الموضوع: رسالة من بردى
عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 11 / 2016, 34 : 08 PM   رقم المشاركة : [1]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رسالة من بردى

الجزء الثاني من قصة "بردى"
http://www.nooreladab.com/vb/showthread.php?t=26156


[align=justify]رسالة من بردى

وأخيرا وبعد مدة حسبتها دهرا وصلني خطاب من بردى . خطاب لا أدري لم كنت متيقنا من وصوله يوما ما رغم أني لم آخذ وعدا منها ولا من أبيها بالكتابة إلي . لكني كنت اشعر في قرارة نفسي أن شيئا ما سيصلني منهما . إذ كيف يمكن أن ينتهي ذاك اللقاء الجميل في دكان الشوارمة "نور الشام" الكائن بشارع 10 ماي دون أن يعقبه ما يحيي ذكراه ؟
حقا ، لقد دب اليأس إلى قلبي في بعض الفترات وتوقفت عن المرور شبه الدائم أمام "نور الشام" ، لكني لزمت مشاهدة القنوات الفضائية وهي تقدم أخبارا عن الشام وأحداث الشام وغيرها حيث أريد للدماء أن تسيل ، مع اختلاف هائل في تناول مجريات الأمور . وكنت أحبس أنفاسي كلما أعلن عن فوج جديد من الضحايا الذين سقطوا دون ذنب سوى أنهم من الشام .
اختلاف التحاليل الإخبارية لم يغير قناعاتي ورؤيتي للأمور هناك . فأنا منذ الوهلة الأولى وربما بفضل حدسي الذي أزهو بصوابه في أغلب الأحيان ، لم أعترف بربيع ولا بخريف عربي . وكانت تصل مناقشاتي مع زملائي إلى درجة الحدة وهو يستنكرون موقفي من "مذابح النظام" ووقوفي ضد "الثورة الشعبية" وجيشها الحر.
كنت أتخيل بردى تارة تبكي مع بكاء الثكالى وتصيح مع صياح الأيتام والجرحى ، وتارة أخرى باسمة الثغر وهي تنتظر بكل ثقة غدا أكثر إشراقا . لكني لم أنج من كوابيس كان يتخللها منظر الصبية الوديعة مضرجة بالدماء في مكان ما من الغوطة أو حارة الضبع ، وكأني أعيش المسلسل التلفزيوني يقظة ومناما .
"سيدي .. لم أكن لأكتب لك هذا الخطاب لولا إلحاح أبي رحمه الله . ليس لأنك لا تستحق ذلك ، ولكن لأن الظروف التي عشتها وأعيشها جعلتني أعزف عن كل شيء ..
توقفت برهة عن القراءة وقد أصلبني الذهول ، ووجدت نفسي أتمتم "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. إنا لله وإنا إليه راجعون."
"لقد رحل أبي وهو يتمنى أن يسقط شهيدا من أجل الشام التي أحبها والتي دنسها المتشدقون بالثورة وبالربيع المسخ الذي أضل الكثيرين من أبناء جلدتي فانساقوا كالأغنام يقاتلون من أجل وهم يخدم فقط مصلحة العدو الأكبر."
أعطيت لنفسي بعض الوقت لتأمل كل ما كتبته بردى .. كل حرف يقطر ألما وكل كلمة تبدو مثخنة بالجراح . حتى أني سهوت عن موعد الحصة الدراسية ولم أنتبه إلى أن الوقت قد أزف إلا عند مرور ثلة من التلميذات بزيهن المدرسي الأنيق . فنهضت مسرعا وأنا أدس الخطاب في جيب قميصي الصيفي مشيرا إلى صاحب المحل بالتحية .
في الطريق كنت أحس أني أحمل حلما جميلا يلامس جانب صدري الأيسر .. كان يثلجه رغم حرارة ذلك اليوم المفرطة . وكانت لهفتي لا توصف لمتابعة قراءة الخطاب بعد أن أنتهي من الحصة التي بدت لي طويلة أكثر من المعتاد . فلم أصدق أنني صرت حرا طليقا حتى هرعت إلى البيت ويدي تتحسس باستمرار تلك الورقة التي بعثت في نفسي حماسا قل نظره وتلاشى بوصولها كل خمول وشعور بالملل .
حتى الطريق بدا لي لا منتهي .. لكني أخيرا وصلت وأغلقت الباب بإحكام وكأني أخشى أن يقتحم علي

أحد خلوتي فيفسد علي متعة القراءة . ولم ألق بال لضجيج الحشد الصغير المتوجه إلى ساحة النافورة ليردد كالببغاء ما تردد في أكثر من عاصمة عربية حالمة بربيع لن يأتي حتما كما تحب .. هل صار لكل بلد شهره وربيعه ، وصار يؤرخ لكل حركة احتجاجية بيوم وشهر وبصيحات كأنها سجلت لتتناقلها أفواه الجماهير الواعية وغير الواعية :"الشعب يريد ....." ؟
"رحل أبي وفي نفسه كبرياء الشام وعزة الريف ونقاء الياسمين الدمشقي الذي لا يستطيع أحد تدنيس نصاعته ، وبقيت أعيش فراغا قاتلا ووحدة قاسية . ولا أكتمك أني في لحظة يأس عزفت عن كل شيء وتمنيت الموت . لكن روح أبي المتمكنة من وجداني ووعيي بأن الشامية القحة لا تستسلم لليأس كانا لي السلوان ومنحاني الثقة . كان يقول لي :- إياك أن تفرحي لشيء أو تحزني له دون أن يكون ذلك من أجل الشام .
كان بودي أن أسهب في وصف الضلال الذي أصاب من حلم بثورة وربيع وهميين ، والتيه الذي طبع نفوس الكثيرين من بلدان أخرى ممن تجندوا ليحاربوا باسم الجهاد من أجل وهم وسراب .. نعم .. جاءوا ليجدوا الموت بانتظارهم وليلطخوا أيديهم بدماء إخوة لهم في الدين والعروبة ، لكني أدرك أن ذلك سيكون إطنابا لا جدوى منه لأني – مثل أبي رحمه الله – أعرف وعيك بما يجري دون أن تحكي لنا رأيك . فوالدي كان يتمتع بفراسة حادة ولم يتوقف عن الحديث عنك منذ طوال مدة سفرنا وبعد وصولنا إلى الشام ."
توقفت من جديد عن القراءة وكأني أسترد أنفاسي المتلاحقة وهي تعدو لاهثة وراء كل كلمة كتبتها بردى . كل حرف يقطر عذوبة وكل حرف يعبق شذا وكأني بعينيها أمامي تنطقان وبشفتيها تمليان علي الخطاب .
كنت أعيد قراءة كل فقرة من فقرات الرسالة كما لو أني أستعذب الحروف والكلمات أو كأنني لا أريد أن أصل إلى نهاية الخطاب سريعا . لكن لهفتي لمعرفة المزيد من الأخبار جعلني ألتهم السطور التهاما .
"لقد انتهى ربيع أولئك الحاقدين والجاهلين كما بدأ . ذابلا كأحلامهم التي تحولت إلى كوابيس وصار عليهم الآن أن ينعوا ربيع حياتهم التي وهبوها حطبا لنار بدأت تلتهم الأخضر منهم واليابس . وسأكون في قمة السعادة - إن مد الله في عمري - أن أخبرك أن غدا مشرقا للشام قد بزغ وأن ليل من دنسوها قد بدأ ولن ينتهي."
تحياتي لنبل شخصك ورقي فكرك ...
بردى نور الدين حافظ "
لم يعد شغلي الشاغل في الأيام التي تلت وصول الخطاب سوى الجلوس لساعات طوال أمام قنوات الأخبار الفضائية لأتتبع بكل شغف ولهفة ما جد من جديد عن أحوال الشام ، أو على الأنترنيت مقربا خريطة الشام على موقع ڭوڭل حتى تبدو لي شوارع المدن وسياراتها ، وأجد نفسي أهمس :

- سلام عليك بردى ..حماك الله من كل سوء . [/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)

التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني ; 02 / 02 / 2017 الساعة 35 : 06 PM.
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس