رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]في الناحية الجنوبية من البلدة ، ينحدر النهر موغلا بين الأشجار في خرير ممتع ، ثم تستكين مياهه حين تنتفي الصخور من وسطه قبل أن تصل إلى أعلى الشلال لترتمي إلى الأسفل في هدير يصم الآذان .. وعلى الجانب الأيسر من الشلال تنتصب بناية متداعية الحيطان كانت في ما مضى معسكرا للجنود . وبالقرب منها مدرسة وثكنة العسكرية صغيرة تضم خمسة من أفراد القوات المساعدة الذين يتناوبون على الحراسة وقضاء إجازة بين ذويهم بعيدا عن القرية لإطفاء نار الشوق المتأجج طيلة فترة العمل الرتيبة .
وعلى مقربة من الثكنة بساتين وحقول كانت تصطف على حافتها أشجار التفاح والإجاص قبل أن تمتد الأيادي لاقتلاعها من دون أي سبب .. ومن هناك يشرف الناظر على الوادي والنهر الذي يفصل بين قبيلتين . وتبدو بعض الدور المتناثرة عبر الروابي ومن بينها دار الحفل بسرادقها الذي سيظل هناك لأيام عديدة شاهدا على حفل بهيج ..
بالقرب من الشلال سلالم وساحة ضيقة بناها أحد القواد لتكون منتزها صغيرا لمن يريد الاستمتاع بمنظر الوادي والجبال المحيطة بالقرية .. هناك جلسنا في صمت وكأن هدير المياه أخرس لسانينا وعوضنا عن أي حديث .. لكن سرعان ما بدا لي الصمت أطول مما يجب فقلت وأنا أشير في حركة بانورامية :
- هذا هو عالمي وهنا بعض أشيائي ..
ضحكت وقالت :
- أشياؤك ؟ .. ما هي ؟
- هنا النهر .. وهناك إلى الأسفل الكهف ..
- جميل .. ثم ماذا ؟
رأيت في عينيها لهفة لمعرفة كل شيء فشعرت بانتشاء يعم جسدي :
- المنبع حيث التقينا .. الشجرة .. الغدير .. الكوخ .
- الكوخ ؟؟ أي كوخ ؟
- هناك وراء المنبع لا يبدو بسبب ما يحيط به من أشجار ونبات الصبار .
- وهل تقضي فيه أيامك ؟ اقصد هل تبيت فيه ؟
- أحيانا .. هو جزء من عشي الدافئ كما اسميه .. مثله مثل أشيائي الأخرى .
سهمت قليلا قلل أن تقول في ما يشبه الهمس :
- عالم فريد من نوعه حقا .. لكنه جميل .. وهل تعيش فيه وحيدا ؟
- نعم .. أهرع إليه كلما استبد بي الملل .
- لكن ، ألا تمل من الوحدة ؟
- أشيائي لا تترك للملل فرصة ثم إن معي ذكرياتي ..وكتاباتي .
ضحكت من جديد ثم قالت :
- ذكرياتك ؟ .. رائع .. وهل فيها من يلهمك الكتابة ؟
صمتت قليلا وأنا أنظر إليها ثم أردفت محولا بصري إلى الوادي :
- لا أعدم أبدا ملهمة لخواطري ..
- ملهمة ؟ .. هل هي من تلك الأشياء ؟
ثم أطلقت ضحكة مجلجلة ..
- ولم تضحكين ؟ ..
- آسفة .. لم أقصد شيئا .. لكن قل لي .. هل ملهمتك معك أم هي طيف خيال ؟ .. أعني في الحلم ؟
- هي كل ذلك .. تغيب حتى أحسبها مجرد حلم .. وفجأة تنهال علي كزخات المطر فأراها عن قرب وتتغشاني فتملأ دنياي ..
عاد الصمت من جديد قل أن تقطعه في شبه همس :
- شوقتني لمعرفة هذه الملهمة .. لا شك أنها جميلة .. عالمك جميل ويفيض بهاء فلا عجب أن تكون هي كذلك .
همسها جعل خيالي يسرح بعيدا في الزمان والمكان .. ينتقل بين الربى والمروج .. يصعد الجبل .. ينحدر إلى الشاطئ .. يلتقي بالغادة والعجوز والمفضل وحليمة قبل أن يعود محملا برذاذ البحر ونسائم السدر والعرعر ويحط بجانبي .. ووجدت نفسي أتأمل الجالسة أمامي بملاءتها السوداء المتناسقة مع بشرتها الناصعة وخصلات شعرها الأشقر الذهبي .. كنت أحس بنفسي غائصا في بحر عينيها الصافيتين ..
- مالك تنظر إلي هكذا ؟ .. هل تذكرت شيئا ؟
- ربما .. تذكرينني بعدة أشياء تشابك في مخيلتي فلا أرى سوى وجوها مبهمة يلفها الغموض .
- كما قلت لك سابقا – هذه حالة الشعراء – دائما هائمون في أحلامهم ..
- وأوهامهم .. أليس كذلك ؟ .. لكن ربما يكون الشاعر أصفى شعورا وأنقى إحساسا من غيره .. أنا لست شاعرا لكني لا أرى الجمال الحقيقي إلا في نظرة شاعر أو في قصيدته .. كل شيء يصير جميلا حين يشكله الشاعر كلمات .. الليل .. الحلم .. الطبيعة .. الحبيبة ..
- يااااه .. وتقول لي إنك لست شاعرا ؟؟
ضحكت من جديد ثم قالت بلهجة جادة :
- من نبرة صوتك أستشف حزنا عميقا .. هل لذلك من سبب أو ذكرى حزينة ؟
سكتت برهة منشغلا بقطف زهرة من دفلى قريبة مني والتلاعب بعودها بين إبهامي وسبابتي ثم قلت :
- الحزن جزء منا .. لا يمكن للإنسان أن يكون إنسانا إن لم يطبع الحزن حياته ولو للحظات .
"علمني أن الدمع هو الإنسان
أن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان."
كنت أستلذ برخامة صوتها لكني لم أكن أدري أن صوتها وهي تترنم بالأغنية بمثل تلك العذوبة .. شعرت في لحظة أن هدير الشلال توقف وأن حفيف الأشجار يصاحب ترنيمتها .. فوجدتني أسألها فجأة :
- هل يسكنك الحزن أنت أيضا ؟
- ولم لا ؟ .. ألم تقل أنت إن الحزن جزء من حياتنا ؟
- والحب ؟ .. عفوا .. هو سؤال فضول فقط .
سكتت طويلا قبل أن تتنهد وتنظر حواليها وكنها تبحث عن ذريعة لمغادرة المكان .. هل أسأت بتسرعي في وضع السؤال ؟ وهل أكون وضعت بسؤالي أصبعا فوق جرح لم يندمل ؟
- آسف إن تجرأت ..
- لا .. بالعكس .. هو سؤال بديهي وكنت أهم بطرحه عليك أنا أيضا ..
- الحمد لله .. أنا الآن مطمئن .. أشد ما يؤرقني أن أسيء إلى أحد بقول أو عمل .
- هل هي نفسية الشاعر التي تتحدث الآن ؟ - قالت مبتسمة – هذا من لطفك ونبلك .. ثم إن الشاعر أو الأديب لا يجب أن يزعجه الحديث عن الحب ما دام الحب لديه غير مبتذل .
- شكرا لك .. نعم عندك حق ..
- فإذن ؟ ..
- إذن ماذا ؟
- حدثني عن الحب وعنك ..
- إذن فأنت تريدين أن أحدثك عن حياتي ..
قلت ذلك ضاحكا قبل أن أستطرد :
- الحب عندي هو الحياة .. وحياتي كلها حب .. انظري إلى ما يحيط بك .. كل شيء ينطق بالحب .. يشدو بالحب ..
- وملهمتك .. ما نصيبها من كل هذا ؟
- أية ملهمة ؟ .. أعني أين هي ؟
وكأنني خفت أن تستشف من حديثي ما يوحي بنزوات أو عشق نزق .. فتابعت :
- كما قلت لك .. ملهمتي تغيب وتحضر دونما أي إنذار .. حتى أن غيابها الطويل وحضورها المفاجئ يجعلني أتساءل إن كانت حقيقة هي أم تتبادل الأدوار مع ملهمات أخريات ..
- يقولون إن القلب دليل المحب .. ألا يدلك قلبك على أن ملهمتك ؟
- في بعض الأحيان أحار ، لكني أستجمع أفكاري وأسرح في رحلة تأمل وحلم فأصل إلى نتيجة واحدة ..
- ؟؟؟؟؟
- أن ملهمتي واحدة تتشكل في كل مرة بهيئة مغايرة .. ولهذا حين تغيب أراها في كل أشيائي ..
- ما أجمل هذا ..
- ماذا عنك ؟
- أنا ؟؟
شعرت كأن سؤالي لسعها فانتفضت وقد بان الاضطراب على محياها :
- أجد الحب شيئا جميلا رغم أنه لم يطرق قلبي بعد .. فهو أرض عذراء لحد الآن .. يااااه .. لقد نسيت نفسي .. علي أن أعود قبل أن تقلق علي خالتي .
- خالتك ؟ .. لم أكن أظن أن لجارتي ابنة أخت ..
- هي من أقارب أمي وأناديها بخالتي ..
- آه طيب .. انتظري لحظة ..
قفزت إلى منحدر يؤدي للكهف وغبت بعض الوقت ثم عجت محملا بباقة حوت أعشابا وبعض الأقحوان .
- هذه هدية مني عربون شكري لما منحتني من وقتك .. لقد استمتعت حقا ..
- ما اجملها .. لكن قل لي صراحة .. هل قدمت مثل هذه إلى غيري ؟ أعني هل هي عادتك في تقديم الهدايا بمثل هذا البهاء ؟
وبقدر ما كان محياها يشي ببراءة السؤال ، بقدر ما كان يحمل تلميحا مستفزا ..
- لا .. نادرا ما أهدي شيئا إلا إذا شعرت أني يجب أن افعل ذلك ..
- يجب ؟ .. هل هناك ما يلزمك بفعل هذا ؟
- أجل .. مشاعري .. فهي لا تخطئ أبدا
نظرت إليها فوجدتها تحدق في بإمعان وقد شاب وجنتيها تورد خفيف .. حاولت أن استشف من عينيها شيئا دون جدوى . وبحثت عن موضوع يبدد الصمت الذي لفنا ونحن نبتعد عن المكان فلم أفلح .. لكني وأنا أودعها على مقربة من البيت عند طرف المنبع استجمعت شجاعتي ومددت يدي مصافحا وأنا أقول متلعثما :
- أشكرك من جديد .. أرجو أن تكوني استمتعت مثلي .. لازال هناك الكثير مما يمكن أن تكتشفيه هنا ..
- هذا يسعدني .. إن شاء الله .. إن لم أغادر قريبا ..
- تغادرين ؟؟
- طبعا – قالت ضاحكة – أتظنني سأسكن هنا ؟
- آه .. لحد الآن لم أسالك ما اسمك ولا من أين أتيت .
- وما الفائدة ؟ .. كلنا نأتي ونذهب .. ونحل ونرتحل .. أما عن اسمي فأترك ذلك لمخيلتك الواسعة .
- كلامك بدا يحمل شاعرية ..
- وكيف لا وقد أصابته عدوى شاعريتك .. شكرا لمرافقتك وهديتك .
- العفو .. سأكون رهن إشارتك في أي وقت .. لكن رجاء .. لا ترحلي بسرعة .
لمحت شبه ابتسامة على شفتيها وهي تدور على عقبيها متجهة إلى البيت قائلة :
- كل شيء بمشيئة الله .
لبثت أتابع مشيتها وهي تتهادى قرب الفرن في رشاقة تمايلت معها أغصان الأشجار المحيطة بي ووجدتني أتمتم :
- نعم .. كل شيء بمشيئة الله .. حماك الله من كل سوء .[/align]
|