنه ــ كما وعد ــ وليس المسلمون في ظروف ضعفهم.
الآيات المنزَّلة في شأن حفظ القرآن وما يدور في هذا المعنى كثيرة، تجدها هنا وهناك في ثنايا المصحف الكريم، توحي ضمناً أو تقول صراحة بذلك.
يقول تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت:41-42)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (الفرقان:1-2)
هذه الآيات تتحدث عن العالمين أي سائر البشرية دونما تحديد لزمان أو مكان. كما تتحدث عمَّن أنزله، وهو الذي يعلم سرَّ السموات والأرض والخلق من بشر وأفلاك. إذن هذا الكتاب الذي أنزل على هذا النحو ولهذه الغاية ليكون للعالمين نذيراً وليكون عزيزاً، وليكون هدى ونوراً للبشر، لا ريب في أنه سوف يكون محفوظاً ومحاطاً بعناية الله ورعايته، القادر بعنايته وتدبيره على حفظه، فهو لم ينزله لكي يكون محلَّ عبث أو عرضة لضياع.
ونقرأ في سورة الشعراء:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء:192-195)
إلى أن يقول بعد آيات خمس من السورة نفسها:
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (الشعراء:201)
لم تحدد الآية زماناً محدداً فهي على إطلاقها مفتوحة على الزمان والمكان.
واضح جليٌّ هنا ــ ومن آيات كثيرة ــ أنه باق حتى دون أن يؤمنوا به إلى يوم القيامة. وليس معنى ذلك بالضرورة أنهم سوف يمكثون على عنادهم وكفرهم طول الزمان وإلى يوم يبعثون، بدليل أن كثيراً من الناس وعلى مدى الزمن آمنوا به واعتنقوه. بل إن منهم من ناصره ودافع عنه وحارب من أجله من بعد عداوة. كان ذلك على صعيد الأفراد ــ والقائمة طويلة ــ وعلى مستوى الشعوب والأمم كما حدث مع المغول والتتار وهو الغزاة المحتلون. وقلما حدث في التاريخ أن دخل الغازي المحتل في دين من وقع عليه الغزو وكان ضحية الاحتلال. حالة فريدة مرت في تاريخ الإنسانية. ولهذا دلالته فيما تحت بصدده. وكما حدث في أقطار غربية أصبحت معروفة بإسلامها اليوم مثل بعض دول البلقان (البوسنة والهرسك وألبانيا وداغستان وطاجكستان وأوزبكستان) وغيرها. وهذا القول ينطوي على معنى الأزلية، وحفظ التنزيل إلى يوم الدين.
ومثل هذا المعنى يرد في الآيات التالية من سورة (ص)، إضافة إلى معاني أخرى تتضمنها:
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (صّ:86-88)
بعد حين خطاب موجه بالقطع إلى أناسٍ غير معاصرين للرسول. التعبير مفتوح على الزمن القادم دونما تحديد. والله سبحانه لن يقول لنا ذلك، لو كان القرآن معرضاً للزوال أو الضياع أو التحريف في الزمن القادم الموما إليه. أما النبأ الذي سوف يعلمه الناس مستقبلاً فهو في علمه. وقد ذهب بعضهم في تفسيره، إلى ما سوف يظهر من علوم، وآيات في الخلق، واكتشافات تبين معها الحقائق الخافية على الناس عند ظهور القرآن. أي أن ما سيحدث في قابل الأيام سوف يكون مصداقاً لما ينبئهم به القرآن عند نزوله. وقد أتينا على شيء من هذا في صفحات سبقت.
ويقول تعالى في سورة فصلت مخاطباً رسوله، مؤكداً له بوعد قاطع أن ما من أحد بقادر على تبديل كلمات الله المنزّلة. وأنه ليس في وسع بشر أن ينجح في فعل ذلك.
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (الكهف:27)
وفي سورة فصلت آيات تؤكد مصدر التنزيل- كما في آيات في سور أخرى كثيرة جداً في هذا الصدد- كما تذكر بأـن القرآن تنزل بلغة الرسول وقومه لكي يفقهه هؤلاء. ولكي يكون لهم علمٌ بمضمونه وفهم في تفسيره وتأويله، ثم حمله إلى سائر الناس من بعد. كما يذكر لهم فيها أن آيات القرآن فصِّلت تفصيلاً، وتحدثت في سائر الأمور: في الفقه والتشريع، في التوجيه والتعليم، في شؤون العبادة والعقيدة، وغيرها وغيرها. إذ تقول في آيتين قصيرتين بعد (حم) عن هذا كله.
حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (فصلت:1-3)
لقوم يعلمون تشمل الكافة وليس قريشاً وحدها، ومن حولها من العرب، أو زمن هؤلاء. هل جاء القرآن بكل هذا التأكيد على البقاء والانتشار، بعد ذلك، لكي ينسى من بعد، أو لكي يحرَّف كما حدث لكتب سابقة من قبل؟
ويحمِّل القرآن مسؤولية الرسالة للرسول عليه السلام، وقومه معه، ومَنْ سيجيئون بعده من أمته في قوله تعالى:
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ (الزخرف:43-44)
القوم لا ينقطعون بوفاة الرسول. القوم أمة متواصل وجودها في المستقبل.
مصطلح (القوم) على إطلاقه لا يمكن أن يعني الناس المعاصرين لزمن الرسول وزمن التنزيل وحده. بل يعني قوماً ممتدين في الزمان. وللتأكيد على معنى حمل المسؤولية من قبل هؤلاء القوم، ينذرهم بأنهم سوف يسألون عن حمل الرسالة التي كلفوا بها. ويسألون هم عما فعلوا. هل حملوا الأمانة أم قصَّروا في حملها؟ يطلب الله سبحانه إلى الرسول الاستمساك بما أوحي إليه، وهذا الذي أوحي إليه هو الطريق السوي الصراط المستقيم الجدير بالاستمساك به وبنشره وتعميمه، و (عولمته)- إذا جاز التعبير- أي تعريف العالم أجمع بأمره وبما ينطوي عليه من هدى ورشاد، ومن خير عميم لصالح الإنسان في دنياه وأخراه. فالإسلام دين ودنيا، روح وجسد، عقل وقلب، فكر وعاطفة.
و سوف تُسألون. متى سيكون السؤال؟ (سوف) التي تفيد الحال والاستقبال. وعن ماذا سيكون السؤال؟ في يقيني أن الجواب واضح بالبديهة لمن شاء أن يبصر نور الحقيقة.
لما كان القرآن يخاطب الرسول والذين آمنوا معه، والذين يؤمنون به، حاضراً ومستقبلاً، فإن الآيات التالية تعبر عن الكثير من معنى (الحفظ) والبقاء والديمومة، فنحن اليوم مخاطبون بالقرآن، تماماً كما كان المسلمون الأولون مخاطبون به في عهد الرسول ثم من بعده. ندرج من هذه الآيات للدلالة قوله تعالى:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً. قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (الإسراء:105-107)
وللنظر في هذه الآيات ضمن السياق وفي المعنى ذاته أو ما هو في بابه. بمعنى أنها آيات لا تعالج حالة مؤقتة، ولا تتحدث عن أمر عرضي، بل هي في شأن آيات القرآن نفسه، دستور المسلمين وجوهر إسلامهم، الذي أنزله الله على رسوله لكي (ينصره على الدين كله). ولكي يبقى في الأرض ما بقي الإنسان، لا سيما وأنه يتحدث دائماً عن (الناس) و (العالمين) و (الإنسان) دونما تحديد لجنس أو هوية، وهي مصطلحات عمومية شاملة لا تخص فرداً أو فئة أو جماعة أو قوماً أو عنصراً:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (الإسراء:89)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (الكهف:54)
.. هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (لأعراف:203)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (يونس:61)
ولعل الآية التي نزلت ختاماً للقرآن، كانت تعريفاً بأن هذا القرآن الكامل أصبح دستوراً للأمة الإسلامية ارتضاه الله لها. وبه أتمَّ نعمته عليها.
وقد تلاها رسول الله عليه السلام على المسلمين في حجة الوداع:
.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً.. (المائدة:3)
وآية تنزلت قبلها:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (آل عمران:85-86)
لو كان في علم الله أن تغييراً أو تحريفاً سوف يقع لما توعَّدهم بعدم القبول وبالخسران في الآخرة إذا ما تنكبوا طريقه، إذ كيف يكون الأمر كذلك لو كانوا معرَّضين في المستقبل لمثل ذلك (أي تحريف القرآن أو التبديل في آياته وأحكامه أو احتمال الضياع لنصوصه؟). والكفر بعد الإيمان كان يمكن أن يحدث، بل لا بد أنه كان سيحدث لو كان التغيير وارداً. إذ إن النص الذي سيصل إليهم عندئذٍ ــ الأجيال القادمة ــ لن يكون النص المنزل كما نزل والمطلوب اتباعه؟ هم إذن مسؤولون عن خروجهم على الإسلام أو الانحراف عن نهجه، بعد أن ضمن الله بقاءه محفوظاً إلى يوم الدين في المسطور كما في الصدور.
ألا يُسلمنا هذا إلى سؤال محوري يطرح نفسه هو:
ــ لماذا ثبت حفظ القرآن على مدى القرون فلبث سليماً تماماًَ كما نزل به الوحي الأمين في حين تعرض الحديث إلى ضروب من التلفيق والاختلاق والتزوير والتقليد والمحاكاة وكلاهما جاء على لسان محمد عليه الصلاة والسلام؟
ــ ألا يُستخلص من ذلك نتيجة بدهية كلنها حتمية حسب المقاييس المنطقية هي أن القرآن كلام الله الذي وعد الله بحفظه في حين كان الحديث كلام محمد؟ وما محمد إلا بشر يجوز على كلامه ما يجوز على كلام بشر آخرين.
لقد شغل علماء المسلمين، فيما يتعلق بالقرآن وتفسسيره، في حين شغلهم الحديث بالبحث عن صحيحه من موضوعه، عن قويه من ضعيفه، عن المجمع عليه باتفاق من المشكوك في أمره.
ألا يكفي هذا دليلاً لقوم يعقلون، وحجّة في الوقت نفسه على آخرين عميت فيهم القلوب التي في الصدور؟
ويظل التحدي قائماً صامداً في وجوه المكابرين جميعاً:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة:24)
ويظل التحدي قائماً:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (ابراهيم:47)
فيا أيها الناس:
ما معنى أن يظل التحدي قائماً على مر العصور؟
وما معنى أن يصدق الوعد على مدى القرون؟
فدع الإجابة على كل ذلك لمن لهم أعين يبصرون بها وآذان يسمعون بها وأفئدة يهتدون بها وعقول توصلهم إلى الحق والحقيقة.


* * *

كيف جمع القرآن؟
الآيات الدالة صراحة أو ضمناً على حفظ القرآن، وديمومته، وشموليته أكثر من أن يتسع لها المقام. فلنكتف بهذا القدر الذي تيَّسر لنا لكي نأتي إلى مسألة جمعه في مصحف بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى. ذلك أن كثيراً من الخصوم يشكِّكون في مسألة الجمع تحديداًـ فهي مسألة بالغة الأهمية. كان لا بد لهؤلاء أن يسعوا إلى البحث عن مطعن فيها، أو التنقيب عن هنةٍ أو مأخذ، وحين يعجزون هنا يبحثون هناك علَّهم يقعون على ضالتهم المنشودة.
ولتكن مسألة جمع القرآن هذه المرة، فلعلَّها أسهل عليهم مما دعاهم إليه، حين تحدَّى قدرتهم على الإتيان بسورة من مثله. وقد استندوا في دعاواهم على حجة تقول بأن الرسول عليه السلام انتقل إلى الرفيق الأعلى دون أن يترك وراءه هذا المصحف. وإنما تمَّ تجميعه بعد ذلك بزمن ليس بالقصير، من الصحف والرقاع المتفرقة و (المتناثرة)، مما يجعل احتمال فقدان بعض منها – كثيراً أو قليلاً- وارداً. وأن هذا الجمع قد تمَّ في عهد الخليفة عثمان، أي بعد نحو من سبع وعشرين سنة لا بدَّ أنه تعرَّض خلالها لاحتمالات شتى. واستنتاجاً يخلصون إلى نتيجة تقول: بأن هذا القرآن المتداول بين أيدي الناس ليس هو القرآن الذي نزل على محمد بتمامه. أو أن تغييراً أو تبديلاً في كلماتٍ أو آياتٍ منه قد وقع. أو أن آياتٍ أو كلماتٍ دخلت عليه وهي ليست منه.
ولكن المسألة لم تكن كذلك أبداً. فالذي حدث ــ وعليه إجماع ــ هو الآتي:
كان ابتداء الوحي في سنة 611 للميلاد بمكة. ثم توالى نزوله في مكة، وبعدها في المدينة على مدى نيِّف وعشرين سنة. كان عدد من الصحابة يكتبون ما يتنزل منه. بعضهم بدافع ذاتي من تلقاء نفسه، وبعض بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عرف هؤلاء بكتّاب الوحي منهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود. وكلهم قرأ القرآن وعرضه على النبي فأقرَّه أو صحَّحه.
بذلك كان الرسول عليه السلام يتأكد من أنهم دوَّنوا الآية أو السورة كما تنزلت عليه. من ثم، ولأنهم كُثر، فلم يكن ممكناً ضياع شيء منها، هذا أولاً. ثانياً كان العرب يعتمدون الحفظ في الصدور، فكان الحفَّاظ مصدراً آخر لحفظ الآيات كما تنزلت، وبهذه الطريقة حفظ العرب أشعارهم ومعلقاتهم وآدابهم. ولأنهم معاصرون للرسول نفسه، ولأنهم كانوا يتداولونها سماعاً، ويتلونها في صلواتهم. لم يكن للاختلاف بين واحدهم والآخر من سبيل. وإن حدث ذلك كان التصحيح والتقويم يتمَّان على الفور بالمقارنة، وفي حياة الرسول بالرجوع إليه. بحيث لا يثبت في النهاية إلا ما تمَّ الإجماع عليه.
كانت الرقاع التي كُتب عليها القرآن محفوظة، عند وفاة الرسول، لدى زيد بن ثابت، الذي تتبع ما في الرقاع مقارناً إياه مع الحفظة وكتابٍ آخرين. وكان زيد يعرض ما لديه دوماً على الرسول، ليستوثق من سلامته وصحته. بقيت الصحف هذه عند أبي بكر، الذي أمر بالجمع الأول، حتى إذا توفي صارت من بعده إلى عمر. فكانت عنده حتى مات. ثم كانت عند ابنته حفصة. بسبب موت العديد من الصحابة في الحروب والأمصار ومن بينهم حفظة كثيرون. وحين خشي عثمان ضياع هذا المصدر. أرسل إلى حفصة فبعثت إليه بتلك الصحف. كما أرسل عثمان ــ بعد ذلك عندما صار الأمر إليه ــ إلى زيد بن ثابت، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم بأن ينسخوها في المصاحف. ثم بعث عثمان في كل أفق بمصحف، إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، واحتفظ بواحدٍ منها في المدينة.
ثم أقبل المسلمون على استنساخها في كل مكان عن هذه النسخ الأصلية.
كيف إذن يمكن في ظلِّ هذا الحرص، وبعد كل هذا الجهد والاستقصاء، وأمام هذا الحشد من العمل الجماعي، من قبل صحابة معاصرين للرسول، أن يتسلل خطأ أو يقع تغيير أو تبديل، أو ينقص منه شيء أو يضيع؟
ولقد روى المسعودي أنه رُفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحواً من خمسمائة مصحف، وهي الخدعة المشهورة التي أشار بها عمرو بن العاص. ولم يكن بين جمع عثمان المصحف إلى يوم صفِّين إلا سبع سنوات( ).
ولابد من التنويه إلى أن أحداً من معاصري الجمع لم يطعن أو يحتج أو يصحح في أمر المصحف العثماني الذي اعتمد. ولو أن شيئاً من هذا وقع لما أمكن إخفاؤه ولشاع أمره وظهرت، من ثم مصاحف تدعي أنها هي الصحيحة. شيء من هذا لم يحدث على الإطلاق لا في زمانه ولا من بعد ذلك حتى يومنا.
وجدير بنا أن نشير إلى أن الجمع على هذا النحو الذي أفضى إلى حفظ القرآن وسلامته لأمر معجز أيضاً، فلقد جاءت من قبل آيات مفحمة لكل منكر ومشكك، تعد بجمع القرآن. ففي سورة القيامة وعد قاطع على تحقق عملية الجمع نفسها، من جهة، وببيان ما استعصى فهمه من معاني القرآن من جهة ثانية، إذ يقول تعالى مخاطباً نبيه الكريم:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة:16-19)
ثم إن علينا بيانه لقد تكفل الله سبحانه ببيانه على المدى في آياتٍ بيِّنات وقرائن ومعانٍ سوف تتكشف للناس في أوقاتها.
وكان جبريل عليه السلام يعرض القرآن على محمد عليه السلام مرة في كل عام، في شهر رمضان. وفي عام وفاته عرض جبريل القرآن عليه مرتين لتكونا الأخيرتين في حياته: يقول تعالى في هذا الشأن:
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (الأعلى:6)
ومن الثابت أن القرآن لم ينزل جملة واحدة على الرسول عليه السلام، وإنما تنزل على مراحل وعلى مدى زمن الرسالة. وكان من شأن ذلك أن يثبت في القلوب ويحفظ في الذاكرات. وقد أرجف المشركون في مسألة التنزيل المُنجَّم فرد عليهم القرآن نفسه بقول الله تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (الفرقان:32-33)
وقوله سبحانه:
وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (هود:120)
وتأكيداً على هذه المسألة ابتغاء الحفظ والتثبيت في الأفئدة، فضلاً عن فهمه، يقول تعالى مخاطباً عباده:
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (لأعراف:204)
ويقول سبحانه:
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (الدخان: 58-59)
فهل بعد هذا من سبيل إلى التشكيك في مسألة الجمع والحفظ والديمومة لكتاب الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟
وبعد:
فإنه ليمكننا القول ونحن على ثقة تامة وإيمان مطلق بما نقول:
• أن القرآن كتاب الله تنزّل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين.
• أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) النبي الأمي رسول الله الذي نزل عليه الوحي بالقرآن.
• أن المصحف الذي بين أيدينا الذي يقرؤه سائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، هو القرآن الذي تنزل على رسول الله بنصه كلمة فكلمة، وحرفاً فحرفاً. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.


* * *

مستشرقون منصفون في مسألة الجمع
هناك كثرة من المستشرقين الذين كان مقصدهم في البداية البحث عن مطعنٍ ومآخذ للنيل من الإسلام. حسب رؤيتهم واستنتاجاتهم المغرضة ـ كان أكثر ما عمدوا إلى البحث فيه هو مصدر النص القرآني من جهة، وعما إذا كان قد حرِّف، كما حدث للكتب السابقة أم أنه ظل سليماً من العبث، وكما جاء به محمد (عليه السلام). إلا أن هؤلاء لم يسعهم سوى الإقرار بأن القرآن الذي نتلوه اليوم إنما هو بعينه القرآن الذي تلاه الرسول محمد على المسلمين أثناء حياته. لم يحرَّف ولم يبدَّل. وذلك عندما تبيَّنوا الحقيقة فسجلوها بصدق العالم وموضوعية البحث العلمي، وإن يكن على درجات متفاوتة وحسب فهم كل منهم للمسألة. من هؤلاء ـ على سبيل المثال ـ (سبرنجر) و(إرفنج) و(كارليل) في كتابه (الأبطال)، و(السير وليم موير) الذي سنقتطف ملخصاً لصفحات من كتابه (حياة محمد)( ):
(كان الوحي المقدّس أساس أركان الإسلام. فكانت تلاوة ما تيسَّر منه جزءاً جوهرياً من الصلاة اليومية عامة أو خاصة (جماعة). وكان ذلك فرضاً وسنة. لذلك وعت القرآن ذاكرة المسلمين الأولين. كان العرب ذوي ولع بالشعر العظيم. وقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد على صفحات قلوبهم، كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم. بذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النموّ. ثم تناولت القرآن بكل ما أدَّت إليه يقظة الروح إذ ذاك من حرص وإقبال. ولدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد أن أصحاب النبي دوَّنوا أثناء حياته نسخاً شتى لأجزاء مختلفة من القرآن. وأن هذه النسخ سجَّلت القرآن كله. فقد كانت الكتابة معروفة بمكة قبل نبوّة محمد بزمن غير قليل. وكان النبي قد استعمل على تحرير الكتب والرسائل أكثر من واحد من أصحابه بالمدينة. وقد فكَّ إسار الفقراء من أسرى بدر وغيرها مقابل قيامهم بتعليم أنصار المدينة الكتابة. ومن اليسير، مع ثبوت هذه المقدرة على الكتابة، أن نستنبط أن الآيات التي وعتها الذاكرة بدقة قد سجّلتها الكتابة بمثل هذه الدقة.
(ثم إنا نعرف أن محمداً كان يبعث إلى القبائل أصحابه لتعليمهم القرآن وتفقيههم في الدين. وهؤلاء كانوا يحملون معهم أوامر مكتوبة في شأن الدين. وكانوا يحملون ما نزل به الوحي بطبيعة الحال. والقرآن نفسه ينصُّ على وجوده مكتوباً. وتنص كتب السيرة، حين تذكر إسلام عمر على وجود نسخة من السورة المتممة للعشرين (سورة طه) في حيازة أخته (فاطمة) وأسرتها. وكان إسلام عمر قبل الهجرة بثلاث سنوات. فإذا كان الوحي يدوَّن ويتبادل في ذلك العصر الأول، حين كان المسلمون قليلين، يسامون سوء العذاب، فمن المقطوع به أن النسخ المكتوبة كثر عددها وتداولها حين بلغ النبي أوج السلطة وحين صار كتابه قانون العرب جميعاً.
(كان القرآن منظوراً إليه، حتى في حياة النبي، برهبة اليقين بأنه كلام الله ذاته. لذلك كان كل خلاف على نصه يرجع فيه إلى النبي نفسه كي يزيله.
ويواصل وليم موير حديثه حول جمع القرآن بعد ذلك بما لا يخرج عن ما أوردته كتب السيرة، وما ورد في مكان آخر من هذا الكتاب، إلى أن يقول:
(.. ومع ما أدَّى إليه مقتل عثمان نفسه ــ صاحب مصحف عثمان نسبة إلى جمعه له ــ بعد ربع قرن من وفاة محمد (عليه السلام)، من قيام شيع مغضبة ثائرة زعزعت ولا تزال تزعزع وحدة العالم الإسلامي، فإنَّ قرآناً واحداً قد ظلَّ دائماً قرآنها جميعاً. وهذا الإسلام منها جميعاً لكتاب واحد على اختلاف العصور حجةّ قاطعة على أن ما هو أمامنا اليوم إنما هو النص الذي جمع بأمر الخليفة عثمان. والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظلّ اثني عشر قرناً كاملاً بنصٍّ هذا مبلغ صفائه ودقَّته.
(وقد كان عددٌ كبير ممن وعت قلوبهم القرآن كما سمعوه حين تلاه النبي أحياء حين جمع عثمان المصحف.. وإن عليّاً (رضي الله عنه) كتب بخط يده عدداً من هذه لمصاحف.
(نستطيع أن نستنبط إذاً مطمئنين أن مصحف عثمان كان ومايزال صورة مضبوطة عما جمعه زيد بن ثابت، فهل كان ما جمعه زيد صورة صادقة كاملة لما أوحِيَ إلى محمد؟ والاعتبارات الآتية تبعث اليقين بأنه كان كذلك:
أولاً ـ تمَّ الجمع الأول برعاية أبي بكر. وكان تابعاً صادق الإخلاص لمحمد. كما كان مؤمناً بالمصدر القدسي للقرآن. وكان اتصاله الحميم بالنبي خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته.. ومثل هذا القول يصدق على عمر، وقد تمَّ الجمع في خلافته.. وقد كان الحرص على الدقة قائماً بشعور الناس جميعاً، لأنه لم ينغرس في نفوسهم شيء ما انغرس هذا التقديس المرهب لما يعتقدونه كلمة الله. وفي القرآن نذرٌ للذين يفترون على الله الكذب أو يخفون شيئاً من وحيه.
ثانياً ـ تم الجمع خلال سنتين أو ثلاث سنوات بعد وفاة محمد، وقد رأينا طائفة منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب. المسلمون لم يكونوا صادقي القصد في جمع القرآن كله في مصحف واحد فحسب، بل كانت لديهم كذلك كل الوسائل التي تكفل ما اجتمع في الكتاب الذي وضع بين أيديهم بعد جمعه من دقة وكمال.
ثالثاً ـ ولدينا ضمان أوفى للدقة والكمال. ذلك ما كان موجوداً منذ حياة محمد من أجزاء القرآن المكتوبة، والتي لاشك كثر عدد نسخها قبل جمع القرآن. وما جمعه زيد تداوله الناس وتلوه بعد جمعه مباشرة. وكان ذلك محلَّ إقرارهم جميعاً. ولم يتصل بنا أن الجامعين أغفلوا أجزاء أو آياتٍ أو ألفاظاً، أو أن شيئاً مما كان موجوداً من هذه اختلف عما حواه المصحف الذي جمع.
رابعاً ـ محتويات القرآن ونظامه تنطق في قوة بدقة جمعه، فقد ضمت الأجزاء بعضها إلى بعض ببساطة تامَّة لا تعمُّل ولا فنَّ فيها. وهذا الجمع لا أثر فيه ليدٍ تحاول المهارة والتنسيق. وهو يشهد بإيمان الجامع وإخلاصه لما يجمع من هذه الآيات المقدسة.
(والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقاً فحسب، بل كان، كما تدلُّ الوقائع عليه، كاملاً، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال أي شيء من الوحي. ونستطيع كذلك أن نؤكد، استناداً إلى أقوى الأدلة، أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد)( ).


* * *

مصطلح (الإسلام)
الإسلام عنوان الدين الذي جاء به محمد عليه السلام بأمر من ربه عن طريق الوحي جبريل عليه السلام.
لم يكن هذا المصطلح معروفاً أو مطروقاً أو متداولاً من قبل في زمانه، سواء في محيط مكة أو شبه الجزيرة العربية أو أي مكان آخر. أما الديانتان السماويتان السابقتان عليه فقد عرفتا باليهودية والنصرانية.
صحيح أن القرآن يذكر أن إبراهيم كان حنيفاً (مسلماً)، إلا أننا لا ندري ما إذا كانت هذه التسمية تدوولت وانتشرت في عصر إبراهيم وعلى نطاق عام واسع أم لا. بيد أن الصحيح والواقع يقولان أن ما من أحد قبل بعثة محمد عليه السلام عرفها عنواناً لدين معروف آنئذ.
المنطقي إذن أنه ما كان لمحمد أن يعرف، قبل أن يتلقى كلمات ربه أمر إسلام إبراهيم عليه السلام. فما كان له من ثم أن يضع هذه التسمية من عنده، بل كيف كانت ستخطر في باله، هذه الكلمة تحديداً، دون غيرها؟
يقول تعالى لنبيه محدِّداً ومسمِّياً دينه الذي عليه أن يحمل رسالته:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (آل عمران:19)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران:85)
أما عن إسلام إبراهيم من قبل، وأن الإسلام كان دينه فيقول تعالى:
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج:78)
وإذا كان ذكر (الإسلام) لم يرد في أي من الديانتين السابقتين، ولا هو ورد في أدبيات عصريهما أو في المراجع التاريخية، أو (الديانات) غير السماوية التي عرفت يومئذ كالبوذية والكونفوشية، فمن أبلغ محمداً بها؟ ورقة بن نوفل والراهب بحيرة أيضاً لم يستعملا هذا المصطلح أبداً. بل إن ورقة حين أنبأته السيدة خديجة (رضي الله عنها) نبأ محمد وما عرض له، لم يزد على قوله بأن هذا الذي يأتيه هو الناموس الأكبر الذي كان يتنزل على موسى من قبل، ولم يقل إنه (الإسلام)
هي إذن كلمة جديدة تماماً في التداول في زمن محمد. هي عنوان الدين الجديد. إن بُعد الشقَّة الزمانية بين إبراهيم ومحمد، واختفاء التسمية طيلة ذلك الزمن الفاصل بينهما- زهاء ألفين وخمسمائة سنة، لمما يؤكد بأنها جاءته تنزيلاً. مسألة تبدو مسلمة لا مراء فيها. وفي الختام يقول تعالى:
..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً.. (المائدة:3)
من شأن هذا أن يعود بنا إلى التساؤل رداً على مفتريات خصوم هذا الدين:
هل خطر لمحمد أن يطلق هذه التسمية تحديداً، ومن تلقاء نفسه، على دعوته؟ ثم تبقى عنواناً لهذا الدين، خالدة على مرِّ السنين، مذ نزل بها الوحي الأمين على قلب سيد المرسلين، لولا وحي ربه في آيات منها قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج:77-78)
(الإسلام) هو التسليم بما قدَّر وأمر فيما يتعلق بالإنسان وسائر أبعاد الكون والخلق. وقد جاءت آيات تحمل هذا المعنى. منها قوله تعالى:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (النساء:125)
نرى هنا إعلان الإسلام ديناً من قبل الله. كما نرى عطف المصطلح على زمن إبراهيم وحنفيته. والإحسان شرط من شروطه كما في الآية.
ويقول تعالى:
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (آل عمران:20)
لم يكن محمد عليه السلام صاحب التسمية لهذا الدين بالإسلام وإنما كانت من عند الله.
وهناك آيات تميز بين الإسلام والإيمان. فالإسلام عنوان للدين المتضمن تشريعات وقوانين وأوامر ونواهي وعبادات وأركاناً لا يتحقق من دونها، فيما الإيمان شأن خفي في نفس الإنسان مكانه القلب لا يطلع عليه غير الله. الإيمان هو (ما قر في القلب) كما يقول رسول الله عليه السلام. في الآية التالية يتبين لنا أن هناك فارقاً بين الإسلام والإيمان الأمر الذي يؤكد التسمية كعنوان لهذا الدين. يقول جل من قائل:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (الحجرات:15)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (الحجرات:17)


* * *

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المأسوف على شبابه ـــ قصة - يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 1 18 / 12 / 2014 05 : 07 PM
بــرغـــي - قصة - يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 2 15 / 04 / 2011 33 : 02 PM
أزمنة الغربة ـــ يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق كلـمــــــــات 2 29 / 08 / 2010 05 : 12 AM
الأصدقاء ـــ قصة: يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 1 08 / 06 / 2010 48 : 03 AM
الطبيب... والاسكارس ـــ يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 0 07 / 06 / 2010 48 : 08 PM


الساعة الآن 38 : 06 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|