*** الجزء الرابع و الأربعون ***
... لذلك أبدا ما كانت تصلح لأن تُفْقَدَ إلاّ لأجل قضيّة مصيرية .. ما بالك لو كانت القضيّة بانتماء مزدوج للمصيرية الحتمية ( الوطن و أنثى ) .. كلاهما يرمز لكلاهما .. كلاهما يشكّل التاريخ القادم من عمق الإنسانية و الذات و أصل الوجود .. وصولا إلى جسد شجرة، و شيئا من انكسار الرّوح فوق أغصانها القاسية ..
يوما صوّرت لي هزيمتي و انكساري الشرس و لملمة جزء من الانشطارات أيضا على يد " أنثى" ، تحت ظلالها و يوم صورّت لي هزيمةً، لها بُعدٌ خاص يصل الحدود الأخرى .. يوم مات عزيز .. و يوما آخر للذكرى و التّوجس، حين وجدت " ليندة " تلك الصغيرة التي افتضحت فجأة فوق دفاتري في أمسية خريفية، آخر يوم صمَّمْتُه على مقاسات النسيان .. كانت جالسة تنظر إزاء القمر البعيد، كانت طفلةً جميلةً تثاءبت الأنوثة المبكّرة من فوق ابتسامتها الدقيقة .. لستُ أدري، لماذا صافحتُ في وجهها الملائكي رموز الأنثى الباذخة .. ؟ بعمقِ سحيق رغم أنّها لم تبلغ ربّما الثانية عشرة من عمرها .. كانت أنيقةً كأيلول بستراته المتفاوتة السّواد حتّى أنّك لتشعر أنّه قد يتنازع شيئا من بياض ليمتزج به .. و هي جالسة، قبالته كلوحة تعترك على جسدها و وجهها و شعرها كلّ الألوان .. أنيقةً كتوحّد الفصول في جسد أنثى ارتدت فستانا شرقيا لا تحدّه رايات و لا مسالك شعرية .. حتّى أنّ خطى الشّعر ما كانت لتعبُرَها لأنّها الأقدس و الأروع ..
تلك الفتاة كانت خرساء، لكنّها فائقة الحلول فوق الدفاتر البيضاء .. بمدادها الشّفاف الذي لا تقرأه لغة الشّعر، لذلك قرّرتُ أن أكتبها بمسافات أخرى للكتابة .. كانت كموسوعة مفتوحة التّواريخ لما بعد ألف قرن من ذلك التاريخ .. كانت تتنفّس و كأنّها تتحدث و كنتُ أجيد التواصل مع أنفاسها و أجيبها في هدوء تماما كما كانتا شفتيها ساكنتين .. حين اقتربت منها ابتسمت .. فمحت بوقع ابتسامتها " الأولى " صفحة من صفحات الشجن .. كانت كقطعة بلور، تجعلك تبصر حقيقةً أخرى من خلالها لا كما كنت تتصورها قبلا .. حتى خلتُ أنّي أفتضح عن نفسي كلّما اقتربتُ أكثر .. قبل أن أبادرها بأيّة كلمة ردت بإشارة من يديها تخبرني أنّ المساء جميل يحتاج للتأمل و التفكير، كأنّها دعوة سماوية للتذكّر، كأنّها تلّمستْ في وجهي عفوية الشّاعر حين يبحث لنفسه عن ملاذ آخر غير جرحه الأخير كي يكتب قصيدة شعرٍ تنسف ما تبقى من هواجس فوق دفاتره .. كانت التّصميم الوحيد الذي أردته أن يكون " ثانيتها " بالحجم الذي أريد .. لكنّه كان بعكس أحلامي " أصغر " من أن يضمّ لحوافه أجسادا أخرى .. !! .
كانت تلك الطفلة لاجئةً " فلسطينية " منذ وقت رفقة عائلتها، عرفت ذلك من خلال ملامحها المنكسرة العنيدة .. راية الوطن " الاكبر " الذي كانت تخبئها في سترتها الحمراء و كأنّ ذلك اللّون " صدفةً " .. جمع أشلاء الحاضر برفات ذاك الماضي الماسك زمام التاريخ ..
و لأنّها كانت تتحدثُ " مجازا " بلغة الجريح المنكسر .. بلغة المفردات المنطلقة نحو سماء يحدّها الأمل، بلغة الشمس المشرقة .. كنتُ منبهرا بما كانت تحيكه من إشارات و رموز بظلالها الماسية فوق التراب اللامع الذي كانت تظلّله شجرة المواسم الأربعة و كلّ المواقف ..
لم يحدث يوما أن جمعتني صدفة الحديث مع شخصٍ أخرس و ما كنتُ لأجيد التحاور بشفتين متطابقتين إلّا مع تلك الطفلة، كنتُ أفهمها بل و أتكهنُ رمزيتها القادمة بذهول من نفسي .. و كأنّي كنتُ أطالع كتابا للتاريخ سبق و أن سيّستُ أرقامه لتتطابق مع وقائع أردتُها .
جلستُ رفقتها ساعتين، شعرت معهما أنّي قرأتُ عنهما تفاصيل القهر لقرنين من الزّمن بساعاته الطويلة الخرساء .. ربّما لذلك كان قدرها أن تكون صامتة لحكمةٍ متوارية .. فلو نطقتْ لاستعجلت المسافات لتنحني قبالة الشروق .. في خارطةٍ واحدة ..
.. و لأنّها جمعتْ لمسائي ذاك كلّ تلك الصدف .. و لأنّها كانت " صغيرةً " بحجم الحدود المنغلقة، أدركتُ حينها أنّي لم أرى فيها غير " الأنثى " بمفهومها الواسع .. حتّى الأكبر بكثير من سنّها و من أي عمر ٍآخر ..
عدتُ مرتبكًا، بتجربة جديدة لا تمتّ لعلاقاتي بصلة غير أنّها تلبّست مواقفي و تصاميمي لشيء واحد هي " الأنثى .. " .
بحثتُ عنها مرّة أخرى فلم أجدها .. لأنّ العاصمة كانت أكبر من أن توفّر لك خارطةً لذوي الجراح الصغيرة .. أو بالمنطق القائل أنّ الإشارات التي تبثّها مسافة ضاقت حدودها على نفسها لا يمكن لها أن تصل الحافة الأخرى من الجسر المقطوع سلفا .. بحثتُ عنها لأنّي وجدتُ فيها عزائي الوحيد في وقت كنتُ فيه مشتّتا، ضائعا بين تفاصيل كثيرة .. تلك الطفلة كانت صدفةً جميلة، ثاني طفلة تصادفت و آلامي الكثيرة .. روحا أخرى أحسستها اخترقتني بعد أمال بمثل تلك العفوية و البراءة لكنهما اتفقتا في قدر الرّحيل المختلف ..