رقصة الفراشات حول نار الهلاك- د. رجاء بنحيدا
يا قوم، اسمعوا وشوشة الريح بين الحجارة القديمة، وتأملوا النقوش الباهتة على جدران الذاكرة!
في هذه الربوع التي تفيض باللؤلؤ الأصفر، وصدى خطوات الفرسان، لكن هاهي خيوط العنكبوت تغزل حكايات أخرى. فالأيادي التي لوّحت بالسيوف في وجه العواصف، ترسم الآن خطوطاً متعرجة على الرمال .
في هذا التحول الصامت، ظهر طائر غريب، ليس بغراب البين الذي ينعق بالخراب الصريح، بل بطائرٍ ذي ريشٍ لماعٍ، يغرّد ألحاناً عذبة تخفي بين نغماتها وهماً يزرع الشك في القلوب، أنفاسه كرائحة زهرة غريبة تأتي بها النسائم البعيدة، تُلين صلابة الجدران الداخلية.
أيها القوم، انظروا إلى البريق الخادع الذي يغطي الهزال، إنه ظل التنين الذي يحرس كنوزنا الروحية، يهمس في آذاننا ليلا ونهارا.
لم يأت كحمامة سلام تبحث عن مأوى، بل كصقر يحوم في سماء مترددة، دُعي إلى مائدة لم تعدّ له، واستقبل كما يُستقبل القمر بعد طول غياب…التفّتْ حوله المخلوقات التي تغير ألوانها، وانحنت الرؤوس التي كانت مرفوعة كأعواد القمح الذهبية، وخرج حراس البوابة، الذين يحملون مفاتيح الحكمة الصامتة، والكنوز الثمينة يستقبلونه كأنه الفجر الجديد.
وفي حديقة الأحلام التي رسمها بكلماته، ظهر الذين يدّعون معرفة الغيب، لا ليقرأوا لنا صفحات القدر، بل ليضعوا بصماتهم على وثيقة الوعد الكاذب.
وفي بحيرة الوعود البراقة، أضيئت الشموع ورُفعت الأعلام احتفالاً بقدومه، رقصت فتيات الوادي رقصة الظلال حول نار موقدة، ليست تعبيراً عن بهجة، بل عن دورانٍ مذعور حول نقطة اللاعودة.
"الهدية" التي قدمت له، كانت أكبر من أحلام اليتامى الجائعين، أبواب فُتحت بلا ضجيج، لكنها كانت "اعترافاً ضمنياً". سيل العطايا لم يتوقف عند ضفاف النهر، بل غمر الضفاف البعيدة.
وها هو "صوت الحكمة" الذي كان يتردد صداه في أرجاء المكان، يجلس الآن صامتا أمام "الزائر الجديد" كذكرى باهتة، بعد أن خفت وهج كلماته.
يا أصحاب القبعات البيضاء، ما حدث لم يكن مجرد تبادل للكلمات، بل كان تقويضاً لما بنيناه بأرواحنا. أن يفتح الراعي بابه للذئب، ويقدم له خروفا وديعا، فاعلموا أن الخيام اهتزت أوتادها، وأن الحكاية تُروى الآن بصوت خافت.
هذا الترحيب الحار ليس فطنة العارفين، بل غفلة النائمين، ليس ذكاء القادة، بل إرث ثقيل للأيام القادمة.
يا حراس التقاليد، لقد دخل الغريب إلى ساحتنا، فوجد أسودا تركت عرينها، ورماحاً صدئت، وحكايات لم تُروَ، وأبطالاً يلوحون بأيديهم... قبيلةٌ صمتت، لا أحد هناك أوهنا ، إلا من بقي في عينيه بريق خافت من نارٍ لم تنطفئ.
يا أبناء العواصف الهادئة، يا بقايا القوة الكامنة، أما للهمس العميق أن يتحول إلى صرخة؟
أما للعلامات الخفية على الوجوه أن تنطق بحروف جديدة؟
أما لهذه الأرض التي شربت الصمت والانتظار أن تُنبت براعم مختلفة، لا تشبه صور الماضي الباهتة، بل تواجه الأشباح التي تتنقل في ضوء النهار؟
أيها القوم، لقد طال التأمل والصمت ، وحان وقت التصريح والزئير !
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|