*** الجزء الثالث و الأربعون ***
... و كنت أقول :
انتصب الغروب فوق نافذتي شاهقا .. رحل بعدك بثانيتين و تركني مجلودا بحمرته .. و ها الخريف قد جاء .. قد حضر موسم الشجن، كيف يا ترى سيفتتح ذاكرته السوداء .. ؟ بعدك أيّها المهاجر الصّامت .. كيف لي أن أحتاط له و قد جعلتني الرّصاصة شاغرا من كلّ شيء، حتّى من نفسي ..
حطام رجل ..
تمثّل أيّها الغروب فوق جسدي، فإنّه بلا ثمن .. قد يزيدك اشتعالا .. ذاك طفلي فقد طويته عنّي باشتعال رصاصة تشبهك في ألوانك الحارقة .. ذاك طفلي و أنا الفاقد أبوته و صدري الحزين دونه .. و ها قد انضمّ لسلالة الشتاء فزادني بردا،
دعه يعد إلى دفاتري، شوقا لا ينتهي، يمزّق جنونه عليها و يلوِّن أرجاء البيت بألوانه الزّيتية و لا يكتفي بقطعة السّجاد الثمينة المنهكة من هوامش الذكرى، التي أجلس دونها وفاءً للتراب .. فمع الفوضى تصرخ الطفولة .. يكفيني حيطان ذاكرتي الشاغرة .. الخالية من كل عبث طفولي و تمرد طفولي و صراخ طفولي ..
دفاتري محمومة يا صغيري .. كهذا المساء .. كشظيّة اللّهب الصّامت الجالسة قربي ..
كهذا الرّجل شعرت يوما بارتباكاتك داخلي .. ساعات قبل أن تنحني لتلثم الغروب و ترحل معه .. بعيدا .. شيء يشبهه فيك اليوم .. شيء يواسيني فيكما .. و لا زلت أفنّد قصيدة شوقي السابق لأوانه ..
أبّها الغروب ما بالك قدمت قاسيا و أنت سيّد الرومانسية قبلا .. ما بالك تفقدني شهيّتي للحضور فوق تقاسيمك بقصيدة جديدة علّها تشقّ عنك أنثى .. كما رسمتها كما صمّمتها بكلّ مقاسات الدنيا .. فوق التّاريخ، بحدود تماما كالقارات، بعمق كالمحيطات، كوطن يغرق في دفاتره الحمراء .. كأنشودة ضمّت شفتيها كي تربك تلك الشعارات الواهية .. كلوحة لا حضور فيها لألوان الرّياء .. كأغنية تتقاسمها السماء شهبا و نيازكا حارقة .. كعصفورة صغيرة تعثّر بمسارها الرّقيق ذاك الصقر الواقف مشدوها بدمية غربية، فسقط عنه القناع فوق مدينتي .. تلك الّتي رسمتها قبلك بدونك .. لا إنذار فيها بقدوم الليل .. و لا وحشته ..
كدمعة .. كدمعتي ..
و الآن تشنق شفتيك عن نصف ابتسامة و تستّل خيوطك و ترحل .. و تعدني بشيء قريب .. ينطلق من وريد صديقي ليصل حمما تغتالني بقوة الاحتراق الرّوحي ..
مهلا .. أيّها الغروب .. لا تؤدي اليّمين الناسفة لرجولته لأجل الوطن .. فلا يزال هذا الأبكم بحاجة لحضور حكمته و حنكته في ترويض العقول المتحجرة .. لا زالت الحدود تلتقي خفية لتمارس تكهناتها للغد الجميل و هو الواقف تحت شجراتها الولود، يبارك نسل البرتقال و الزيتون و يضمّ شفتيه عن تقبيل العنب، علّه يخاف الخطيئة .. علّه يتبصّر شؤما من حبّات العنب، فكلّها مخادعة حين تحيك لك كأس نبيذ، تتجرّعها كخبث يمتزج بأمعائك فتلفظ أنفاس الوطن .. و تشيّع ذاكرتك المحبطة بلذّة مُسَوَّغة بالاعتقاد و الاحتمال و الشّك .. هذا الرّجل لا زال فارا من ذاكرته لحقبة سوداء .. لاجئا لدفاتر احلامه .. مختالا بذاكرة شاغرة إلّا من وعود سماوية .. تلك التي لها نكهة الخلاص الحتمي و الصادق ..
مهلا .. تريّث فإنّ بعدك أشياءً ما كنت لتراها و أنت الشاحذ ألوان النّار، الممسك بزمام الظلام .. ارفع شفتيك عن تلك الزاوية فقد قبَّلها النّهار قبلك و عَهْدُكَ أن لا تلوّث مساحة شغلتها أقاويل أخرى ..
ما بالك قدمت منتشيا كأنّك تعطّرت من سذاجتي
يكفيك طعنا و فتكا فشعارك المدسوس في قضيّتي لا يزال كسِرٍ يدمّر طاقاتي في لمّ الانكسار .. بعدك دوما يحتفل النّهار بشعلة خلّفتها و أنت الطفل الطالع من عمق الظلام شهوة قتل .. تخيفني نظراتك و حفاوتك في بسط كفَّيْك مسالما كي تقتلع وجود الأطفال ..
أيّها الغروب المستكين، قتلت طفلي .. و ها أنت تعتزم ( لجرح جديد ) أن تقتل طفولتي و شبابي و حكايات سمري .. و ذكرى الأنوثة .. هذا الحرف القاتل " أنثى " لا يصلح لأن يكون كلمة .. لا تاء تأنيت تفكّ عنه عقد النّساء و لا النّطق كفيل بأن يجعلها طاقة قصوى تمدّن قصائدي بطريقة أتحرّى فيها وجودي من عدمي ..
كيف سأصمّم شهيّتي على مقاسات الرّحيل .. و هو الرّجل المنضمّ إلى الشّجر الأخضر كفاكهة لا تقبل شتم المواسم و لا رياءها .. لذلك استعبد هو مسافات الفصول و نما وسط ذهولي " رجلا لكلّ وقت و لكلّ زمان " ..
حين أصرّ على منحي دقّاته الأخيرة، قبيل الغروب، تفاجأت و احترت كيف لي أن أَقْبَلَ هديّته و كنت أُجَهِّز لأن أجعله آخر نبض حتّى تتحدّ دقَّاتنا .. و كأنّه احتفظ بنبض متباطئ يحفظ حضوره حتّى ينفّذ خطّته في قهر الغروب، مشنوقا قبالته، حتّى يغيّر بلوحته تضاريس الجبال المحيطة و يغيّر واجهة الشّمس .. لكنّه خان العهد و أجاد عدّ الدّقات ثم رحل حين سكنت عنه السّاعة المقرونة بالأرقام .. حين توقّفت عند الصفر .. و كنت أنا هناك أبحث عن ضالتي بين الحروف، و لم أعي أنّ الحروف ظاهرة حمقاء،
يشبهه الموت الجزافي .. في انعتاق الرّوح لأجل الأسمى من القضايا .. ليس فقط لأجل أن يستتب حواسه في ماهية الجسد دون أن يحلّق فوق ذلك البّعد المرسوم كعاهة في الأفق .. أليست الشّمس سيّدة الموقف .. ؟ حين يتعلّق الأمر بالظّلال المرسومة .. و الرّوح ذلك الوجود و العدم، الحّاسة الخارقة الّتي لا ترتبط حتما بأيّ عضو من أعضاء الجسد لذلك أبدا ما كانت تصلح لأن تُفْقَدَ إلاّ لأجل قضيّة مصيرية ..