عرض مشاركة واحدة
قديم 15 / 07 / 2009, 02 : 12 AM   رقم المشاركة : [6]
د. ماجد حسام الدين
كاتب نور أدبي

 الصورة الرمزية د. ماجد حسام الدين
 





د. ماجد حسام الدين is on a distinguished road

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: لبنان

رد: قراءات معاصرة في تيسير النحو العربي

[align=justify]

التنازع أو الإعمال في النحو العربي(قراءة معاصرة)


أقدمت على الكتابة في بحث التنازع لأسباب أهمها:
أن حجم البحث في المصادر والمراجع صغيرٌ، لكن الآراء النحوية المختلفة كثيرة.
أن إعراب الكلمات التي فيها تنازع تكاد تنحصر في أساليب قليلة وشواهد كثيرة لكنها تدور في عدد محدد من الآراء فيها خلاف.
أن كل من طرق هذا البحث، ولا سيما المحدثون، قالوا: إن هذا البحث فيه من الاضطراب والتعقيد ما لا يوجد في غيره!!
فأحببت أن أقف على هذا لأحكم على صحة هذا أو تخطئته، والوصول إلى حكم عليه.
أن شواهد كثيرة مرت معي في خلال التدريس يمكن أن تنسب إلى التنازع لكنها لم تذكر في البحث عند العودة إلى المظان.
وكنت أتوقع أن ما سأكتبه لا يتعدى الصفحات القليلة، لكن ما إن خضت غمار البحث حتى وجدتني أمام أشياء أعرفها ظننت – يوماً – أنها هي البحث كله، وأمام أشياء أخرى كانت متممة لكن فيها من التكلف ما لا يقدم زيادة على بحث التنازع مفيدة، خلا بعض الآراء والأفكار لم تكن قاطعة باتة بل جائزة، وكنت أبحث عن أحكام أخرى وجدتها في عدد من الشواهد الشعرية لكنني لم أجدها في مصدر، وهي تدور في فلك هذا البحث، وهذا ما جعلني أحقق في هذا الجانب للتثبّت مما كنت أبحث عنه وأفكر فيه استناداً إلى تلك الشواهد وقد وصلت إلى نتائج أظن أنها صحيحة، ويمكن أن أعدها قراءة جديدة لهذا البحث، وكان أن دفعني البحث إلى تحديد فقراته في عناوين وجدت أنها تساعد في فهم البحث، وحاولت – جاهداً – تتبُّع هذا البحث بدءاً من كتاب سيبويه مروراً بأشهر المصادر النحوية ووصولاً إلى خزانة الأدب للبغدادي الذي تُختم به ـ عادة ـ مصادر النحو واللغة، وتجاوزت هذه المصادر إلى مراجع حديثة لبعض المحدثين ولا سيما النحو الوافي لعباس حسن الذي يعدّ من أفضل كتب المعاصرين إن لم يكن أفضلها وأشملها، وقصدت إلى هذا ـ الوصول إلى المحدثين ـ علني أجد غير ما قرأت عند القدماء، أو علني أجد إجابات عن أسئلة كنت قد طرحتها على نفسي في هذا البحث لكن لم يسعفني كتاب ولم أجد ما كنت أبحث عنه، فلا عباس حسن أسعفني وهو الذي لخّص آراء القدماء ووصل إلى نتائج هي تلخيص وتحديد، ولا الدكتور شوقي ضيف الذي له باع في تجديد النحو، ولا الشيخ مصطفى الغلاييني في «جامع الدروس العربية» ولم أجد عند المحدثين إلا عبارة أن هذا البحث فيه من الاضطراب والتعقيد ما لا في بحث آخر، وقد يكون هذا الحكم وجهة نظر خاصة كما كانت النتائج التي وصل إليها البحث، وأترك للقارئ المطلع الحكم على ما وصلت إليه والذي أعده قراءة جديدة أو معاصرة لبحث التنازع. والحكم على الإضافات الجديدة التي وجدت أنها تصب في البحث. وقد اقتضت طبيعة البحث أن يقسم قسمين، الأول ما هو ثابت لا خلافَ حقيقياً فيه والثاني ما يمكن أن يسمى إضافات جديدة فيها تعقيبات وآراء خاصة.
القسم الأول
تعريف وحدود:
لم يذكر سيبويه التنازع باسمه، قال «هذا باب الفاعلَيْن والمفعولَيْن اللذين كلّ واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به، وما كان نحو ذلك»([1])
وكذا المبرد إذ قال «هذا باب من إعمال الأول والثاني وهما الفعلان اللذان يعطف أحدهما على الآخر» ([2]) وكان قد أشار إلى هذا، وعرض لعدد من الأمثلة، وقال «وهذه المسائل تدلُّ على ما بعدها وتجري على منهاجها فيما ذكرنا من الأفعال مما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين في إعمال الأول»([3]) أما ابن مالك فيقول:
إنْ عاملان اقتضيا في اسم عَمَلْ



قبـلُ فللواحـدِ منهما العَمَـلْ


والثانـي أولى عند أهل البصرَةْ



واختار عكساً غيرهم ذا أسـرهْ([4])




أما ابن هشام فقال: «هذا باب التنازع في العمل ويسمى أيضاً باب الإعمال»(
[5]).
إذاً لم يحدد القدماء مصطلح التنازع بل تركوه في عناوين عامة حتى وصل تحديده علماء القرون التالية فسمِّي التنازع أو الإعمال، ويلاحظ أن ابن هشام قد أخذه من قول ابن مالك«إن عاملان....»وشرحه ابن مالك نفسه في شرح الكافية الشافية([6]) كما سيأتي. وحافظ المصطلح على حدوده حتى وقتنا هذا، فقال ابن الحاجب:«وإذا تنازع الفعلان ظاهراً..»([7]) وقال ابن هشام في خلال حديثه عن الشاهد:
ألم يأتيـك والأنبـاء تنمـي



بما لاقت لبـون بنـي زيـاد([8])




«على أنَّ الباء زائدة في الفاعل، ويحتمل أنَّ (يأتي) و(تنمي) تنازعا (ما)»(
[9]).
ثم ذكر هذا في مكان آخر فقال: العاملان في باب التنازع([10]).
وأما السيوطي فيقول:«التنازع في العمل إذا تعلّق عاملان فأكثر كثلاثة وأربعة من الفعل وشبهه كالوصف واسم الفعل بخلاف الحروف كـ (إنّ) وأخواتها باسمٍ...»([11]).
وأما صاحب الخزانة فيعرض للتنازع في خلال حديثه عن بيتي امرئ القيس([12]):
ولو أنَّ ما أسعى لأدنى معيشة



كفاني ولم أطلب قليل من المال


ولكنما أسعى لمجد مؤثــلٍ



وقد يدرك المجد المؤثل أمثـالي



ويقول:«على أنه ليس من التنازع، وقد بيّنه الشارح المحقق، وأصله من إيضاح ابن الحاجب»([13]).
وإذا قرأنا في المراجع الحديثة فإننا نجد أنَّ المحدثين صاغوا مصطلح التنازع استناداً إلى كلام القدماء، وينقل عباس حسن تعريف التنازع عند النحاة«ما يشتمل على فعلَيْن – غالباً – متصرفين مذكورين، أو على اسمين يشبهانهما في العمل أو فعل واسم يشبهه في العمل، وبعد الفعلين وما يشبههما معمول مطلوب وكل من الاثنين السابقين»([14]) ويعرّفه صاحبا معجم الخليل«معجم مصطلحات النحو العربي»بـ«أن يتوجَّه عاملان متقدمان أو أكثر إلى معمول واحد متأخر أو أكثر نحو: تصدّق وأخلص الصادق»([15]).
قراءة التعريف:
يبدو لنا من التعريف السابق أنّ التنازع يقع في بحث الإعمال أو هكذا يسمّى، كان يقع عاملان على اسم كما ورد عند ابن مالك«إن عاملان اقتضيا..»، ثم خصص العلماء العاملَ بالفعل لكنهم قيّدوه بـ ـ غالباً ـ أي ليس بالضرورة أن يكون العامل فعلاً فحسب، بل ما يشبهه مثل اسم الفاعل، واسم المفعول ؛ أي ما يعمل عمل الفعل، ثم قالوا: إن التنازع قد يكون في أكثر من عامليْن فربما كان من ثلاثة أو أربعة عوامل، وقد يكون في هذه الزيادة على التعريف ما أوقع العلماء في الشطط والتمحّل والتكلّف، وهذا ما جعل العلماء ولا سيما المحدثين يقولون: إن بحث التنازع من أكثر الأبحاث النحوية اضطراباً وتعقيداً، يقول عباس حسن «يعدّ باب التنازع من أكثر الأبواب النحوية اضطراباً وتعقيداً، وخضوعاً لفلسفة عقلية خيالية ليست قوية السند بالكلام المأثور الفصيح، بل ربما كانت مناقضة له» ([16]). علماً بأن العلماء أنفسهم لم يقعوا في القرآن أو الشعر على شواهد تثبت قواعدهم. وهذا ما جعلهم يتكلّفون تركيب الجمل والأساليب النحوية، ولو كان لهم ذلك لما كان في البحث أحكامٌ كانت تزيّداً في التعريف والتحديد. ‍
ما العامل؟([17]):
المعروف أن للعامل أنواعاً كثيرة يدخل بعضها في بحث التنازع منها العامل القويّ، وهذا الذي يؤثر في إعراب الكلام مظهراً ومحذوفاً متقدماً ومتأخراً كالفعل، ومنها العوامل اللفظية، وهي ثلاثة أنواع: أفعال وأسماء وحروف، والأفعال العوامل هي الأفعال التامة، والأفعال الناقصة، وأفعال المقاربة وأفعال القلوب، وأفعال المدح والذم، والأسماء العوامل كأسماء الشرط واسم الفعل، واسم الفاعل واسم المفعول.. والحروف العوامل كحروف الجر، والحروف المشبهة بالفعل، ولا النافية للجنس.. ومن العوامل أيضاً عاملا التنازع، وهما العاملان المتقدمان اللذان يتنازعان المعمول المتأخر.
هذه هي العوامل التي أقرّها النحويون، ووقفوا عندها، وحددوها، فمنها الاسم والفعل والحرف لكن الملاحظ أن العلماء حددوا العامل في بحث التنازع بالفعل، واسم الفاعل، واسم المفعول ؛ أي ما يعمل عمل الفعل([18]) ولم يتطرقوا إلى الحروف المشبهة بالفعل، ولا الأفعال الناقصة – إلا عند بعضهم – التي ستجد أن ثمة ما يشبه التنازع بين الفعل الناقص والتام ولا سيما الفعل (ليس) وأن ثمة ما يشبه التنازع بين الحرفين المشبهين بالفعل (ليت) و (أن).. وبين الفعل المتعدي إلى مفعولين والحرف المشبه بالفعل (أن) الذي سدّ مع اسمه وخبره مسدّ المفعولين.
التنازع بالفعلين:
وقف العلماء عند التنازع بين فعلَيْن، وحددوا الفعلين بالمتصرفين، وهذا واضح بدءاً مما جاء عند سيبويه فيستشهد على العنوان بـ «ضربت وضربني زيدٌ» و «ضربني وضربت زيداً» وقال: «العامل في اللفظ أحد الفعلين» ([19]) وتبع سيبويه المبرد، يقول: «إذا قلت: ضربني وضربت زيداً» أضمرت الفاعل في «ضربني» مضطراً قبل ذكره لأنه لا يخلو فعل من فاعل فأخبرت عن زيد على قول النحويين قلت: الضاربي والضاربه أنا زيدٌ ليكون الفعل غير متعدٍ كما كان في الفعل قبل الإيجاز «([20]) ثم يستشهد بما أورده سيبويه» ضربت وضربني زيدٌ «تحت عنوان: هذا باب الإخبار في قول أبي عثمان المازني عن هذ الباب الذي مضى.. ويضيف فإن قلت» ضربني وضربت زيداً «فأعملت الآخر أضمرت الفاعل قبل ذكره على شريطة التفسير..» ([21]) أما ابن مالك فيقول في شرحه لقوله «إن عاملان..» إنما قلت عاملان ولم أقل فعلان ليدخل في قولي تنازع فعلين كقوله تعالى ) ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا( ([22]) وتنازع اسم وفعل نحو ) فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ( ([23]) وتنازع اسمين نحو قول الشاعر:
عهدتُ مغيثاً مغنياً من أجرته



فلـم أتخذ إلا فناءك موئـلا



ومثله عند بعضهم قول الشاعر:
قضى كل ذي دين فوفّى غريمه



وعزة ممطولٌ مُعنَّـى زيمهـا([24])





العمل لِمَنْ من الفعلين؟
أشار سيبويه إلى أن العمل للأقرب لقرب جواره(
[25]) وعلل ذلك، وسوّغ أن المعنى لا ينتقض، وأن المخاطب قد عرف أن الأول قد وقع بزيد «ضربت وضربني زيدٌ» ([26]) واستشهد - تأييداً لهذا - بقوله تعالى: ) وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ( ([27]) فاسما الفاعل «الحافظات» و «الذاكرات» لم يعملا فيما عمل فيه الأولان «الحافظين و» الذاكرين «استغناءً عنه، ومثله – أيضاً – قوله» ونخلع ونترك من يفجرك.. «ومثله في الشعر:
نحن بمـا عندنـا وأنت بمـا



عندك راضٍ والرأي مختلـف([28])




والتقدير نحن راضون بما عندنا، وهذا ظاهر من قوله: وأنت بما عندك راضٍ(
[29]).. ويؤيد كلامه بتعدية حرف الجر فيكون للأقرب كما في قولك:«خشَّنت بصدره وصدر فلان» فجرّ الأقرب لأن الباء هي الأقرب إلى الفعل ولا ينتقض المعنى([30]). وما يؤيد كلامه قوله تعالى )والحافظين(.. وبيت قيس بن الخطيم، وقول ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله



فإني وقياراً بهـا لغريـب([31])




وقول ابن أحمر:
رماني بأمر كنت فيه ووالدي






ولكن يقبح عند سيبويه إعمالهم الأقرب إذا لم ينقض معنى، كقوله الفرزدق:
ولكن نصفاً لو سَبَبْتُ وسبَّنـي



بنو عبد شمس من مناف وهاشم([33])



وقول طفيل الغنوي:
وكمتاً مُدمّاة كأن متونهـا



جرى فوقها واستشعرت لون مذهب([34])



وقول رجل من باهلة:
ولقد أرى قضى بـه سيفانـة



تصبي الحليم ومثلهـا أصبـاه([35])



فالعمل عند سيبويه للأقرب، وهذا ما صرح به المبرد في المقتضب إذ قال: «هذا باب من إعمال الأول..» إلى أن يقول: «فهذا اللفظ هو الذي اختاره البصريون، وهو إعمال الآخر في اللفظ، وأما في المعنى فقد يعلم السامع أن الأول قد عمل كما عمل الثاني فحُذف لعلم المخاطب..» ([36]) ويستشهد بما استشهد به سيبويه، ويعلل سبب اختيار البصريين فيقول: وإنما اختاروا إعمال الآخر لأنه أقرب من الأول([37]) ويضيف: وقد حملهم قرب العامل على أن قال بعضهم: «هذا حجر ضبٍّ خربٍ» وإنما الصفة للحُجر، فكيف بما يصح معناه؟([38]) أي أن العمل كان سبب الجوار لكن هذا كله لم يمنع المبردَ من تجويز إعمال الأول، يقول: ولو أعملت الأول كان جائزاً أحسن([39]). وذكر ابن مالك في شرح الكافية الشافية أنَّ العمل للثاني عند البصريين والأول عند الكوفيين([40]) ولا يمنع العكس، وكذا ما ذكره السيوطي أنَّ العمل لأحدهما باتفاق الطرفين([41]) ونقل أنَّ الفراء قال: كلاهما يعملان فيه([42]) ويستدل من كلام ابن هشام أنَّ عمل العامل يكون للمعنى، قال في خلال حديثه عن الشاهد: «ألم يأتيك..» يحتمل أنَّ (يأتي) و(تنمي) تنازعا (ما) فأعمل الثاني وأضمر الفاعل في الأول فلا اعتراض، ولا زيادة، ولكن الغنى عن الأول أوجهُ إذ الأنباء من شأنها أن تنمي بها وبغيرها([43]) وأشار ابن هشام([44]) إلى أن بعضهم يجيز حذف غير المرفوع لأنه فضلة كقول الشاعر:
بعكـاظ يُعشي النـاظريـ



ـن إذا هم لمحوا شعاعه([45])




فقد تنازع الفعلان (يعشي) و (لمحوا) على المعمول (شعاعه) فهل هو فاعل (يعشي) أم مفعول (لمحوا) فإذا أُعمل الثاني (لمحوا) فإن البصريين يضمرون فاعل (يعشي) لامتناع حذف العمدة، ولأنَّ الإضمار قبل الذكر قد جاء في غير هذا الباب نحو «ربه رجلاً» (
[46]) أما الكسائي وهشام والسهيلي فيوجبون الحذف تمسكاً بظاهر قول الشاعر:
تعفق بالأرطى لهـا وأرادهـا



رجال فبذَّت نبلهـم وكليب([47])




إذ لم يقل تعفقوا ولا أرادوا.
تعقيب (1):
وجدنا من الأمثلة السابقة أنّ العامل كان فعلاً، وأن المعمول كان اسماً، لكن العامل قد يقع حرفاً كما سيأتي ويعمل فيما بعده، ولكن هل يقع الفعل معمولاً؟ نعم، فالفعل المضارع المنصوب أو المجزوم معمول إذا عمل فيه الحرف الناصب أو الجازم (هو بهذا يضارع اسم الفاعل واسم المفعول اللذين يعملان عمل الفعل) وليس من الصواب أن يتنازع حرفان أو ناصبان أو حرف ناصب وجازم أو العكس على فعل مضارع واحد فهذا لم يقع، ثم إن الحرفين المتماثلين لا يتواليان، ولكن ماذا لو وقع الفعل المضارع مجزوماً بجواب الطلب كقول أبي بكر الأصبهاني:
كن محسناً أو سيئاً وابق لي أبداً






فقد وقع الفعل (تكن) مجزوماً جواباً للطلب في الفعلين (كن) و (ابق) وقد يكون تحديد العامل صعباً إذ لم يفهم المعنى، فلو قال: لكن محسناً أو مسيئاً تكن لديّ مشكوراً لجاز على اعتبار «كن تكن» من الأساليب المستعملة والمعنى صحيح، ويدل على الحالين كونه (محسناً أو مسيئاً) ولو قال: كن.. وابق.. تكن لجاز أيضاً وكان الجزم للفعل (ابق) يريد أن يبقى على الدوام، ولا يجوز أن نقطع الكلام، ويكون «ابق لي..» استئنافاً، فكان الواو حرف العطف هي التي رجحت أن يكون لهما معاً. ومثله قول ابن الدمينة:
خليلي روحا واذكرا الله ترشدا



وميلا لوادي السفح حيث يميل([49])



تنازع الفعلان (روحا) و (اذكرا) المعطوفان بحرف عطف على المضارع المجزوم (ترشدا).. ويتضح أن الفعلين معاً يكمل الثاني الأول ويكون جواباً للثاني الأقرب، وهذا الأفصح للمعنى.
تعقيب (2) تنازع ثلاثة أفعال والمعمول واحد:
تقدم قبل قليل أن النحاة أجازوا أن يقع التنازع من عاملين فأكثر ولم أجد أحداً وقف عند هذا الباب حتى ابن مالك في شرح التسهيل، على جواز إعمال الآخر وإلغاء ما قبله، واستشهد ابن مالك بثلاثة من الشواهد الشعرية هي قول الحطيئة:
سُئلتَ فلم تبخل ولم تُعْطِ نائلاً



فسِيَّان لا ذم عليك ولا حَمْدُ




وقول الآخر:
جئ ثم حالف وثق بالقوم إنهم



لمن أجاروا ذوو عز بلا هـون



وقول الآخر:
أرجو وأخشى وأدعو الله مبتغياً



عفواً وعافية في الروح والجسد



تنازع في البيت الأول الأفعال الثلاثة (سئل) و (تبخل) و (تعط) على المعمول (نائلاً) وفي البيت الثاني (جئ) و(حالف) و (ثق) مع المعمول (بالقوم).
وفي البيت الثالث (أرجو) و (أخشى) و (أدعو) مع المعمول (الله).
الضمير في بحث التنازع:
تقدم أن العامل إذا كان اسماً ظاهراً هو للأقرب عند البصريين، وللأسبق عند الكوفيين مع ترجيح الوجه الآخر عندهما معاً باتفاق.. ولكن مَنْ يعمل إذا كان في الفعل ضمير؟ يقول سيبويه: فإن قلت: «ضربت وضربوني قومك» نصبت «قومك» إلا في قول من قال «أكلوني البراغيث» أو تحمله على البدل فتجعله بدلاً من المضمر كأنك قلت: «ضربت وضربوني ناس بنو فلان»([50]) وعلى هذا الحد تقول: ضربت وضربني عبد الله وتضمر في «ضربني» كما أضمرت في «ضربوني» فإن قلت «ضربني وضربتهم قومك» رفعْتَ لأنك شغلت الآخر فأضمرت فيه، فكأنك قلـت: ضربني قومـك وضربتهم على التقديم والتأخير إلا أن تجعل ههنا البدل كما جعلته في الرفع، فإن فعلت ذلك لم يكن بدّ من «ضربوني..» لأنك تضمر فيه الجمع، قال عمر:

إذا هي لم تستك بعود أراكـة



تُنخِّل فاستاكتْ به عود إسحل([51])




لأنه اضمر في آخر الكلام، وقال المرار الأسدي:
فردّ على الفؤاد هوى عميداً



وسوئل لو يبين لنا سـؤالا


وقد تغنى بها ونرى عصورا






وإذا قلت: «ضربوني وضربتهم قومَك» جعلت القوم بدلاً من (هم) لأن الفعل لابد له من فاعل، والفاعل ههنا جماعة، وضمير الجماعة الواو([53]) وكذلك تقول: «ضربوني وضربت قومَك» .
إن قراءة الأمثلة السابقة تشير إلى سهولة معرفة إعمال الفعل وتقدير الثاني، والدليل الضمير الذي وقع فاعلاً، أو مفعولاً فحدد إعراب الجملة كالتاء في ضربت والواو في ضربوني في «ضربت وضربوني قومك» وكذا «الياء» وهم «في» ضربني وضربتهم قومك «.. وكأني بسيبويه أراد من هذه الأمثلة تسهيل القاعدة وتوضيحها بالأمثلة التي ربما أراد بها أن يخفف من قواعد التنازع».
لقد أكثر سيبويه من الأمثلة التي دخل فيها الضمير على الأفعال، ووجّه عمل العوامل بحسب ما يقتضيه التنازع، ويلحظ تجويزه لعدد من الوجوه حتى القبيح، فقد جوز «ضربني وضربت قومُك» فإن قلت ضربني وضربت قومُك فجائز وهو قبيحٌ([54]). وأضاف: ولا بد من هذا لأنه لا يخلو الفعل من مضمر مظهر مرفوع من الأسماء([55]).
يتضح من الأمثلة السابقة التكلف في صناعة الجملة للتطبيق على فكرة من التنازع، وأقول: لو كان عندهم شواهد شعرية لغنانا هذا عن التكلف، ولكن قد يكون للشعر رواية أخرى ترجح الوجه الآخر، أما لو كان في القرآن شاهد واحد لأقمنا القاعدة عليه، ولكن لم يجدوا فيه، من هنا سوّغ القدماء معظم الأمثلة أو كلها التي جاؤوا بها في هذا الباب([56])
ومن هذا الباب العامل الذي أهمل ولم يسلّط على الاسم الظاهر كقولنا: أعطى وسألتُ اللهَ.. ففي «أعطى» ضمير مفسّر بما بعده، وهذا أجازه البصريون ولم يجزه الكوفيون تجنباً لإضمار قبل ذكر المفسّر، لكن العرب استعملت مثله، قال رجلٌ من فصحاء طيئ:
جفوني ولم أجفُ الأخلاء إنني



لغير جميل من خليلي مهمل([57])




وقال آخر:
هوينني وهويْتُ الغانياتِ إلى






فتقدمت الواو في «جفوني» و «النون» في «هوينني» على مفسريهما، فعُلم أن ذلك وأمثاله جائز.
ويرى ابن مالك إذا أهمل الأول من المتنازعين ومطلوبه غير رفع لم يجز عند الأكثرين أن يُجاء معه بضمير التنازع فيه ونقل السيوطي أن ابن الطراوة منع الإضمار في باب «ظن» مطلقاً لأنه ليس للمضمر مفسر يعود عليه([59]) ونقل ابن مالك عن ابن كيسان حكايته أن الكوفيين وافقوا البصريين في جواز تقديم الضمير على مفسر المبدل منه نحو: «يقومون الزيدون، ورأيتهم العمرَين» مع أن البدل تابع وتأخير التابع واجب!!
وإذا ثبت هذا فليُعلم أن مثل: يُحسنان ويسيء ابناك جائز عند البصريين ممتنع عند الكوفيين لما فيه من تقديم فاعل «يحسن» (الألف)، ولو حذفت هذه الألف صحت المسألة عند الكسائي([60]) أما الفراء فيمنع ذلك مع الإثبات ومع الحذف، لكنه أجاز أن يقال: «يحسن ويسيء ابناك» على أن يكون الفعل مرتفعاً بالفعلين معاً([61]).
أما الضمير المتصل فإن كان مرفوعاً نحو «ما ضرب وما أكرم إلا أنا» وكذا الظاهر الواقع هذا الموقع نحو «ما قام وما قعد إلا زيد» فلا يجوز أن يكون أيضاً من باب التنازع على الوجه الذي التزمه البصريون، وهو أن الأول إذا توجّه إلى المُتنازع بالفاعلية وألغيته فلابد أن يكون في العامل الملغى غيره موافق للمُتنازع.. »([62]) وأما إذا كان المتنازع فيه ضميراً منفصلاً منصوباً نحو «ما ضربت وما أكرمت إلا إياك» جاز أن يكون من باب التنازع، وتكون قد حذفت المفعول مع (إلا) من الأول مع إعمال الثاني، أو من الثاني مع إعمال الأول إذ المفعول يجوز حذفه بخلاف الفاعل، وكذا المجرور والمنصوب المحلّ نحو «قمت وقعد بك»([63]) ويجوز عند الرضي أن يتنازع عاملان في المضمر المنفصل والمجرور ولا سيما إذا تقدم ذلك الضمير على العاملين نحو «إياك ضربت وأكرمت» ([64]).
التنازع في باب ظن وعلم وأعلم:
وهذا من باب القياس على ما سبق، أو من صنع النحويين مادام الفعلان يتنازعان، وهذه أفعال، وتظهر صناعة هذا الباب في أن سيبويه لم يطرقه، وعرض له المبرد عرضاً فقال: «وتقول في قول النحويين: أُعطيت وأعطاني زيد درهماً إذا أخبرت عن نفسك قلت المعطي والمعطية زيدٌ درهما ً أنا» ([65]) الكتاب 1/78. فهو يقول: «وتقول في قول النحويين، ولم يستشهد بالقرآن أو الشعر بل يصرّح فيقول: وهذه المسائل تدل على ما بعدها وتجري على منهاجها فيما ذكرنا من الأفعال مما يتعدى إلى مفعول وإلى اثنين وإلى ثلاثة»(68). أي كما أن الفعل المتعدي إلى مفعول كذلك يتعدى المتعدي إلى اثنين أو ثلاثة، ويستشهد بقولهم: أعلمت وأعلمني إياه إياه زيداً عمراً خير الناس، وإن شئت: أعلمت وأعلمنيه إياه زيداً عمراً خير الناس.. ويقول إن أعلمت الآخر قلت: أعلمت وأعلمني زيدٌ عمراً خير الناس، وإن أخبرت الآخر قلت: أعلمت وأعلمني زيدٌ عمراً خير الناس، وإن أخبرت على إعمال الأول عن نفسك قلت: المعلم زيداً عمراً خير الناس، والمعلمه هو إياه إياه أنا، فأظهرت (هو) لأن الألف واللام لك والفعل لزيد([66]). ويتضح من هذين المثالين التكلف في تركيب الجملة الذي يذكرنا بالأفعال التي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ولم تظهر مفاعيلها الثلاثة فغالباً ما وقع الأول مفعولاً به أو نائب فاعل والثاني والثالث مصدراً مؤولاً.. وهذا قريب من ذلك!
ويعود المبرد إلى ذكر هذا الباب في موضع آخر من كتابه يقول «وتقول: ظننت زيداً منطلقاً».. فإن عطفت شيئاً من هذه الأفعال قلت: ظُنّ زيدٌ منطلقاً أو عُلم إياه فإياه ضمير منطلق وفي (علم) ضمير الذي يقوم مقام الفاعل مرفوع، وإن شئت قلت: أو عُلمه (بالبناء للمجهول) تجعل الهاء مكان (إياه) في هذا الباب([67]).
يؤيد الرضي ما جاء به المبرد من جواز تنازع الفعلين المتعديين إلى ثلاثة خلافاً للجرمي نحو «أعلمت وأعلمني زيدٌ عمراً قائماً» على إعمال الثاني وحذف مفاعيل الأول، وأعلمني وأعلمته إياه زيدٌ عمراً قائماً على إعمال الأول وإضمار مفاعيل الثاني، والأولى أن يقال: أعلمته ذلك قصداً للاختصار إذ مفعول علمت في الحقيقة كما ذكرنا هو مضمون المفعولين فيكون ذلك إشارة إليه وإنما منعه الجرمي لعدم السماع([68]). فالجرمي يمنع تنازع هذا النوع من الأفعال لعدم وروده عن العرب شعراً ونثراً.
التنازع في باب التعجب:
لم يقف سيبويه عند هذا الباب من بحث التنازع، وأجاز المبرد التنازع في باب التعجب في نحو «ما أحسن وأجمل زيداً» وقال: إنْ نصب (زيداً) بأحسن كان الواجب أن تقول: ما أحسن وأجمله زيداً، لأنك تريد ما أحسن زيداً وأجمله([69]) قياساً على قولك: ما أحسن ما كان زيدٌ فقد ارتفع (زيدٌ) بالفعل (كان) وجوَّز - وهذا بعيد - أن ينصب (زيداً) باعتبار (ما) بمنزلة الذي أي «ما أحسن ما كان زيداً» وأضاف، وتقول: ما أحسن ما كان زيدٌ وأجمله، وما أحسن ما كانت هند وأجمله ؛ لأنك ترد إلى (ما) ولو قلت: «وأجملها» جاز على أن تجعل ذلك لها([70]).
واختصر الرضي هذا الباب بقوله: «وكذا يتنازع فعلا التعجب خلافاً لبعضهم نظراً إلى قلة تصرف فعل التعجب، تقول: ما أحسن وما أكرم زيداً على إعمال الثاني وحذف مفعول الأول، وما أحسن وما أكرم زيداً على إعمال الأول..» ([71]) والرضي بهذا يجعل فعل التعجب كغيره من الأفعال العاملة.. أما ابن مالك فقال: والصحيح عندي جوازه.. وأضاف: «ويجوز على أصل مذهب الفراء أن يقال أحسن وأعقل بزيد.. ولا يمنع على مذهب البصريين أن يقال أحسن وأعقل بزيد»([72]).
أما السيوطي فقد جمع آراء القدماء في هذا الباب فقال: «وعليه المبرد، ورجحه الرضي، وردّه أبو حيان بأنه - حينئذ - ليس من باب التنازع، ومنعه ابن مالك ووافقه البهاء ابن النحاس وابن أبي الربيع» ([73]) ويبدو أن قبول المبرد، وترجيح الرضي لهذا الباب مقنعٌ قياساً على ما تقدم من أمثلة تقاس على ما ورد في الأصل من التنازع في فعلين([74]).
أنواع العامل في التنازع:
أ - حدد الرضي أنواع العامل في التنازع فقال: «واعلم أن العاملين في التنازع على ضربين إذ هما إما متفقان أو مختلفان، والمتفقان على ثلاثة أضرب لأنهما إما أن يتفقا في التنازع في الفاعلية حسب.. أو في المفعولية حسب.. أو الفاعلية والمفعولية معاً.. والمختلفان على ضربين لأنه إما أن يطلب الأول الفاعلية، والثاني المفعولية أو بالعكس» . وواضح كلام الرضي.
ب - قال ابن هشام: العاملان في باب التنازع فلابد من ارتباطهما إما بعاطف.. أو كون ثانيهما جواباً للأول، إما جوابية الشرط نحو )تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ( ([75]) ونحو )ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا( ([76]) أو جوابية السؤال نحو )يستفتونك( أو نحو ذلك من أوجه الارتباط([77]).
ج - قال ابن هشام «وقد عُلم مما ذكرته أنّ التنازع لا يقع بين حرفين،.. ولا بين حرف وغيره.. ولا بين جامد وغيره..» ([78]).
ومن يقرأ هذا يجد أن التنازع يكون بين عاملين اثنين، ولم يُشر أحدٌ حتى ابن مالك ممن وقفنا على كتبهم إلى أن التنازع يجوز أن يقع بين ثلاثة عوامل ويُلحظ أيضاً أن العاملين يمكن أن يرتبطا بعاطف فما المانع من توالي ثلاثة أفعال؟! مرّة أخرى نقول: إن قواعدنا وأحكامنا بحاجة إلى إعادة نظر بعد قراءة الشعر العربي كلّه أو معظمه فربما تغيّر بعضها وربما زدنا عليها أو حذفنا منها، فماذا نقول في قول الشاعر قيس بن الحدادية (بكت من حديث.. تقدم الشاهد) وقلنا إن فيه ثلاثة عوامل، وماذا نقول في قولنا: استيقظ فلبس فأكل فذهب الطالب إلى المدرسة؟!..
هل يقع التنازع بين عاملين متأخرين؟:
تبين لنا أن التنازع لا يكون في معمول متقدم أي في عامل متأخر نحو «أيهم ضربت وأكرمت» أو شتمته خلافاً لبعضهم..([79]) وتقدم قول ابن مالك في هذا: إن عاملان اقتضيا في اسم عَملْ قَبْلُ..
ويشرح ابن مالك قوله فيقول: «تنبيهاً على أن التنازع لا يتأتى بين عاملَيْن متأخرين نحو زيدٌ قام وقعد» لأن كل واحد من المتأخرين مشغول بمثل ما شغل به الآخر من ضمير الاسم السابق، فلا تنازع بينهما بخلاف المتقدمين نحو: «قام وقعد زيدٌ» ، فإن كل واحد من الفعلَيْن موجه في المعنى إلى زيد، وصالح للعمل في لفظه([80]).
على أي المعمولات يقع العامل:
يقع التنازع على كل معمول إلا المفعول له، والتمييز، وكذا الحال لأنها لا تضمر خلافاً لابن معط([81]) في حين ضمّ عباس حسن المفعول لأجله وشبه الجملة إلى المعمولات التي يتنازع عليها عاملان([82]).
القسم الثاني
قلت في بداية البحث: إن طبيعة البحث اقتضت أن يقسم البحث قسمين، وكان الثاني في عناوين من عندي كما فعلت في القسم الأول من البحث، وكان فيها ما وجدته جديراً بالبحث وجديداً أضفته، من هذا القسم ما طرقه القدماء، ولكن معظمه لم يقفوا عنده، وأترك _ مرة ثانية _ للقارئ المطلع الحكم على ما قدمت.
أولاً ـ أشياء ليست من التنازع:
آ- بين التوكيد اللفظي والتنازع:
ليس من التنازع قول الشاعر:
فأين إلى أين النجاء ببغلتي


أتاك أتاك اللاحقون احبسِ احبسِ



لأن (أتاك) الثاني توكيد لفظي لا تنازع بينهما، ولو اقتضى عملاً لقيل: أتاك أتوك، أو أتوك أتاك..([83]).
ولا قول جرير:
فهيهات هيهات العقيق ومن به



وهيهات خل بالعقيق لا نواصله



وواضح أن هذا ليس من باب التنازع لأن التوكيد اللفظي تكرار للنوكيد فقط لا يعمل، وحذفه وعدم حذفه سواء.
ب - ليس من التنازع قول كثير عزة:
قضى كل ذي دين فوفّى غريمه



وعزّة ممطول معنّـى غريمهـا([84])




ولا قول امرئ القيس:
..............................






وقد أورد الرضي هذا البيت، وقال: صورةٌ ليست من التنازع وردٌّ على استدلال، وعلل هذا بأنه ليس من التنازع لفساد المعنى فكأن الشاعر جعل القليل كافياً لو طلبه أو سعى له، وإنما المطلوب في الحقيقة الملك وعليه معنى الشعر.
وهذا الرأي لم يتفرد به الرضي، فقد أورده سيبويه، فقال «وإنما رفع (قليل) لأنه لم يجعل القليل مطلوباً وإنما كان المطلوب عنده المُلك وجعل القليل كافياً، ولو لم يرد ذلك ونصب لفسد المعنى» ([86]) وإلى هذا البيت أشار ابن هشام في بطلان قول الكوفيين لأن امرأ القيس «شاعر فصيح وقد ارتكبه مع لزوم حذف مفعول الثاني وترك إعمال الثاني مع تمكنه منه وسلامته من الحذف، والصواب أنه ليس من التنازع في شيء» ([87]) أما السيوطي فيقول «والأصح أيضاً أنه لا تنازع في قول امرئ القيس» ([88]).
ج - ليس من التنازع قولك «ما قام وقعد إلا زيدٌ» وقول الشاعر:
ما صاب قلبي وأصباه وتيمه



إلا كواعب من ذهل بن شيبانا



وقوله:
ما جاد رأياً وما أجدى محاولة



إلا امرؤ لم يضع دنيا ولا دينـا



بل هو من باب الحذف العام لدلالة القرائن اللفظية([89])
ثانياً ـ ما يشبه التنازع؟!:
آ– المصدر المؤول المعمول في بحث التنازع:
المعلوم أن المصدر المؤول اسم يعرب بحسب موقعه في الجملة، ومن محالّه المفعول به لفعل متعد إلى مفعول واحد، ومنها أنه يسد مسد المفعولين لفعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر، فلا مانع من أن بتنازع فعلان على المصدر المؤول ومن هذا قول كعب بن زهير:
أرجو وآمل أن تدنو مودتها



وما إخال لدينا منك تنويل([90])




وقد ذكر صاحب الخزانة شاهداً على تسكين الواو في (تدنو) ضرورةً أو على إهمال (أن) حملاً على (ما) المصدرية، ثم قال وهي (ما) مع مدخولها في تأويل مصدر تنازعه الفعلان، فأعمل الثاني وحذف المفعول الأول كما هو الأولى عند البصريين، وليس في هذا من شيء فقد وقع المصدر مفرداً وُجِّه كما وُجّه أي معمول في بحث التنازع ولكن هل يجوز أن يتنازع الحرف المشبه بالفعل على الفعل الناسخ ماداما ناسخين؟!.
ب – تنازع ناسخَيْن، تنازعٌ، أو ما يشبه التنازع؟:
لم يطرق القدماء هذا الجانب من جوانب التنازع، ولكن نقف عليه ونطرح عدداً من الأسئلة، ما معنى العامل؟ وقد أجبنا عن هذا السؤال ومن العوامل النواسخ، ومن النواسخ الحروف المشبهة بالفعل. ثم لماذا يعمل اسم الفاعل واسم المفعول؟ لأنه يشبه الفعل، والفعل المضارع سمّي مضارعاً لأنه يضارع الأسماء وكم مرة أقامت العرب الضد على الضد ثم أليس الحرف المشبه بالفعل يشبه الفعل؟ بلى اسمه يدل على ذلك، فـ (أنْ) ناسخ، والناسخ عامل؟!.
قد تكون المعادلة سهلة، والأمثلة كثيرة..
يقول عباس حسن: «أن يكون المعمول المتنازع فيه منصوباً أصله عمدة كمفعولي (ظن) فأصلهما مبتدأ وخبر، وكـخبر إن وأخواتها»(
[91]) ولا أدري لماذا لم يضم اسم إن وأخواتها وأخبارها أليس اسم أن وخبرها معمولين لها؟ بلى. ولكن ربما تبع عباس حسن ابن هشام في أوضح المسالك([92]) الذي منع أن يقع التنازع بين حرفين، أو بين حرف وغيره.. والسيوطي في الهمع([93]) الذي قال: بخلاف الحروف كـ (إن) وأخواتها.
المعادلة السهلة:
آ - تقول: العلم مفيدٌ
هذه جملة اسمية من مبتدأ وخبر، وتقول:
رأيت العلمَ مفيداً
وهذه جملة فعلية تعدى الفعل (رأى) إلى مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر، وهما معمولان، وتقدم قبل قليل أن المعمول المتنازع فيه عمدة كمفعولي (ظن).
ب - تقول: العلم مفيدٌ
وتقول: إن العلم مفيدٌ، فهذه جملة مؤلفة من الناسخ (إن) ومعموليه (العلم) و (مفيد) وأصلهما مبتدأ وخبر.
وتقول: رأيت العلم مفيداً
وإذا أردت أن تُدخل (إن) على الجملة التالية (رأيت...) تقول:
رأيت أن العلم مفيدٌ
فتلاحظ أن همزة (أن) فُتحت لأنه أمكن تأويلها مع اسمها وخبرها وسدّت مسد مفعولي (رأى) فكأنهما المفعولان، ولو حذفت (أن) عادا مفعولين لكن دخول (أن) جعلها تأخذ المفعولين المعمولين ليصبحا اسماً وخبراً معمولين. فكأن ثمة تنازعاً على معمولين أخذهما الأقرب! فهل نقول: إن هذا من باب التنازع؟!.
وليس هذا من قبيل التكلف فالشواهد سواء كانت من القرآن الكريم أم الشعر كثيرة كثيرة، قال النابغة الجعدي:
ألم تعلما أن انصرافاً فساعـةً



لسير أحقُّ اليوم من أن تقصرا([94])




وقال النابغة الذبياني:
أُنبئت أن أبا قابوس أوعـدني






فماذا لو حذفنا (أنّ)؟ أليس (أبا) مفعولاً ثانياً، وجملة (أوعدني) ثالثاً، أما في رواية البيت كما هي فيكون (أبا) اسم أن..
ج - تقول: المطر يَهْطِلُ
وتقول: ليت أو لعل المطر يهطل
أليس (ليت) و(لعل) حرفين مشبهين بالفعل (أي عاملان) يحتاج كل منهما إلى اسم وخبر، وهما مبتدأ وخبر. أوليس الاسم والخبر معمولين لكل منهما، فلماذا لا يعد هذا من التنازع؟
قال جرير:
ألا ليت أنّ الظاعنين بذي الغضا



أقاموا وأن الآخرين تحملوا([96])



ففي البيت حرفان مشبهان بالفعل (ليت) و (أنّ) وكلاهما يحتاج إلى اسم وخبر، فلو حذفنا (أنّ) لتمّ المعنى لكن (أن) لا تزاد لتعتبر زائدة، فلا تنازع عندئذ، لكن كأنها تنازعت مع (ليت) على الاسم والخبر، وقي مثل هذه الحال لنا وجهان:
الأول: تقدير اسم ليت ضمير الشأن المحذوف وخبرها المصدر المؤول من أن واسمها وخبرها.
والثاني: اعتبار أن واسمها وخبرها سدت مسد اسم ليت وخبرها كما تسد مسد المفعولين، والاسم والخبر والمفعولان أصلهما مبتدأ وخبر، ويكون هذا من باب التنازع، ويكون العمل - كما يظهر - للأقرب، وقال ابن الدمينة:
فسايرته ميلين يا ليت أنني



على سخطه حتى الممات أرافقه([97])



فقد وقع في البيت حرفان مشبهان بالفعل (ليت) و (أن) وكل منهما يحتاج إلى اسم وخبر، هما في الأصل مبتدأ وخبر، ولا يتم المعنى إلا في جملة (أرافقه) التي هي خبر (أن) ولا يجوز أن تكون خبر (ليت) إلا بعد أن تصهر (ليت) مع (أن)فتكون أن واسمها وخبرها قد سدت مسد الاسم والخبر، ولو قال يا ليتني أرافقه لما كان فيه تنازع، وهذا يشبه ما تقدم من دخول (أنّ) لتفيد التوكيد، ومثله قول ابن زهير العبسي: (105)
فيا ليت أني قبل خربة خالد



ويوم زهير لم تلدنـي تماضر



3– التنازع بين فعل ناسخ (ناقص) وفعل تام:
تقدم أن العامل هو الفاعل، أو ما يشبهه، والمعلوم أن الأفعال الناقصة عوامل ما دامت أفعالاً، فهي ترفع الاسم وتنصب الخبر، وتقدم شيءٌ يسير من عمل الأفعال الناقصة، لكن اللافت أن أحداً لم يشر إلى تنازع فعلين ناقص فتام علماً بأن ثمة شواهد كثيرة تنازع فيها فعلان ناقص فتام لا العكس! ولا سيما «ليس» وربما استندوا في هذا إلى أن «ليس» إذا ما دخل على الفعل صار حرفاً نافياً ولكن هذا غير ثابت، من هنا وجدتني مضطراً للوقوف على هذا الباب مستعرضاً تنازع فعلين ناقص فتام سواءٌ كان الفعل الناقص «ليس» أم غيره.
آ - تنازع «ليس» وفعل تام:
كثرت الشواهد التي ورد فيها الفعل «ليس» متبوعاً بفعل مضارع، و قد يكون عدم اعتبارهما من باب التنازع لأن «ليس» عندهم حرف نفي، و هذا لم يقل به الجمهور، بل هي فعل لا يتصرف([98]) والقدماء قالوا يقع التنازع بين فعلين متصرفين، واعترضوا بين الكلمتين بكلمة _ غالباً _ وهذا ما يرجح التنازع بين «ليس» وفعل تام ؛ لذلك يجوز لنا أن نعدّ هذا الباب من التنازع ومن الشواهد قول أبي أذينة اللخمي:
وليس يظلمهم من راح يضربهم



بحد سيف به من قبلهم خربا([99])





[/align]
د. ماجد حسام الدين غير متصل   رد مع اقتباس