رد: (( لا تحيا إلا بالعناق ! ))
قال " سأتصل فورا " !!
يااااااااااااااااه كم تغير الزمن وتطور .. سيتصل فورا . من المكان الذي يقف فيه
سوف لا ينتظر أمام إحدى السنترالات وقتا طويلا قد يمتد لساعات ،وأحيانا لأيام
ليجري مكالمة مع شخص آخر ! مرّر إبهام يده اليسرى على سطح الهاتف بنعومة مرتين ،
وفي لحظات سُمع صدى صوت شخص آخر على الخط الثاني ، أجرى معه محادثة
قصيرة ختمها وليد بقول جملة صغيرة " خيرا إن شاء الله " ثم اقفل هاتفه ومشى .
جرى الأمر كله بثواني معدودات ؛ ولكن أن ينتظر لمدة اسبوع أو أكثر ليجري
مكالمة هاتفية حتى تتحقق .. ! فهذا يخبرنا بحجم التطور الهائل والخطير الذي
حدث في حياتنا في هذا الزمن ويخبرنا عن معاناة البشر في مثل تلك الظروف .
لم يكن لا عدنان ولا وليد يملكون هواتف في بيوتهم ولا في أماكن عملهم ،
ورقم الهاتف الوحيد الذي أودعوه لدى الجميلات ، كان رقما لهاتف " العطّار "
جار عدنان الذي يملك متجر عطور مركّبة وهو في ذات الوقت كان " مختار " المحلّة أيضا .
كان محظوظا لأنه حاضر في أي وقت من النهار إن تحدثت إليه سعاد أو تحدث
إليها كلما سنحت لهم فرصة الحديث عن بعد ،المسافة التي يقطعها لا تزيد عن سبعة
امتار ليقبض على سماعة الهاتف وهو قلق ، لا يأخذ راحته في الكلام ، يستدير
من جانب إلى آخر وعيانا " المختار " تلاحقه واذناه تسترق السمع ويفتعل ضجيجا
بكفتي الميزان الصغير وينظر إلى ساعته ويتأفف ثم يعلنها صراحة بأنه كان ينتظر
مكالمة ويخاف أن " يطير " منه الرزق .. ومع ذلك كان المختار لا يحتمل زعل جاره
الذي كان يهتم بعائلة ولديه من البنات ثمانية !
أما وليد فكان ينتظر موعدا من اسبوع إلى آخر ليتحدث إلى بيرنا عبر المركز
الرئيس لسنترال المدينة ! لم يكن ليسمح لها بتلقي مكالمات هاتفية خاصة بمركز
عملها في إحدى فروع المصرف المركزي إلا إن احتالت على عامل السنترال الأعمى !!
أقسمت بيرنا بأنه أعمى تماما، ولكنه يدير العمل فيه بأفضل ممن له عينان تري.
ارشدتها إحدى قدامى الموظفات على مفتاحه .. كان لا يطمع باكثر من لوح من
الشوكولا وعلبة صغيرة من الحليب المحلّى لتحتضنهما جيوبه الجوعى أو
علبة سجائر فاخرة حتى يمرر لها خطا خارجيا لمدة دقيقة أو اثنتين على الأكثر ،
وغالبا ما كانت المكالمة تنقطع وذلك ليس بفعل " أبو جيوب " وإنما لخراب متعمد
خصوصا عندما كانت تزداد المعارك ضراوة بين المنطقتين من بيروت : الشرقية ، والغربية .
مع ذلك فإن الأمر لم يدم طويلا ،توسعت جبهات المعارك وانقطعت الخطوط الهاتفية كليا
بين الجبهتين ولسنوات قادمة !
:
عندما كانوا في فارنا ، تحدثوا في موضوع الحرب " الأهلية " طويلا وقضوا سهرة
كاملة في الحديث عنها اشترك فيها عدنان وسعاد وتطور الأمر إلى خصام بين ما بين
وليد وسعاد على خلفية اختلاف مفاهيمهما السياسية والثقافية ، كانت بيرنا محايدة ، أو
انها بدت كذلك .. لم تُبدِ موافقتها على ما قاله وليد ، ولم تعترض على ما قالته سعاد !
كانت سعاد حانقة غاضبة عندما سألت : " ماذا تريدون من هذا البلد الصغير ؟
لماذا جعلتمونا نكرهكم ، فلبنان احتضنكم كل هذه السنوات .. فلماذا تحاربوننا ؟! "
أسئلة لو طرحت على وليد بعد عدة سنوات من طرحها في تلك الليلة لأصابت بلا شك
جوهر القضية التي كان" يناضل " من أجلها ، وقد لا يستعصي عليه إنكار الحقيقة
بعد أن وضحت الأمور وأصبحت بائنة بشكل صار من العبث الجدل فيها .. ولكن ..
هل كان حينذاك قادرا على أن يتعدى الخيال بفكره إلى ما ستؤول إليه القضية ؟!!
كان وليد – وبالرغم من بعده عن أي مفهوم طائفي – يتحدث إلى سعاد بنفس
الحدّة وقال فيما قال : " بأن لبنان ليس لطائفة واحدة ولا يمكنكِ بالتالي التحدث
باسم شعب لبنان لأن أكثريته تؤيد " الثورة " الفلسطينية " !
- ولكن ، هل ستقتلني وتدوس على جثتي لتحرر بلدك ؟!
قالتها بغضب شديد ؛ مما استدعى أن يكون رده بنفس الحدة من الغضب :
- وهل يجب أن استسلم لأحقق رغباتك وأعيش مطيعا كالأغنام وبيدك سكين الذبح ؟!
كانت المفاهيم مُعلبة جاهزة لا يغير من مضامينها حوار لم يتعلموا ماهيته، وكانوا لا
يروى إلا صورة الأبيض والأسود ومع ذلك كان لهم قلوب تحبّ ومستعدة للتضحية
في كل وقت ؛ ترى لو عُرض على وليد الاختيار ما بين التضحية بالدم والموت في
سبيل من يحب : فتاته أم "الثورة " من أجل من كان سيضحي ؟!!
أسئلة من هذا النوع ينبغي طرحها في الزمان والمكان والظروف ليجيب المرء
بمنطق الحب نفسه لكلا القضيتين !!
:
أن تقطع سيارتك مسافة 50 كيلومتر في ساعة ،فمسالة طبيعية .. أما أن تقطعها بسبعة
ساعات فسألة فيها نظر ! كانت الطريق بين المدينة التي يقطنها وليد وعدنان تبعد
أقل من خمسين كيلومتر جنوبا من بيروت ،ولكن الطرقات كانت تُقطع من قِبل المسلحين
وتنصب فيها الكمائن باستمرار ، الأمر الذي كان يدفع الناس للالتفاف بعيدا عن
الخطر بل بعيدا عن الموت ؛ كان كل فريق يقوم بنصب كمينه في الطرقات الرئيسة
التي تستخدمها كل الطوائف للتنقل ما بين المدن والمناطق الريفية ، في البدئ كانت
إشاعة مدمرة تقول بأن أهل البلدة الفلانية ( + ) قطعت الطريق وخطفت خمسة
" مسلمين " من قرية ( ) ) وقتلوهم ورموا جثثهم بين الأحراج بعد أن مثلوا فيها؛
ودون أي تحقق بصحة او عدم صحة الخبر تقوم القرية " المنكوبة " بردة فعل
من صبيتها أو بعض الجهلة فيها فينصبون كمينا مسلحا ويخطفون عددا من اهل
القرية الأخرى المفترض أنها البادئة ويقومون بقتلهم على الفور والتمثيل بجثثهم
وأحيانا يعلقون رؤوسهم على الطرقات فوق أعمدة الكهرباء .. وهكذا، كانت القرى
والبلدات يتبادلون الموت ويتبادلون الجثث المتعفنة أيضا !!
|