معركة الأمعاء الخاوية
انقضى حوالي الشهر منذ أن أعلن الأسرى الفلسطينيون الإضراب عن الطعام في المعتقلات الإسرائيلية، وهي أصعب وأقسى المعارك التي يخوضها الإنسان بمحض إرادته. يقبع قرابة عشرة آلاف أسير ويزيد في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث يعانون الأمرّين من الإهمال والعزلة والتنكيل وانعدام الرعاية الصحيّة طوال الوقت. السجين الفلسطيني مشروع إلغاء لوجوده الفيزيائي، عقابًا على تحدّيه للمشروع الإسرائيلي بشتّى الطرق، حتى وإن تمثّل ذلك بضرب حجر أو القيام بعملية عسكرية فالأمر سيّان.
تأخر تقديم وجبة الغداء أو العشاء لنا نحن المواطنون البعيدون عن الشقاء الفلسطيني شأن صعب للغاية، وقد نغضب ونتخاصم مع زوجاتها أو القائمين على إطعامنا، فما بالك بالأمعاء الخاوية لفترات زمنية طويلة! طلبًا للتغيير أو للحصول على الحدّ الأدنى من الحقوق المتمثّلة على الأقل بإطلاق سراحهم، ليتمكنوا من استنشاق رائحة الوطن. لكن الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي وجد حلا لكافة الحاصلين على رخصة الخروج من السجن والمعتقل، وهو الترحيل على الفور إلى بلاد الله الواسعة، ليضيفوا لمعاناتهم وللأمراض التي غزت أجسادهم الغربة والاغتراب.
المعتقلات الإسرائيلية تجمع كذلك الآباء والأبناء، والنساء والأمهات. تجمع عائلات بأكملها، مخلّفة معدّلات مقيتة من اليأس والقنوط، والرغبة بالانتقام والتحرر والانعتاق من الاحتلال بشتّى الطرق الممكنة. الأسرى الفلسطينيون بلا معين وتبدو قضيتهم جانبية ودون أدنى أهميّة، بالكاد نقرأ مقالا هنا أو هناك، ينشره أسير سابق، أو كاتب تحرّكت لديه مشاعر التعاطف والشفقة. لم يعد شأن الأسرى يحتلّ أولوية في خضمّ الصراعات الإقليمية والمحليّة، كأنّنا نتحدث عن شأنٍ غرائبيّ مستهجن. صحيح بأنّ الكثير من الشعوب العربية تعاني حاليًا من الكثير من المتاعب والمشاكل في المنحى اليوميّ، والسجون العربية كذلك لا تخلى من المواطنين الذين دخلوها بسبب آرائهم ومواقفهم السياسي. لكن الأسرى الفلسطينيون يتواجدون في المعتقلات منذ عشرات السنين وهناك من هو محكوم لمئات السنين! لا أحد بالطبع قادر على ممارسة الحياة لهذه الفترات الزمنية الطويلة للغاية، خاصة ضمن ظروف المعتقلات التي تقلّص الأعمار وتسرق صحّة وسلامة الأسير، وقدرته على البقاء خلف القضبان.
الأسير الفلسطيني هو عنوان الضعف العام وتعبير عن حالة الاستسلام، حيث يتعذّر على السلطة الفلسطينية وما تبقّى من الأنظمة العربية المعنية، برفع الظلم عن الأسير الفلسطيني وإخراج بعضهم من هناك. تراهم كذلك غير قادرين على الحصول على جثامين الموتى، إلا حال موافقة الاحتلال الإسرائيلي، وعادة ما يكون ضمن شروط مسبقة تحقّق لهم مطالبهم الاستراتيجية، كتحرير أسير إسرائيليّ وحيد أو ما شابه! الأسير الفلسطيني رمزٌ لما تبقى من رغبة لنضال الشعب الفلسطيني منذ انتهاء الانتفاضة، واعتقال أحمد السعدات ومروان البرغوثي وآلاف غيرهم هو أكبر دليل على ذلك، هؤلاء الأسرى جزء من مسيرة المعاناة، دفعوا ثمن رغبتنا بالحصول على موقع فوق الخارطة الدولية، لنصبح شعبًا حرًا، يتمتع بكافّة الحقوق التي تنصّ عليها الشرعية الدولية.
الشأن الآخر الذي يؤرّق المجتمعات الحرّة هو سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين والمتاجرة بها، وقد كتب عن هذا الشأن الصحفي السويدي كارك دونالد باستروم الذي عانى الأمرّين نتيجة لموقفه المشرّف، لكنّه بدا كمن يرقص في العتمة، لا يقوى على مناصرته سوى القلّة. ليس هذا فحسب بل حورب من قبل الإعلام الإسرائيلي والعالمي بحدّة غير مسبوقة، وتمّ توظيف ملايين الدولارات لتلميع الوجه الإسرائيلي المحتلّ للأرض والإنسان، الذي لا يتوانى عن إرتكاب كافّة الجرائم بحقّ الإنسانية والإنسان الفلسطيني، ويهدف كذلك إلى تشويه صورته ليبقى أكبر فترة ممكنة خارج التاريخ والحضارة. هذا الإعلام الذي شوّه كافّة المسلّمات وقدّم الإسرائيلي بصفته الرجلّ الحضاريّ المعطاء، القادم نحو الشرق لتخليصه من همجيته وتخلّفه بقوّة النار والحديد والذرّة.
ربّما حان الوقت لتعريف المجتمعات الدولية بمعاناة ومأساة الأسير الفلسطيني، وباقي الأسرى السياسيين القابعين كذلك في المعتقلات العربية، لأنّه لا فارق بين الأنظمة التي تشرف على القذف بهم وراء القبضان لكلمة توفّهوا بها، أو لرأي كتبوه هنا وهناك!. لا بدّ من تسليط الأضواء على معاناة هؤلاء المسكونين تارة بالأمل، وغالبًا باليأس لشعورهم بأنّهم منسيون من العالم الحرّ. لنعيد لهم بعض الأمل بأقل التكاليف، ولو بمقال أو باعتصام، ليشعر المحكومون بجفاء الشمس والسماء الزرقاء لسنوات وعقود من الزمان، بأن هناك من يستمع لتأوهاتهم ولحشرجاتهم.
---------------------------------