في شرفتها..!
[align=justify]
ـ 1 ـ
الآن،
أيقنت أن الأيام دفعتها إلى الوراء كثيراً.
وأن ما فات فات، وأن الندم ما عاد يفيدها بشيء.. لذلك.. علقت حياتها على نهار دافئ قادم أو على مساء فضيّ بَليل.. قد يأتي!
ـ 2 ـ
وحدها..
وفي كل مساء، وعلى شرفتها العالية تساهر أيامها الماضية. تتذكر صدودها عن شبانها الذين تقدموا إليها والعيوب التي اكتشفتها فيهم وعجزها ـ رغم محاولاتها الكثيرة ـ أن تعيش مع واحد منهم. تتذكر كيف أذنت لها الشهادة أن تودع أهلها وقريتها وتنحدر نحو المدينة، لتتعلم مهنة التمريض، والخواطر والمشاعر التي استولت عليها وهي في قطار الليل تحبو نحو المدينة، والمطر الخفيف الناعم الذي رافقها طوال الرحيل، والأرض الممدودة المرتجفة تحت عجلات القطار.. بمنظره الكالح المهيب. تتذكر كيف قابلتها المدينة بعتمة.. أضواؤها شاحبة أعياها السهر وعذَّبها، تلك العتمة التي أرعبتها وسمرتها فوق مقعد رخامي بارد في المحطة حتى الصباح.
وكيف أن صباح المدينة باكرها بالبرودة.. والوحل، وعمال القمامة.. والناس النيام الموزعين حولها بوجوههم المصفرة، وأفواههم المفتوحة وكأنهم في هيئة استغاثة أو حزن عميم!!
تتذكر الآن أشياء كثيرة.. مريولها الأبيض، ودروس التمريض والأطباء، والمرضى، وروائح الأدوية، والعمليات، وانكشاف صدرها وشعرها وساقيها لأول مرة أمام الناس في المشفى.. والطريق.
(الآن، في شرفتها.. وقد كرت الأيام كثيراً، يعتكر وجهها حين يراودها المستقبل في صورة وجه من وجوه السيدات المتقدمات في العمر اللواتي تعتني بهن في المشفى، أو حين يبدو لها في هيئة من هيئاتهن الحزينة! وحدها.. تتذكر وتحلم ثم تتباهت، فتغفو)!
ـ 3 ـ
اعتادت، منذ ليال عدة وهي في شرفتها.. مع طعامها وشرابها ونباتات الزينة، وموسيقاها التي تحب.. أن ترى رجلاً يدنو نحوها في وقت متأخر. يقوده إليها درب ناحل مترب يكاد لا يبين. كان يبدو لها، من بعيد كتلة عاتمة تقترب. يتلامع جبينه كالفضة بين حين وآخر وكلما باغته الضوء. يتقدم نحوها فوق خطا واهنة متعبة لكأنما السهر أطفأ رشاقتها. يدنو فتراقبه باهتمام شديد حتى يصبح تحت شرفتها تماماً. عندئذٍ، تسقط بصرها عليه حبلاً حبلاً، وتحاول معرفة ملامح وجهه، لكنها لا تستطيع، لأن الرجل سرعان ما يغيب في مدخل البناء الكبير دون أن ينتبه إليها أو يلحظ وجودها. وحين يتوارى.. تعيد جسدها المتدلي فوق الشرفة.. إليها، وتفكر به قليلاً ثم تمضي في سهرها.. وهي تراقب البيوت من حولها وهي تنعتم واحداً واحداً.
في أول الأمر لم يكن الرجل يثير اهتمامها أبداً.. وقد عدّته واحداً من الذين مصَّتهم المدينة ثم صدّت عنهم، يغافل الناس ليلاً، وقد هجعوا وناموا فيأتي إلى أحد مداخل الأبنية وينام فيه، لكن الرجل راح يثير اهتمامها حين بدا لها.. في واحد من المساءات، وعلى حين غرة ـ وهو قرب شرفتها ـ رجلاً طويلاً ممتلئاً. ثيابه نظيفة، وشعره طويل أسود، ووجهه أبيض لامع بشاربين أسودين، وشفتين منفرجتين عن أسنان شديدة البياض، وذقن عريضة مثلومة، وقد انكشف قميصه عن صدر واسع عريض. لحظتئذٍ.. أحسّت بغصّة لأنها ظلمته. وخُيّل إليها أنها رأته من قبل مرات كثيرة، وأن طيفه عالق في خاطرها منذ زمن بعيد، وأن شيئاً ما يربطها به، ويشدّها إليه.
(حاولت جاهدة أن تتذكر أين رأته ومتى؟!.. وهل هو من سكان البناء أم من معارفها في المشفى، أم أنها رأته في الطريق لمرة أو أكثر؟! لكن دون جدوى)!!
وحين تكرر ظهوره وغيابه، وازداد إلحاحها في مراقبته صار أكثر ما يعذبها في لياليها أن يأخذها النوم قبل قدومه أو أن تطيل سهرها دون أن يجيء، وغدا كل ظهور له يؤكد أنها تعرفه تماماً، وأنها جالسته وحدثته، وأكلت معه وشربت، وأن ثيابه التي يلبسها كانت قد نظفتها وكوتها مرات عديدة.
.. ولكم استنفرت حواسها في ليالٍ متعددة وحالما يدخل البناء لكي تسمع صوت باب يفتح له أو يغلق عليه، أو أن تراه صاعداً ملهوثاً.. يرمي للدرج تعبه وعتبه عليه.. لكنها لم تسمع أو ترى شيئاً. ولكم تجرأت، وتركت له الباب مفتوحاً مضاء وتشاغلت عنه.. لعله يدخل أو يسأل، لكنه لم يأت أبداً، ولم تشعر بوجوده داخل البناء. بل إنه لم يعرها اهتماماً حين حاولت لفت انتباهه إليها وهي في شرفتها.. وحزنت!!
ـ 4 ـ
في هذه الليلة وقد هدتها الأسئلة، والحيرة.. قررت أن تراه وجهاً لوجه، وأن تتأكد من معرفته.. بعدما أقلقها وأغلق عليها نهاراتها.
في لحظة من اللحظات، وقد فكرت به كثيراً اعتقدت أنه وحالما يراها سيعتذر إليها طويلاً لأنه وفي كل يوم يأتي إليها فلا تقوده قدماه إلى بيتها.
يدخل البناء والدنيا ليل فتتشابه عليه الأبواب، والمداخل ويظل يدور ويدور قليلاً أو كثيراً فلا يجدها، وعندئذٍ يعود خائباً ممروراً حالفاً الأيمان الغليظة ألا يعود..)!!
حين صممت على رؤيته، نظّفت الشرفة بالماء والصابون، ولمّعت سياج الألمنيوم المحيط بها، وأسقطت الأوراق المصفرة من نباتاتها، وبدّلت غطاء المنضدة الصغيرة، وأعدت شرابها وطعامها وموسيقاها، ومكاناً خالياً للرجل. وحينما لاح لها أنه من الممكن أن يدخل إلى مطبخها أو غرفة نومها سعت إلى مسح شيء من سواد أحد حيطان المطبخ.. (كانت المدفأة قد تركته منذ سنوات بعيدة) وخبأت ثلاثة فناجين قهوة مكسورة الأيدي، وصحناً من البلاستيك الأصفر مشقوقاً من منتصفه، وركوة قهوة يدها الخشبية القصيرة محروقة من طرفها. وحزمت علبة القمامة بقطعة من البلاستيك الأسود الطري، وربطتها بخيط رفيع من المطاط. ومسحت واجهة البراد بإسفنجة مبلولة. ورتبت ملابسها داخل خزانتها، وأخرجت شرشفاً نظيفاً وغطت به سريرها، ورمت علبة كرتونية كان فيها بواقي قطع من أقراص الغريبة والبرازق. وشمّت كأس الماء التي تشرب منها مرات عدة. كانت على قلق. وحيرتها كحجر الطاحون لا أول لها ولا آخر. وأحسّت منذ أول سهرها أن الليل طال وامتد كما لم تعهده من قبل. بحثت عن أغنيات وقطع موسيقية تحبها، وانتظرته طويلاً حتى أشرف الليل على الزوال أو أوشك.
كانت وكلما امتد بها الوقت، تضبط نفسها بين حين وآخر وهي واقفة أمام المرآة.. تستشيرها. وقبل أن يطويها النوم واليأس معاً.. رأته قادماً كالضباب.. منقاداً لخطا رخية. يدنو على ريث شديد. ولما اقترب أكثر، سيّجته بنظرها، وتأكدت أنه هو. واهتاجت الروح في داخلها، وضجّت قدماها بالحركة. ودونما إبطاء انطلقت إليه لتستقبله قبل أن يذوب في المدخل. لحظات.. وأصبحت في فم البناء واقفة باضطراب وارتباك تدعك وجهها براحة يدها، وتهدئ ضجيج أنفاسها رويداً رويداً، وهي تستعد للقياه. نفضت ثوبها مرات عدة، ومشطت شعرها بأطراف أصابعها.. وطال انتظارها، وبدت أعضاء جسدها مستنفرة لا تستقر على حال. تقدمت من مدخل البناء وأطلت إلى الخارج لترى إن كان الدرب مازال عالقاً به أم لا.. فما رأته! اعتكر وجهها أكثر، وساورها شك ضعيف بأنه ربما أحسّ بها فسبقها إلى تحت الدرج وتوارى عنها.. فاستدارت نحو الدرج، واندفعت إليه وهي تتمتم له همساً. وتبحث عنه بنظراتها ويديها وسمعها.. مهمهمة لتشعره بوجودها ودون نتيجة. عادت إلى المدخل، وأطلقت بصرها نحو الدرب.. وما من أحد! مضت وبحثت عنه حول حاوية القاذورات.. فما وجدته! توهمت أنها لم تبحث عنه جيداً تحت الدرج فسارعت، ومسحت حيطانه الواطئة بجسدها لعله التصق بأحدها. وانحنت على الأرضية، ولمستها بكفيها.. وما من جدوى!! شعرت أنها أضاعته فعلاً.. وقبل أن تصدق ذلك نفرت إلى الدرب الذي كان يقوده إليها. ركضت فيه وبحثت عنه في جانبيه كالمذعورة، وعندما لم تجده، راحت تتبع آثار خطاه وسط عتمة لا تكشف شيئاً، وأخيراً يئست، أحسّت ببرودة شديدة تلفّ جسدها الذي أنهك تماماً فاستدارت عائدة إلى البيت.. خطوة إلى الأمام وعشرات الالتفاتات إلى الوراء.. بدت كطائر خرب عشه.
كانت، وقبل لحظات فقط، وحين نزلت لتستقبله مشرعة الذراعين والوجه، مفتوحة العينين والصدر والفم، شعرها يعلو ويهبط كرف من العصافير، وثوبها العريض الواسع يتراقص بامتداد فوق قدميها القافزتين. لم تدرِ كيف هبطت كل تلك الدرجات الكثيرة ولا كيف وصلت إلى المدخل.. أما الآن فهي تصعد إلى بيتها درجة درجة ببطء ثقيل، وقد همد شعرها وسكن، وتراخى ثوبها، وانكمش، وانغلق صدرها وانطوى بذراعيها المضمومتين. فمها مطبق، ووقع قدميها كأنه طبل يشيعها.
كانت تحصي الدرجات التي تصعدها فترى السليمة منها والمكسورة الأطراف.. فتهز لها رأسها. وترنو إلى أعقاب السجائر التي تناثرت على الدرجات هنا وهناك.. فتتمتم لها: »أعقاب، أعقاب«!! وترى الأوساخ التي علقت في الزوايا، وكتابات الأطفال ورسومهم على حيطان الدرج وقرب الأبواب، الأبواب التي لها عيون سحرية والتي ليس لها، المدهونة منها وغير المدهونة.. وابتسمت بذبول.. لأنها وحين خرجت، تركت له الباب مفتوحاً والشرفة مضاءة، وزمت شفتيها. وها هي.. الآن تنسل إلى شرفتها إلى حيث هي نباتاتها وموسيقاها وشرابها.. وقبل أن ترتخي في جلستها ودون قصد منها شملت دربه بنظرة عجلى فرأته.. وقد قطع نصف الدرب يدنو نحوها على مهل.. كالغبش!!
* * *
[/align]
انتهى الكتاب