سلسلة قصصية : القصة الأولى همسات الظلال ورعب صامت
- سلسلة قصصية –
القصة الأولى
همسات الظلال ورعب صامت
د. رجاء بنحيدا
بصوت هامس يكاد لا يسمع، انزلقت الكلمات من بين شفتي العجوز أمينة، بينما كانت تجلس متصلبة في ركن الغرفة، عيناها تحدقان في الفراغ البعيد.. "الحرب... إنها ليست مجرد دوي انفجارات ودم، الحرب يا بني... هي شبح يتسلل إلى الروح، يلتهم النور ويترك خلفه ظلاما أبديا."
كانت الليلة دامسة السواد في تلك القرية الصغيرة، التي ناءت بنفسها عن صخب المدن الكبرى، ظنا منها أنها بمنأى عن أهوال العصر،لكن الحرب، كوحش أسطوري، كانت تمد أذرعها الطويلة لتطال حتى أكثر البقاع انعزالا.
بدأت الحكاية بهمسات خافتة، أخبار مشوشة تصل عبر الراديو القديم الذي تحتفظ به فاطمة في دكانها الصغير… أسماء مدن بعيدة، أرقام مرعبة للضحايا، وغموض يلف الأسباب والدوافع.
في البداية، استقبلها أهل القرية بفضول ممزوج بالشفقة على أولئك البؤساء الذين ابتلوا بتلك الكارثة، لكن سرعان ما بدأ الشعور بالقلق يتسلل إلى القلوب كجرثومة خبيثة.
اختفى الشباب الواحد تلو الآخر،لم تكن هناك بيانات رسمية واضحة، فقط شائعات تتردد بين النسوة وهن يتجمعن عند بئر الماء… "أخذوهم... إلى حيث لا يعودون" كانت الجملة تقال بخوف مكتوم، وكأن نطقها بصوت عال قد يجلب الشر إلى عتبات بيوتهم.
ثم بدأت تظهر الوجوه الغريبة… جنود بملابس موحدة، يحملون بنادق تنظر إليهم بعيون باردة لا تعكس أي إنسانية.. كانوا يتجولون في الأزقة الضيقة، يسألون أسئلة مقتضبة بنبرة آمرة، ويفتشون البيوت دون إذن… هالة من الرعب الصامت خيمت على القرية، الجميع يخشى الهمس، يخشى النظرة، يخشى حتى التنفس بصوت عالٍ.
في إحدى الليالي الحالكة، بينما كانت الرياح تعوي كذئب جائع، سمعت خديجة، الأرملة التي تعيش في طرف القرية، طرقا خفيفا على بابها…قلبها ارتجف في صدرها كعصفور مذعور؛ من يطرق بابها في مثل هذا الوقت المتأخر؟ لم تجرؤ على فتح الباب، لكن الطرقات تكررت، هذه المرة بصوت أشد وأكثر إلحاحا.
تجمد الدم في عروقها، لم يكن هذا طرقا عاديا بل كان إعلانا عن شيء مهول، زحفت بخطوات متثاقلة نحو النافذة، وأزاحت الستار قليلًا. في ضوء القمر الشاحب، رأت ظلين طويلين يقفان أمام بابها،لم تستطع تمييز ملامحهما، لكن حضورهما الكئيب بث في روحها ذعرا لم تشعر به من قبل.
اختبأت خديجة تحت سريرها القديم، تتنفس بصعوبة، بينما كانت تسمع صوت الباب يُخلع بعنف. خطوات ثقيلة تدوي في الغرفة المجاورة، همسات غليظة، ثم صمت مطبق أشد رعبا من أي صراخ.
في الصباح، عندما تجرأ بعض الجيران على الذهاب إلى منزل خديجة، وجدوها ملقاة على الأرض، عيناها مفتوحتان على اتساعهما تحدقان في سقف الغرفة الخالي… لم يكن هناك أي أثر للعنف الظاهر، لكن نظرتها كانت تحمل رعبا لا يمكن وصفه، وكأنها رأت شيئًا من العالم الآخر.
بدأت الشكوك تتسلل إلى عقول أهل القرية، لم تكن الحرب مجرد صراع بين جيوش بعيدة. كانت شيئا آخر، شيئا خفيًا يتغلغل في حياتهم ببطء، يزرع الخوف والجنون.
تذكر الشيخ قاسم، الرجل الحكيم الذي تجاوز الثمانين من عمره، حكايات جدوده عن "الريح الصفراء" التي كانت تجلب الموت والخراب في الماضي. ..هل كانت الحرب الحديثة مجرد تجسيد آخر لتلك اللعنة القديمة؟
بدأت تظهر علامات غريبة، أشياء تختفي من المنازل دون سبب واضح، أصوات غريبة تُسمع في الليل، وظلال تتحرك في زوايا العين… الجميع كان يشعر بأن هناك شيئًا يراقبهم، شيئًا ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليهم.
في أحد الأيام، بينما كان الأطفال يلعبون في ساحة القرية، وجدوا دمية قماشية ملقاة على الأرض..لم تكن مجرد دمية عادية، كانت مشوهة، ممزقة الأطراف، وعيناها مثبتتان بخرز أسود يبدو وكأنه ينظر إليهم بشر…سرت موجة من الذعر بين الأطفال، وركضوا إلى منازلهم مذعورين.
أخذت الأم زينب الدمية لتفحصها، فشعرت ببرودة غريبة تنبعث منها،عندما قلبتها، وجدت على ظهرها علامة مطرزة بخيط أحمر داكن.
كانت تشبه عينًا مفتوحة تحدق في اللانهاية. ..شعور لا يوصف بالخوف تملك زينب، فألقت بالدمية بعيدا وكأنها تحرق يدها.
منذ ذلك اليوم، ساد شعور أعمق بالرعب في القرية، لم يعد الخوف من الجنود وحده، بل من شيء آخر، شيء غير مرئي، شيء يسكن في الظلال وفي الهمسات وفي الأشياء المهملة.
بدأت الأحلام تصبح كوابيس لا تنتهي،وجوه مشوهة، صرخات مكتومة، وشعور دائم بالاختناق. ..حتى النهار لم يعد يجلب الراحة، فقد كانت الشكوك تلتف حول الجميع كأفعى سامة! من منهم كان يحمل سر الحرب بداخله؟ من منهم كان يجلب هذا الخراب الروحي إلى القرية الهادئة؟
الحرب، كما قالت العجوز أمينة، لم تكن مجرد دوي انفجارات، كانت وباء خفيا، يتسلل إلى القلوب والعقول، يحول الأبرياء إلى مشتبه بهم، والجيران إلى غرباء…كانت لغزا مرعبا، لا يمكن حله إلا بالكشف عن السر الدفين الذي حمله معه شبح الحرب إلى تلك القرية النائية. والسؤال الذي ظل يتردد في أذهانهم المذعورة: من سيكون الضحية التالية لهذا الرعب الصامت؟
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|