رد: ( رسائل بلا عنوان ) .. الفتى السوري محمد حليمة
( الرسالةالسابعة )
المرسل : المَنسيّ
المرسل إليه : سحر الشرق
حبيبتي سحر الشرق :
لم يمرّ على الرسالة زمن طويل .. وكما تعلمين فإنّ عادتي أن اكتب لك كل أسبوع على الأقل ، أرجو أن تسامحيني إن خرقت هذا القانون ، وخرجت عن عادتي ، فإنّ المشاعر يا حبيبتي ليست لها قانون ، ولا تتقيد بحدود مكانية ولا زمانية ، فإذا ما أرادت أن تخرج من خواطر الإنسان ، لتعبر عما يعتمل في صدره ، من هواجس أو مشاعر تتقاتل .. فإنها تخرج إلى الفضاء الخارجي ، حتى ولو لم تجد أحدا يسمعها أو يحنو عليها ، أو يضمها تحت جناحيه ليدفئها ويهديها ، فالمشاعر التي تشعر بأنّ الأوان قد حان لأن تخرج من داخل صاحبها .. لا يقف في وجهها شيء ، وذلك رحمة بها حتى لا تموت كمدا من قبل ان تبوح بما لديها ، ورحمة بصاحبها أيضا الذي لا يجد سبيلا للراحة وانشراح الصدر إلا أن يبث مشاعره لأي شخص..ولو إلى الهواء .. المهم أن ألا يظل أسير صمته ، فيقتل .
أتذكرين يا قاتلتي ما كتبته لك في رسالة عيد الميلاد ، فما جاء فيها لم يشف غليلي ، ولم يبرد نار الجوى التي بداخلي ، فبعد أن انتهت الاحتفالات بعيد الميلاد ، وانتهى كل إلى وجعه، يهدهده ، ويواسيه ، وانصرف إلى جرحه ـ الذي أسكته أياما ـ يضمده ويزيل ما علق عليه من آثار الآهات التي ما انفكّ ينزف منها . فإني اليوم قد ثـُبْتُ إلى وجعي ، واهتديتُ أخيرا إلى دواء لكل ما عانيته وأعانيه ، وهداني الشيطان إلى مرفىء .. علني أريح فيه سفينتي من الترحال ، وأضع حدا لصبري الذي طال ، وأخمد لهيبَ وجعي الذي استطال ..
فقد راودتني أفكار حمقاء، لا أعلم من أين داهمتني .. وهي أن أكفّ عن حبّك للحظات ، وألا أفكر فيك ولو لبضع ثوان ، أو أن أنام نوما عميقا، وطويلا جدا بعد عشاء ثقيل جدا ، علّ الكوابيس تجتاحني ، طاردة ً طيفك، ولو ليلة واحدة ، فلعلني أستطيع التفكير فيما يجب أن أفعل ، وفيما فعلتُ في الماضي ،وما قاربتُ من الذنوب في الحاضر ، وفيما يمكن أن أفعل من حماقات أخرى في المستقبل ؛ ما إنْ استمريتُ في حبكِ المجنون . لذا سأجتهد في إيجاد دقيقة أهربُ منكِ فيها ، علّ عقلي الهائج أن يهدأ قليلا ، وعلّ مشاعري الحمقاء ترشد وتستكين ، ودموعي الغزيرة تكفّ عن الأنين . سأحاول أن أستعيد شريط حياتي الماضية ، علني أجد فيها ـ على قصرها ـ ذلك الذنب الكبير الذي اقترفته .. والذي لا يغتفر ، والإثم العظيم الذي ارتكبته .. غير المغتفر ، والمعصية اللعينة التي قاربتها .. والتي قررت أن تودي بي إلى سقر.
علني أعرف ذلك السر أو ذلك الإثم ، أو تلك المعصية ، التي من أجلها اختارتني قوى خفية مجهولة لأنْ أكون قربانا لجمالكِ المطلق .. يا سحر الشرق ، وضحيّة لهواكِ، بدون وجه حقّ .
حيث هناك مَن قرر وحكم ، و قضى وعزم ، بحكم قد انبرم .. أنّ جمالك الخرافيّ يزداد ، بازدياد القرابين المقدمة إليه . ويغدو أكثر صفاءً ، كلما شرب من دماء تلك القرابين . وهكذا... فما تزال تلك القوى الخفية تتخيّر الضحايا ، وتقدمها إليكِ ، مستخلصة لكِ ، أحلاها قلوباً وأطيبَها ، وأنقاها دماءً وأعطرَها ، وأوفرَها مسكاً وأذكاها .. وأحسبُ أنّ تلك القوى لن تتوقف يوما عن تقديمها القرابين إليكِ ، حتى تصلَ بجمالكِ إلى الأبدية والخلود ، عندها سيُبعَـثُ طائـرُ الفينيق ، ليحملك إلى عالم ٍآخر .. فردوس ٍخرافيٍّ .. إلى مالا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطرَ على بال بشر .
لكني أتساءل .. لماذا اختارتني تلك القوى الخفية ، لأكون ضحيتكِ التالية ، وقربانكِ المنتظر ..؟! مع أني لستُ أذكى دماء ، ولا أنقى سريرة ، ولا أطيب قلبا ، ولا أفضلَ ديناً .. بل على العكس ؛ فإني من أشقى الأشقياء ، وأضعف الجبناء ، وأغبى البلهاء ، وزيدي على ذلك ؛ أني اقترفتُ ذنبا ، لا أحسبني معه سأدخل الجنة ، وواقعتُ معصية ، لا أظنني معها سأفوز من الله بالمنـّة . أتعلمين ما هو هذا الذنب الكبير ،والإثم الصغير .. هو بكل بساطة وعفويّة ، وهدوء ورويّة .. حبّي لكِ . لذلك اكتشفتُ حماقة تلك القوى الخفية ،لأنها هذه المرّة أساءت اختيار القربان ، كما أساءت اختيار الزمان المكان .
وأرادت العدالة الإلهية أن تعاقبني على ذنبي ، فكان الجزاء من جنس الفعل .. أحببتكِ حتى الغرغرة ، وكلما فقتُ من سكرةٍ دخلتُ في سكرة، ولم تشفع لي حَسَنة ٌ ولا أثـَرَة . وما زلتُ أتساءل .. مع كلّ ما في سؤالي من مغالاة ،وحيادٍ عن وجه الحق ـ ولكن يبقى الأصل في الأشياء الإباحة
هل من العدل أنْ يحاسبَ المرءُ على ما فعله إكراهاً ..؟!
هل من العدل أنْ يُطلبَ من إنسانٍ فـصلَ الماء عن التراب ، من بعدما مُزجا ..؟!
هل من العدل أنْ يُعطى إنسانٌ جناحين ، ثمّ يُطلبُ منه ألا يطير ..؟!
إنْ كان الجواب نعم .. هو ذا عين العدل ، إذاً فماذا نسمي عقاب العاصي على معصيته ، والقصاص من القاتل ، وأخذ الظالم بظلمه ، إعطاءَ كلَّ ذي حق حقه .. أهو عدل أم ظلم ..؟! إن قلنا إنه عدلٌ ، فقد ثبت الظلمُ للفروض الأولى .
حبيبتي .. في زحمة هذه التناقضات في المفاهيم ، وهذه المغالطات في التعاريف المطلقة ، يظلُّ حبّي لكِ عالقاً ، بين عدلٍ يُـرجى ، وظلمٍ يُخشى ، بين مُهاجمٍ ومدافع ، ومُدّعٍ ومُرافِع .. بين تعاريف خالطت الحق والباطل ، فحال بينها وبين صياغتها شكٌّ ، يعزّ معه اليقين ، ويحيّر المتكلمين والمتفلسفين ، ويُبقي الإجابة عالقةً إلى يوم الدّين ، ليفصلَ فيها أحكمُ الحاكمين .
يا سحريَ الشرقي .. ما زلتُ أنظرُ إلى الحبّ نظرة الغريب الطارئ ، فأتهيّبه أحيانا ، وآمنُ جانبَه أحيانا أخرى . فتجديني أحيانا أفرّ منه فراري من المجذوم ، وأحيانا أتوسّدُ حضنه كأمّ رؤوم . فتريني بين هذا وذاك .. أتقلبُ لا أستقرّ على حال ، ولا يهدأ لي بال . فهل تريحيني وتقيليني من حبٍّ لا أعرف مستقره ومنتهاه ، ومن قدر أجهل مرادَه فيّ ومبتغاه . حتى أرجع لعقلي ، وأثوبَ إلى رشدي ، وأعرف أين أنا واقف على هذه الأرض .
وهذا سلام شماليّ .. من مدينتنا الشماليّة .
|