ختام
[align=justify]
وبعد:
إن هذا الفيض الزاخر من العلم في شتى ضروبه وسائر أبوابه وهذه القيم الأخلاقية العليا والمثل السامية. وهذه الأخبار عن السابقين وقصص الأولين. كما عن سائر أحوال البشر في الحياة الدنيا وما يرتقبون في الحياة الآخرة.وهذا التصوير الرائع للإنسان على ظهر هذا الكوكب في كافة أحواله: النشأة الأولى.. خلقه، ثم سعيه، فكسبه، فمصيره المرتقب. خصائصه- كينونته جسداً ونفساً وروحاً. وهذا التحديد للعقيدة، وهذا الغنى في التشريع والتنظيم للعلاقات الاجتماعية والإنسانية لمجتمع ولأمة. كما في العلاقات بين الكيانات والدول في حالات الحرب وحالات السلام، ومتى يكون العدل وأين تقع المظالم، وعواقب كل منها وانعكاساتها على حياة الفرد والمجتمع، ثم حسابها في الآخرة.
هذه كلها لا يعقل أن تكون من إبداع رجل بعينه وفيها كل هذا الإعجاز المذهل، والصدق النادر الفريد مع الذات ومع الآخرين. وقبل ذلك وبعده مع الخالق جلَّ وعلا.
ألم تشغل هذه الرسالة البشرية قاطبة، وما انفكت شاغلتها على مدى الزمن؟
ألم يتتلمذ على مدرستها من أصبحوا علماء وفقهاء وفلاسفة وأصحاب مذاهب وبحاثة وحملة شهادات عليا اكتسبوا جميعاً الشهرة والصيت الذائع عن طريقها سواء كانوا بين معتنقيها أو كانوا غيرهم؟
أليس هذا مما يفوق إمكانات بشر؟
وما بالنا إذا كان هذا (البشري) هو محمد عليه السلام حيث كان من مكان في شبه الجزيرة الصحراوية النائية عن مواطن الحضارة في حينها. فلا هو كان على احتكاك بالرومان أو اليونان أو الفرس أو الغساسنة أو المناذرة أو غيرهم، ولا هو ابن مجتمع يضم بين ظهرانيه علماء في الفقه والفلسفة والروح والعقيدة. ولا مجتمعه كان يبدي اهتماماً بقضايا الإنسان وهمومه ومشاغله بأكثر من رحلتي شتاء وصيف، بغية الكسب والتجارة، أو اجتماع يطرأ من حين لآخر بين قبائل تؤم مكة لعبادة أصنام منبثة في أرجائها، وفي رحاب كعبتها، أو مناسبة لتطارح القصيد كسوق عكاظ.
وعلى حين غرة يبزغ من وسط هذا التيه العميم رجل لبث بين ظهرانيهم أربعين سنة، لم يعرف عنه معاصروه ومعايشوه شيئاً مما أنف ذكره قط، ليطلع به عليهم وهم الذين لم يكن فيما يحيط بهم ما ينبئ بأن بينهم من ينطوي على احتمالات البشارة بمثل ما جاءهم به صاحبهم. وهذا الذي جاءهم كان فريداً في بابه، مذهلاً في إعجازه، عصيّاً على المضاهاة والتقليد، حتى في أخصِّ خصائصهم من بيانهم العربي المبين، وفصاحتهم المشهود لهم بها. ثم يلفي هؤلاء أنفسهم أمام التحدي الشاخص أمامهم، بلا وسيلة ولا حيلة تخرجهم من صورة عجزهم المهين، سوى اتهامه بالسحر والجنون، أو الطمع في الزعامة والثروة وما إليها، مما يغري البشر في العادة ويسعون إليه.. وحين يتأبَّى عليهم ويترفَّع عن عروضهم لا يملكون غير مناصبته العداء، لاسيما وهو الذي أمسى يتحداهم فيما هم أقدر عليه من أي شيء آخر.
وحين يبوء الجمع بالخسران المبين يلجأون- كما هو حال كل عاجز على الدوام- إلى الكيد له، بل إلى إضرام الحرب تلو الحرب عليه ومن معه، والقمع لمن تبعه من عامة الناس وفقرائهم، الذين وجدوا فيه الملاذ وألفَوْا عنده الأمل المبشر بما يخرجهم مما هم فيه من ضيم وعنت وبؤس. ثم فوق ذلك كله الهداية والرشاد، والوعد بجنَّةٍ عرضها السموات والأرض.
ومما يزيد الأمر غرابة أنهم حتى حين يقدِّمون إليه عروضهم المغرية التي من شأنها تلبية مطلبه أياً كان ذلك المطلب، لو كان صاحبه ساعياً إلى طلبة دنيوية: ملك، وجاه، ومال، وسلطان، وزعامة على سائر العرب.. واحدة من هذه كانت قمينة بأن تثنيه عما أتاهم به ما دامت قد أتته سعياً. وحين لا يجدون منه غير الرفض كان حريّاً بهم أن يقتنعوا بأن هذا موقف لا يقفه إلا من كان حقاً نبياً، زاهداً في مغريات الحياة الدنيا، كائنة ما كانت فهي ليست بغيته أبداً.
إذن:
ما الذي جناه الرسول، عليه السلام، على الصعيد الشخصي ــ بمقاييس البشر المصلحية المتعارف عليها ــ بعد رحلة عمر امتدت زهاء ثلاث وعشرين سنة قضى أيامها يخوض المعارك الضارية، الفكرية والحربية والاجتماعية والسياسية جميعاً في مواجهة خصوم عتاة قساة جهلة يملكون من القوة ما يرهب ويخيف. ما الذي جناه محمد، عليه السلام، بعد ذلك كله؟
ــ هل حقق لنفسه أو لأسرته وآله مكسباً شخصياً يرثونه من بعده؟
ــ هل جنى ثروة من مال، أو عقار، أو عرض دنيوي؟
ــ هل نصَّب من نفسه ملكاً أو أميراً؟ وكان قادراً أن يفعل لو شاء، أم هل تغيَّر سلوكه بين الناس فعلاً واستكبر في الأرض بعد أن دانت له دنيا ذلك الزمان فأحاط نفسه بالحاشية والصولجان والرعية؟
ــ هل عمد إلى البطش بأعدائه وخصومه ومناوئي الدعوة حين أمكنه الله منهم ثأراً لنفسه ولمن معه عما لحق بهم، على أيديهم من إذلال، لاسيما في البدايات؟
ــ هل جنح إلى حياة البذخ والترف والرخاء، بعد سني الفقر والمكابدة وعيش الكفاف أم لبث على ما كان عليه حتى يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى؟
من صور حياته التي كانت تدفع أصحابه أنفسهم إلى الرأفة به مما يأخذ به نفسه من شدة في العيش من مأكل ومشرب وملبس:
دخل عليه عمر، رضي الله عنه، وهو على حصير قد أثّر في جنبه، فقال يا رسول الله: لو اتخذت فراشاً أوْثر من هذا، فقال: (ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها) (الترغيب 5/160 أخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود والترمذي والطبراني).
أخرج ابن ماجه عن أم أيمن، رضي الله عنها أنها غربلت دقيقاً فصنعته رغيفاً فقال (ما هذا؟) قالت طعام نصنعه بأرضنا (وهي حبشية) فأحببت أن أصنع لك منه رغيفاً فقال: (ردِّيه فيه ثم اعجنيه) (الترغيب 5/154 ابن ماجه وغيره).
يقيناً أن البشر لم يعهدوا بينهم ــ عدا الرسل والأنبياء ــ من يستبدل، راضياً مختاراً، بحياة الدعة والراحة والأمن حياة لا تحفل بغير المتاعب والشدائد والهموم الكبيرة. من ذا الذي يرفض نعيماً متاحاً يأتيه، مشفوعاً بالرجاء والتمني، فيختار نقيضه؟ لن يفعل ذلك سوى حملة الرسالات السامية وأصحاب المثل العليا، فما بالنا عندما تكون الرسالة من عند الله قرآناً منزلاً على عبده ورسوله؟
ثم ماذا؟
هذه (الثقافة) ــ حسب مصطلحات عصرنا ــ الشاملة اتساعاً، العميقة غوراً، المحيطة بسائر ما في الوجود شمولاً كيف تسنَّت لمحمد كإنسان، من بين سائر بني الإنسان، حتى أن أحداً لا يضاهيه، فيما جاء به من قبل ولا من بعد؟
هذه الشخصية (الحضارية) ــ حسب مصطلحات عصرنا ــ في المسلك القويم والخلق العظيم، متمثلاً في الأقوال والأفعال والعلاقات الإنسانية، في سائر الأحوال، في السلم كما في الحروب، مع المناصرين كما الخصوم كيف تكونت؟
لم يكن محمد ابن بيئته ثقافياً وحضارياً. تلك كانت جاهلية نأى عنها، وعمل على إخراجهم منها، وكان له ذلك، بعد أن تحمل من العناء والعبء ما تنوء به العصبة أولي القوة. تلقَّى محمد صلوات الله عليه وسلامه العلم والحكمة عن ربه سبحانه:
.. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (النساء:113)
فهل نحن في حاجة بعد إلى براهين على صدق الرسالة والرسول؟
* * *
سيدي رسول الله:
سلام الله وصلواته عليك.. فلقد بلَّغت الرسالة، وأوجدت في البشر أمَّةً مسلمةً تحمل إلى الناس من بعدك رسالة ربك. رسالة الحق والنور، والهداية والرشاد.
وسينصر الله الدِّين الذي حملت للإنسانية على الدين كلِّه حتى قيام الساعة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التاسع من ذي الحجة 1425
التاسع عشر من كانون الثاني (يناير) 2005
* * *
[/align]