منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   أقلام الطريق (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=30206)

بشرى كمال 26 / 05 / 2016 28 : 07 PM

أقلام الطريق
 
القلم الأول

أولادي أولادي أولادي... لا أنفك أفكر فيهما: أولادي والموت. أولادي أولادي...أريد أن أموت. أولادي أولادي...أريد أن أموت. الآن أنا أكثر هدوء. لا تريد فكرة الموت أن تزول. تسيطر بالكامل على عقلي. أريد أن أموت...أريد أن ألحق بأولادي. أنا طبعا مؤمنة ...ولن أنتحر، لأني لو رميت بنفسي من هذا الجسر فسأرتمي في الجحيم مباشرة، لكن فكرة الموت تلاحقني. وأجدني في كل مرة أنظر إلى المياه الجارية من عل. أولادي أولادي... وأنظر إلى زوجي:" أشتاق إلى أولادي... أشتاق إليهم بحرارة غريبة تقطع أنفاسي، وتشتت أفكاري، وتضرب جسدي بخناجر. ...أمين أحلام سمير أحمد عصام. يا أولادي يا فلذات كبدي". وتنظر إلي أمي بحسرة. "لكن سمير وأحمد وعصام ليسوا أولادك." "حقا ليسوا أولادي‼ فلماذا أنادي عليهم؟" فيجيبها زوجي:" إنهم أصدقاء ابننا أمين.هم أيضا احترقوا في الحافلة."
الآن أنا أكثر هدوء. أستطيع أن أتحمل كلمة احترقوا لـ.... لكن لا أستطيع أن أبقى مكاني...يرميني بيتي إلى الخارج، وتتقاذفني الطريق إلى الجسر، ويسعى الجسر دائما أن يرمي بي في النهر. وأتراجع عندما تصفعني الريح. أولادي أراهم في كل مكان... أتبعهم ... ألاحقهم ...أركض وراءهم. أخلى زوجي البيت من كل أغراضهم، غير أن أولادي في عقلي ليسوا في البيت. وانتقلنا إلى بيت آخر. ومازلت آكل أو لا آكل معهم... وأشرب أو لا أشرب معهم... وأنام أو لا أنام معهم.... وأبكي أبكي أبكي..."اشتقت إليك يا حبيبي أمين ...اشتقت إليك حبيبتي أحلام".
يلفني الليل يلاحقني في كل مكان. لا أرى شيئا سوى الظلام. ويستقبلني الجسر في اليوم مرات عديدة، ويصفعني ريحه وهو حد جنوني. لا أستطيع أن أنزل إلى الأسفل...وسط الماء سيستقبلني النار و الجحيم. وأنا أخاف من عذاب الخالق. دخل شيء ما في صندلي. "لقد خرجت مرة أخرى بصندل المنزل ! ما هذا الشيء ؟ قلم؟ إنه قلم حبر جاف. فضي اللون. ما أجمله...وما أثقله!! لقد نقش عليه شيء ما .. أ...ق...لا....م ....أقلام ظريف ...أقلام طريف....نعم أقلام الطريق. جيد .... مذكرات ابني على قلبي. سأكتب رسالة إليه...هاهي." جلست في ركن هناك، وفتحت صفحة بيضاء ." سأكتب إليه ...ابني حبيبي. سأكتب إليه ...اشتقت إليك ...سأكتب إليه... لماذا هذا القلم يتحرك في يدي ولا يكتب ما أريد... ماذا كتبت هنا؟ "...أريد... شربة... ماء". لا لا...ما هذا الذي أريد أن أكتبه . أريد أن أكلم صغيري. أريد أن أخط رسالة من أجله..." أريد شربة ماء". ما الذي يكتبه هذا القلم المجنون مثلي. خطفت يدي و إذا بالقلم يتحرك وحده. ماذا يكتب؟؟" أريد شربة ماء... شربة ماء...شربة ماء..."

بشرى كمال 30 / 05 / 2016 12 : 03 PM

رد: أقلام الطريق
 
القلم الثاني

شربة ماء ... شربة ماء ... جف حلقي...وتشققت شفتاي...هذه الصحراء الشاسعة لا تنتهي... كرهت اليوم الذي فكرت فيه بمغامرة في الصحراء. أحتاج فقط إلى قليل من الماء لتستمر حياتي . حققت هدفي أخيرا... لم أعد أتألم من هجران زوجتي...لم تعد تلاحقني نظراتها ...لم تعد تقتلني نظرات أطفالي الخائفين. لم يعد يسحقني فزعي ،عندما أفتح عيني في الصباح، من أكون قد فعلت كارثة أخرى بزوجتي وأطفالي ،أو غرست سكينا في أحدهم، أو حطمت مقدمة متجر، أو نمت متهالكا على إسفلت وراء القضبان ينخر البرد جسدي. لم تنزل قطرة نبيذ في حلقي منذ أيام ... ستفخر بك أمك يا جون. ومع ذلك أظنني ثملا...كل شيء يهتز أمامي، ووعيي أحمله قليلا ثم يعود ليسقط مني في رمال الصحراء،وأبحث عنه وأحمله من جديد. لم تعد قدماي تحملاني أيضا. أحتاج شربة ماء لتغير مستقبلي. سأخاصم الموت، وأعانق الحياة بكل قوتي. سيكون إسعاد زوجتي وأعزائي هو مغامرتي الدائمة. سأعود إلى أصدقائي...سأفتح مكتبي. لن أكون جون الفاشل أبدا!لن أكونه أبدا! فقط بعض الماء يعيد لي الحياة.
ودخل شيء ما في حذائي الرياضي... "متى فتح فمه كأنما ضرب بسكين! ما هذا؟ إنه قلم حبر جاف. ملمسه يوحي بنقش ما ...لا يمكنني القراءة ..."
أخذت القلم وانكببت على فخذي. ما من شيء أكتب عليه. ليس هناك سوى رمال الصحراء وثيابي المتهالكة. سقط كل شيء مني في الطريق. سيقرؤون ما كتبت. سأطلب منهم السماح. كنت أحلم أن أغير حياتي ومستقبلي. ..."زوجتي العزيزة ...أبنائي الأعزاء "..."الكل حاضر اليوم" لا لا ما هذا الذي أريد أن أكتبه ..."سامحيني عزيزتي" لكن القلم يكتب شيئا آخر لعلني أحلم "الكل حاضر اليوم." لا لا لا أريد كتابة هذا أنا في كامل وعيي "الكل حاضر اليوم" ما لهذا القلم الفاشل مثلي‼"

رشيد الميموني 27 / 06 / 2016 35 : 03 PM

رد: أقلام الطريق
 
لا أدري كيف سهوت عن معانقة هذين القلمين وهما يبوحان .. وفي بوحهما جذوة من نار تتقد وتضطرم .
أحييك بشرى على تطويعك للكلمات وبثها كل هذه الأحاسيس في مونولوج مؤثر .
تحية تقدير ومودة

بشرى كمال 20 / 07 / 2016 45 : 04 PM

رد: أقلام الطريق
 
شكرا أستاذ رشيد الميموني على تشجيعكم لي ومرحبا بهذا العناق الأدبي
وددت لو يشاركني الجميع في هذه الأقلام لأنها" أقلام طريق" ولكل طريقه ولكل بوحه وناره
تحياتي وتقديري

رشيد الميموني 20 / 07 / 2016 58 : 04 PM

رد: أقلام الطريق
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بشرى كمال (المشاركة 216600)
[size="5"][size="5"]شكرا أستاذ رشيد الميموني على تشجيعكم لي ومرحبا بهذا العناق الأدبي
ووددت لو يشاركني الجميع في هذه الأقلام لأنها" أقلام طريق" ولكل طريقه ولكل بوحه وناره
تحياتي وتقديري

العفو بشرى ..
أقلامك جديرة بالمعانقة وما أظن الأحبة هنا إلى متتبعين مثلي بشغف ما تجود به من روعة .
دمت بكل المودة اللائقة بك

محمد الصالح الجزائري 20 / 07 / 2016 50 : 05 PM

رد: أقلام الطريق
 
[align=justify]وننتظر بقية الأقلام..سعدتُ بمتابعة حرفك أ.بشرى..ولي عودة إن شاء الله..[/align]

بشرى كمال 21 / 07 / 2016 47 : 03 PM

رد: أقلام الطريق
 
القلم الثالث
الكل حاضر اليوم ....إنها جنازة أبي.... بدت لي الشقة لأول مرة كبيرة. ما ظننت أن تستقبل هذا العدد الكبير من الناس. الكل حاضر هنا: أعمامي...عماتي...شقيقات أمي ...أقربائي، حتى البعيد منهم، أصدقائي...الجيران... الكل حاضر اليوم."الجميع يحبه" . كم كانت أمي ترددها! ارتاح أخيرا... كلّ من الدنيا...رغب في الرحيل منذ زمن بعيد. أحسست بحضور الجميع هنا...حرارة كلماتهم، وحرارة أيديهم. و في كل مرة أبحث عنه بين الناس، وأهّم بطرح سؤال: "هل رأيت أبي؟" ثم أتراجع في آخر لحظة. وحده غير حاضر اليوم.
الضحكات موزعة على الوجوه، باستثناء عماتي التي ارتسمت حرقة الفراق على وجوههن. تجمع الكل حوليّ عندما انكسر فنجان القهوة في يدي. الحمد لله لم أحترق ... كانت باردة، لكن الدم لم يتوقف عن النزيف كالعادة. توزعت الضحكات على الموجودين، ووزعت فناجين القهوة. وأحسستني وحيدا بين الجميع. وهذا الدم الذي لا يريد أن يتوقف... لم ينفع معه شيء. ولا من قريب سألني : "هل توفق النزيف؟" كان أبي ليسألني كل دقيقة: هل توقف؟ هل توقف؟ حتى أمّل. وضعت النادلة فنجان قهوة أمامي، ونظرت إلى وجهي، ثم اقتربت قليلا: "وجهك بلون جدار الغرفة. عجبا... ألم يتوقف الدم عن النزيف بعد!!" . ذهبت إلى المطبخ...تركت الضحكات والضجيج ورائي، وطاردتني وحدتي القاتلة. كان أبي ليبحث عني، وليجلس بجانبي، وليضحك في وجهي، ويفحص جرحي، وليكون معي عندما أحتاجه. كل هذا الحضور، وما من أحد معي اليوم. كان أبي معي دائما. كان يحس بي. لا أستطيع أن أمكث أكثر في هذه الشقة. ضغط الحضور الغائب يقتلني. سأخرج من ا لباب الخلفي. قبل ذلك سأكتب كلمة لعماتي كي لا يقلقن علي: "عمتي خديجة خرجت ". "أنا متأكدة أنه هناك." ماذا يكتب هذا القلم؟ "عمتي سأتنفس بعض الهواء النقي".... "أنا متأكدة أنه هناك." ماذا يكتب هذا القلم! ...هذا ليس قلمي...لن أشتري أبدا قلما أصفر. أكره اللون الأصفر. ما ذا يكتب هذا القلم المعوج....؟؟؟

رشيد الميموني 21 / 07 / 2016 04 : 05 PM

رد: أقلام الطريق
 
أهرع دوما لحجز مقعدي هنا كي لا يفوتني أي قلم من أقلامك بشرى .. رغم أن هذا القلم الأخير جاء أشد إيلاما على النفس والقلب معا .
نجح قلمك في أن يحرك مشاعر دفينة ويحيي ذكريات أليمة ظننت أن الزمان طواها منذ أمد بعيد .
دمت مبدعة متألقة
مع خالص مودتي وجميل ورودي

بشرى كمال 27 / 07 / 2016 56 : 01 PM

رد: أقلام الطريق
 
ألف شكر أستاذ رشيد، وآسفة لأن قلمي الأخير نفض الغبار عن ذكريات أليمة.
تحياتي واحترامي

بشرى كمال 06 / 09 / 2016 18 : 04 PM

رد: أقلام الطريق
 
القلم الرابع
[align=justify]"أنا متأكدة أنه هناك... أنا متأكدة أنه هناك... صدقوني لقد رأيته". انثنى البعض قسمين، وانكسرت ظهور البعض إلى الوراء، ووقف آخرون مشدوهين مع نظرة شفقة، وكلمات هامسة:
- صديقتنا العزيزة لا يمكن أن يكون هنا... مستحيل ذلك.... أنت في قارة وهو في قارة أخرى.... إنه والدك وليس جنيا... صحيح!!!
كثرت تعليقات أصدقاء الغربة ولم يقنعني أحد.
- أقسم أني رأيته. إنه أبي، وهو ليس كباقي الآباء.
عندما رسبت في السنة الأولى من التعليم الأساسي سجني أسبوعا كاملا في العلية المظلمة. كان يتسلل إلي بعض النور من الثقوب، وكانت أمي تسرب لي الطعام مع أخي الصغير بعد أن ينام أبي. وكانت الحشرات تؤنس وحدتي ليل نهار. وعندما غبت ساعة عن المنزل منشغلة باللعب مع ابنة [/align]الجيران التي كانت في الدرب القريب من دربنا، أخذت ضربا لم يأخذه أحد، ولم ينقدني إلا فقيه المسجد الذي سمع صراخي من الخارج. وعندما ضبط أبي ابن جيراننا يلوح لي بيده من السطح المقابل بينما أنشر الغسيل؛ كانت ليلته سوداء كشعر أمي. أذكر ذلك جيدا. تصيده في الليل وهو عائد إلى منزله، وعلقه من رجليه. كنت أعرف أنه سيسلخ جلده كخروف العيد. دخل والد ابن الجيران وتف في وجه ابنه. وقال لأبي : اذبح واسلخ. ارتعبت فرائصي. وتوجه الجميع إلى أبي يتوسل إليه. لم أتحرك من مكاني. كنت أعرف أنه سيقع لي ما سيقع لابن الجيران. فأنا شريكته في الجريمة. اقترب منه أبي، وقال له:" تغازل ابنتي...تدغدغ مشاعرها.... أرني مدى قدرتك على تحمل عواقب ذلك. "
أنزله أخواي والكل يرتعش. ورفعوا رجليه. وأخذ فلقة عمره. ضربه وضربه وضربه ، ولم يصدر المسكين صوتا.
وعندما ضبطني أبي مع طالب كنت أحبه. كانت يدانا ونظراتنا متشابكة. أمسكه من رقبته، لكنه انفلت منه، وركض وأنا أصيح وراءه : "لا تعد إلى منزلك، لا تذهب عند أصدقائك، غادر المدينة". نظر إلي أبي بنظرة كضربة خنجر. وقال: "تخافين عليه، ولا تخافين على نفسك. سينساك بعد قليل ولن يذكر وجودك أبدا. لو كان رجلا لثبت أمامي أيتها الساذجة ".
أعادني إلى المنزل. لم يضربني...لم يكلمني ...إنما أحرق هويتي وكل بطاقاتي. وهم أن يقطع اسمي من دفتر العائلة لولا أن اعترضه جدي التي استغاثت به أمي. لم أخرج بعدها من المنزل، ولم أعد أشاركهم الطعام، وحكم علي أبي أن أنام عند عتبة الباب، ولم أخرج من منزلنا لسنة كاملة. ضاعت السنة الدراسية، وظل أبي يناديني بعدها لمدة طويلة بالنكرة.
إن أبي ليس كباقي الآباء. كلما نظر إلي يفهم كل شيء عني، وأقسم أنه يقرأ أيضا ما أفكر فيه. وكلما خرجت من المنزل أعرف أنه يتعقبني. كنت أتلفت في البداية، وبعدها اعتدت على الأمر، وكنت أسير وأنا أعرف أن أبي خلفي في كل مكان. ويعرف ما أفعله. ويعرف ما أريد فعله.
نظر إلي الجميع بشفقة. لم يصدقني أحد. وحدي كنت أعرف أن أبي كان فعلا هناك يراقبني كعادته... لا أنكر أن بيننا مسافات طوال، لكن أبي ليس كباقي اٍلآباء؛ يستطيع أن يتعقبني ويراقبني في كل مكان.
حاولت أن أهاتف أختي الصغيرة لأسألها عنه، لكن تعذر علي ذلك؛ لذلك قررت أن أكتب إليها رسالة : "أختى العزيزة...." ."يا إلهي هذا القطر لا يريد أن يتوقف." "أختي الصغيرة العزيزة..." ."تبا لهذا القطر الذي لا يتوقف" ."أختي...". "سحقا لهذا المطر اللعين". وضعت هذا القلم الغريب جانبا، فمن الحكمة ،متى استصعب عليك أمر، أن يتصرف المرء بعقله لا بانفعاله. ووقع ما لم يكن في الحسبان: قفز القلم الغريب، ووقف على الورقة؛ وظل يكتب بإرادته الشخصية والكاملة كساحر خبير.


الساعة الآن 33 : 08 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية