07 / 07 / 2014, 48 : 12 AM
|
رقم المشاركة : [1]
|
محقق، مؤلف، أديب وقاص
|
نظرات حول كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة
ملاحظات حول كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة (213 هـ – 276 هـ ):
اعتمد المؤلف في كتابه على راويين اثنين صرَّح بالتحديث عنهما سماعاً ، الأول: سعيد بن كثير بن عفير المصري (146 هـ - 226 هـ)، وهو إمام إخباري ثقة، اعتمد عليه اعتماداً أساسياً في تدوين الكتاب، (فمعظم أخباره رواها عنه) .
لكن ما يعكر ذلك، أن ابن قتيبة لم يرحل إلى مصر، و لا سعيد بن كثير ممن دخل بغداد أو حدَّث بها أيام طفولة ابن قتيبة أو قبلها؛ وليس هو في عداد شيوخه.
و الثاني: سعد ابن أبي مريم (سعيد بن الحكم مولى بني جُمَح المصري، الثقة 144 هـ - 224 هـ). وابن أبي مريم لم يُذكر أيضاًً في عداد شيوخ ابن قتيبة، فابن قتيبة ولد في الدينور وسكن بغداد وأمضى حياته فيها، ولم يغادرها إلى مصر ولا إلى غيرها لطلب العلم، ومن المستبعد أن يروي عنه (ولد ابن قتيبة سنة 213 هـ وتوفي ابن أبي مريم سنة 224 هـ ، فعمر ابن قتيبة عند وفاة ابن أبي مريم 11 عاماً).
كما أن ابن أبي مريم في أخباره في الكتاب يحدث عن (العرياني)، وليس في الرواة سوى التابعي: مسلم بن مخراق العرياني، روى عن بعض الصحابة، أي لم يلحق به ابن أبي مريم المولود سنة 144 هـ ، ولا يُوجد في شيوخه من يُعرف بالعرياني، فيكون الإسناد إليه منقطعاًً .
كما أنه يروي عن أبي عون بن عمرو بن تيم الأنصاري، و يظهر من كلامه أنه كان شاهد عيان لما رواه، فهو صحابي، ولذلك ترضى عنه بقوله: (( رضي الله عنه ))؛ لكن ليس في الصحابة ولا في التابعين من يحمل ذلك الاسم، لكن في الرواة راوٍ، الراجح أنه هو هو، اسمه: أبوعون عمرو بن عمرو بن عون بن تميم الأنصاري، ذكره ابن حجر العسقلاني (أحمد بن علي،
773 هـ - 852 هـ ) وقال : إنه مجهول (لسان الميزان 5 / 338، وانظر المغني في الضعفاء للأمام الذهبي 2 / 478).
والراوي الآخر من أسانيد الكتاب: عفير بن عبد الرحمن، وهو مجهول، ليس له ذكر في كتب التراجم و التواريخ، ولا في مصنفات الجرح و التعديل، وكيف يكون شاهد عيان لما رواه عن بيعة أبي بكر الصديق، ويكون سعيد بن كثير راوياًً عنه، وسعيد ولد سنة 146 هـ ، وبيعة أبي بكر كانت سنة 11 هـ ؟!
وفيه: المخول بن إبراهيم: وهو غال في الرفض، يطعن في أعيان الصحابة؛ وأبو حمزة الثمالي: وهو ضعيف ليس بثقة.
وفي الكتاب رواية عن أبي يعلى محمد بن عبد الرحمن الأنصاري المتوفى سنة 146 هـ أي قبل ولادة ابن قتيبة بخمس وستين سنة.
فأسانيد الكتاب لا يصح واحد منها، بما فيها الأسانيد التي صرَّح فيها المؤلف بالسماع من ابن عفير و ابن أبي مريم، لأنه لم يثبت أنه سمع منهما.
كما أنه كان يُدلس في الأسانيد و يتلاعب بها: فذكر أن أبا عون بن عمرو بن تيم الأنصاري، كان شاهد عيان و ترضى عنه، بقوله : (( رضي الله عنه))، ثم ذكر أنه الذي حدَّث عنه ابن عفير، وابن أبي مريم، وسماه ابن عون . وواضح أن هذا الراوي شخص واحد، مجهول، من شيوخ ابن عفير: حذف اسمه في الإسناد الأول، و ذكره بكنيته و نسبه: أبو عون بن عمرو بن تيم الأنصاري، كصحابي شاهد عيان للخبر وترضى عنه، ثم ذكره بكنيته : أبو عون، وروى عنه ابن عفير من دون تصريح بالسماع، ليس كشاهد عيان، ثم صرَّح أن ابن عفير حدَّث عنه سماعاً، فجعله مرة صحابياً شاهد عيان، ومرة أخرى شيخاً لابن عفير ! .
كما أن الطريقة التي اتبعها في ذكر الأسانيد ليست صحيحة، فلم يذكر منها سوى خمسة أسانيد، وباقي الأخبار ابتدأها بقوله: (( قال : و ذكروا ...)) ، وهذا مخالف لعلم الجرح و التعديل، فمن هؤلاء الذين ذكروا ؟!
كما لم يرد ذكر أحد من شيوخ ابن قتيبة الذي يروي عنهم عادة في كتبه.
نقد طائفة من أخبار الكتاب :
وفي الكتاب أخبار تاريخية كثيرة غير صحيحة، منها ما يتعلق بموضوع الخلافة، أولها: (( أنه لما اقترب أجل النبي صلى الله عليه وسلم التقى سيدنا العباس بسيدنا علي فقال له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقبض، فاسأله إن كان الأمر لنا بيَّنه، و إن كان لغيرنا أوصى بنا )). فتصرَّف المؤلف في الخبر، وأنقص منه ما لا يتفق مع مذهبه. والخبر الكامل أورده البخاري، من حديث عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، أن عبد الله بن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله ؟ فقال : أصبح بحمد الله بارئاً. فأخذ بيده العباس وقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا ! إني والله لأرى رسول الله سوف يتوفى من وجعه هذا ! إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت؛ اذهب بنا إلى رسول الله فلنسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا . فقال علي: إنَّا والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، والله لا أسألها رسول الله (صحيح البخاري 5 / 2311، رقم الحديث :5911. وقول ابن عباس: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، كناية عمن يصير تابعاً لغيره. والمعنى أنه يموت بعد ثلاث فيصير مأموراً عليه. وهذا من قوة فراسة العباس رضي الله عنه . فتح الباري 8 / 143 ). فواضح أن علياًّ لم يكن يعتقد أن الخلافة ستكون له أو لأهل بيته، لكن المؤلف حذف ذلك الرد لأنه سيذكر بعد ذلك أخباراً منسوبة إلى علي يُصرِّح فيها بأنه أحق بالخلافة من كل الصحابة.
** ** **
والخبر الثاني يذكر أن علياًّ رضي الله عنه كان يعتقد أنه أحق بالخلافة، وأن حقه اُغتصب منه، وأعلن ذلك للناس صراحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا غير صحيح، ترده النصوص الشرعية، والروايات التاريخية الصحيحة، فالقرآن الكريم حسم مسألة الخلافة حسماً نهائياً عندما جعلها شورى بين المسلمين بالاختيار: لم يجعلها في بيت، ولا في قبيلة، ولا في شخص أو أشخاص مُعينين. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم و لم يُوص بالخلافة لأحد من الصحابة من بعده.
وفي يوم الجمل سنة 36 هـ ، وإسناده حسن، ذكر سيدنا علي أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يعهد إليه في الإمارة شيئاً، وأن عمله هذا اجتهاد منه ورأي اختاره (السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، ت: 290 هـ 2 /570 ، 578. السنة للخلال أحمد بن محمد، ت: 311 هـ 1 / 289، 291 . تاريخ الإسلام للأمام الذهبي محمد بن أحمد، ت: 693 هـ 1 / 160، الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي أحمد بن محمد، ت: 974 هـ 1 / 269 ، 570 ).
وقال أمام الناس في الكوفة، وإسناده صحيح : خير الناس بعد الرسول صلى الله عليه و سلم : أبو بكر و عمر (السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل 2 / 578 ، السنة للخلال 1 / 289 ، 291)، فتفضيله لأبي بكر وعمر على نفسه في الخيرية دليل قوي على أنه لم يكن يرى أنه أحق بالخلافة منهما .
كما تواترت الأخبار عن أعيان آل البيت كالحسن (ت: 50 هـ )، والحسين (ت: 61 هـ)، وابن عباس (عبد الله بن عباس، ت: 68 هـ )، ومحمد ابن الحنفية (ت: 81 هـ )، ومحمد الباقر (محمد بن علي بن الحسين ت: 114 هـ)، وجعفر الصادق (الإمام السادس، ت: 148 هـ )، أنهم كانوا يُوالون أبا بكر وعمر، ويُفضلونهما على علي بن أبي طالب، و قالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُوص بالخلافة لأحد من بعده (شعب الإيمان للبيهقي 1 /197، سير أعلام النبلاء 4/ 401، منهاج السنة لابن تيمية 7 / 396، الصواعق المحرقة 1/ 162).
** ** **
والخبر الثالث: امتناع سيدنا علي من بيعة أبي بكر وتأخره عنها، و ما بايعه إلا مُكرها بعد وفاة زوجته فاطمة.
وهذا الخبر لا يصح أيضاً: فعندما بايع المسلمون أبا بكر البيعة العامة بالمسجد، تخلف علي و الزبير، ولمَّا لم يرهما أبو بكر أرسل إليهما، فلمَّا حضرا كلمهما أبو بكر فبايعاه طواعية دون إكراه، وأخبراه أنهما غضبا لأنهما أُخرا عن المشورة يوم السقيفة، ويريانه أنه - أي أبو بكر- هو أحق الناس بالخلافة، فهو صاحب الغار، وهما يعرفان شرفه وخيره، وقد أمَرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت اشتداد وجعه أن يُصلي بالناس صلاة العصر وكان علي من بين الذين صلوا خلفه (السنة لعبد الله بن أحمد 2 / 154، السنن الكبرى للبيهقي 8 / 183، البداية والنهاية لابن كثير 5 /261، تاريخ الخلفاء للسيوطي 69 )، وقال علي لأبي سفيان: إنَّا وجدنا أبا بكر لها أهلاً (تاريخ الخلفاء للسيوطي 67 ).
فعلي بايع دون إكراه، لم يتأخر عن البيعة أياماً، ولا شهراً، ولا ستة أشهر، وإنما تماطل هو والزبير لأنهما غضبا عندما لم يُستشارا يوم السقيفة، وليس لأنه كان يرى أنه أحق بالخلافة، و لا أن أبا بكر اغتصبها منه.
وهما لم يُستشارا في سقيفة بني ساعدة، لأنهما لم يكونا حاضرين، والأمر تم دون إعداد مسبق، فلم يحضره معظم الصحابة، وليس فقط علي والزبير (البداية و النهاية لابن كثير 5 / 246).
فعلي بايع مع الناس في البيعة العامة، ثم جدد البيعة بعد 6 أشهر عند وفاة زوجته فاطمة. وكان أبو بكر اختلف مع فاطمة في مسألة ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فتغضَّبت على أبي بكر وسايرها زوجها؛ فلما توفيت وكان بعض الناس قد تكلموا في علي جدد البيعة لأبي بكر (البداية والنهاية لابن كثير 5 / 262 ، 286) .
** ** **
والخبر الرابع: تآمر أصحاب الشورى على علي في بيعتهم لعثمان بالخلافة، وإجبارهم له على بيعته، وأنهم قالوا له: هَلمَ بايع، وإلاَّ جاهدناك . فبايع مُستكرهاً، وصبر محتسباً.
وهذا لا يصح أيضاً، فروى ابن عساكر، وإسناده صحيح، أن أول من بايع لعثمان عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب، و لم تذكر الرواية أي إكراه ولا خداع (تاريخ مدينة دمشق 39 / 197 ).
وروى البخاري، قال: اجتمع هؤلاء الرهط - الذين عينهم عمر- فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه ، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه ؟ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلى الله على أن لا آلو عن أفضلكم ؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمّرتُك لتعدلن ولئن أمَّرتُ عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان. فبايعه فبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه (صحيح البخاري 3 / 1353 ).
** ** **
وذكر المؤلف أن الخليفة عثمان عطّل و أخَّر إقامة حد شرب الخمر على واليه على الكوفة الوليد بن عقبة: أي أنه عطل تطبيق حد شرب الخمر، ثم قال إنه أخره، وذكر في النهاية أنه أمر بتطبيق الحد عليه. وفي قوله افتراء على عثمان، لأن هناك فرقا بين تعطيل الحد وتأخيره . والصحيح أنه لم يحدث تعطيل ولا تأخير، لأنه صحَّ الخبر بأن عثمان طبق الحد على الوليد مباشرة، عندما جيء به و شهد عليه شاهدان بأنه شرب الخمر، و شهد ثالث بأنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، و طبق عليه الحد (صحيح مسلم 3 / 1331، سنن أبي داود 1 / 48 ).
والوليد بن عقبة أحد عمال الخليفة الصديق رضي الله عنه، والواسطة بين الخليفة وبين خالد بن الوليد في نقل الرسائل الحربية في وقعة المذار سنة 12 هـ (والمذار تقع على مسافة ثماني كيلومترات جنوب شرق منطقة قلعة صالح بالعراق في محافظة ميسان الحالية / العمارة سابقاً). كما وجهه أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك مدداً لقائده عياض بن غنم الفهري (ت: 20 هـ). ثم ولاَّه عمر رضي الله عنه على صدقات بني تغلب، وكان على عرب الجزيرة عاملاً له.
أما قولهم: شرب الوليد الخمر وهو وال على الكوفة من قبل عثمان، فهو مع عدم ثبوته عليه على الصحيح، ليس مأخذاً على عثمان، بل هو من مناقب عثمان رضي الله عنه.
ولذلك ذكر الإمام البخاري هذه الحادثة في باب مناقب عثمان، أنْ أقام عليه الحد وعزله عن الكوفة. ومنه قول علي: إنكم وما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردءه ! ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله وعزله عن عمله !
** ** **
وقال: إن عثمان أفشى الإمارة في أهله وأبعد المهاجرين والأنصار، لم يستعملهم في شيء. وهذا غير صحيح على إطلاقه، وفيه تهويل، فمن بين عشرين والياً لم يكن منهم من أقاربه إلا خمسة ولاة، هم : معاوية بن أبي سفيان ، والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عامر بن كريز. فإن قيل إنه أكثر من أقاربه في السنوات الأخيرة من خلافته ، ولذلك تألّب عليه المشاغبون. فهذا غير صحيح أيضاً، فوُلاّته في سنته الأخيرة من خلافته - سنة:35 هـ - كانوا ثلاثة فقط من أقاربه، وهم : معاوية بن أبي سفيان على الشام، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر، وعبد الله بن كريز على البصرة. وباقي ولاته - في تلك السنة - من غير أقاربه كانوا تسعة، هم : قيس بن الهيثم السلمي على خراسان، و القاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف، ويعلى بن منية على صنعاء، وأبو موسى الأشعري على الكوفة، وجرير بن عبد الله على قرقيسياء (وهي اليوم البْصيرة، تبعد عن مدينة دير الزور 43 كم نحو الجنوب الشرقي)، والأشعث بن قيس على أذربيجان، وعتبة بن النحاس على حلوان، والسائب بن الأقرع على أصبهان (تاريخ خليفة خياط 1 / 156، 157. تاريخ الطبري 2 / 693 ، سير أعلام النبلاء 3/ 482).
وعثمان لم ينفرد عن الخلفاء الراشدين بتعيين بعض أقاربه ولاة له، فعلي بن أبي طالب ولى: عبد الله بن عباس على البصرة، وعبيد الله بن العباس على البحرين واليمن، وقثم بن العباس على الطائف و مكة. فإسناد الإمارة للأقارب ليس حراماً.
** ** **
وقال: إن الثوار لما حاصروا عثمان سنة 35 هـ ، أرسل جماعة من الصحابة أبناءهم للدفاع عنه، وأن الزبير بن العوام أرسل ابنه على كره. وقوله: (( على كره ))، غير ثابت، ترده الأخبار الصحاح عند مؤرخين آخرين (انظر: الثقات لابن حبان 2 / 263 ، وتاريخ مدينة دمشق 39 / 418، والبداية والنهاية لابن كثير 7 / 189 ).
** ** **
وذكر أيضاً أن علياًّ خرج من المدينة للقتال في ستمائة راكب من وجوه المهاجرين والأنصار، من أهل السوابق مع رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وهذا لا يصح، والصواب أن وجوه الصحابة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يكونوا مع علي ولا مع معاوية، اعتزلها العدد الأوفر منهم، أشهرهم: صهيب الرومي (ت: 38 هـ )، وأبو موسى الأشعري (عبد الله بن قيس، ت:42 هـ )، ومحمد بن مسلمة الأنصاري (ت:43 هـ )، وعبد الله بن سلام (ت: 43 هـ )، وسلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري (ت: 45 هـ)، وعمران بن حصين السلولي (ت: 52 هـ )، وأسامة بن زيد (الكلبي، حب رسول الله، ت:54 هـ آخر خلافة معاوية)،وسعد بن أبي وقاص (ت: 55 هـ، وهو آخر من مات من المهاجرين)، وأبو هريرة (ت: 59 هـ )، وعبد الله بن عمر بن الخطاب (ت: 63 هـ )، وغير هؤلاء ممن يكثر عددهم. قال ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم، ت:728 هـ ): وأما الصحابة، فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة.
وفي إسناده عن ابن سيرين (محمد بن سيرين البصري، مولى أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وسلم، ت: 110 هـ ) قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. وقال: وهذا الإسناد أصحُّ إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل (منهاج السنة 3 /186).
وقال ابن كثير (إسماعيل بن عمر القرشي 700 هـ - 774 هـ): لما أراد علي الخروج من المدينة لم يستجب له سوى : 4-7 من البدريين (البداية والنهاية 7 / 231 ، 234 ).
** ** **
وقال: إنه لما خرج علي بجيشه من المدينة، وصلته رسالة من أخيه عقيل بن أبي طالب (ت: 49 هـ )، أخبره أنه لمَّا كان في طريقه إلى مكة مر به عبد الله بن أبي سرح القرشي في نحو 40 راكباً من أبناء الطلقاء من بني أمية كانوا متوجين إلى معاوية، فكلمهم وذمهم وخاصمهم. وبلغه أيضاً أن بعض أتباع معاوية أغاروا على بعض الجهات من الجزيرة، فأفسدوا فيها وعادوا إلى الشام، فحزن عقيل لذلك و ظن أن ذلك ربما حدث لأن أنصار أخيه قد خذلوه؛ فقال لعلي: فاكتب إليَّ يا بن أمي برأيك و أمرك، فإنْ كنتَ الموتَ تريد تحملتُ إليك ببني أخيك، وولد أبيك، فعشنا ما عشتَ ومتنا معك إذا مت، فوالله ما أحب أن أبقى بعدك، ووالله الأعز الأجل إنَّ عيشاً أعيشه بعدك في الدنيا لغير هنيء. فرد عليه علي فقال: أمَّا ما عرضت به من مسيرك إليَّ ببنيك و بني أخيك، فلا حاجة لي في ذلك، فذرهم راشداً مهدياً ، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إنْ هلكتُ.
وخبره هذا لا يصح إسناداً ولا متناً، والرسالة ذكرها المسعودي (علي بن الحسين، ت: 346 هـ ) وأبو الفرج الأصفهاني (علي بن الحسين، ت: 356 هـ ) بإسناد لا يصح، ويلاحظ أن الرسالة ذكرت أن عقيلاً التقى في الطريق بعبد الله بن سعد بن أبي سرح مع طائفة من الأمويين الطلقاء كانوا متوجهين إلى معاوية، فكلمهم و خاصمهم و ذمهم .
والصحيح أن عبد الله بن أبي سرح عندما سمع بمقتل عثمان اعتزل الفتنة، وهرب إلى الرملة بفلسطين، وبقي بها إلى أن مات سنة 36 هـ قبل معركة صفين (التاريخ الكبير للبخاري 5 / 29، سير أعلام النبلاء 3 / 33، شذرات الذهب 1 / 210 ).
كما ذكرت الرسالة أن عقيلاً أنكر على الجماعة التي التقى بها ذاهبة إلى معاوية وخاصمها، وأعلن لأخيه أنه مُستعد للتضحية بنفسه وولده وإخوته من أجل نصرته إذا كان في حاجة إليه، فرد عليه أنه ليس في حاجة إلى ذلك .
وذلك لا يصح، فالثابت أن عقيلاً ذهب إلى معاوية وترك أخاه، لأنه سأله أن يُعطيه مالاً، فلمَّا اعتذر له أنه لا يتوفر لديه المال الآن، وطلب منه الانتظار حتى يخرج عطاؤه فيعطيه له، لم يصبر والتحق بمعاوية، فأعطاه معاوية ما يحتاجه من المال (سير أعلام النبلاء 3/320 )، فكيف لا يصبر عقيل إلى حين إخراج العطاء، و يلتحق بمعاوية خصم أخيه، ويزعم أنه سيضحي بنفسه وولده وإخوته لنصرة أخيه ؟
** ** **
وقال: إنه أيام وقعة صفين سنة 37 هـ ، جاء الصحابيان أبو هريرة وأبو الدرداء من مدينة حمص، واتصلا بعلي ومعاوية للإصلاح بينهما، ثم عاد الاثنان إلى منزليهما بحمص. وهذا لا يصح، فأبو الدرداء تُوفي سنة 32 هـ ، قبل مقتل عثمان بثلاث سنوات، وسكن دمشق منذ زمن عمر بن الخطاب، وأقام بها إلى أن تُوفي بها، فكيف يحضر من مات سنة 32 هـ أيام صفين سنة 37 هـ ؟ !
وأبو هريرة كان مع عثمان في الدار عندما حوصر، ثم اعتزل القتال و لم يرحل إلى حمص، و بقي مخالطاً للطائفتين المتقاتلتين، من دون أن يُشارك في القتال (سير أعلام النبلاء 2 / 578 ، شذرات الذهب 1 / 265 ).
** ** **
وقال: إن الصحابي سعد بن أبي وقاص سُئل عمن قتل عثمان ؟ ، فقال : إنه قُتل بسيف سلته عائشة، و صقله طلحة، وسمه ابن أبي طالب، وسكت الزبير - و أشار بيده - وأمسكنا نحن ، و لو شئنا دفعنا عنه.
وهذا لا يصح، والخبر ذكره عمر بن شبة النميري، ت: 262 هـ في ( أخبار المدينة 2 / 223) وابن عبد ربه أحمد بن محمد الأندلسي، ت: 328 هـ في (العقد الفريد 2 / 93) بإسناد تالف، فيه مجهول.
وصح عن السيدة عائشة أنها قالت عن عثمان: قُتل مظلوماً، لعن الله من قتله (مجمع الزوائد 9 / 97 بإسناد صحيح).
كما صح عن علي بن أبي طالب أنه أنكر قتل عثمان، و نفى أن يكون له أي دور في قتله، وقال: اللهم لم أقتل و لم أمال (السنة للخلال 2 / 328)، وقال ابن كثير: ورد ذلك عن علي من عدة طرق تُفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث (البداية والنهاية 7 / 193) .
** ** **
وذكر أنه لما اشتد الحال على أهل الشام في وقعة صفين، رفعوا المصاحف ودعوا إلى الاحتكام إلى كتاب الله، فرفض علي توقيف القتال، وحذّر أتباعه من توقيفه لأنه مكيدة، لكن طائفة من أتباعه من اليمنية وغيرهم طالبته بوقف القتال وقبول الصلح، فقبله مُضطراً رغم معارضة القراء له في قبوله.
والرواية الصحيحة، تنص أن علياًّ قبل التحكيم طواعية دون ضغط من أي طائفة، وقد قبل الصلح بمبدأ الجنوح إلى السلم والصلح بين المسلمين.
** ** **
وذكر المؤلف أن فاطمة عليها السلام عاشت بعد أبيها صلى الله عليه وسلم 75 ليلة ، ثم تُوفيت. وهذا لا يصح، فقد روى البخاري أن فاطمة تُوفيت بعد 6 أشهر من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (صحيح البخاري 3 / 1126 ).
** ** **
وقال عن هبيرة بن شريم: إنه سمع الحسن- رضي الله عنه- وذكر أباه وفضله و سابقته، قال : والله ما ترك صفراء ولا بيضاء، إلا سبع مائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادماً .
وهذا لا يصح، وهبيرة بن شريم: مجهول ، لا ذكر له في كتب التراجم والتواريخ. وتشهد وصية سيدنا علي وكتبها سنة 39 هـ أنه ترك العبيد، والخدم، و 11 سرية أم ولد، وخلّف الضياع والنخيل، والمزارع والأوقاف، وترك ورثته من أغنياء قومهم و مياسيرهم (أخبار المدينة لابن شبة 1 / 136، 138 ، 140 تاريخ الطبري 2 / 163، منهاج السنة 7 / 481، 483 البداية والنهاية لابن كثير 7 / 353 ، 365 ).
** ** **
وقال: إن عدد القتلى في موقعة الحرة بالمدينة سنة 36 هـ كان بضعة وسبعون رجلاً من قريش، وبضعة و سبعون رجلاً من الأنصار، وقُتل من الناس نحو من أربعة آلاف. وإسناده لا يصح لانقطاعه.
وسبب خروج أهل المدينة على يزيد غلبة الظن بأن بالخروج تحصل به المصلحة المطلوبة، وترجع الشورى إلى حياة المسلمين، ويتولى المسلمين أفضلهم.
فهم بذلك متأوِّلون، والمتأوِّل المخطئ مغفور له. فخروجهم كان بتأويل، ويزيد قاتلهم لأنه يرى أنه الإمام، وأنَّ من أراد أنْ يفرِّق جمع المسلمين فواجب مقاتلته وقتله.
أمَّا إباحة المدينة ثلاثاً لجند يزيد يعيثون بها يقتلون الرجال ويسبون الذرية وينتهكون الأعراض، فكلها أكاذيب وروايات لا تصح. فلا يوجد في كتب السنة، أو في تلك الكتب التي أُلِّفت في الفتن خاصّة، ككتاب الفتن لنعيم بن حمَّاد المروزي (ت:228 هـ )، أو كتاب الفتن لأبي عمرو الداني (عثمان بن سعيد، ت: 444 هـ ) أيُّ إشارة لوقوع شيء من انتهاك الأعراض. كذلك لا يوجد في أهم مصدرين تاريخيين مهمين عن تلك الفترة: أنساب الأشراف للبلاذري (أحمد بن يحيى: ت 279 هـ )، وتاريخ الطبري (محمد بن جرير الطبري :ت 310 هـ ) أيَّ إشارة لوقوع شيء من ذلك. حتى تاريخ خليفة بن خياط (خليفة بن خياط العصفري، ت: 240 هـ) على دقته واختصاره، لم يذكر شيئاً بهذا الصدد، كذلك أهم كتاب للطبقات وهو كتاب الطبقات الكبير لابن سعد (ت: 230 هـ ) لم يشر إلى شيء من ذلك في طبقاته.
نعم، لقد ثبت أن يزيد قاتل أهل المدينة، فقد سأل مهنَّا بن يحيى الشامي (ت: 248 هـ ، وهو من كبار أصحاب الإمام أحمد، لزمه 43 سنة) الإمام أحمد عن يزيد فقال : هو فعل بالمدينة ما فعل ! قلت : وما فعل ؟ قال فقال: هو فعل بالمدينة ما فعل ! قلت: وما فعل ؟ قال: قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإسناد الخبر صحيح. أمَّا القول بأنه استباحها، فإنه لا يصح فيه شيء.
والروايات التي ذكرت وقعة الحَرَّة:
ابن سعد (محمد بن سعد، ت: 230 هـ)، خبراً واحداً عن الواقدي (محمد بن عمر الأسلمي، ت: 207 هـ) .
والبلاذري (أحمد بن يحيى، ت: 247 هـ)، عن هشام الكلبي (هشام بن محمد بن السائب الكلبي، ت: 204 هـ) عن أبي مخنف (لوط بن يحيى الأزدي، ت: 157 هـ) خبراً واحداً، وعن الواقدي ثلاثة أخبار.
والطبري (محمد بن جرير، ت: 310 هـ) عن هشام الكلبي أربعة عشر خبراً، وهشام الكلبي ينقل أحياناً من أبي مخنف، في خمسة أخبار.
والطبري أيضاً: عن أبي مخنف مباشرة خبراً واحداً. وعن الواقدي خبرين.
واعتمد أبو العرب (محمد بن أحمد التميمي، ت: 333 هـ ) في كتابه المحن على الواقدي فقط، فنقل عنه أربعة وعشرين خبراً.
ونقل الذهبي (محمد بن أحمد، ت: 693 هـ) خبرين عن الواقدي.
وذكرها البيهقي (أحمد بن الحسين، ت: 458 هـ) من طريق عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان الفسوي (ت: 277 هـ) ، من كتابه المعرفة والتاريخ.
وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض هو المدائني (علي بن محمد، ت: 225 هـ )، وأول من أورده في تاريخه ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي، ت: 597 هـ) .
وعمدة هذه الروايات: الواقدي، وهشام الكلبي، وأبي مخنف، إضافة إلى رواية البيهقي من طريق عبد الله بن جعفر.
فالروايات التي جاءت من طريق الواقدي، ومن طريق أبي مخنف تالفة: في أسانيدها مجاهيل وضعاف لا متابعة لرواياتهم.
والروايات التي جاء فيها هتك الأعراض،(وهي التي أخرجها ابن الجوزي من طريق المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسَّان): أنه ولدتْ ألفُ امرأة بعد الحَرَّة من غير زوج. والرواية الأخرى التي أخرجها البيهقي في دلائل النبوة من طريق يعقوب بن سفيان: قال: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن المغيرة قال: أنهب مُسْرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام. وزعم المغيرة أنه افتض ألف عذراء.
فالروايتان لا تصحان:
فابن الجوزي ينقل من كتاب الحَرَّة للمدائني، فلماذا لم ينقل الخبر الطبري، والبلاذري، وخليفة بن خياط، وابن سعد، وغيرهم ، وهم نقلوا عن المدائني في مؤلفاتهم ؟
فهل يكون الخبر أُقحم في مؤلفات المدائني، خاصة أن كتب المدائني كانت منتشرة في بلاد العراق، وفيها نسبة لا يستهان بها من الرافضة، ولهم دولتهم التي سيطرت على العراق وبلاد الشام ومصر في آن واحد في القرن الرابع الهجري قبل ولادة ابن الجوزي، وهو ينقل منها وجادة دون إسناد ؟!
وفي إسناد البيهقي: عبد الله بن جعفر، ذكره الذهبي في (ميزان الاعتدال2 / 400 ) وقال: قال الخطيب (البغدادي أحمد بن علي، ت:463 هـ ): سمعتُ اللالكائي (هبة الله بن الحسن، ت:418 هـ ) ذكره وضعفه . وسألتُ البرقاني (أحمد بن محمد، ت:425 هـ )عنه فقال : ضعّفوه، لأنه روى التاريخ عن يعقوب (بن سفيان الفسوي، ت:277 هـ ) أنكروا ذلك، وقالوا : إنما حدَّث يعقوب بالكتاب قديماً فمتى سمع منه ؟
وراوي الخبر هو: المغيرة بن مقسم الضبي (ت: 136 هـ )، من الطبقة التي عاصرت صغار التابعين، فهو لم يشهد الحادثة وروايته للخبر مرسلة، وهومن المدلسين الذين لا يحتج بهم إلاَّ إذا صرحوا بالسماع.
والراوي عن المغيرة هو عبد الحميد بن قرط الضبي، وهو ثقة اختلط قبل موته. فهل سماعه للخبر كان قبل اختلاطه أم بعد الاختلاط ؟ (والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال).
كما أنَّ الخبر روي بصيغة التمريض:(زعم المغيرة).
أمّا الرواية الأخرى التي جاء فيها وقوع الاغتصاب، والتي ذكرها ابن الجوزي، أن محمد بن ناصر ساق بإسناده عن المدائني عن أبي عبد الرحمن القرشي عن خالد الكندي عن عمّته أم الهيثم بنت يزيد قالت: رأيتُ امرأة من قريش تطوف ، فعرض لها أسْوَد فعانقته وقبّلته، فقلتُ: يا أمة الله أتفعلين بهذا الأسْوَد !؟ فقالت : هو ابني وقع عليَّ أبوه يوم الحَرَّة.
وخالد الكندي وعمّته: مجهولان، ليس لهما ترجمة.
والرواية التي ذكرها ابن حجر في الإصابة أن الزبير بن بكار قال: حدثني عمِّي قال: كان ابن مطيع من رجال قريش شجاعة ونجدة، وجلداً، فلما انهزم أهل الحَرَّة وقُتل ابن حنظلة وفرَّ ابن مطيع ونجا، توارى في بيت امرأة، فلمَّا هجم أهلُ الشام على المدينة في بيوتهم ونهبوهم، دخل رجلٌ من أهل الشام دارَ المرأة التي توارى فيها ابنُ مطيع، فرأى المرأة فأعجبته فواثبها، فامتنعتْ منه، فصرعها، فاطَّلَع ابن مطيع على ذلك فخلّصها منه وقتله.
فهي رواية منقطعة، فمصعب بن الزبير توفي سنة 236 هـ ، والحَرَّة كانت في سنة 63 هـ ، فيكون بينه وبين الحَرَّة زمنٌ طويل.
فلا رواية ثابتة من طريق صحيح، في إباحة المدينة، رغم أنَّ ابن تيمية، وابن حجر أقرَّا بوقوع الاغتصاب، دون إيرادهما مصادرهما التي استقيا منها الخبر. ومن أراد الاحتجاج بأي خبر كان، لا بد من ذكر إسناده، وهو ما أكده ابن تيمية حينما قال في المنهاج: لا بد من ذكر الإسناد أولاً، فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يعرف إسناده فبجُرْزَةِ بقل لم يقبل منه، فكيف يحتج به في مسائل الأصول ؟
فكيف نقبل الحكم الصادر على الجيش الإسلامي في القرون المفضلة بأنه ينتهك العرض دون أن تكون تلك الروايات مسندة، يمكن الاعتماد عليها ؟
وعلى افتراض صحتها، فأهل العلم حينما أطلقوا الإباحة، فإنما يعنون بها القتل والنهب كما جاء ذلك عن الإمام أحمد، فاستغل المغرضون لفظ – الإباحة – وأقحموا فيها هتك الأعراض.
وحكى الواقدي أن عدد القتلى بلغ سبعمائة رجل من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس، وعشرة آلاف من سائر الناس ! وهو الذي أنكره ابن تيمية فقال: لم يقتل جميع الأشراف، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا تذكَّرنا أن المدينة كانت تضم الكثير من الصحابة والتابعين، وبعضهم لم يشترك في المعركة كابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وعلي بن الحسين، وسعيد بن المسيِّب، فلن يقف هؤلاء مكتوفي الأيدي وهم يشاهدون النساء المؤمنات يفجر بهنَّ ، حتى التبس أولادُ السفاح بأولاد النكاح كما زعموا !
كما أننا لا نجد في كتب التراجم أو التاريخ ذكراً لأيِّ شخص قيل إنه من سلالة أولاد الحَرَّة (الألف) كما زعموا !
ولم يُنقل إلينا أنَّ المسلمين وقتما فتحوا المدن الكافرة، أنهم قاموا باستباحتها وانتهاك أعراض نسائها ! فكيف يتصور أن يأتي جيش يزيد لينتهك أعراض المؤمنات، بل أخوات وحفيدات الصحابة !؟
ومن العجيب أنَّ هناك مَنْ نسب إلى يزيد بن معاوية أنه لما بلغته هزيمة أهل المدينة بعد معركة الحَرَّة ، تمثل بهذا البيت
ألاَ ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جَزَعَ الخزرجِ مِنْ وَقْعِ الأسَلْ
فهذا البيت قاله ابن الزِّبَعْرى بعد معركة أحد، وكان كافراً ويتشفى بقتل المسلمين، وذكره ابن كثير، وقال: فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فعليه لعنة الله وعليه لعنة اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه.
وأنكر في موضع آخر من كتابه نسبة هذا البيت إلى يزيد، وقال: إنه من وضْع الرافضة. وجزم ابن تيمية ببطلانه فقال : ويعلم ببطلانه كل عاقل.
** ** **
وقال: وذكروا أن الهيثم بن عدي أخبرهم، قال : لما ولى السفاح الشام واستصفى أموال بني أمية لنفسه، أعجبته نفسه وحسد ابن أخيه على الخلافة ، فأظهر الطعن في أبي العباس.
ثم ذكر الحرب التي جرت بينهما، وانتصار أبي العباس على السفاح.
وهذا الخبر باطل، وهو من أغرب الأخطاء التي وقعت في كتابة التواريخ، لا يصح إسناداً ولا متناً: إسناده منقطع، والهيثم بن عدي يروي عن كل أحد.
وقد جعل أبا العباس السفاح، وهو أول خلفاء العباسيين، شخصيتين، هما : أبو العباس، وهو الخليفة، والسفاح، وهو والي الشام، فخرج هذا الأخير على الأول بالسلاح . وهذا زعم باطل ، فأبو العباس السفاح (عبد الله بن محمد)، أول خليفة عباسي، بويع سنة 132 هـ وتوفي سنة 136 هـ .ولم يثر عليه أحد من أهله.
كما ورد فيه : إن للمهدي ولد اسمه عبد الله، وإنّه هو الذي سمَّه. وهذا خطأ أيضاً.
** ** **
وقال: إنه لما تُوفي الخليفة العباسي المهدي سنة 173 هـ، استخلف ابنه هارون الرشيد. وهذا غير صحيح، لأن المهدي توفي سنة 169هـ، وخلفه ابنه موسى الهادي و ليس هارون الرشيد، ولما توفي موسى الهادي سنة 170 هـ خلفه أخوه هارون سنة 170 هـوليس في سنة 173 هـ (شذرات الذهب 2 / 305 ، 310 ، 314 ، 319 ).
** ** **
وقال: إن هارون الرشيد كتب ولاية العهد لابنه المأمون أولاً، ثم للأمين ثانياً ، وأن الأمين خرج على أخيه بالسلاح . وهذا غير صحيح، فالرشيد أوصى بولاية العهد لابنه الأمين، ثم للمأمون، والمأمون هو الذي خرج على أخيه بالسلاح عندما أسقطه أخوه من ولاية العهد (تاريخ الطبري 4 / 650 و ما بعدها، شذرات الذهب 2 /440 و ما بعدها ).
** ** **
وفي الكتاب ذكر لفتح الأندلس نقلاً عمن شاهد ذلك ، وكان الفتح في سنة 92 هـ قبل مولد ابن قتيبة بنحو مائة وعشرين سنة.
وورد فيه ذكر (مراكش) وفتح موسى بن نصير (19 هـ - 97 هـ) لها، ومراكش بناها يوسف بن تاشفين سنة 454 هـ.
وفيه مزيد عناية بأخبار الأندلس، لم يكن لابن قتيبة ولا لغيره من معاصريه في العراق سبيل إلى معرفتها.
فمن هو المؤلف الحقيقي لكتاب الإمامة و السياسة ؟
لم تذكر المصادر التاريخية التي ترجمت لابن قتيبة أن الكتاب له، والراجح أنه ظهر متأخراً بعد وفاة ابن قتيبة بزمن طويل.
ووجود نزعة شيعية ظاهرة في الكتاب يتناقض مع مذهب ابن قتيبة السني، فالمؤلف شيعي الهوى، وابن قتيبة كان حنفياً.
وقد أظهر المؤلف تشيعه بتركيزه على ثلاثة أمور: أولها: الطعن في الصحابة. و ثانيها: الزعم بأن علياًّ رفض بيعة أبي بكر لاعتقاده أن الخلافة من حقه، واُغتصبت منه . و ثالثها: إظهار عليٍّ أنه تعرَّض للتهديد من أبي بكر وعمر بسبب أحقيته للخلافة، وأنه كان مظلوماً مُستضعفاً، أخرج زوجته فاطمة وأخذها ليلاً إلى الأنصار يطلب مساعدته لاسترجاع حقه المغصوب.
وإن وجود الأخطاء التاريخية في الكتاب لا يصح أن يقع فيها ابن قتيبة، لأنها ثابتة معروفة، تخالف بالكلية ما ذكره في كتابه (المعارف).
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|