الكنز الحقيقي -د.رجاء بنحيدا
في أحد أزقة فاس العتيقة ، حيث تتداخل روائح التوابل والجلود مع همسات الباعة، كان يقف سعيد، تاجر من زمن مضى، زمن كانت فيه الكلمة عهدا ، والصدق رأس مال لا يبور، كان سعيد كشجرة وارفة الظل في صحراء قاحلة، رجلا يندر أن تجد مثله في هذا الزمان الذي أصبحت فيه الأمانة عملةً بالية، والصدق قصةً من حكايات الجدات… كان وجهه يحمل آثار السنين، وعيناه تلمعان ببريق نادر، بريق لا يخبو حتى في أشد الأوقات ظلمة. ..كان سعيد جزءًا من نسيج هذه المدينة، جزءًا من تاريخها المتجذر في الأزقة الضيقة والبيوت المتلاصقة، رجلًا يعرفه الجميع، ويحترمه الجميع، رجلًا كان وجوده يضفي على المدينة لمسةً من الأصالة في زمنٍ يتسارع فيه التغيير.
لكن، كما هي عادة الأقدار، لا تدوم الأحوال على حالها، فالدنيا كخيال الظل، تتغير صورها في لمح البصر. كانت أيام سعيد تشبه قصص ألف ليلة وليلة، حيث الرزق يتدفق كالنهر، والخير يفيض كالينابيع، لكن فجأة، انقلبت الموازين، وكأن يدًا خفية عبثت بالقدر. تراكمت الديون على ظهره كثقل السنين، وأصبحت تجارته تبور !
كان سعيد يقف عاجزا ، يتأمل مصيره كأنه يتأمل لوحةً عبثيةً رسمتها يد القدر…كانت المدينة التي عرفته تاجرًا مرموقًا، تنظر إليه الآن بعيونٍ غريبة، عيونٍ لا تعرف سوى لغة المال، ولا تعترف إلا بقوة السلطان. لقد تحول سعيد من سيدٍ إلى عبد، ومن تاجرٍ إلى متسول، وكأن الحياة نفسها كانت تسخر منه، تسخر من أحلامه وآماله، وتسخر من كل ما كان يؤمن به.
في تلك اللحظة العابرة، حين تلاشت خيوط الواقع في نسيج النعاس، انزلق سعيد إلى عالم الأحلام، حيث تتجلى الحقائق في صورٍ رمزيةٍ، كأنها نقوشٌ على جدران الروح. ظهر له رجلٌ نورانيٌّ، وجهه يشعّ بضياءٍ سماويٍّ، يرتدي ثيابًا بيضاء ناصعةً، وكأنه تجسيدٌ للعدالة المطلقة، يحمل في يده عصا ذهبية، وكأنها مفتاحٌ لأبواب القدر.
همس الرجل النوراني بصوتٍ يملأ القلب طمأنينةً: "يا سعيد، لا تيأس، فالله لا يترك عبده في العراء. انطلق إلى الصحراء، حيث ترقد شجرةٌ شامخةٌ، هناك تجد كنزًا مدفونًا، فيه خلاصك وخلاص أهلك. لكن تذكر، يا سعيد، الكنز ليس مجرد ذهب وجواهر، بل هو اختبار لروحك، ميزانٌ يقيس نقاء قلبك".
استيقظ سعيد من نومه، وكأن رؤياه كانت شعاع نورٍ في ظلامٍ دامس انطلق سعيد إلى الصحراء، يواجه قسوة الطبيعة بقلبٍ مؤمنٍ، وكأنه يواجه تحديات الحياة نفسها. وبعد أيامٍ من السفر، وصل إلى شجرةٍ شامخة وسط الكثبان الرملية الذهبية، وكأنها لؤلؤة في قلب الصحراء المغربية. وبعد أيامٍ من السفر، وصل إلى الشجرة الموعودة، حفر تحتها، فوجد صندوقًا ضخمًا مملوءًا بالذهب والجواهر، وكأنه وجد مفتاحًا لبوابات السعادة الأبدية.
لكن، بينما كان سعيد يتأمل كنزه، ظهر له شيخٌ عجوزٌ، يحمل في عينيه حكمةً أعمق من أعماق البحار، وقال له بصوتٍ هادئٍ: "يا سعيد، هذا الكنز ليس ملكًا لك وحدك، بل هو حقٌّ لجميع المحتاجين في المدينة، إنه أمانةٌ في يديك."
تردد سعيد، وتصارعت في داخله نوازع الطمع والكرم، وكأنها معركةٌ أزليةٌ بين الخير والشر… وفي النهاية، انتصر ضميره، وقرر مشاركة الكنز مع المحتاجين. عاد سعيد إلى المدينة، وقسم الكنز على الفقراء، وكأنه يوزع خبزًا على جائعين، أو ماءً على عطشى.
لكن، لم تكن هذه نهاية القصة، فسرعان ما ظهرت في المدينة أحداثٌ غريبةٌ، وبدأ الناس يتشاجرون ويتنازعون على المال، وكأن الكنز كان لعنة مستترة، أدرك سعيد أن المال ليس سوى وهمٍ زائلٍ، وأن السعادة الحقيقية تكمن في العطاء والكرم. فاجتمع بالتجار، وقرروا إعادة توزيع الكنز بطريقة عادلة، وكأنهم يكتبون فصلا جديدا في قصة المدينة.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|