عرض مشاركة واحدة
قديم 19 / 12 / 2009, 12 : 11 AM   رقم المشاركة : [5]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
- خطاب الحكاية وافتتاحية الرّواية

ينطلق التحليل هنا من أن (الحكاية) مجموعة من الحوادث المتخيَّلة التي يسردها سارد، أو راو، متخيَّل. ولكنني لن ألتفت إلى تحليل الحدث المسرود، بل سألتفت إلى فعـل السرد نفسه على أنه خطاب ذو علاقتين : الأولى بين الخطاب والفعل الذي ينـتجه، والثانية بين الخطاب والحوادث التي يسردها. وقد نبع اختيار المنهج للخطاب السرديّ، أو خطاب الحكاية، من أن النموذج المحلَّل – وهو رواية (كريمة)(1) للدكتور مانع سعيد العتيـبة – اصطنع سارداً، ووكل إليه مهمّة الفعل السرديّ، وجعله وحده مسؤولاً عنه، دون أن يُشْرك فيه أيّاً من الشخصيات الروائية.‏

ولاشكّ في أن علاقتي الخطاب السرديّ هما اللتان سمحتا لي بتحليـل (الحكاية الروائية) بادىء الأمر، ثم تحليل العلاقة بين (الروائي والسارد)، لأخلص بعد ذلك إلى تحليل العلاقة بين (السارد والمسرود). ومن ثَمَّ كانت رواية (كريمة) نموذجاً لتحليل الفعل السرديّ، وليست مناسبة لتحليل محتوى الحوادث المسرودة .ذلك لأن هذه الرواية في المنظور المنهجي لخطاب الحكاية نصٌّ سرديّ أنتج فعلاً تخييلياً، وليست محتوى أو مضموناً صالحاً للتلخيص والتفسير.‏

والظّنُّ بأن منهجي الشكلي يسمح، في أثناء تحلـيل العلاقة بين الروائي والسارد، بتقديم وجهة نظر في السؤال الآتي : (ما علاقة مانع سعيد العتيـبة بسارد رواية كريمة ؟). وهذا السؤال ليس جديداً في النقد الروائي، ولكن طبيعة التحليل تجعلني أتشبّث بالنصّ الروائي دون أن أخرج عنه، على الرغم من المقارنة الشكلية التي أجريتها بين المستمَدّ من سيرة مانع سعيد العتيـبة والمستمَدّ من سيرة أبي يوسف الشخصية الروائية المحورية في (كريمة). فالمقارنـة لا تهدف إلى أن يتحكّم ما هو خارج النّصّ (سيرة العتيـبة) بما هو داخله، بل تهدف إلى الإفادة مما هو غير أدبيّ في تعليل الأدبيّ، وكأنّ السؤال النقديّ عن العلاقة بين الروائي والسارد موظَّف لخدمة تحليل النص الروائي السردي، وليس موظَّفاً لمجرّد معرفة الصلة بين مؤلِّف الرواية وساردها.‏

أوّلاً : الحكاية الرّوائيّة‏

ليس غريباً أن تستند رواية (كريمة) إلى حكاية ذات حدث رئيس وحوادث فرعية، بل الغريب أن تحافظ هذه الحكاية على مستوى أفقي من التوتّر الدّرامي طوال (624) صفحـة من القطع الكبير. وإذا كانت الحكاية سرداً خبرياً لحوادث مترابطة تقود إلى نهاية محدّدة، فإن المألوف في حوادث أية حكاية أن تنمو باتجاه ذروة تتشابك فيها الحوادث وتتعقّد وتتأزّم، بحيث يبلغ التوتر الدّراميّ الذي ينـتج عنها أقصى درجات الارتفاع، مما يجعله في حاجة إلى الانحدار ببطء، أو بسرعة ،حاملاً معه خواتيم الحوادث، وحلولاً لتعقيداتها، ونهاية لعلاقات الشّخصيات بها. تلك طبيعة البناء الحكائيّ : عرض فأزمة فحلّ. وهذه الطّبيعة هي العقدة في مصطلحات الرواية التقليديّة، وهي السّبيل إلى الإمساك بالقارىء من بداية الرواية إلى نهايتها.‏

بيد أنّ الحكاية الروائية في (كريمة) عافت العقدة الملازمة لطبيعة البناء الحكائيّ، وراحت تبدأ بالعرض، وتستمرّ فيه إلى نهاية الرواية، ملتزمـة في أثناء ذلك بالارتفاع إلى مجموعة من الرّوابي، بحيث توفّر الرّابية توتراً ما، ولكنّ هذا التوتر سَرْعان ما يتلاشى، ويستمرّ العرض بعده كما كان قبله دون أي تغيير .وبعد صفحات قليلة، أو كثيرة، يرتفع الحدث إلى رابية أخرى، محدثاً توتراً جديداً ،ثم زوالاً لهذا التوتر وعودة إلى العرض. وهكذا تبدو رواية (كريمة) مجموعة من التوترات المصاحبة للعرض، لا يتميّز فيها توتر من آخر، لأن التوتر لا يضيف جديداً إلى سابقه، ولا يسهم في أي تقدُّم للحدث الروائيّ، ولا يغيِّر شيئاً في الشخصيات ،وكأنّ التوترات كلّها غير موجودة.‏

ولكنّ القارىء الذي يعتقد بأن هذه التوترات ذات وظيفة فنيّة جوهرية في رواية (كريمة) لا يخدعه الشكل الحكائي الممتدّ، ومن ثَمَّ يسعى إلى تفكيك الحكاية بغية معرفة الوظيفة الفنية لهذه التوترات، وعلاقتها بالحدث الروائيّ، بعيداً عن المفهوم التقليديّ للعقدة، قريباً من المفهوم البنيويّ للحوافز الحكائيّة .‏

حوافز السّرد الحكائيّ :‏

الحوافز عوامل محرِّكة للسّرد، تدفعه إلى الأمام، وتُسوّغ حركته وابتداعه الحوادث. وحين يتمّ تفكيك السّرد في رواية (كريمة) تتضح ثلاثة حوافز مسؤولة عن استمرار العرض طوال هذا العدد الكبير من الصفحات (624 ص). أوّل هذه الحوافز وأقواها حافز الانتقام، وثانيها حافز الحبّ، وثالثها حافز الكراهية.‏

تبدأ الحكاية الروائيّة بحادث مرور يموت فيه والد كريمة، وتُصاب فيه أختها نزهة. ويتمّ التمهيد لهذا الحادث بإعجاب كريمة – وهي فتاة في الخامسة عشرة من عمرها – بأبيها، وتعلُّقها الشديد به، ومن ثَمَّ صدمتها بموته، حتى إنها لم تصدّق موته أول الأمر، ثمّ صبّت جام غضبها على الفاعل/السائق – واسمه عليّ – وقرّرت الانتقام منه ثأراً لأبيها. وحين اكتشفت أن هذا السائق (عليّ) يعمل حارساً شخصياً لرجل أعمال خليجيّ اسمه أبو يوسف، وأن نفوذ هذا الرجل أنقذ السائق من المحاكمة والعقاب، قرّرت أن يمتدّ انتقامها إليه. وحين جاء مجاهد، مدير مكتب أبي يوسف وساعده الأيمن إلى أسرة كريمة ليخفّف من وقع مصيـبتها، وينفحها مبلغاً من المال يساعدها على حياتها بعد وفاة عائلها، امتدّ الانتقام إليه هو الآخر. وهكذا شملت رغبة كريمة في الانتقام ما سمّته (عصابة أبي يوسف)، وتركّز هذا الانتقام في ثلاثة أشخاص هم : أبو يوسف ومجاهد وعليّ.‏

إنّ حافز الانتقام هو المسؤول عن الحلقات السّرديّة المتوالية في رواية كريمة. إذ إنه دفع كريمة إلى مغادرة منـزلها في بني ملال لتطلب عملاً لدى أبي يوسف في الرباط، منطلقة من أن هذا العمل سيسمح لها بالانتقام مادامت قريـبة من المسؤولين عن موت والدها. وقد تحقّـق لها ما أرادت، لأن أبا يوسف تكفّل برعاية أسرتها، فأنفق على أختها في المستشفى، وقدَّم لأمها مبلغاً كبيراً من المال، ووعد بتقديم أية مساعدة يطلبها أيّ فرد من أفراد هذه الأسرة. ومن ثَمَّ كان الانتقام حافزاً إلى العمل، أو قل إنه حفز إلى تشكيل الحلْقة السّرديّة الأولى، حلْقة دخول كريمة ساحـة المسؤولين عن موت والدها. وإذا كانت الحكاية سرداً خبرياً فإن حوادثها المترابطة تعني اتصال الحلقات السّرديّـة، بحيث تنبع اللاحقة من سابقتها، وتُمهِّد لنشوء حلْقة أخرى. وهكذا تُعبِّر الحلقات السّرديّة عن ترابط الحوادث وتُجسِّد في الوقت نفسه الحكاية التي يقدّمها السّرد. كما يُقاس تماسك الحكاية بقدرة الحلقات على الترابط المقنع للقارىء .وتوفير الإقناع عمل فنيّ جليل يحتاج إلى حوافز قادرة دائماً على دفع السّرد إلى الأمام، والمحافظة على حيويّته في أثناء حركته. ولهذا السّبب ضمّ حافز الانتقام وهو يُشكِّل الحلْقة السّرديّة الأولى توتراً ناشئاً من أن كريمة لا تستطيع التصريح برغبتها في الانتقام وهي مقبلة على طلب العمل لدى أبي يوسف، ولا تستطيع التّنصُّل من تصريحها أمام مجاهد، عقب وفاة والدها، بأنها ستنـتقم من القاتل. وقد أسهم التعديل الذي أجراه مانع سعيد العتيـبة على تصريح كريمة في إذكاء التوتر وفي جعله مقبولاً لدى مجاهد .‏

ذلك لأنّ كريمة صرّحت برغبتها في الانتقام مرّتين، مرّة أمام والدتها قائلة: (أعرف كيف أنتقم، وكيف آخذ ثأر أبي من قاتله وحتى من الذين يدافعون عن القاتل)(2). وهذا التصريح – كما هو واضح – شامل، لا يخصّ القاتل / السائق وحده، بل يشمل الذين يدافعون عنه. وهؤلاء الذين يدافعون عنه –كما سنفهم من السياق اللاحق للرواية – يقتصرون على أبي يوسف ومجاهد. ولكنّ مانع سعيد العتيـبة عدَّل هذا التصريح حين حضر مجاهد لتعزية الأسرة. ففي أثناء التعزية قابلته كريمة بالتصريح الآتي المعدَّل عن سابقه : (بل اعلم جيداً ما أقول. لا يمكن أن نقبل ثمناً لحياة أبي إلا رأس ذلك القاتل المجرم)(3) . وموطن التعديل هو تخصيص الانتقام بقصره على عليّ/السائق وحده. وهذا تخفيف من حدّة التصريح الأول ومن شموله، ولكنه تخفيف مقبول في المنطق الروائي ،لأن الانتقام معلَّل فيه مادامت كريمة المعبِّرة عنه فتاة فقدت حديثاً أباها الذي يعيل أسرتها. بل إن إعالة الأسرة هي المسوّغ الذي قدَّمته كريمة لطلبها العمل لدى أبي يوسف(4). ونستطيع أن نلاحظ أن موافقة أبي يوسف على عمل كريمة لديه أزال التوتر، وشكَّل نهاية الحلْقة السّرديّة الأولى، وزرع الحاجة إلى حافز إضافيّ.‏

يُوسِّع حافز الحبّ الدّائرة التي يتحرّك فيها الانتقام. فأبو يوسف يقبع في الوسط وحوله دائرتا حبّ تتجاذبانه، حبّ الأميرة زوجته، وحبّ سلمى عشيقته. وحين يوافق على عمل كريمة لديه يُنْشِىء دائرة حبّ ثالثة تقبع فيها كريمة. وتُشكِّل الدّوائر الثلاث الحلْقة السّرديّة الثّانية في الرواية، وهي حلْقة ممتدّة لأن حافز الحبّ فيها دائم الانتقال من دائرة إلى أخرى.‏

أمّا دائرة كريمة فتبقى أول الأمر بعيدة عن الفعل المنظور، هامشيّة لا يعيرها أبو يوسف اهتمامه. وهذا واضح من مخاطبته عليّاً (السائق) بعد موافقته على عمل كريمة لديه وملاحظته تجهُّم وجه عليّ تعبيراً عن خشيته منها، فقال له : (اسمع يا عليّ. البنت طيبة، ولا يمكنها أن تشكل أي تهديد لك، ونحن بطريقة أو بأخرى مسؤولون عن تأمين حياة هذه الأسرة بعد أن غاب عنها عائلها. وأن تظل هذه البنت في رعايتنا أفضل بكثير من تركها تتسكع في الطرقات وتتعـرض لمختلف الأخطار والأضرار خاصة وأنها جميلة كما يقول مجاهد. وقد يجر عليها جمالها الكثير من المتاعب)(5) .‏

ينمّ هذا الخطاب الذي جرى قبل رؤية أبي يوسف كريمة على أن التوتر الذي صاحب التهديد الذي صرّحت به كريمة أمام مجاهد قد تلاشى نهائياً، وحلَّ محلَّه اعتقادٌ بأن الفتاة طيـّبة لا يمكن أن تُشكِّل أيّ تهديد لعليّ تبعاً لصغر سنّها. كما يُعبِّر الخطاب نفسه عن هامشيّة كريمة في بداية الحلْقة السّرديّة الثّانية. وقد انطلقت كريمة من هذه الهامشية، بل إنها كانت تدرك أنها لا تستطيع إعلان رغبتها في الانتقام مادامت هامشيّة. ولهذا السّبب جعلت الحبّ قناعاً للانتقام، ووجَّهته إلى أبي يوسف،وبدأت تعمل بتأن وروية لإيقاع أبي يوسف في حبائلها بعد إيهامه بحبّها له. وهكذا شرع حافز الحبّ يوجِّه سلوكاتها الروائية، ويجعلها تفيد من ذكائها وجمالها.‏

ولا تختلف دائرتا سلمى والأميرة عن دائرة كريمة في أن حافز الحبّ يُوجِّه سلوكات القابعين فيهما، وهم أبو يوسف والأميرة وسلمى. ولكنّ الروايـة لا تعرض بداية علاقة الحبّ ولا تطوّراتها، بل تعرض خواتيمها المتمثّلة في انصراف أبي يوسف إلى عشيقته سلمى وإهماله زوجته، وفي محاولة سلمى الزّواج منه بادّعاء حملها وخوفها من الفضيحة. والواضح أن الرواية اختارت خواتيم العلاقة في هاتين الدّائرتين لتُعجِّل في قيادة دائرة كريمة إلى صدارة الحدث الروائيّ. ومن ثَمَّ أعلنت التنافس الحادّ بين الأميرة وسلمى على أبي يوسف، وغضب الأميرة من زوجها أبي يوسف لإهماله لها، واقتراب سلمى من النجاح في الزّواج من أبي يوسف لأنه راغب في الاحتفاظ بطفله منها. ههنا يبرز الحافز الثّالث، حافز الكراهية ليفضح ادّعاء سلمى بالحمل، وخيانتها أبا يوسف مع عشيقها (محمود)، ثمّ استبعاد دائرتها، وعودة الصّفاء إلى علاقة أبي يوسف بزوجته الأميرة، واكتمال الحلْقة السّرديّة الثانية.‏

تبدأ الحلْقة السّرديّة الثّالثة، وهي الأخيرة في الرواية، ببروز دائرة كريمة وهي تضمّ الحوافز الثلاثة معاً : الانتقام والحبّ والكراهية. أمّا الانتقام فهو الهدف المستتر الذي يـبقى طيّ الكتمان إلا في النجوى الذّاتيّة لكريمة وفي أثناء تدوينها مذكّراتها. وأمّا الحبّ والكراهية فقد جسّدتهما الرواية في صورتين: صورة معلنة، بدأت بمحاولة كريمة إغراء أبي يوسف، وانتهت بإيمان أبي يوسف بأنه يحبّ كريمة ويرغب في الزّواج منها وإنْ كانت صغيرة. وصورة ثانية هي ازدواجيّة شخصيّة كريمة، إذ تشعر حيناً بأنها تحبّ أبا يوسف، وتشعر حيناً آخر بأنها تكرهه. وتعلّل الرواية هذه الازدواجيّة بأن كريمة أحبّت أبا يوسف لأنها لم تر في سلوكه ما يدلّ على صدق ظنّها السيّىء فيه، وبأنها كرهته لأنه أنقذ علياً (السائق) من العقاب. وعلى الرغم من أن غالبية الرواية انصرفت إلى الحلْقة السّرديّة الثّالثة، وكانت الحوافز الثلاثة توجِّه سلوك كريمة فيها، وتعلن محاولاتها الإيقاع بين الناس المحيطين بأبي يوسف ، إضافة إلى زيادة الشّكوك لدى مجاهد وعليّ في نيّاتها، فإن التوترات كانت تنمو ثمّ تخبو دون أن تُخلِّف أثراً، لأنها غير مصحوبة بفعل يجسِّد الانتقام والكراهية، أو فعل يلغيهما ويعلن الحبّ الحقيقيّ.‏

من ذلك محاولة كريمة دسّ بعض المساحيق التي حصلت عليها من إحدى السّاحرات في طعام أبي يوسف(6) ، مما جعله يحسّ بالاختناق، ويضطر إلى السّفر إلى الولايات المتحدة للعلاج بعد عجز الأطباء عن معرفة سبب‏

اختناقه(7). فقد صحب هذه المحاولةَ توترٌ شديدٌ يجعل القارىء يعتقد بأن كريمة شرعت تنجح في الانتقام من أبي يوسف، أو بأن محاولتها ستنكشف بعد شكّ مجاهد في أنها دسّت سمّاً لأبي يوسف في الطعام(8)، ولكنّ هذا التوتر سَرْعان ما تلاشى ولم يبق منه أثر، وكأنّ حَدَثَ دسِّ السّمّ عرضيّ في الرواية لا يستحقّ أن يشكّل أزمة فيها. تلك أيضاً حال محاولات كريمة زرع الشّكّ في نفس زوج سلمى بعد ابتعاد سلمى عن أبي يوسف واستقرار حياتها الزوجية، وتحريضها الأميرة على الشّكّ في زوجها، واتصالها بزوجة مجاهد للغاية نفسها، إضافة إلى محاولتيها المباشرتين الانحراف بسيارتي مجاهد وعليّ. فقد كان التوتر ينشأ إثر كلّ محاولة من هذه المحاولات، ولكنّ أثره يتلاشى لتستمرّ الرواية بعده كما كانت قبله. وهذا يعني أن التوترات لم تُوظَّف لإنهاء قضية الانتقام في الرواية، بل وُظِّفت لإحيائها كلّما خبت وابتعد السياق الروائيّ عنها. وكأنّ مانع سعيد العتيـبة راغب في أن يستمرّ عرض الحوادث إلى نهاية الرواية، ولكنه يعلم أن الاستمرار في هذا العرض يحتاج إلى منشِّطات روائية ، بحيث يبقى القارىء يتذكّر أن حافز الانتقام هو الدّافع الأساسيّ للحوادث، وأن إنهاءه سيعني إنهاء الرواية. ولهذا السّبب ختم الرواية باقتراب كريمة من النجاح في دسّ السّمّ لأبي يوسف ومجاهد وعليّ، وعدولها عن هذه المحاولة، وتخلّيها عن الانتقام نهائياً، وعودتها إلى أهلها وحياتها الطبيعيّة، بعد اكتشافها أن حادث المرور يمكن أن يقع دون قصد من سائق السّيّارة، وبأن علياً الذي افتداها بنفسه بعد دعسها الرجل في الشارع دون قصد منها لم ينو دعس أبيها، أو يرغب في ذلك. ومن ثَمَّ زال مسوّغ انتقامها منه، كما زال مسوّغ انتقامها من أبي يوسف ومجاهد اللذين دافعا عن عليّ، وأبعدا العقاب عنه لإيمانهما بأن حادث السيّارة قضاء وقدر. ولابدَّ من أن تنتهي الحكاية الروائية بزوال المسوّغ الذي ابتدع حلقاتها وربط بين حوادثها .‏

ثانياً : الرّوائيّ والسّارد‏

اهتمَّ نقّاد السرديّات ،ولاسيّما البنيويون ،بالعلاقة بين الروائي (مؤلِّف الرواية) والسّارد (الذي يتولّى مهمّة سرد الحكاية داخل الرواية). ونتج عن هذا الاهتمام اجتهادات كثيرة، ومناقشات مستفيضة، ذهب بعضها إلى موت المؤلِّف (بارت) ومسؤولية السارد عن الرواية كلّها. واعترف بعضها الآخر (تودوروف) بالمؤلِّف وسمّاه المؤلِّف الضمني، وخصَّ السارد بمهمّة تقديم الحكاية، أو سردها على المسرود له. ودمج بعض ثالث (جنيت) بين المؤلِّف والسارد ،فعدَّ المؤلِّف صاحب الرواية، وعدَّ السارد شريكاً له فيها. وما من شكّ في أن هذه الاجتهادات وغيرها أسهمت في ترسيخ مفهومات سردية جديدة، وحفزت على مناقشتها(9). بيد أن القضيـة، في أثناء تحليل النصوص الروائيـة، لا تكمن في الانحياز إلى اجتهاد من هذه الاجتهادات (الغربية مولداً ونشأةً)، ولا في تلفيقها، أي الجمع بينها، بغية الإفادة منها كلّها، بل تكمن في طبيعة النصّ المحلَّل، وفي قدرة المحلِّل على تفكيكه وإعادة تركيبه بعد تمثُّله المفهومات السردية.‏

ولاشكّ عندي في أن الروائي هو الذي يبدع روايته، ولكن طبيعـة الإبداع السردي التخييلية تدفعه إلى بناء مجتمع روائي يُوهِم بالمجتمع الخارجي الحقيقي، وتجبره على ألا يُحرِّك هذا المجتمع بنفسه ،بل يتركه للسارد ليتصرَّف فيه كما يشاء الروائي، مما يجعل السارد جزءاً من اللعبة الروائية التخييلية، ويُحدِّد مستوى الرواية الفنيّ تبعاً للمكان الذي وضع فيه الروائي سارده، واستناداً إلى قدرة هذا المكان على الإيهام باختفاء الروائي وبمحدودية عِلْم السارد.‏

يمكنني القول، بعد هذا كلّه، إن الروائي مانع سعيد العتيـبة لا يختلف عن الروائيين العرب الآخرين في أنه لم يرغب في إدارة دفّة روايته (كريمة) بشكل مباشر، ومن ثَمَّ اصطنع بوساطة اللغة سارداً ذا مهمّة محدّدة، هي تنظيم تقديم الحكاية الروائية للقارىء. وهـذا السارد جزء من اللعبة الروائية التخييلية، ولكنه ليس جزءاً من الحكاية الروائية. والمشكلة الرئيسة التي سأتحدّث عنها في الفقرة القابلة هي علاقة هذا السارد بالمسرود، أي الحكاية الروائية التي انتدب مانع سعيد العتيـبة السارد لتقديمها للقارىء. وسأسعى ههنا إلى تقديم وجهة نظر في قدرة مانع سعيد العتيـبة على الاختفاء وراء السارد الذي ابتدعه، بغية التمهيد للحديث القابل الذي سيتكفَّل بالإشارة إلى مدى عِلْم السارد.‏

لا يغيب عن قارىء رواية (كريمة) أن شخصية أبي يوسف هي البؤرة المحورية للرواية كلّها، على الرغم من أن عنوان الرواية (كريمة) يوحي بأن البؤرة المحورية هي كريمة. ولستُ، ههنا، في معرض تحليل الشخصيات الروائية، ولكنني ما أفتأ أعتقد بأن إبعاد أبي يوسف عن عنوان الرواية، وهو بؤرتها، لا يعني شيئاً غير محاولة مانع سعيد العتيـبة الاختفاء وراء السارد الذي يروي حكاية انتقام كريمة. ولا يتحقّق هذا الاختفاء لو حملت الروايـة عنواناً يدلّ على أبي يوسف، تبعاً للتشابه بين الروائي (مانع) وشخصية أبي يوسف. والظن بأن هناك تشابهاً شكلياً وآخر فلسفياً بين مانع وأبي يوسف .أما التشابه الشكلي فيوضِّحه التطابق في الجدول الآتي بين أبي يوسف والمعروف من سيرة مانع العتيـبة :‏

أبو يوسف مانع‏

1-خليجي 1-خليجي‏

2-من دولة الإمارات 2-من دولة الإمارات‏

3-غني 3-غني‏

4-شاعر 4-شاعر‏

5-ذو صلة قويّة بالمغرب 5-ذو صلة قويّة بالمغرب‏

يشير الجدول السابق إلى التطابق بين مانع وأبي يوسف، فكلٌّ منهما خليجيّ شاعر ذو صلة قويّة بالمغرب. وهذا التطابق الشكلي ليس مستمداً من إشارات سريعة، كما هي حال الإشارتين في ص 573 وص 617 إلى أن أبا يوسف من دولة الإمارات. أو من إشارات مضمونية متأنية، كما هي حال اهتمام أبي يوسف بالشعر إبداعاً وروايةً، إذ قدَّم في الرواية خمسة وسبعين بيتاً من إبداعه في الشعر الفصيح(10) ، وبيتين من الشعر النبطي(11)، وروى خمسة أبيات لشعراء آخرين(12) .أو حال دولة المغرب التي تدور فيها الحوادث الروائية، فحسب. بل إن التطابق الشكلي مستمدّ أيضاً من خارج رواية كريمة. إذ إن مانع سعيد العتيـبة أصدر عدداً كبيراً من دواوين الشعر، ولديه عادة في هذه الدواوين هي تدوين اسم المكان الذي ألَّف فيه القصيدة، وتاريخ تأليفـه لهـا. وقد راجعتُ ديوان (ضياع اليقين)(13) ،وهو الديوان التاسع عشر للشاعر العتيـبة، بغية تتبُّع أسماء الأمكنـة والتواريخ الخاصة بقصائد الديوان، وهي أربع وعشرون قصيدة. فلاحظتُ أن عشر قصائد أُلِّفت في الرباط وغنـتوت، خمس في الرباط(14)، وخمس في غنـتوت(15) (قرب تطوان). وهذا يدلّ على صلة العتيـبة القوية بالمغرب، وإنْ كانت تواريخ إبداع هذه القصائد تدلّ على الأمر نفسه على نحو أكثر عمقاً. فالقصائد مؤرَّخة في :‏

1 /2 /1987 - 13/3/1987 - 8 /5 /1987 - 28/7/1987‏

8 /9 /1987 - 9 /9 /1987 - 10/9/1987 - 25/12/1987‏

- 8 /1 /1988 - 11/3/1988‏

تدلّ التواريخ على أن العتيـبة حلَّ في المغرب في الشهر الثاني والثالث والخامس والسابع والتاسع والثاني عشر من عام 1987، وفي الشهرين الأول والثالث من عام 1988، وأن وجوده في المغرب لم يكن عابراً، لا يسمح له بالاستقرار الكافي لإبداع قصيدة، بل كان وجوداً يتمتّع بشيء من الاستقرار الزمني والنفسي بحيث يتمكّن من الإبداع الشعري. وهذا كلّه يعني أن صلته بالمغرب كانت قوية متكرّرة راسخة، وهي الصلة نفسها التي رأيناها في سارد رواية (كريمة) ،إذ كانت إشاراته وأوصافه للأمكنة في المغرب تدلّ دلالة واضحة على أنه لا يعرف المغرب معرفة زائر أو سائح، بل معرفة خبير مدقّق. ولاشكّ في أن معرفة العتيـبة بالأمكنة المغربية تسرَّبت إلى رواية (كريمة) بوساطة السارد الذي فضح نيابته عن الروائي العتيـبة باستخدامه معارف الروائـي الذي يختفي وراءه. ولو اختير عنوان (أبي يوسف) للرواية لافتُضح أمر المختفي ،وابتدأ خيط جديد من التحليل يتعلّق بالرواية السيريّة، أو الرواية التي تضمّ قدراً من سيرة صاحبها ،كما هي حال الروايات الأولى للروائيين في الغالب الأعم.‏

أما التشابه الفلسفي بين الروائي (مانع) وأبي يوسف فواضح من رؤيا كلٍّ منهما للعالم. فأبو يوسف شخصية روائية لا تتصف بكتابة الشعر فحسب، بل تملك رؤيا الشاعر للعالم، وهي رؤيا تنطلق من أن الإنسان خيِّر، يستحقّ أن يعيش بأمان بعيداً عـن الظلم وضرورات الحياة المادية، حالم بالحب والحنان، لا يتنصّل من مسؤولياته، ولا يكفّ عن مساعدة الآخرين. وتطيف بهذه الرؤيا مكوِّنات رومانسية عامة في رواية (كريمة)، كالبكاء والموت والانتقام والكراهية والغيرة والمبالغة والانصراف إلى علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل والعفو والتسامح وما إلى ذلك. تلك أيضاً رؤيا سعيد مانع العتيـبة الشاعر كما تُعبِّر عنها دواوينه، وإنْ لبست – إضافة إلى ما سبق – اللبوس القومي العربي، وتخلّت عن بعض المكوّنات الرومانسية المبثوثة في رواية (كريمة). ولعلّ دراسة مستقلّة عن رؤيا العتيـبة تضفي مزيداً من التحديد على قضية التطابق الفلسفي بين رؤيا الشاعر ورؤيا الشخصية الروائية، وتفضح الروائي المختفي وراء السارد في حال اعتماد (أبي يوسف) عنواناً للرواية.‏

إن العلاقة بين الروائي والسارد حتمية، ولكنها علاقة إبداعية تخضع لشروط الإبداع الروائي وإجراءاته. وقد حرص مانع سعيد العتيـبة على أن يُبْعِد القارىء عن التشابه بينه وبين شخصية أبي يوسف، باختيار كريمة عنواناً للرواية. بيد أن تفكيك نص الرواية يحيل إلى أن الرغبة شيء وتجسيدها شيء آخر، ومن ثَمَّ يفتح كوّة الرواية السيرية، ويزرع الصوى أمام ملامحها في رواية (كريمة).‏

ثالثاً : السّارد والمسرود‏

تبدو العلاقة بين السارد والمسرود في رواية (كريمة) واضحة أول وهلة. ولكن إنعام النظر فيها يشير إلى أنها شائكة، أو أقرب إلى أن تكون ملتبسة، كما هي حالها دائماً في السرد الروائي التقليدي. ذلك لأن السارد في رواية (كريمة) اتخذ وضعية السارد العالم بكل شيء. وهذا السارد هو صاحب الرؤيا من خلف بحسب مصطلح بويون، والرؤيا غير المبأّرة، أو التبئير في درجة الصفر، بحسب مصطلح جنيت(16) . بيد أن تودوروف اهتم به أيضاً، وحرص على توضيح طبيعته التي تبدو مقبولة في أثناء تحليل رواية (كريمة) .فهو يعدُّ هذا السارد أكثر علماً من الشخصية الروائية، بل إنه يقول أكثر مما تعلمه هذه الشخصية. وقد دلّتني تجربة تحليل النصوص الروائيـة على أن هذا السارد العالم بكلّ شيء مراوغ، لا يخلص لطبيعته وحدها، بل يتلوّن أحياناً فيبدو سارداً مساوياً في علمه لما تعلمه الشخصية، ويـبدو في أحايين أخرى أقلّ علماً مما تعلمه الشخصية. ويخيَّل إليَّ أن السارد في رواية (كريمة) مراوغ جداً، لا يكتفي بالتلوُّن، بل يسعى إلى أن يشمل علمه الشخصيات الروائية كلّها، سواء أكانت رئيسة (كريمة – أبو يوسف – مجاهد) أم ثانوية (الأميرة – سلمى – علي …). ولاشكّ في أن المسرود تأثّر بهذا التلوُّن، فبدت الحكاية الروائية المسرودة متلوّنة بألوانه، ومتّصفة بصفاته، ومتأثّرة بطبيعته. ومن المفيد توضيح هذا الأمر انطلاقاً من المقطع الروائي الآتي :‏

(رغم كل ساعات العمل الطويلة التي كان يقضيها أبو يوسف سواء في مقر الشركة أو في المنشآت نفسها .. إلا أنه كان دائم الابتسام والرضا .. يذكر التعب ويتظاهر بالارتياح. وكانت كريمة مواكبة لهذا التطور الجديد الذي حدث ومساهمة إلى حد ما في جعل ساعات الراحة لأبي يوسف أشبه ما يكون بالمهرجان .. سواء بتنوع المشروبات التي تعدّها أو الوجبات التي تطلب من الطباخ أن يجهزها .. ولكنها بدأت تلاحظ أن أبا يوسف لم يعد ذلـك المهتم بها والمتأثر بجمالها .. وهي ترفض بكل تأكيد أن ينظر إليها كخادمة أو جارية. إنها كريمة عبد الرحمن التي يجب أن تحمل اسمه وتصبح زوجته ثم بعد ذلك تقوم بتدميره انتقاماً لأبيها .. ولم تتورع وهي تحاول إيقاعـه في مصيدتها من الظهور أمامه بملابس النوم الشفافة .. بل وأحياناً بملابسها الداخلية حينما كانت تترك باب غرفتها مفتوحاً بحيث لا مفر لديه من رؤيتها وهو يصعد إلى غرفته المجاورة أو ينـزل منها. كانت كريمـة تدرك خطورة سلاح الإغراء على أبي يوسف .. وتعرف أيضاً أنها سيدة هذا السلاح الأولى.. فهي ذات جسم رياضي متناسق .. وأنوثتها لا تقاوم .. وتعجبت كيف لم تستطع رغم مرور أكثر من سنة على معرفتها بالرجل من الإيقاع به. صحيح أنه مصر على النظر إليها بعين الأب، ولكنها لم تفهم كيف يبقى على إصراره وهي تصارحه بأنه لن يكون أباً ولن تكون هي ابنته …)(17) .‏

يدلّ المقطع السابق على أن السارد انتقل من أبي يوسف إلى كريمة، وآثر في خواتيم المقطع أن يمزج بينهما. وما فعله السارد في هذا المقطع يمكن عدُّه نموذجاً لما فعله في الرواية كلّها. فهو غير راغب في التّستُّر وراء إحدى الشخصيات الرئيسة الثلاث (أبو يوسف – كريمة – مجاهد)، بغية سرد الحوادث من وجهة نظرها، بل هو راغب في الانتقال من شخصية إلى أخرى لينقل للقارىء وجهات نظر الشخصيات جميعها في الحدث الروائي. وهذا الانتقال حدَّد علاقته بالحكاية المسرودة، إذ بدا مشرفاً مسيطراً على تنظيم تقديمها للقارىء، يحجب منها ما يرغب في تأخيره وإخفائه، ويُقدِّم منها ما يرى وجوب تقديمه. ولهذا السبب لم ير في المقطع السابق أية ضرورة لتفصيل القول في ساعات العمل الطويلة التي قضاها أبو يوسف في شركته ومنشآته، لأن هذا التفصيل لا يخدم الحكاية الروائية، تبعاً لدورانه حول جانب العمل عند أبي يوسف، وهو جانب لا تلتفت إليه رؤيا رواية (كريمة)، على الرغم من إشاراتها الكثـيرة إلى أهمية مشروعه في المغرب، وترجُّح هذا المشروع بين الربح والخسارة، وإسهام أبي يوسف ومجاهد وغيرهما في الحديث عنه وإعلان الاهتمام به. ذلك لأن الروايـة مهتمّة برصد جوانب العلاقات العاطفية والإنسانية والأدبية عند أبي يوسف ليس غير، وما الإشارات الغزيرة إلى العمل إلا المسوّغ الروائي لوجود أبي يوسف في المغرب بعيداً عن وطنه الإمارات(18). ولهذا كلّـه قدَّم الساردُ المسرودَ في بداية المقطع في هيئة (التلخيص)، تلخيص ساعات العمل الطويلة المرهقة في عبارة واحدة. ولعلّ هذا التلخيص خدم غرض السارد في منح أبي يوسف صفة جديدة فوق صفاته الروائية، هي صبره على العمل الطويل دون أن يشعر الآخرون المحيطون به بإرهاقه وقدرته على أن يُبْعِدهم عن تعبه الخاص بإظهار الارتياح، نقيض التعب.‏

ثم إن هذا التلخيص خدم السارد في شيء آخر له علاقة أساسية بالحكاية المسرودة، هو موقف كريمة من انصراف أبي يوسف إلى العمل ساعات طويلة بغية إنقاذ شركته ومنشآتـه. ولهذا السبب انتقل إلى كريمة مباشرة، وراح ينص على أنها واكبت انصراف أبي يوسف إلى العمل، من خلال تأمينها الطعام والمشروبات له عندما كان يعود إلى (فيلا الراحة). بيد أن هذه المواكبة ليست غير محاولة شكلية من محاولات شكلية كثيرة في الحكاية المسرودة للتقرُّب من أبي يوسف، في حين كانت محاولاتها الجوهرية تكمن في إيقاعه في حبائل جسدها، بغية السيطرة عليه ثم الانتقام منه. وهذا هو مسوّغ انتقال السارد بسرعة من المحاولة الشكلية لتأمين الطعام والشراب لأبي يوسف إلى المحاولة الجوهرية وهي إيقاعه في حبائل جسد كريمة. ولاشكّ في أن حديث السارد، في المقطع السابق، عمّا فعلته كريمة للإيقاع بأبي يوسف يتسم بالحرص على التفصيلات والأمثلة والنـتائج ،حتى إذا انتهى ذلك كله أعلن السارد استمرار المشكلة الروائية، وهي بقاء أبي يوسف ينظر إلى كريمة نظرة أب، وبقاء كريمة ترفض هذه النظرة منه. ومن البديهي القول إن المزج في آخر المقطع خدم الحكاية المسرودة، فأبقاها في حاجة إلى الاندفاع إلى الأمام، وأبقى السارد مستمراً في تنظيم تقديمها للقارىء.‏

بيد أن علاقة السارد بالمسرود في المقطع السابق لا تقتصر على الانتقال من شخصية إلى أخرى، بغية السيطرة على المسرود، وتقديمه للقارىء بحسب الهدف الروائي … بل تمتدّ إلى أن هذا السارد يعلم الحركة الداخلية للشخصيات التي يتنقَّل بينها، ولا يكتفي بمعرفة حركتها الخارجية. ومن ثَمَّ برزت في المسرود ألفاظ تدلّ على دخيلـة شخصيتي أبي يوسف وكريمة، وهي :‏

أبو يوسف : يتظاهر – مصرٌّ على .‏

كريمــة : تلاحظ – ترفض – تدرك – تعرف – تعجبت – لم تفهم.‏

تشير الألفاظ السابقة – وهي أفعال في الغالب الأعم – إلى أن السارد لم يكتف بالحلول في دخيلة أبي يوسف، أو كريمة، بل حلَّ في دخيلة الشخصيتين معاً ،وكان في أثناء حركته الخارجية بينهما يلج إلى دخيلتهما بالتناوب ،ويعرض ما يتظاهران به، أو ما يلاحظانه، أو يعرفانه، أو يفهمانه … دون أن يترك لهما فرصة التعبير عن ذلك بأنفسهما في المقطع. وهذا ديدنه أيضاً في الحكاية الروائية كلّها، مما يعني أن علمه أكبر من علم شخصياته منفردةً ومجتمعةً ،وأنه مسيطر على حركتها الخارجية والداخلية، معبِّر عن وجهات نظرها بلغته نفسها، وهي لغة غير قادرة، بداهةً، على أن تمنح الشخصيات تمايزاً أسلوبياً في المسرود.‏

وما من شكّ في أن سيطرة السارد على المسرود في رواية (كريمة) تُعبِّر عن شكل من أشكال الرواية العربية التقليدية مازال سائداً رائجاً، تبعاً لإيمانه بأن الرواية ليست شيئاً غير الحكاية التي تروي خبراً مفصَّلاً عن شيء محدَّد، وأن الشخصيات التي تنهض بهذه الحكاية تتمايز بصفاتها وأنواعها ليس غير، وتخضع فيما عدا ذلك لهدف الرواية ومغزاها، وتتحرّك داخل الحكايـة بإرادة السارد، فتبدو دمى أو أشبه بالدمى بين يدي سارد صارم. ويبدو المسرود في هيئته العامـة حكاية أفكار وليس حكاية أفعال، لأن الشخصيات تتكلّم ولا تفعل ،وحين ينتهي كلامها ينتقل السارد بها إلى موقف آخر لتتكلّم من جديد، أو يهملها لينـتقل إلى شخصية أخرى كان أهملها، فيجعلها تنطق وتحاور الآخرين … وهكذا بدا المسرود في رواية (كريمة) في حاجة إلى شيء من الحرية الفنية، بحيث يبدو فعل الشخصية نابعاً من آرائها ومواقفها ودخيلتها ونظرتها إلى الحياة، وتبدو لغتها، تبعاً لذلك، خاصة بها وحدها، معبِّرة عن مستواها الفكري، عاملة على تمييزها من الشخصيات الأخرى.‏

افتتاحية الرواية :‏

تُقاس افتتاحيّة الرواية استناداً إلى وظيفتها، وهي إدخال القارىء عالم الرواية التخييلي بأبعاده كلها، من خلال تقديم الخلفيّة العامة لهذا العالم والخلفيّة الخاصّة بكل شخصية ليستطيع ربط الخيوط والأحداث التي ستُنسج بعدُ(19). وهذا يعني أن الافتتاحيّة وحدة وظيفيّة أساسيّة من وحدات الرواية، تُمهِّد لما سيأتي بعدها وتفعل فعلها فيه، فضلاً عن أنها تُقدِّم للقارىء المسوغات التخييليّة للحوادث اللاحقة في المجتمع الروائي. وتشير الروايات ذات البناء المتماسك إلى أن الاكتفاء بفقرة صغيرة في عدد قليل من الأسطر لا يستطيع تجسيد وظيفة الافتتاحيّة، ما يعني أن الافتتاحيّة تحتاج إلى شيء من التفصيل يتيح للروائي فرصة بناء نص ذي وحدة وظيفيّة أساسيّة. فافتتاحيّة (بين القصرين) لنجيب محفوظ بلغت تسعاً ومائة صفحة في خمسة عشر فصلاً(20)، في حـين اكتفى فلوبير في (مدام بوفاري) بأربعين صفحة. وإذا كان هذا كله يدلُّ على أن افتتاحيّة الرواية ليست واحدة في الروايات وإن كانت لها وظيفة مشتركة، فإنه يُشجِّع على تعرُّف أساليب الروائيين العرب في بناء الافتتاحيّة الروائيّة. وسأحلِّل هنا افتتاحية الرواية في ثلاثة نصوص لعبد الكريم ناصيف ونص واحد لكوليت خوري ؛ لأنها نموذجات فنية تستحق إنعام النظر.‏

يمكنني القول، بادىء الأمر، إن الطابع العام لروايات عبد الكريم ناصيف طابع رمزيّ، يتيح للمناهج النقدية المعنيّة بالتأويل فرصاً ذهبيّة لتفسير دلالاتها ومعرفة صلاتها بالواقع العربيّ. ولكنّ هذا الطابع لا يمنع من تحليل هذه الروايات من وجهة نظر المنهج البنيويّ ،بعيداً عن أي تأويل أو ربط للنصوص بمرجع خارجيّ. صحيح أن هذا المنهج لا يخدم الناقد الولوع بأحكام القيمة وبالوظيفة الاجتماعيّة التربويّة للنص الروائيّ، ولكنّ الصحيح أيضاً أنه يصف بناء الرواية، ويخدم القارىء في تعرُّف أدبيّتها. ولا تشكو روايات عبد الكريم ناصيف من القدرة على مواجهة المنهج البنيويّ، بل إن الناقد البنيويّ سيلاحظ فيها تدقيقاً ينم على أن صاحبها معني أساساً ببناء رواية فنية، وأن الرمز لديه ليس بديلاً من الواقع أو خشية من تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقيّة، بل هو سعي فني إلى تخليص هذا الواقع من آنيته والارتقاء به إلى عالم التخيُّل، ذلك العالم القادر على التعبير عن جوهر الواقع وآلية حركته. ولا أشكّ في أن تحليل الافتتاحية في روايات ناصيف يؤكد هذا الأمر، ويعزِّز اهتمام النقد العربيّ بهذه الافتتاحيّة(21)، وينبّه على أنها وحدة وظيفيّة رئيسة في النصوص الروائيّة المعترف بجودتها. فما أمر هذه الافتتاحيّة في ثلاث روايات لعبد الكريم ناصيف هي: البحث عن نجم القطب(22)، المد والجزر _ الصعود(23)، المخطوفون(24) ؟.‏

حرص عبد الكريم ناصيف في رواياتـه الثلاث على أن تقتصر الافتتاحيّـة على الفصل الأول من الرواية، مع اختلاف واضح في عدد صفحات كل فصل.‏

ففي : البحث عن نجم القطب استغرقت الافتتاحيّة اثنتين وعشرين صفحة‏

وفي : الصعود استغرقت الافتتاحيّة ثماني عشرة صفحة‏

وفي : المخطوفون استغرقت الافتتاحيّة ثلاثاً وثلاثين صفحة‏

فإذا تذكَّرنا تواريخ انتهاء عبد الكريم ناصيف من كتابة رواياته الثلاث (البحث عن نجم القطب : 1980، الصعود : 1985، المخطوفون : 1987)، لاحظنا ذلك الميل إلى إطالة الافتتاحية داخل الفصل الأول من الرواية. والسؤال هنا : ما مسوِّغات إطالة هذه الافتتاحية ؟. أزعم أن هذه الإطالة نابعة من الحاجة الفنية إلى جعل الافتتاحيّة وحدة وظيفيّة أساسيّة في الرواية .‏

ذلك أن نقاد الرواية والعاملين في الحكايات الشعبيّة والأساطير(25) لاحظوا أن النصوص التي حلّلوها تتشبَّث بعدد من الوحدات الوظيفيّة الأساسيّة والفرعيّة. و( كلمة " وظيفيّة " تشير هنا إلى وظيفة هذه الوحدات على نحو مباشر في إطار بناء العمل)(26)، دون أن يكون القصد من التحليل الانتهاء إلى أن (لكل عمل أدبي وحداته المستقلّة عن الأعمال الأدبيـة الأخرى)(27)، بل القصد هو (الوصول إلى وحدات وظيفية أساسية يمكن استخدامها في تحليل الأعمال الأدبية قديمها وحديثها على السواء)(28). وقد اجتهد البنيويون في هذا الاتجاه ،وانتهوا إلى أن العمل القصصي يضمُّ أربع وحدات وظيفيّة، هي : الخروج والعقد والاختبار والانفصال عن المجتمع والاتصال به(29). ويهمني القـول هنا إن وحدة الخروج تبرز بجلاء في افتتاحية الرواية الجيِّدة، وتغيم أو تتلاشى في الروايات الضعيفة. وكنتُ لاحظتُ ذلك في أثناء تحليلي رواية (المتألق) لعبد النبي حجازي، كما لاحظته سيزا قاسم ونبيلة إبراهيم في الثلاثية وحضرة المحترم لنجيب محفوظ. ويمكنني ترسيخ هذه الملاحظة إذا قلتُ إن عبد الكريم ناصيف عُني بوحدة الخروج في رواياته الثلاث.‏

ففي رواية (البحث عن نجم القطب) ثلاث شخصيات رئيسة، تبرز كلها في الافتتاحيّة راغبة في الخروج من أسر المرحلة السابقة إلى رحاب مرحلة جديدة. فراضي بن طالب الغفران خرج من مرحلة الفقر والكفاح، وتاج الملك خرجت من مرحلة الحريم، وأبو صفوان خرج من مرحلة الصراع بين الإبقاء على زوجه القديمة التي شاركته أيام الفقر والزواج من أخرى تلائم حياة الغنى والرفاه. تتباين الأسباب والخروج واحد تعرضه الكلمات الأولى في الافتتاحية : (لم يعد ثمة ما يخيـف. المستقبل مشرق زاه، السماء تفتح أبوابها على مصاريعها)(30).‏

وفي رواية (الصعود) شخصية رئيسة هي حاتم سعد الدين، تخرج في الافتتاحية من الحياة المدنيّة إلى الحياة العسكريّة، كما تخرج من دفء المنـزل ورعاية الأم إلى مشكلات الحياة السياسية والعسكريـة. ويخرج أدهم وخلدون والحزب من مرحلة الاضطراب إلى مرحلة الانقلاب، وتخرج الأم من مرحلة الاعتماد على ابنها حاتم إلى مرحلة الاعتماد على نفسها.‏

وتتعدَّد شخصيات رواية (المخطوفون)، لكنّها كلها تخرج مـن مدنها وقراها إلى الشاطـىء الآخر. فقبطان السفينة ومساعده رستم يخرجان من مرحلة الحِلِّ والتَّرْحال حالمين بالشاطىء الآخر. والشاعر هايل يخرج من عالم المستنقعات والأوحال إلى عالم الأحلام الجميلة. ورشيقة المحامية تخرج من أرض الظلم والجور إلى أرض الحلم، أرض العدالة. وسماح تخرج من ماضيها التعس إلى حاضر تحلم به. كما يخرج حازم من خيبة آماله في الاستقلال إلى الحلم ذاته. ويخرج زيد شيخ الشباب من معاناته من البطالة إلى الحلم بالعمل. كذلك الأمر بالنسبة إلى عوض الشاوي وصديقه مصباح والعريس. ولذلك يبدو تعميم الافتتاحية المذكور على لسان مصباح صحيحاً : (عوض. اسمع. الناس هنا مثلنا. كلهم مثلنا. رحلوا على أمل الخلاص من الفقر.. الجوع .. الحرمان.. كلهم يحكون عن الحياة الأفضل .. المستقبل الأحسن الذي ينتظرنا هناك على الشاطىء الآخر)(31). والصحيح أيضاً أن الشخصيات المذكورة في افتتاحية (المخطوفون) تتباين في الأسباب التي دفعتها إلى الخروج من مرحلتها السابقة، لكنّها تشترك في تحديد الهدف من الخروج، وهو الوصول إلى الشاطىء الآخر. وهي بذلك تختلف عن افتتاحيتي (البحث عن نجم القطب والصعود). ففي هاتين الروايتين خروج ،لكنّه خروج من مرحلة معروفة إلى مرحلة لم تحدّدها الافتتاحية. أما رواية (المخطوفون) فقد حدّدت ما قبل الخروج وذكرت الهدف. بل إنها جعلت الخروج رحلة، وأكّدت هذه الكلمـة إلى أن أصبحت لازمة إيقاعيّة للافتتاحيّة كلها، كما غدت السفينة وسيلة هذه الرحلة – الحلم. بذلك بدأت الافتتاحية : (رفعت السفينة مراسيها وبدأ الجسر الخشبي بالتحرك فاصلاً السفينة عن رصيف الميناء)(32)، وبه نفسه اختتمت هذه الافتتاحية : (السفينة للجميع، والرحلة حق لكل من يرغب فيها)(33) .‏

إن الخروج نقطة انطلاق من مرحلة سابقة تتصف بالاستقرار إلى مرحلة جديدة تكتفي الافتتاحية بالتمهيد لها أو الإشارة العامة إليها. وإذا كنتُ عددتُ الخروج في الافتتاحية وحدة وظيفيّة أساسيّة فلأن مسار الرواية يعتمد عليها ويتحدَّد تبعاً لها. إذ لا بدَّ للشخصيـة من أن تنطلق من نقطة ما باتجاه نقطة أخرى، وإلا فما معنى وجودها في الرواية ؟.‏

والواضح أن وحدة الخروج الوظيفيّة تتحكَّم في بناء الافتتاحية، فتدفع السرد إلى أن يعلنها في الحاضر ثم يتركها ليوضِّح مسوِّغاتها في الماضي. وهذا ما جعل وظيفة الافتتاحيّة مقصورة على إدخال القارىء عالم الرواية التخييليّ وتوضيح الخلفيّـة العامّـة لهذا العالم والخاصّة بكل شخصية لـه. وليست هذه الخلفيّة العامّة والخاصّة غير تحديد مرحلة الاستقرار السابقة على الخروج. ولهذا السبب اعتاد الروائيون أن يبدؤوا افتتاحياتهم بالحاضر، (في لحظة من لحظات حياة الشخصيات، ثم يعودون إلى الوراء لإعطاء القارىء الخلفيّة اللازمة وإدخاله عالم الرواية الخاص)(34). وليست لذلك ترجمة غير تركيز السرد على الماضي، ماضي الشخصيات قبل إعلان الخروج. وإذا كان الروائيون يشتركون في التركيز على الماضي في افتتاحياتهم(35)، فإنهم يختلفون في بناء هذه الافتتاحيات تبعاً لعدد الشخصيات التي يذكرونها وللرواة الذين يختارونهم للنهوض بالسرد في الحاضر والماضي .‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس