التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,865
عدد  مرات الظهور : 162,382,055

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > هيئة النقد الأدبي > الدراسات > دراسات أدبية
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 18 / 12 / 2009, 06 : 09 PM   رقم المشاركة : [1]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
مقدّمة
ليست (التقليديّة) في عالم الرّواية العربيّة سُبَّةً ؛ لأن هذه الرواية لم تغادر التقليديّة طوال حياتها العربيّة إلا قليلاً. بل إننا لا نملك غير عدد قليل جدّاً من الرّوايات العربيّة التي يصحُّ وصفها بالحديثة. وهذا النوع الروائيّ الحديث قتل الحكاية والحبكة، ودفع الشّخصيّات إلى الغموض، وجعل الحوادث غير سببيّة ولا منطقيّة. ليست لدينا رواية حديثة تقول إن الحياة لا معنى لها ؛ لأننا ما زلنا مؤمنين بأن لحياتنا معنى عميقاً جميلاً، نستحقُّ العيش فيه، ونجاهد لنجعله مفيداً لنا وللآخرين من حولنا، ونسعى إلى أن تُعبِّر الرواية عن هذا التوق فلا نعثر على غير النوع التقليديّ الذي يُقدِّم لنا عالماً محدَّداً، فيه حكاية ذات حوادث واضحة، وشخصيات تعرف لنفسها هدفاً اجتماعياً وسياسياً ونفسياً وتسعى إلى تحقيقه، وحبكة تأريخيّة أو مختلطة، ولكنّها حبكة تجعل الحوادث مترابطة سببيّة تنتهي إلى خواتيم ذات معنى ومغزى. وقد أصبحت الرّواية العربيّة التقليديّة، نتيجة ذلك، ذات وظيفة اجتماعيّة سياسية في الحياة العربية، ولذلك تشبَّث الروائيون العرب بها، وما زالوا متشبِّثين بها ؛ لأنهم رأوها مفيدةً لمجتمعهم وأمّتهم، وقادرة على أن تُعبِّر عن مشكلاتهم تعبيراً فنيّاً راقياً، فضلاً عن إقيال القرّاء العرب على قراءتها لإيمانهم بوظيفتها وقدرتها على الإقناع والإمتاع والتّأثير.‏
ولقد مضى حينٌ من الدّهر اختلط فيه الفنيّ بالسياسيّ، وأصبح الجنوح إلى حكم القيمة المعياريّ دليلاً على تفوُّق الناقد وحسن نيّته وانتمائه. ولكنّ تحليل البناء الروائيّ الذي شرعتْ صورته تتضح في بدايات تسعينيّات القرن العشرين، دلَّ على أن البناء الذي استعمله الأضداد من القرّاء والروائيين والنقّاد نوع واحد ليس غير هو النوع التقليديّ، وأن هؤلاء جميعاً، أصدقاء وأعداء إنْ صحَّ التعبير، كانوا يستعملون البنية التّقليديّة للدِّفاع عن آرائهم والدّعاوة لها، ومن ثَمَّ بقي الاختلاف بينهم مقصوراً على الأفكار ولم يجاوزها إلى تحديث البناء الرّوائيّ، وإنتاج الرّواية الحديثة.‏
وأزعم هنا أنني حاولتُ غيرَ مرّةٍ توضيح الاتجاه التقليديّ انطلاقاً من تحليل البناء الروائيّ ؛ لأنّني لاحظتُ سيادة هذا البناء في الإنتاج الرّوائيّ العربيّ، حتى أصبح تحليل بناء الرواية التّقليديّة هاجساً من هواجسي، وحافزاً إلى التجريب عندي. وقد لجأتُ فيه إلى المنهج الشّكليّ، وجرَّبتُ صلاحيته لتحليل المتن الروائيّ العربيّ السوريّ في كتابي (بناء الرّواية العربيّة السّوريّة)، وهأنذا أجرِّبه ثانية معتمداً مفهوم التحليل الجزئيّ بدلاً من مفهوم المتن، فحدَّدتُ مرادي من (الروايـة التقليدية العربيّة) و (المقاربة النقدية) لها، وأساليب (بناء العناصر الفنية)، وعلاقة هذه العناصر (بالرؤيا الروائيّة السوداء). وقد سمّيتُ كتابي (الرّواية العربيّة، البناء والرّؤيا) ؛ لأنّني قصرتُ الكتاب على فصلين، جعلتُ الأول منهما خاصاً بتحليل البناء الروائيّ، وانصرفتُ في الثاني إلى الرؤيا الروائيّـة السوداء وحدها. وعلى الرغم من أنني حلّلتُ بعض جوانب الرؤيا الرومنتيّة السوداء تحليلاً جزئيّاً، فإن هذا التحليل لم يشغلني في الفصل الثّاني عن هدفي الأساسيّ، وهو تحليل البناء الروائي، بما فيه من خطاب وشخصية ومنظور وفضاء.‏
ومن المفيد القول إنني تجنَّبتُ أحكام القيمة، سواء أكانت سلبيّة أم إيجابيّة ؛ لأنني أرى هذه الأحكام بعيدة عن لغة الناقد واهتمامه، فضلاً عن أن التحليل، في هذا الكتاب، لم يكن شاملاً النصوص الروائية العربية حتى يصحَّ إطلاق حكم قيمة على الرواية العربية كلّها. وإذا لم يكن تعميم أحكام القيمة ممكناً، فلا أقلَّ من آراء خاصة في العناصر الفنيّـة الروائيّـة وعلاقاتها داخل المجتمع الروائي، ختمتُ بها التحليل مرّة بعد أخرى، وجعلتها نتيجة خاصة تُعبِّر عن جهدي، ولم أجعلها نتيجة مطلقة حفاظاً على آراء الذين سيُحلِّلون النصوص نفسها استناداً إلى جهدهم التحليليّ.‏
د. سمر روحي الفيصل‏

يتبع
[/align]
[/cell][/table1][/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 18 / 12 / 2009, 46 : 11 PM   رقم المشاركة : [2]
ناهد شما
مشرف - مشرفة اجتماعية


 الصورة الرمزية ناهد شما
 





ناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond reputeناهد شما has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: صفد - فلسطين

:more61: رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[frame="1 98"] الدكتور الفاضل سمر روحي الفيصل / حفظك الله
ننتظر الشرح الوافي عن الرواية العربية بفصليها الأول والثاني
الفصل الأوّل: البناء الرُّوائيّ - مفهوم البناء الروائي‏
الفصل الثّاني: البناء والرؤيا - مفهوم الرؤيا الروائيّة‏
مجهود واضح بارك الله بك
دمت بخير[/frame]
توقيع ناهد شما
 
سأنامُ حتى ساعة القلقِ الطويلِ وأفتحُ العينينِ من أرقٍ
يدي إنْ أقفلتْ كلّ الأصابع كي تشدّ على السرابِ
أعودُ مقتول الشروع بغسل أحلامي الصغيرةِ
كم تمنيتُ الرجوعَ إلى الطفولةِ يافعا ويردّني
صوتُ ارتطامي بالزجاج المستحيل على المرايا
أشتري منكمْ صلاتي فامنحوني ما تبقـّى من زمانٍ
وامنحوني كأسَ أحلامٍ تشظـّى في الظلامِ
عبرتُ نحوي كي أردّ قميص وقتي للزمانِ
فتهتُ في وجع النخيلِ ولمْ أنمْ إلا قليلا ..
الشاعر الفلسطيني طلعت سقيرق
ناهد شما غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 12 / 2009, 04 : 11 AM   رقم المشاركة : [3]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]الفصل الأوّل: البناء الرُّوائيّ - مفهوم البناء الروائي

أعتقد أن البناء الفني للرواية العربية تقليديّ محدَّث ؛ أي أن طابعه العامّ هو طابع الرّواية التّقليديّة التي أفادت من الوسائل الفنّيّة الجديدة ووظَّفتها لخدمتها. ويُخيَّل إليَّ، وأنا ألاحظ سيادة البناء التقليديّ المحدَّث، أن الرواية العربية لم تعرف النّموذج التقليديّ الصّرف الذي عرفته الآداب الأجنبيّة، تبعاً لنشأتها المتأخِّرة ولأن الترجمة لم تكن منظَّمة بحيث تُعرِّف المتلقّي العربيّ بتاريخ الرواية الأجنبيّة. بيد أن هناك عاملين آخرين أسهما إسهاماً واضحاً في سيادة البناء التقليديّ المحدَّث، هما التّناصّ والشُّعور الثّقافيّ الجمعيّ.‏
1 / المعروف أنّ التّناصّ مصطلح دالّ على أنّ نسيج أيّ نصّ جديد اختزن نصوصاً كثيرة تأثُّر صاحب هذا النّصّ تأثُّراً غير مباشر بها، بوساطة القراءة، وكأنّ النّصّ الجديد غير بِكْر ؛ لأنّه مزيج من نصوص عدّة. وإنّني أقصد بالتّناصّ هنا علاقـة النّصّ الرّوائيّ العربيّ اللاحق بالنصّ الروائي العربيّ السّابق. ولهذا التناص سلسلة تبدأ أولى حلقاتها في القرن التاسع عشر، دون أن يضمّ القرن العشرون ما يدلُّ على انقطاعها. فقد حاكى الروائيون العرب، أوّل الأمر، روايات معرَّبة وملخَّصة ذات بناء فنيّ تقليديّ. غير أن محاكاتهم لم تكن دقيقـة لأسباب كثيرة، أولها أنهم لم يحـاكوا الأصل، بل حاكوا الفرع المعرَّب والملخَّص، وثانيها أنهم لم يتقيَّدوا بمنطق السّرد الروائي الغربيّ ؛ لأنهم لم يكونوا بمنجاة من السرد العربيّ الحكائيّ الذي نشؤوا في أحضانه ورُبِّيتْ أذواقهم الأدبيّة عليه. وهذا يعني أن البناء الفني للرواية التقليدية لم يدخل الأدب العربيّ كما قدَّمته الرواية الأجنبيّة، بل دخل هذا الأدب وقد حمل بعضاً من التعديلات(1)، أو قُلْ إن البناء الفنّيّ دخل الأدب العربي وهو يحمل بعض البصمات العربيّة(2)، ورسخ فيه على هذا النحو، بحيث أصبح اللاحق من الروائيين ينسج على منوال سابقه وهو يشعر بأنه يواجه جنساً أدبيّاً لا تُقيّده القواعد الصّارمة.‏
هل يُعلِّل هذا الأمر محافظة الروايات العربية التي صدرت حتى خمسينيات القرن العشرين على البناء الفنيّ التقليديّ المحدَّث تحديثاً طفيفاً ؟. لعلّه يُعلِّل ذلك، وخصوصاً إذا أضفنا إليه ما نعرفه من أن الروائيين العرب لم ينصرفوا إلى الرواية وحدها ؛ لأنها لم تكن سيّدة الأجناس الأدبيـة آنذاك، كما أنها لم تكن تملك القدرة والرصيد اللذين يساعدانها على منافسة القصة القصيرة. يصدق ذلك على محمد حسين هيكل وعباس محمود العقَّـاد وإبراهيم عبد القادر المازني وطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور. ولكنه، في الوقت نفسه، لا يصـدق على نجيب محفوظ الذي قرأ في بداياته الروايات (البوليسيّة) المترجمة بتصرف(3) كما فعل سابقه محمود تيمور(4)، كما قرأ المنفلوطي قبل أن يقرأ ما كتبه طه حسين والعقّاد والمازني وهيكل والحكيم(5). ولم يلتفت محفوظ قبل عام 1936 إلى قراءة الروايات الجديدة لكافكا وبروست وجويس(6) باللغة الانكليزيّـة غالباً وبالفرنسيّـة قليلاً(7). ولهذا كله، فضلاً عن موهبته واستعداده الشخصيّ، ضمَّ البناء الفني التقليديّ في رواياته قدراً من التحديث لم يُحقِّقه سابقوه. فرواياته (من الثلاثيّة، وهي قالب جديد لم يعرفه البناء الفنيّ للرواية التقليديّة لدى سابقيه(8)، إلى ميرامار، وهي تضمُّ بناءً فنياً ذا تقنية حديثة لم تعرفها الرواية التقليدية هي تقنية الأصوات وتعدُّد الرواة) تكاد تشمل التنويعات الفنيّة التي ما زالت سائدة في البناء الفني للرواية العربية التقليدية المحدَّثة. ولكنْ، هل يعني ذلك أن الروائيين الذين برزوا بعد نجيب محفوظ خرجوا بطريقة أو بأخرى من معطفه بوساطة التناص ؟. وما مدى تأثُّر هؤلاء الروائيين بنجيب محفوظ ومحاكاتهم نصوصه الروائية(9) ؟. ألم ينتج بعض الروائيين العرب، كعبد الكريم ناصيف وخيري الذهبي ونبيل سليمان وخيري شلبي وأحمد إبراهيم الفقيـه وإبراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف، ثلاثيات ورباعيات وخماسيات وسداسيات تعالج جوانب في مجتمعات بلدانهم تداني ما عالجه نجيب محفوظ في ثلاثيته مما يخص المجتمع في مصر ؟. ألم ينجح روائيون عرب آخرون في توظيف تقنية تعدُّد الأصوات بعد نجاح ميرامار في هذه التقنية ؟.‏
إن التناص الروائي العربي يحتاج إلى باحثين ذوي معرفة وموهبة وقدرة على تحليل العلاقة بين النصوص العربية الروائيّة السابقة واللاحقة. ومسوّغ هذا الاقتراح هو اعتقادي بأن التناص عامل من عوامل استمرار الروائيين العرب في إنتاج نصوص روائية ذات بناء فني تقليديّ محدَّث، وفي إبقاء هذا البناء التقليديّ حياً متألِّقاً في أحايين كثيرة، وفي تشجيع الروائيين الجدد على التقيُّد بنهجه والإبداع في حدوده، تبعاً لتوافر الوضوح والتماسك فيه، وهما عاملان يستجيبان للذائقة العربية الراغبة في الفهم والتواصل مع المقروء، فضلاً عن الإيمان بوظيفة الرواية في المجتمع. وهذا الشعور الثقافيّ الجمعي ليس هيِّناً ؛ لأنه أعاق انتشار الرواية الجديدة، وقصر الإفادة منها على تقنيات عزّزت البناء التقليديّ وقوّت جذوره، وساعدته على أن يستمر في الحياة زمناً لا يعلم مداه أحد.‏
2 / بيد أن البناء الروائيّ العربيّ التقليديّ لا يتضح إذا لم أُشر، ولو إشارة موجزة، إلى المفهوم الغربي للروايـة التقليدية كما قنّنه النقاد ابتداءً من فورستر في كتابه (أركان الرواية) الصادر عام 1927. ذلك أن المفهوم الغربيّ للرواية التقليدية ينبع من منح الروائيّ صفة (الخالق) وحقوقه وامتيازاته، فيسمح له بانتقاء الحوادث التي يؤمن بقدرتها على تمثيل (الواقع) والتعبير عنه. كما يسمح له بخلق الشخصيات التي تتفاعل مع هذه الحوادث وتقود حركتها إلى الخاتمة حيث الدلالة النهائيّة المعبِّرة عن رؤيا محدَّدة أو مغزى معيَّن. وتشترط الرواية التقليديـة على هذا الخالق الاتصاف (بالموضوعيّة) و (الصدق) في (التعبير) عن (الواقع). والموضوعية في عرفها لا تعني (الحياد) أو منع الروائي من طرح رأيه الخاصّ، بل تعني (الصدق) في التعبير، وإشراف الروائي من علٍ على ساحة الرواية دون تدخُّل مباشر يجعل المتلقي يرى الروائي أو يشعر بوجوده. ومن ثَمَّ يبقى الروائي والمتلقّي معاً في موقع الملاحظ والمحلِّل والحَكَم(10).‏
هذا يعني أن الرواية التقليدية تحتاج إلى بناء روائي (متماسك) أو (شكل عضويّ) تلتحم فيه الأجزاء الفنيّة بغية إبراز المضمون على نحو يُمتِّع المتلقّي ويقنعه بما يقرأ ويؤثِّر في سلوكه ويُوسِّع رؤيته للواقع الذي يعيش فيه. وللروائي التقليدي، قبل ذلك وبعده، حرّيّة اختيار الوسائل التي تجعل عالمه الروائي جميلاً مقنعاً متماسكاً. فقد يختار بناء شخصياته من الخارج أو من الداخل، يتحدَّث عنها أو يتركها تتحدَّث عن نفسها. يلجأ إلى التسلسل التاريخيّ للزمـن أو يتلاعب به قليلاً(11). يسرد حوادث الرواية ضمن حبكة تعتمد التسلسل التاريخي أو يسردها ضمن حبكة تعتمد التقديم والتأخير والإزاحة. يختار الروائي التقليدي ما يشاء من الوسائل الفنية، ولكنّـه يجد نفسه دائماً في مواجهة مقياس يتيم هو (الفن) ؛ أي أنه مطالب بتقديم عمل فني. وكلُّ اختيار غير صحيح، أو استخدام منحرف للوسيلة، يؤثِّر في إبعاد العمل الروائي عن الفن. وإذا كان تحديد لفظة (الفن) صعباً لارتباطها بالإبداع، فإن نقّاد الرواية الذين حلّلوا الروايات المتَّفق على جودتها الفنية خرجوا بمقاييس يصحُّ اعتمادها معياراً للاستخدام السليم للوسيلة الفنية، على الرغم من أن الاستخدام السليم الدقيق للوسائل الفنية كلها غير قادر على أن يصنع وحده رواية فنية إذا لم يكن الروائي موهوباً ؛ لأن الإبداع يرتفع فوق المقاييس معلناً تمرُّده عليها، مشيراً إلى خصوصيّة المبدع وتفرّده.‏
ثم إن الرواية التقليديّة تعتمد اعتماداً رئيساً على السرد في نقل الحوادث الروائية إلى المتلقي. وعلى الرغم من أن الحوار يسهم أيضاً في نقل الحوادث إلى المتلقي، فإن الرواية التقليدية تحتفظ للسرد بمكانة خاصة لا ترقى إليها وسيلـة فنيّة أخرى، حتى إنه يصحُّ وصف الرواية التقليدية بأنها (فنّ سرد الحوادث). ولعلَّ إيثار السرد عائد إلى أن الروائي التقليديّ نفسه يقف من روايته موقف الخالق الراغب في الإشراف على خلقه، فضلاً عن الضرورات الفنيّة، كتلخيص الحوادث وتقديم الأخبار والوصف … وهذه الصفة السرديّة لا تعني(12) في الحالات كلّها أيَّ حكم معياريّ بالصـواب والخطأ، بالمدح أو الذَّم، بل تعني ضرورة (السّرد) للرواية التقليدية ليس غير.‏
ومن البديهيّ أن تكون الحوادث أهمَّ مكوِّنات السرد ؛ لأن الرواية التقليديـة تنقل إلى المتلقي (حكاية) ما، بل إنه ليس هناك روايـة تقليديـة دون حكاية واضحة محدَّدة تُعبِّر عن الواقع تعبيراً رمزياً. واستناداً إلى أن الحكاية تتألَّف من حوادث عدّة يجب نقلها إلى المتلقي، فإن السرد مطالَب بمهمّة إيصال الحوادث إلى هذا المتلقي. وناقد الرواية التقليدية يهتمّ في العادة بمنظور الروائيّ أو بالزاوية التي نظر منها الروائيّ إلى حوادث حكايته، لمعرفـة كيفيّة سرد الحوادث على القارىء المتلقي. والمعروف أن الرواية التقليدية لا تُقيِّد الروائي بطريقة محدَّدة يعرض الحوادث بوساطتها، ولكنّها تُفضِّل طريقة السرد التأريخيّ ؛ لأن هذه الطريقة تحافظ على عرض الحوادث من بدايتها إلى نهايتها دون تقديم أو تأخير، أو ما اصطلح النقّاد على تسميته بالنسق الزمني الصاعد. ولو كانت الرواية التقليدية تُقيّد الروائي بطريقة واحدة في السرد لما تعدّدت حبكاتها، ولما قبلت التقنيات السرديّة الحديثة، كالتلاعب بالأنساق الزمنية وتنويع الضمائر واللغة وخلخلة وحدة الحدث وما إلى ذلك من إزاحات فنية.‏
كذلك الأمر بالنسبة إلى تنويع طرائق سرد الحوادث، فهو تابع لمشيئة الروائي التقليدي وللزاوية التي ينظر منها إلى حوادث روايته، أو بتعبير أكثر حداثـة : قد يختار الروائي التقليدي موقعاً محدَّداً، أو يختار اللاموقع، أو يلجأ إلى الإفادة من تعدُّد المواقع. ويفضحه في ذلك كلّه راويه. فإذا حلَّ الراوي في إحدى الشخصيات كان راوياً ممثَّلاً ينمّ على أن الروائي اتخذ مـوقع المشارك المنحاز وموقفه. وإذا اختار راوياً عالماً بكلّ شيء دلَّ ذلك على أن الروائي اختار اللامـوقع، وترك لراويه العالِم فرصة السياحة في الرواية والانتقال من شخصية إلى أخرى. أما اختياره عدّة رواة، وتركه كلّ راو يحلُّ في إحدى الشخصيات ويُعبِّر عن وجهة نظرها، رغبةً منه في الإشارة إلى حياده وتعدُّد مواقعه، فطريقة لم تعرفها الرواية التقليدية بادىء الأمر ولكنّها استعملتها في تطوراتها التحديثيّة اللاحقة. ومن المفيد القول إن سرد الحوادث لا علاقة له بالحيل الأسلوبيّة التي يلجأ إليها الروائي التقليدي ليضفي شيئاً من المصداقيّة على ما يرويه، أو ليعلن انفصاله عمّا يرويه(13)، كإيرادها في شكل الترجمة أو الترجمة الذاتيّة أو أسلوب الرسائل أو المذكِّرات أو غير ذلك من الحيل التي لا تُؤثِّر في الطريقة التي يسرد بها الروائي حوادث حكايته. ويبدو أن هذه الحيل الأسلوبيّة بلغت من الشيوع في تاريخ الرواية التقليدية حدّاً دفع بعض النقاد إلى إدراجها في عداد طرائق عرض الحوادث(14).‏
إن الروائي التقليدي معنيّ بسرد (حكاية) ما، ذات حوادث محدَّدة واضحة، تحافظ على منطق روائي مقبول من القارىء، مقنع له لأنه مستمدّ من منطق الحياة نفسها(15). وهذا يعني أن الروائيّ التقليديّ (يُعْلِم)(16) القارىء (ليؤثِّر) فيه. ولا يكون التأثير سليماً إذا لم يكن الإعلام دقيقاً. ولهذا السبب تتشبّث الرواية التقليدية بالشكل العضويّ الذي ينبع من تماسك الحوادث الروائية وارتباطها ببيئتها الزمانيّة والمكانيّة وبالشخصيات التي تخلقها وتتفاعل معها. ومن ثَمَّ كان ناقد الرواية التقليدية مطالباً بالالتفات إلى تماسك الحوادث ووحدتها وجريانها نحو التعبير عن رؤيا معيَّنـة، أو تفكّكها ومجافاتها منطق التسلسل والسببيّة وعزلتها عن الشخصيات وغرابتها وبُعْدها عن المألوفيّـة وتعدُّد مراكزها، وأثر ذلك كله في منح الحوادث التماسك المرغوب فيه للإسهام في صنع الشكل العضويّ للرواية. والناقد، عادةً، يتساءل : ما المنطق الذي يُسيِّر حوادث الرواية ؟. وما مدى الارتباط بين هذه الحوادث ؟. وما صلتها ببيئتها الزمانيّة، وبالمكان الذي تتحرّك فيه ؟. هل تطغى الحوادث فيها على الشخصيات أو الشخصيات على الحوادث أو أن هناك اتحاداً بينهما ؟. وهل هناك ارتباط بين معطيات المكان ومنطق الحوادث ؟. إن الإجابة عن هذه الأسئلة جزء من مهمة ناقد الرواية التقليدية ؛ لأن هذه الرواية تعتمد التماسك مبدأً، وتعير المرتكز الواحد شيئاً غير قليل من اهتمامها، وتُدقِّق في البيئة الزمانية والمكانيّة. بل إن البناء الدراميّ للرواية التقليدية قائم على ارتباط الحوادث بالشخصيات ضمن بيئة زمانيّة ومكانيّة محدَّدة، من بداية الحوادث إلى تعقُّدها وخاتمتها.‏
ودون شكّ فإن الأمور السابقة مكوِّنات العالم المتخيَّل المغلق الذي يحاول الروائي التقليدي إقناع القارىء بوجوده وقدرته على احتواء العالم الخارجيّ وكأنه ينقله أو ينسخ منه شيئاً. وإن الحادثة في هذا العالم متخيَّلة، ولكنّ العنصر التخيُّليّ فيها لا يعني أنها منفصلة عن الواقع الحياتي الخارجيّ، أو أنها من كوكب آخر غير كوكب القارىء. إنها في إطارها العامّ وتفصيلاتها الصغيرة مستنبطة من الواقع، ولكنّها مؤلَّفة بوساطة الخيال لتؤدّي دلالة محدَّدة. فالحياة الحقيقيّة ذات الحوادث المتفرِّقة التي تتعذَّر ملاحقتها ومعرفة مصائر أفرادها، لا تسمح للإنسان بالإمساك بها ورؤيتها على نحو سليم. وقد تنطَّعت الرواية التقليدية لمهمّة تكثيف حوادث الحياة وعرضها متماسكة مقنعة تؤول إلى خواتيم طبيعيّة، حتى إذا قرأ الإنسان رواية ما، واقتنع بما قدَّمته له، انفعل بها وكان انفعاله مقدّمة لتغيير سلوكه وتعديله، أو ما نقول عنه عادةً : توسيع حساسيّته تجاه الحياة، أو تغيير نظرته إليها. ثم إن الروائي التقليديّ يرى الحياة الحقيقيّة منطقيّةً، ولهذا السبب يحرص على أن يُدقّق في هذه الحياة ليخلق عالمـاً روائياً مشابهاً لها في أطره العامة وتفصيلاته الصغيرة، وعلى اختيار الشخصيات التي تتفاعل منطقياً مع هذه الحوادث، وعلى الزمان والمكان لأن الحوادث لا تقع في الفراغ.‏
3 / إن الحديث السابق عن مفهوم الرواية التقليدية ينطلق من مفهوم محدَّد للنص الروائي، هو أنه نصّ تخييليّ مغلق على نفسه، يُعبِّر بلغته عن معناه ودلالته دون حاجة إلى مرجع خارجيّ ؛ أي أنه نصّ مكتف بقوانينه الداخليّة، يُقدِّم مجتمعاً متخيًّلاً يُحيل إلى نفسه. والروائيّ، تبعاً لهذا المفهوم، مبدع خالق يُطلُّ من علٍ ولكنّه لا يتدخَّل في خلقه. وهذا يعني أن الروائي يبدع الرواية ولكنّه يوهم القارىء المتلقي بابتعاده ابتعاداً كاملاً عنها. ولو دقّقنا في البناء الفني للرواية العربية استناداً إلى مفهوم النص والروائي في الرواية التقليدية لاكتشفنا أن الجيد من الروايات العربيّة هو الذي جسَّد المفهوم السابق للنصّ المغلق والروائيّ الخالق، وأن المتوسط والضّعيف منها هما اللذان خرقا هذا المفهوم، ووضعا الرواية العربية في مشكلات (المطابقة) و (السيرة) و (التاريخ). ومن المفيد أن نتعرَّف البناء الفني لهاتين الفئتين لنعي الطبيعة الفنيّة للرواية العربية التقليدية المحدَّثة التي نُحلّل نصوصاً منها في هذا الكتاب.‏
تشير الرواية العربية إلى أن الروائيين مختلفون في تحديد مواقعهم من رواياتهم. فهم نظرياً يعترفون باستقلاليّة نصوصهم، ويبتعدون عن التدخُّل فيـها، ويبقون خارجها يُحرِّكون خيوطها بوساطة الراوي. ولكنّهم – كما تدلُّ نصوصهم الروائية – فريقان : فريق يُجسِّد ما آمن به نظرياً فيروح يستخدم الراوي المشارك المنحاز الممثَّل، وفريق لا يُطبِّق ما آمن به ويروح يستعمل الراوي الحياديّ العالم بكل شيء. ولا بأس في أن أُقدِّم هنا تدقيقاً في عمل هـذين الفريقين، عماده التفريق بين الروائيين الذين اتخذوا اللاموقع ستاراً للسيطرة على المجتمع الروائي، والذين اتخذوه وسيلة لخلق هذا المجتمع ؛ لأن هذا التفريق ضروري للناقد الراغب في التمييز بين روايـة فنية استخدمت الراوي الحيادي العالم بكل شيء، وأخرى ضعيفة استخدمت الراوي نفسه. وإلا فإن الظن سيذهب إلى أن استعمال الراوي العالم بكل شيء سيِّىء دائماً لا يُخلِّف وراءه غير النصوص الضعيفة، وهذا أمر يجانب واقع الرواية العربية. ذلك أن الروائيين العرب استعملوا الراوي العالم بكلّ شيء، وأنتجوا بوساطته نصوصاً انعقد الإجماع على دقتها الفنية، كما هي حال غالبيّة روايات نجيب محفوظ(17) وعبد السلام العجيلي(18) والطاهر وطّار(19) وأحمد إبراهيم الفقيه(20) وغيرهم.‏
ولا أشكُّ في أن استعمال الراوي العالم بكلّ شيء يعني أن الروائي متشبِّث باللاموقع. بيد أن هذا التشبُّث ينمُّ حيناً على الرغبة في السيطرة على المجتمع الروائي، ويدلُّ أحياناً على أن الروائيّ راغب في خلق مجتمع روائي. ومعيار التمييز بين هذين الأمرين ينبع من الروايات العربيـة نفسها. فناقد روايـة (الدّوّامة)(21) لقمر كيلاني و( ريح الجنوب)(22) لعبد الحميد بن هدوقة و (نداء الصفصاف)(23) ليحيى قسام و (سلاماً يا ظهر الجبل)(24) لوهيب سراي الدين و(البحر ينشر ألواحه)(25) لمحمد صالح الجابري قادر على أن يحكم على هذه الروايات بتوافر الحدّ الأدنى من المستوى الفني، وقادر أيضاً على أن يحكم على (ليلة المليار)(26) لغادة السّمَّان و (سلام على الغائبين)(27) لأديب نحوي و(الأسماء المتغيرة)(28) لأحمد ولد عبد القادر و (العودة من الشمال)(29) لفؤاد القسوس و (فياض)(30) لخيري الذهبي بالجودة الفنية على الرغم من أنها كلها استعملت الراوي العالِم بكل شيء. وإذا رغب الناقد في أن يكون حكمه موضوعياً فإنه مطالب بالالتفات إلى أن الروايات المتوسطة الجودة أعطت الراوي العالِم بكل شيء سلطات واسعة فجعلته ينقل إلى المتلقي دخيلة الشخصيات وحركتها الخارجية، دون أن يترك لها فرص التعبير عن نفسها، ومن ثَمَّ بدت الشخصيات في هـذه الروايات جامدة أو أقرب إلى الجمود. لا يشعر القارىء أنها حية في المجتمع الروائي، بل يشعر أنها مقيَّدة، ويلاحظ في مقابل ذلك الحرية الواسعة الممنوحة للراوي. والقارىء، عادةً، يُحبُّ أن يرى الشخصيات تُعبِّر بملفوظها وسلوكها عن نفسها، ولا يحبُّ أن يُحدِّثه شخص آخر عنها. أما الروايات الأخرى التي يمكن الحكم عليها بالجودة الفنية فقد قيَّدت الراوي العالِم بكل شيء، وحدّت من سلطاته، فقصرته على أمكنة رأى الروائيُّ نفسَه عاجزةً عن التعبير عنها دون وساطة الراوي. وهذا الراوي المقيَّد موضوع في هذه الروايات في خدمة الشخصية، لا يطغى عليها، بل يخدم سعيها في عالم الرواية، وتبدو معرفته محدودة بالقياس إليها.‏
بيد أن الروائيين العرب الذين أساؤوا استعمال الراوي العالِم بكل شيء أكثر عدداً من الروائيين الذين نجحوا في توظيفه لخدمـة الشخصيات في رواياتهم. والنوعان معاً دليل على أن الروائيين العرب ما زالوا يؤثرون (اللاموقع) موقعاً، ويجعلونه الدليل على رغبتهم في التحكُّم المباشر بعالم الرواية، سواء أكان تحكُّمهم شاملاً أم محدوداً. وهذا التحكُّم يجافي الموقف الديمقراطيّ من عالم الرواية، كما يجافي تصريحات الروائيين النظرية باستقلاليّة نصوصهم الروائيّة. وإذا كان لكلِّ شيء سبب فإنني أعتقد أن الولوع بالراوي العالِم بكل شيء نابع من الأمرين الآتيين :‏
أ – مأزق الروائيّ العربيّ في التعبير عن دخيلة شخصياته. ذلك لأن هذا الروائي يعي جيداً أن إضفاء الحياة على الشخصية الروائية يحتاج إلى رصد سلوكها الخارجيّ وأفكارها وأحاسيسها الداخليّة وردود أفعالها على الحوادث الخارجيّة، ولكنّه يجد نفسه عاجزاً عن التعبير عن دخيلة الشخصية بوساطة الحوادث، فيلجأ إلى الراوي العالم بكل شيء ليُقدّم بوساطته العبارات التي تنمّ على هذه الدخيلة، كفكَّر وتمنّى ورغب وفرح … وإذا أحسنا الظنّ قلنا إن هناك تناصاً ؛ أي تأثُّراً بالروايات التي قرأها الروائي وكانت تضمُّ راوياً عالماً بدخيلة الشخصيات، عاملاً على نقلها إلى القارىء المتلقي بوساطة الأفعال السابقة. والدليل على ذلك أنني عثرتُ على العبارات نفسها لدى عدد كبير من الروائيين العرب. من أمثلة ذلك في سورية روايتا حسن جبل (1969) وآن له أن ينصاع (1978) لفارس زرزور. ففي هاتين الروايتين عبارات استعملها الراوي العالم بكل شيء لا تكاد تختلف عن العبارات التي استعملها في رواية (الدوامة) لقمر كيلاني.‏
حسن جبــل : ضحك في سرّه – فكّر – يردّد في نفسه – قال في نفسه – تذكَّر – تساءل .‏
آن له أن ينصاع : فكّر – شعر – قرّر بينه وبين نفسه – تذكّر – أحسّ – تمنّى – قال في نفسه .‏
الدوامـــة : تفكّر – تتذكّر – تشعر – تتمنّى – تحسّ – تقول في نفسها – لنفسها تردّد .‏
وليس استعمال الراوي الأفعال السابقة خاصاً بسورية وحدها، بل هو عام شامل الدول العربية. رأيتُـه عند غالب هلسا في (الخماسين)، وفيصل حوراني في (المحاصرون)، وشريف حتاتـة في ثلاثيته (العين ذات الجفن المعدنية – جناحان للريح – الهزيمة). فقد أكثر غالب هلسا في الخماسين من الأفعال الثلاثة الآتية : قال لنفسه – قالت لنفسها – فكّر(31). كما أكثر فيصـل حوراني من فعلي : فكّر وتذكّر(32). أما شريف حتاتة فقد بالغ في استعمال الأفعال الدالة على دخيلة شخصياته على الرغم من اختلاف الأزمنة والأمكنة وبُعْد الشخصيات أو قربها من الراوي(33).‏
ب – رغبة الروائي العربي في التعبير المباشر عن أيديولوجيته. ذلك لأن الروائي الجيّد يُعبِّر عن أيديولوجيته تعبيراً غير مباشر، فيخلق عالماً روائياً يضجُّ بالصراعات والآراء التي تُقـدّم للقارىء ما يرغب الروائي في التعبير عنه. ولكنّ الروائي المتوسِّط الجودة لا يملك القدرة على الخلق السوي، فيحتال على ضعفه باستعمال التعبير المباشر الذي يُقدّمـه الراوي العالم بكل شيء. وهذا الأمر يتصل بموضوع طرح (الرؤيا) في الرواية، تلك الرؤيا التي آثرتُ الحديث عنها في الفصل الثاني من هذا الكتاب. ذلك أن الرؤيا في الرواية الجيدة تنبع من النصّ، وفي المتوسطة تتحكّم فيه، وفي الضعيفة تُفرض عليه. ولعلَّ الروائيين(34) متوسطي الجودة هم الذين أكثروا من استعمال الراوي العالم بكل شيء ستاراً للسيطرة على رواياتهم ووسيلة لتحكُّم الرؤيا فيها أو فرضها عليها.‏
أما الراوي الممثَّل فيختلف اختلافاً واضحاً عن الراوي العالم بكل شيء. وينبع هذا الاختلاف من موقع الروائي ويؤثِّر تأثيراً كبيراً في بناء الرواية. ذلك أن الراوي الممثَّل يدلُّ على أن الروائي راغب في أن تُعبِّر إحدى الشخصيات عن وجهة نظره، ولهذا السبب يترك راويه (نائبه) يتماهى بهذه الشخصية مكتفياً بما تراه وتسمعه وتفكّر فيه. إنه راو محدود المعرفة، مشارك في حوادث الرواية ومنحاز إلى إحدى شخصياتها. وهذا يعني أن الروائي اتخذ لنفسه موقعاً محدَّداً وترك للشخصية التي تماهى راويه بها فرصة التعبير عن نفسها بنفسها. ولو أنعمنا النظر في بناء الرواية العربية استناداً إلى هذا الراوي الممثَّل لاكتشفنا ما اكتشفناه في أثناء الحديث عن الراوي العالم بكل شيء من أن هناك استعمالين للراوي الممثَّل، التزم الراوي الممثَّل في أولهما بشخصيـة واحـدة ولم يجاوزها إلى غـيرها، كما هي الحال في (صوت الليل يمتد بعيداً)(35) لعبد النبي حجازي و (هزائم مبكِّرة)(36) لنبيل سليمان و( أنت منذ اليوم)(37) لتيسير سبول. فالراوي الممثَّل في الأولى يتماهى بعرندس، وفي الثانية بخليل، وفي الثالثة بعربي، ويبقى في الروايات الثلاث ملتزماً بدقة بهذه الشخصيات، ولا يمتدُّ علمه إلى شيء خارج ما تراه وتسمعه وتشعر به. بيد أننا نرى الراوي نفسه مختلفـاً في (الحـلم الوردي)(38) ليحيى قسّام و (الأشرعة)(39) لنبيل سليمان. ففي الرواية الأولى يتماهى بشخصية أحمد سعيد ولكنه لا يقصر علمه عليها، بل يهيمن على الشخصيات الأخرى ويروح يعكس أفعالها ويخفي أفعاله، ومن ثَمَّ لم يؤدّ الوظيفة التي اصطُنع من أجلها وهي الإسهام في خلق شخصية أحمد سعيد. وفي روايـة (الأشرعة) نرى هذا الراوي لا يكتفي بشخصية واحدة، بل ينتقل من شخصية إلى أخرى، وحين يحلُّ في إحدى الشخصيات يتماهى بها، حتى إذا غادرها إلى غيرها نقل تماهيه معه، وبالتالي جسَّد وظيفة لم يُصْطَنع لها أيضاً، هي الإسهام في خلق عدد من الشخصيات. وراوي (الأشرعة) في هذه الحال أشبه بالراوي الحيادي العالم بكل شيء في رواية (ليلة المليار) لغادة السمّان، وخصوصاً التشابه بينهـما في بناء الرواية استناداً إلى الراوي الرَّحَّالة، وكأنّ اللاموقع طابق الموقع في هاتين الروايتين، وأسهم مثله في بناء رواية درامية تبدأ بالحديث عن نقاط عدّة مختلفة متباعدة ثم تترك الخيوط تلتقي في بؤرة مركزيّة تتعقّد قبل أن تؤول إلى الحلّ.‏
وإذا كانت روايتا (الحلم الوردي) و (الأشرعة) تُمثِّلان خرق السائد في استعمال الراوي الممثَّل فإن هناك روايتين أخريين استعملتا الراوي نفسه والتزمتا بشخصيـة واحدة، هما (صوت الليل يمتد بعيداً) و (هزائم مبكّرة). فقد التزمت الشخصية في هاتين الروايتين (ووراءها الراوي الممثَّل) بالتعبير عن نفسها بضمير المتكلّم، ولكنّ بناء الرواية الأولى أشد إحكاماً وتماسكاً وقدرة على خلق شكل عضوي من الرواية الثانية. وربّما علّل التفاوت بين الروايتين ما هو معروف عن خبرة عبد النبي حجازي في بناء رواية الشخصية(40)، ولكنّ هذا التعليل يجب أن يُرَافق بمأزق بناء الرواية العربيّة استناداً إلى الراوي الممثَّل. ذلك أن الروائيين العرب شعروا بأن الراوي الممثَّل يوفِّر لهم فرصة خلق إحدى شخصيات الرواية، ولكنه لا يعينهم على خلق مجتمع روائي يضجُّ بالحياة والصراع وإنْ وفَّر لهم فرصة الغوص في إحدى الشخصيات. وعبد النبي حجازي نفسه لم ينجـح في رواياتـه السابقـة كما نجح في (صوت الليل يمتد بعيداً) على الرغم من أنه استعمل فيها كلها الراوي الممثَّل ذاته. وأعتقد أن انتقال راوي (الأشرعة) من شخصية إلى أخرى، وهو راو ممثَّل، لم يكن غير حلٍّ فنيّ ارتآه نبيل سليمان للتخلُّص من مأزق الانصراف إلى شخصية واحدة على حساب المجتمع الروائي.‏
ولا أشكُّ في أن تعدُّد الرواة والمواقع مؤهَّل أكثر من الراوي الممـثَّل والراوي العالم بكل شيء لتقديم بناء روائي مقنع مؤثِّر. ذلك أن الراوي في هذه الحال يختفي ويترك النصّ لعدد من الرواة، لكلِّ راو وجهة نظره في الحكاية الروائيّة. وإنني أفضِّل تسمية الشخصية في هذه الحال صوتاً، وأعتقد أن الرواية التي تنصرف إلى تعدُّد الأصوات تُعبِّر عن أن القصة، وهي الشيء الذي يُحْكَى في الرواية، ليست مطلقة بل هي نسبيّة تختلف باختلاف الراوي القائم بالقصِّ (الحكي). وقد لاحظتُ أن مظهر التحديث في الرواية التقليدية العربية انطلق من تعدُّد الرواة. وأبرز الأمثلة هنا الثلاثية وميرامار لنجيب محفوظ ومصرع ألماس(41) لياسين رفاعية. ففي هذه الروايات التزام تامّ بمنظـور الشخصية وابتعاد كامل عن تدخُّل الراوي(42). ولكنّ تحديث الرواية التقليدية لم يقتصر على تعدُّد الرواة، بل قدَّم استعمالات أخرى للراوي القديم. ففي رواية (رحيل البحر)(43) لمحمد عز الدين التازي راو غير مشارك في الحوادث ولكنّه يُوهم القارىء بأنه مشارك(44)، ومن ثَمَّ كان هنـاك ضميران : هو – نحن. وفي رواية (تلك الرائحة)(45) لصنع الله إبراهيم بطل ليس له اسم ولا عنوان على الرغم من أننا نراه راوياً منحازاً يستعمل ضمير المتكلم(46). كما أننا في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)(47) للطيِّب صالح نرى الراوي شخصية من شخصيات الرواية، تصف، كما يقول سامي سويدان، وتُوصف(48). وهذه الأمثلة الروائية تدلُّ دلالة لا يرقى إليها الشّكُّ على أن الرواية التقليديـة لم تتردّد في قبول التقنيات الحديثة وإنْ جهدت في توظيفها لخدمتها، وكادت الخيوط تفلت منها لصالح الرواية الجديدة في عدد من الروايات كرحيل البحر وموسم الهجرة إلى الشمال وتلك الرائحـة والمجوس(49) لإبراهيم الكوني.‏
4 / مهما يكن الأمر فإن البناء الفني لعدد لا يُستهان به من الروايات العربية أُصيب بالخلل نتيجة سيطرة المفهومات غير السليمة على النقَّاد والروائيين، وخصوصاً مفهوم المطابقة الذي يعني التطابق بين الواقعين الروائي والخارجي، ومحاكمة الأول استناداً إلى الثاني. ذلك أن مفهوم المطابقة أثَّر في مخيِّلة الروائيين العرب فأبعدها عن أن تُنْشِىء عملاً تخييلياً يكتفي بقوانينه الداخلية ويحيل إلى نفسه، ودفعها إلى التشبُّث بالمرجع الخارجيّ وتفصيل العالم المتخيَّل على مقاسه. ومن ثَمَّ لم تكن المطابقة مجافاة لمفهوم الرواية التقليدية فحسب، بل كانت، قبل ذلك وبعده، خرقاً للفنّ نفسه. ففنُّ الرواية التقليديّة يؤمن بخلق الشخصية الروائيّة المتخيَّلة، ويعدُّها مكوِّناً روائياً مهماً جـداً. ولكنّ العاملين في حقل علم النفس أثروا في النقاد والروائيين، فصرنا نرى الروائي نتيجة ذلك يُقدِّم ذاتاً فرديّة خاصّة أو استثنائيّة بغية الحديث عن جوهرها السيكولوجيّ الذي يتـفق وما قدَّمه المحلّلون النفسانيّون. والروائي، في هذه الحال، يقيم مطابقة بين المحتوى النفسي للإنسان في الواقـع الخارجي، والمحتوى نفسه للشخصية الروائية داخل المجتمع الروائي، غافلاً عن أنه يكفي داخل الرواية أن تنسجم الشخصية وطبيعتها النفسيّة والمزاجيّة وعلاقاتها الاجتماعيّة.‏
وهناك نوع آخر من المطابقة يتجسَّد في العلاقة بين الشخصية الروائيّة وخالقها الروائي. إذ انطلق بعض الروائيين العرب من أن الشخصية داخل المجتمع المتخيَّل انعكاس للتجارب المعيشة للروائيّ، وخصوصاً في الروايات التي تستعمل ضمير المتكلِّم(50)، وكأنّ الرواية سيرة ذاتيّـة لمؤلِّفها، أو هي سيرة إنسان آخر رغب الروائي في نقلها إلى القارىء. والمعروف أن الرواية التقليدية لا تقرُّ المطابقة بين الشخصية والروائي لسبب مهمّ هو أنها تعدُّ الشخصية ابتداعاً من الخيـال جسَّده الروائيّ ليحقِّق بوساطته غاية فنيّة محدَّدة(51). وليس ببعيد عنا ما فعله الروائيون ذوو العقائد السياسيّة من نقل الصفات التي يرونها صحيحة في الواقع الخارجي إلى شخصيات رواياتهم في نوع من الإسقاط يرضي نزوعهم الأيديولوجيّ. ولهذا السبب أصبحنا نلاحظ في البناء الروائي العربي نوعين من الشخصيات : شخصيات خيِّرة وأخرى شِرِّيرة، الأولى في القاع الاجتماعيّ الروائي والثانية في أعلى السُّلَّم الاجتماعيّ، بغية إقامة صراع بينها تستند إليه حركة الرواية الدرامية التي تنتهي في الغالب بانتصار العامل والفلاح والمظلوم على البرجوازي والإقطاعي والظالم. إن ثنائيّة الخيِّر والشِّرِّير، وهي ثنائيّة ضدّيّة، إحدى الثنائيّات التي نبعت من مفهوم المطابقة وربطت الروائي بالفكر وأبعدته عن رؤية الواقع الموضوعيّ للمجتمع العربي، وبالتالي أصابت البناء الفني للرواية العربية بالخلل لأنها جعلت مخيلة الروائيين مقيَّدة بالتعليمات الأيديولوجيّة، لا تملك القدرة على التحليق في الخيال لبناء عالم فني مقنع بقوانينه الداخلية وشرطه الإنسانيّ، وماتع ببنائه، ومؤثِّر بقدرته على فضح الدميم وترسيخ النبيل.‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 12 / 2009, 09 : 11 AM   رقم المشاركة : [4]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
- المقاربات النّقديّة للبناء الرُّوائيّ


حاولتُ في الحديث السابق توضيح مفهوم الرواية التقليدية العربية التي اخترتُ بعض نصوصها للتحليل في هذا الكتاب. ولاحظتُ في أثناء التدقيق في هذا المفهوم أن بناء الرواية التقليدية مغلق مكتفٍ بقوانينه الداخليّة، ينهض استناداً إلى السرد والشخصيّة والحكاية والزمان والمكان. وقادني ذلك إلى الاعتقاد بأن المنهج الشّكليّ صالح للمقاربة النقديّة لأيّ نصّ من نصوص هذه الرواية ؛ لأنه منهج يهتمّ بأسلوب الروائي في بناء عناصر روايته، وفي إقامة العلاقات بينها داخل المجتمع الروائي. فهو يملك إجراءات واضحة محدَّدة في بناء الشخصية والزمان والمكان والفضاء والسرد، وهي إجراءات تلائم مفهوم الرواية التقليدية، وتصلح لتحليل نصوصها وبيان طبيعتها.‏

ولكنّ اختياري المنهج الشكلي لم يكن نتيجة تحليل النصوص العربية التي اخترتُها للتحليل في هذا الكتاب فحسب، بل كان متابعة لجهدي التحليلي البنيوي الذي شرعتُ فيه قبل عقدين. إذ رحتُ أستعمل هذا المنهج في بدايات ثمانينيات القرن العشرين، وعزَّزتُ استعماله في بدايات التسعينيات حين كتبتُ رسالة الدكتوراه، وعنوانها (بناء الرواية العربية السورية). ولم يكن غريباً بالنسبة إليَّ، في أثناء ذلك كله، أن أرى هذا المنهج وريثاً شرعياً للبنيوية، والشيء الوحيد الباقي منها بعد زوال زبدها. ذلك أن إجراءات هذا المنهج وفّرت، لي ولغيري من الذين عملوا فيه، فرصاً ثمينة للإجابة عن السؤالين النقديين الأساسيين، وهما : كيف يبني الروائي هذا العنصر الروائي أو ذاك ؟. ثم كيف يُقيم العلاقات بين هذه العناصر في المجتمع الروائي ويُقدِّمها للقرّاء في شكل نصّ روائيّ ؟. وأزعم هنا أن الإجابة عن هذين السؤالين هي التحدي الحقيقيّ لناقد الرواية البعيد عن التَّستُّر وراء الأيديولوجيات، القريب من الإيمان بأن الرواية نصّ لغويّ لا يمكن تحليله إذا لم يملك الناقد المهارات التحليليّة التي تجعله قادراً على تحليل لغة النص الروائي لمعرفة العلاقة بين الرمز اللغويّ والمرموز إليه. بل إنني لا أشكُّ في أن نقد الرواية لا يكمن في المعرفة النظرية بالمنهج الشكلي وحدها، بل يكمن، قبل ذلك وبعده، في التحلِّي بالمهارات التطبيقيّة التي تجعل الناقد بصيراً بمواطن البناء الضعيفة والقوية. ولعلَّ ذلك هو الحافز إلى الاهتمام بالمقاربة النقدية للنصّ الروائي دون غيرها من أشكال النقد الروائي.‏

أقصد بالمقاربة النقدية هنا التحليل الجزئيّ وليس الكلّيّ للنصّ الروائيّ. وهـذا التحليل الجزئيّ ينطلق من فرضيّة نقدية هي الحاجـة إلى تحليل الجانب الفنيّ البارز في النص الروائي وإغفال العناصر الأخرى فيه. والمسوِّغ النقديّ المقبول لهذه المقاربة هو أن تحليل النص من جوانبه كلها مفيد جداً، ولكنّ ربط النصوص المحلَّلة ببعضها بعضاً غير ممكن إذا رغب الناقد في توضيح الصورة الفنيّة الكلّيّة للرواية العربية. قُلْ مثل ذلك بالنسبة إلى مفهوم المتن الروائي الذي يُفتِّته الناقد ثم يُعيد تركيبه. فهذا الشكل مفيد جداً، ولكنّه يجعل كلَّ رواية من الروايات التي تُشكِّل المتن الروائي مجرد رقم دال على جزئيّة فنية، دون أن يسمح للرواية التي تملك هذه الجزئيّة بإبراز جوانبها الفنية الأخرى التي ساعدت الجزئية المتألقة على البروز. وقد جرَّبتُ، على أية حال، شكل الاعتماد على المتن الروائي غير مرة، ورأيتُ من المفيد أن أجرِّب المقاربة النقدية أيضاً ؛ لأنني اعتقدتُ بأنها تُحلِّل الرواية تحليلاً جزئياً مقصوراً على العنصر الفني البارز في هذه الرواية، بحيث تتضح الصورة الكلية بإيجاز في أثناء هذا التحليل، فلا تفقد الرواية تميُّزها ولا صورتها الكلية، فضلاً عن عدم فقدانها الارتباط بغيرها في الدلالة على البناء الروائي. وحرصتُ، تجسيداً لهذه المقاربة، على أن أقسم الفصل الأول خمسة أقسام. أولها لخطاب الحكاية وافتتاحيّة الرواية، وثانيها لمنظور الراوي والروائي، وثالثها لبناء الفضاء الروائي، ورابعها لبناء السرد والمشهد، وخامسها لعلاقات الشخصية الروائية. كما حرصتُ على الإيجاز في المقاربة النظرية الممهِّدة والخاتمة لكلِّ قسم من الأقسام الخمسة ،منعاً لتكرار الأفكار التي ذكرتُها في كتابي السّابق.‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 12 / 2009, 12 : 11 AM   رقم المشاركة : [5]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
- خطاب الحكاية وافتتاحية الرّواية

ينطلق التحليل هنا من أن (الحكاية) مجموعة من الحوادث المتخيَّلة التي يسردها سارد، أو راو، متخيَّل. ولكنني لن ألتفت إلى تحليل الحدث المسرود، بل سألتفت إلى فعـل السرد نفسه على أنه خطاب ذو علاقتين : الأولى بين الخطاب والفعل الذي ينـتجه، والثانية بين الخطاب والحوادث التي يسردها. وقد نبع اختيار المنهج للخطاب السرديّ، أو خطاب الحكاية، من أن النموذج المحلَّل – وهو رواية (كريمة)(1) للدكتور مانع سعيد العتيـبة – اصطنع سارداً، ووكل إليه مهمّة الفعل السرديّ، وجعله وحده مسؤولاً عنه، دون أن يُشْرك فيه أيّاً من الشخصيات الروائية.‏

ولاشكّ في أن علاقتي الخطاب السرديّ هما اللتان سمحتا لي بتحليـل (الحكاية الروائية) بادىء الأمر، ثم تحليل العلاقة بين (الروائي والسارد)، لأخلص بعد ذلك إلى تحليل العلاقة بين (السارد والمسرود). ومن ثَمَّ كانت رواية (كريمة) نموذجاً لتحليل الفعل السرديّ، وليست مناسبة لتحليل محتوى الحوادث المسرودة .ذلك لأن هذه الرواية في المنظور المنهجي لخطاب الحكاية نصٌّ سرديّ أنتج فعلاً تخييلياً، وليست محتوى أو مضموناً صالحاً للتلخيص والتفسير.‏

والظّنُّ بأن منهجي الشكلي يسمح، في أثناء تحلـيل العلاقة بين الروائي والسارد، بتقديم وجهة نظر في السؤال الآتي : (ما علاقة مانع سعيد العتيـبة بسارد رواية كريمة ؟). وهذا السؤال ليس جديداً في النقد الروائي، ولكن طبيعة التحليل تجعلني أتشبّث بالنصّ الروائي دون أن أخرج عنه، على الرغم من المقارنة الشكلية التي أجريتها بين المستمَدّ من سيرة مانع سعيد العتيـبة والمستمَدّ من سيرة أبي يوسف الشخصية الروائية المحورية في (كريمة). فالمقارنـة لا تهدف إلى أن يتحكّم ما هو خارج النّصّ (سيرة العتيـبة) بما هو داخله، بل تهدف إلى الإفادة مما هو غير أدبيّ في تعليل الأدبيّ، وكأنّ السؤال النقديّ عن العلاقة بين الروائي والسارد موظَّف لخدمة تحليل النص الروائي السردي، وليس موظَّفاً لمجرّد معرفة الصلة بين مؤلِّف الرواية وساردها.‏

أوّلاً : الحكاية الرّوائيّة‏

ليس غريباً أن تستند رواية (كريمة) إلى حكاية ذات حدث رئيس وحوادث فرعية، بل الغريب أن تحافظ هذه الحكاية على مستوى أفقي من التوتّر الدّرامي طوال (624) صفحـة من القطع الكبير. وإذا كانت الحكاية سرداً خبرياً لحوادث مترابطة تقود إلى نهاية محدّدة، فإن المألوف في حوادث أية حكاية أن تنمو باتجاه ذروة تتشابك فيها الحوادث وتتعقّد وتتأزّم، بحيث يبلغ التوتر الدّراميّ الذي ينـتج عنها أقصى درجات الارتفاع، مما يجعله في حاجة إلى الانحدار ببطء، أو بسرعة ،حاملاً معه خواتيم الحوادث، وحلولاً لتعقيداتها، ونهاية لعلاقات الشّخصيات بها. تلك طبيعة البناء الحكائيّ : عرض فأزمة فحلّ. وهذه الطّبيعة هي العقدة في مصطلحات الرواية التقليديّة، وهي السّبيل إلى الإمساك بالقارىء من بداية الرواية إلى نهايتها.‏

بيد أنّ الحكاية الروائية في (كريمة) عافت العقدة الملازمة لطبيعة البناء الحكائيّ، وراحت تبدأ بالعرض، وتستمرّ فيه إلى نهاية الرواية، ملتزمـة في أثناء ذلك بالارتفاع إلى مجموعة من الرّوابي، بحيث توفّر الرّابية توتراً ما، ولكنّ هذا التوتر سَرْعان ما يتلاشى، ويستمرّ العرض بعده كما كان قبله دون أي تغيير .وبعد صفحات قليلة، أو كثيرة، يرتفع الحدث إلى رابية أخرى، محدثاً توتراً جديداً ،ثم زوالاً لهذا التوتر وعودة إلى العرض. وهكذا تبدو رواية (كريمة) مجموعة من التوترات المصاحبة للعرض، لا يتميّز فيها توتر من آخر، لأن التوتر لا يضيف جديداً إلى سابقه، ولا يسهم في أي تقدُّم للحدث الروائيّ، ولا يغيِّر شيئاً في الشخصيات ،وكأنّ التوترات كلّها غير موجودة.‏

ولكنّ القارىء الذي يعتقد بأن هذه التوترات ذات وظيفة فنيّة جوهرية في رواية (كريمة) لا يخدعه الشكل الحكائي الممتدّ، ومن ثَمَّ يسعى إلى تفكيك الحكاية بغية معرفة الوظيفة الفنية لهذه التوترات، وعلاقتها بالحدث الروائيّ، بعيداً عن المفهوم التقليديّ للعقدة، قريباً من المفهوم البنيويّ للحوافز الحكائيّة .‏

حوافز السّرد الحكائيّ :‏

الحوافز عوامل محرِّكة للسّرد، تدفعه إلى الأمام، وتُسوّغ حركته وابتداعه الحوادث. وحين يتمّ تفكيك السّرد في رواية (كريمة) تتضح ثلاثة حوافز مسؤولة عن استمرار العرض طوال هذا العدد الكبير من الصفحات (624 ص). أوّل هذه الحوافز وأقواها حافز الانتقام، وثانيها حافز الحبّ، وثالثها حافز الكراهية.‏

تبدأ الحكاية الروائيّة بحادث مرور يموت فيه والد كريمة، وتُصاب فيه أختها نزهة. ويتمّ التمهيد لهذا الحادث بإعجاب كريمة – وهي فتاة في الخامسة عشرة من عمرها – بأبيها، وتعلُّقها الشديد به، ومن ثَمَّ صدمتها بموته، حتى إنها لم تصدّق موته أول الأمر، ثمّ صبّت جام غضبها على الفاعل/السائق – واسمه عليّ – وقرّرت الانتقام منه ثأراً لأبيها. وحين اكتشفت أن هذا السائق (عليّ) يعمل حارساً شخصياً لرجل أعمال خليجيّ اسمه أبو يوسف، وأن نفوذ هذا الرجل أنقذ السائق من المحاكمة والعقاب، قرّرت أن يمتدّ انتقامها إليه. وحين جاء مجاهد، مدير مكتب أبي يوسف وساعده الأيمن إلى أسرة كريمة ليخفّف من وقع مصيـبتها، وينفحها مبلغاً من المال يساعدها على حياتها بعد وفاة عائلها، امتدّ الانتقام إليه هو الآخر. وهكذا شملت رغبة كريمة في الانتقام ما سمّته (عصابة أبي يوسف)، وتركّز هذا الانتقام في ثلاثة أشخاص هم : أبو يوسف ومجاهد وعليّ.‏

إنّ حافز الانتقام هو المسؤول عن الحلقات السّرديّة المتوالية في رواية كريمة. إذ إنه دفع كريمة إلى مغادرة منـزلها في بني ملال لتطلب عملاً لدى أبي يوسف في الرباط، منطلقة من أن هذا العمل سيسمح لها بالانتقام مادامت قريـبة من المسؤولين عن موت والدها. وقد تحقّـق لها ما أرادت، لأن أبا يوسف تكفّل برعاية أسرتها، فأنفق على أختها في المستشفى، وقدَّم لأمها مبلغاً كبيراً من المال، ووعد بتقديم أية مساعدة يطلبها أيّ فرد من أفراد هذه الأسرة. ومن ثَمَّ كان الانتقام حافزاً إلى العمل، أو قل إنه حفز إلى تشكيل الحلْقة السّرديّة الأولى، حلْقة دخول كريمة ساحـة المسؤولين عن موت والدها. وإذا كانت الحكاية سرداً خبرياً فإن حوادثها المترابطة تعني اتصال الحلقات السّرديّـة، بحيث تنبع اللاحقة من سابقتها، وتُمهِّد لنشوء حلْقة أخرى. وهكذا تُعبِّر الحلقات السّرديّة عن ترابط الحوادث وتُجسِّد في الوقت نفسه الحكاية التي يقدّمها السّرد. كما يُقاس تماسك الحكاية بقدرة الحلقات على الترابط المقنع للقارىء .وتوفير الإقناع عمل فنيّ جليل يحتاج إلى حوافز قادرة دائماً على دفع السّرد إلى الأمام، والمحافظة على حيويّته في أثناء حركته. ولهذا السّبب ضمّ حافز الانتقام وهو يُشكِّل الحلْقة السّرديّة الأولى توتراً ناشئاً من أن كريمة لا تستطيع التصريح برغبتها في الانتقام وهي مقبلة على طلب العمل لدى أبي يوسف، ولا تستطيع التّنصُّل من تصريحها أمام مجاهد، عقب وفاة والدها، بأنها ستنـتقم من القاتل. وقد أسهم التعديل الذي أجراه مانع سعيد العتيـبة على تصريح كريمة في إذكاء التوتر وفي جعله مقبولاً لدى مجاهد .‏

ذلك لأنّ كريمة صرّحت برغبتها في الانتقام مرّتين، مرّة أمام والدتها قائلة: (أعرف كيف أنتقم، وكيف آخذ ثأر أبي من قاتله وحتى من الذين يدافعون عن القاتل)(2). وهذا التصريح – كما هو واضح – شامل، لا يخصّ القاتل / السائق وحده، بل يشمل الذين يدافعون عنه. وهؤلاء الذين يدافعون عنه –كما سنفهم من السياق اللاحق للرواية – يقتصرون على أبي يوسف ومجاهد. ولكنّ مانع سعيد العتيـبة عدَّل هذا التصريح حين حضر مجاهد لتعزية الأسرة. ففي أثناء التعزية قابلته كريمة بالتصريح الآتي المعدَّل عن سابقه : (بل اعلم جيداً ما أقول. لا يمكن أن نقبل ثمناً لحياة أبي إلا رأس ذلك القاتل المجرم)(3) . وموطن التعديل هو تخصيص الانتقام بقصره على عليّ/السائق وحده. وهذا تخفيف من حدّة التصريح الأول ومن شموله، ولكنه تخفيف مقبول في المنطق الروائي ،لأن الانتقام معلَّل فيه مادامت كريمة المعبِّرة عنه فتاة فقدت حديثاً أباها الذي يعيل أسرتها. بل إن إعالة الأسرة هي المسوّغ الذي قدَّمته كريمة لطلبها العمل لدى أبي يوسف(4). ونستطيع أن نلاحظ أن موافقة أبي يوسف على عمل كريمة لديه أزال التوتر، وشكَّل نهاية الحلْقة السّرديّة الأولى، وزرع الحاجة إلى حافز إضافيّ.‏

يُوسِّع حافز الحبّ الدّائرة التي يتحرّك فيها الانتقام. فأبو يوسف يقبع في الوسط وحوله دائرتا حبّ تتجاذبانه، حبّ الأميرة زوجته، وحبّ سلمى عشيقته. وحين يوافق على عمل كريمة لديه يُنْشِىء دائرة حبّ ثالثة تقبع فيها كريمة. وتُشكِّل الدّوائر الثلاث الحلْقة السّرديّة الثّانية في الرواية، وهي حلْقة ممتدّة لأن حافز الحبّ فيها دائم الانتقال من دائرة إلى أخرى.‏

أمّا دائرة كريمة فتبقى أول الأمر بعيدة عن الفعل المنظور، هامشيّة لا يعيرها أبو يوسف اهتمامه. وهذا واضح من مخاطبته عليّاً (السائق) بعد موافقته على عمل كريمة لديه وملاحظته تجهُّم وجه عليّ تعبيراً عن خشيته منها، فقال له : (اسمع يا عليّ. البنت طيبة، ولا يمكنها أن تشكل أي تهديد لك، ونحن بطريقة أو بأخرى مسؤولون عن تأمين حياة هذه الأسرة بعد أن غاب عنها عائلها. وأن تظل هذه البنت في رعايتنا أفضل بكثير من تركها تتسكع في الطرقات وتتعـرض لمختلف الأخطار والأضرار خاصة وأنها جميلة كما يقول مجاهد. وقد يجر عليها جمالها الكثير من المتاعب)(5) .‏

ينمّ هذا الخطاب الذي جرى قبل رؤية أبي يوسف كريمة على أن التوتر الذي صاحب التهديد الذي صرّحت به كريمة أمام مجاهد قد تلاشى نهائياً، وحلَّ محلَّه اعتقادٌ بأن الفتاة طيـّبة لا يمكن أن تُشكِّل أيّ تهديد لعليّ تبعاً لصغر سنّها. كما يُعبِّر الخطاب نفسه عن هامشيّة كريمة في بداية الحلْقة السّرديّة الثّانية. وقد انطلقت كريمة من هذه الهامشية، بل إنها كانت تدرك أنها لا تستطيع إعلان رغبتها في الانتقام مادامت هامشيّة. ولهذا السّبب جعلت الحبّ قناعاً للانتقام، ووجَّهته إلى أبي يوسف،وبدأت تعمل بتأن وروية لإيقاع أبي يوسف في حبائلها بعد إيهامه بحبّها له. وهكذا شرع حافز الحبّ يوجِّه سلوكاتها الروائية، ويجعلها تفيد من ذكائها وجمالها.‏

ولا تختلف دائرتا سلمى والأميرة عن دائرة كريمة في أن حافز الحبّ يُوجِّه سلوكات القابعين فيهما، وهم أبو يوسف والأميرة وسلمى. ولكنّ الروايـة لا تعرض بداية علاقة الحبّ ولا تطوّراتها، بل تعرض خواتيمها المتمثّلة في انصراف أبي يوسف إلى عشيقته سلمى وإهماله زوجته، وفي محاولة سلمى الزّواج منه بادّعاء حملها وخوفها من الفضيحة. والواضح أن الرواية اختارت خواتيم العلاقة في هاتين الدّائرتين لتُعجِّل في قيادة دائرة كريمة إلى صدارة الحدث الروائيّ. ومن ثَمَّ أعلنت التنافس الحادّ بين الأميرة وسلمى على أبي يوسف، وغضب الأميرة من زوجها أبي يوسف لإهماله لها، واقتراب سلمى من النجاح في الزّواج من أبي يوسف لأنه راغب في الاحتفاظ بطفله منها. ههنا يبرز الحافز الثّالث، حافز الكراهية ليفضح ادّعاء سلمى بالحمل، وخيانتها أبا يوسف مع عشيقها (محمود)، ثمّ استبعاد دائرتها، وعودة الصّفاء إلى علاقة أبي يوسف بزوجته الأميرة، واكتمال الحلْقة السّرديّة الثانية.‏

تبدأ الحلْقة السّرديّة الثّالثة، وهي الأخيرة في الرواية، ببروز دائرة كريمة وهي تضمّ الحوافز الثلاثة معاً : الانتقام والحبّ والكراهية. أمّا الانتقام فهو الهدف المستتر الذي يـبقى طيّ الكتمان إلا في النجوى الذّاتيّة لكريمة وفي أثناء تدوينها مذكّراتها. وأمّا الحبّ والكراهية فقد جسّدتهما الرواية في صورتين: صورة معلنة، بدأت بمحاولة كريمة إغراء أبي يوسف، وانتهت بإيمان أبي يوسف بأنه يحبّ كريمة ويرغب في الزّواج منها وإنْ كانت صغيرة. وصورة ثانية هي ازدواجيّة شخصيّة كريمة، إذ تشعر حيناً بأنها تحبّ أبا يوسف، وتشعر حيناً آخر بأنها تكرهه. وتعلّل الرواية هذه الازدواجيّة بأن كريمة أحبّت أبا يوسف لأنها لم تر في سلوكه ما يدلّ على صدق ظنّها السيّىء فيه، وبأنها كرهته لأنه أنقذ علياً (السائق) من العقاب. وعلى الرغم من أن غالبية الرواية انصرفت إلى الحلْقة السّرديّة الثّالثة، وكانت الحوافز الثلاثة توجِّه سلوك كريمة فيها، وتعلن محاولاتها الإيقاع بين الناس المحيطين بأبي يوسف ، إضافة إلى زيادة الشّكوك لدى مجاهد وعليّ في نيّاتها، فإن التوترات كانت تنمو ثمّ تخبو دون أن تُخلِّف أثراً، لأنها غير مصحوبة بفعل يجسِّد الانتقام والكراهية، أو فعل يلغيهما ويعلن الحبّ الحقيقيّ.‏

من ذلك محاولة كريمة دسّ بعض المساحيق التي حصلت عليها من إحدى السّاحرات في طعام أبي يوسف(6) ، مما جعله يحسّ بالاختناق، ويضطر إلى السّفر إلى الولايات المتحدة للعلاج بعد عجز الأطباء عن معرفة سبب‏

اختناقه(7). فقد صحب هذه المحاولةَ توترٌ شديدٌ يجعل القارىء يعتقد بأن كريمة شرعت تنجح في الانتقام من أبي يوسف، أو بأن محاولتها ستنكشف بعد شكّ مجاهد في أنها دسّت سمّاً لأبي يوسف في الطعام(8)، ولكنّ هذا التوتر سَرْعان ما تلاشى ولم يبق منه أثر، وكأنّ حَدَثَ دسِّ السّمّ عرضيّ في الرواية لا يستحقّ أن يشكّل أزمة فيها. تلك أيضاً حال محاولات كريمة زرع الشّكّ في نفس زوج سلمى بعد ابتعاد سلمى عن أبي يوسف واستقرار حياتها الزوجية، وتحريضها الأميرة على الشّكّ في زوجها، واتصالها بزوجة مجاهد للغاية نفسها، إضافة إلى محاولتيها المباشرتين الانحراف بسيارتي مجاهد وعليّ. فقد كان التوتر ينشأ إثر كلّ محاولة من هذه المحاولات، ولكنّ أثره يتلاشى لتستمرّ الرواية بعده كما كانت قبله. وهذا يعني أن التوترات لم تُوظَّف لإنهاء قضية الانتقام في الرواية، بل وُظِّفت لإحيائها كلّما خبت وابتعد السياق الروائيّ عنها. وكأنّ مانع سعيد العتيـبة راغب في أن يستمرّ عرض الحوادث إلى نهاية الرواية، ولكنه يعلم أن الاستمرار في هذا العرض يحتاج إلى منشِّطات روائية ، بحيث يبقى القارىء يتذكّر أن حافز الانتقام هو الدّافع الأساسيّ للحوادث، وأن إنهاءه سيعني إنهاء الرواية. ولهذا السّبب ختم الرواية باقتراب كريمة من النجاح في دسّ السّمّ لأبي يوسف ومجاهد وعليّ، وعدولها عن هذه المحاولة، وتخلّيها عن الانتقام نهائياً، وعودتها إلى أهلها وحياتها الطبيعيّة، بعد اكتشافها أن حادث المرور يمكن أن يقع دون قصد من سائق السّيّارة، وبأن علياً الذي افتداها بنفسه بعد دعسها الرجل في الشارع دون قصد منها لم ينو دعس أبيها، أو يرغب في ذلك. ومن ثَمَّ زال مسوّغ انتقامها منه، كما زال مسوّغ انتقامها من أبي يوسف ومجاهد اللذين دافعا عن عليّ، وأبعدا العقاب عنه لإيمانهما بأن حادث السيّارة قضاء وقدر. ولابدَّ من أن تنتهي الحكاية الروائية بزوال المسوّغ الذي ابتدع حلقاتها وربط بين حوادثها .‏

ثانياً : الرّوائيّ والسّارد‏

اهتمَّ نقّاد السرديّات ،ولاسيّما البنيويون ،بالعلاقة بين الروائي (مؤلِّف الرواية) والسّارد (الذي يتولّى مهمّة سرد الحكاية داخل الرواية). ونتج عن هذا الاهتمام اجتهادات كثيرة، ومناقشات مستفيضة، ذهب بعضها إلى موت المؤلِّف (بارت) ومسؤولية السارد عن الرواية كلّها. واعترف بعضها الآخر (تودوروف) بالمؤلِّف وسمّاه المؤلِّف الضمني، وخصَّ السارد بمهمّة تقديم الحكاية، أو سردها على المسرود له. ودمج بعض ثالث (جنيت) بين المؤلِّف والسارد ،فعدَّ المؤلِّف صاحب الرواية، وعدَّ السارد شريكاً له فيها. وما من شكّ في أن هذه الاجتهادات وغيرها أسهمت في ترسيخ مفهومات سردية جديدة، وحفزت على مناقشتها(9). بيد أن القضيـة، في أثناء تحليل النصوص الروائيـة، لا تكمن في الانحياز إلى اجتهاد من هذه الاجتهادات (الغربية مولداً ونشأةً)، ولا في تلفيقها، أي الجمع بينها، بغية الإفادة منها كلّها، بل تكمن في طبيعة النصّ المحلَّل، وفي قدرة المحلِّل على تفكيكه وإعادة تركيبه بعد تمثُّله المفهومات السردية.‏

ولاشكّ عندي في أن الروائي هو الذي يبدع روايته، ولكن طبيعـة الإبداع السردي التخييلية تدفعه إلى بناء مجتمع روائي يُوهِم بالمجتمع الخارجي الحقيقي، وتجبره على ألا يُحرِّك هذا المجتمع بنفسه ،بل يتركه للسارد ليتصرَّف فيه كما يشاء الروائي، مما يجعل السارد جزءاً من اللعبة الروائية التخييلية، ويُحدِّد مستوى الرواية الفنيّ تبعاً للمكان الذي وضع فيه الروائي سارده، واستناداً إلى قدرة هذا المكان على الإيهام باختفاء الروائي وبمحدودية عِلْم السارد.‏

يمكنني القول، بعد هذا كلّه، إن الروائي مانع سعيد العتيـبة لا يختلف عن الروائيين العرب الآخرين في أنه لم يرغب في إدارة دفّة روايته (كريمة) بشكل مباشر، ومن ثَمَّ اصطنع بوساطة اللغة سارداً ذا مهمّة محدّدة، هي تنظيم تقديم الحكاية الروائية للقارىء. وهـذا السارد جزء من اللعبة الروائية التخييلية، ولكنه ليس جزءاً من الحكاية الروائية. والمشكلة الرئيسة التي سأتحدّث عنها في الفقرة القابلة هي علاقة هذا السارد بالمسرود، أي الحكاية الروائية التي انتدب مانع سعيد العتيـبة السارد لتقديمها للقارىء. وسأسعى ههنا إلى تقديم وجهة نظر في قدرة مانع سعيد العتيـبة على الاختفاء وراء السارد الذي ابتدعه، بغية التمهيد للحديث القابل الذي سيتكفَّل بالإشارة إلى مدى عِلْم السارد.‏

لا يغيب عن قارىء رواية (كريمة) أن شخصية أبي يوسف هي البؤرة المحورية للرواية كلّها، على الرغم من أن عنوان الرواية (كريمة) يوحي بأن البؤرة المحورية هي كريمة. ولستُ، ههنا، في معرض تحليل الشخصيات الروائية، ولكنني ما أفتأ أعتقد بأن إبعاد أبي يوسف عن عنوان الرواية، وهو بؤرتها، لا يعني شيئاً غير محاولة مانع سعيد العتيـبة الاختفاء وراء السارد الذي يروي حكاية انتقام كريمة. ولا يتحقّق هذا الاختفاء لو حملت الروايـة عنواناً يدلّ على أبي يوسف، تبعاً للتشابه بين الروائي (مانع) وشخصية أبي يوسف. والظن بأن هناك تشابهاً شكلياً وآخر فلسفياً بين مانع وأبي يوسف .أما التشابه الشكلي فيوضِّحه التطابق في الجدول الآتي بين أبي يوسف والمعروف من سيرة مانع العتيـبة :‏

أبو يوسف مانع‏

1-خليجي 1-خليجي‏

2-من دولة الإمارات 2-من دولة الإمارات‏

3-غني 3-غني‏

4-شاعر 4-شاعر‏

5-ذو صلة قويّة بالمغرب 5-ذو صلة قويّة بالمغرب‏

يشير الجدول السابق إلى التطابق بين مانع وأبي يوسف، فكلٌّ منهما خليجيّ شاعر ذو صلة قويّة بالمغرب. وهذا التطابق الشكلي ليس مستمداً من إشارات سريعة، كما هي حال الإشارتين في ص 573 وص 617 إلى أن أبا يوسف من دولة الإمارات. أو من إشارات مضمونية متأنية، كما هي حال اهتمام أبي يوسف بالشعر إبداعاً وروايةً، إذ قدَّم في الرواية خمسة وسبعين بيتاً من إبداعه في الشعر الفصيح(10) ، وبيتين من الشعر النبطي(11)، وروى خمسة أبيات لشعراء آخرين(12) .أو حال دولة المغرب التي تدور فيها الحوادث الروائية، فحسب. بل إن التطابق الشكلي مستمدّ أيضاً من خارج رواية كريمة. إذ إن مانع سعيد العتيـبة أصدر عدداً كبيراً من دواوين الشعر، ولديه عادة في هذه الدواوين هي تدوين اسم المكان الذي ألَّف فيه القصيدة، وتاريخ تأليفـه لهـا. وقد راجعتُ ديوان (ضياع اليقين)(13) ،وهو الديوان التاسع عشر للشاعر العتيـبة، بغية تتبُّع أسماء الأمكنـة والتواريخ الخاصة بقصائد الديوان، وهي أربع وعشرون قصيدة. فلاحظتُ أن عشر قصائد أُلِّفت في الرباط وغنـتوت، خمس في الرباط(14)، وخمس في غنـتوت(15) (قرب تطوان). وهذا يدلّ على صلة العتيـبة القوية بالمغرب، وإنْ كانت تواريخ إبداع هذه القصائد تدلّ على الأمر نفسه على نحو أكثر عمقاً. فالقصائد مؤرَّخة في :‏

1 /2 /1987 - 13/3/1987 - 8 /5 /1987 - 28/7/1987‏

8 /9 /1987 - 9 /9 /1987 - 10/9/1987 - 25/12/1987‏

- 8 /1 /1988 - 11/3/1988‏

تدلّ التواريخ على أن العتيـبة حلَّ في المغرب في الشهر الثاني والثالث والخامس والسابع والتاسع والثاني عشر من عام 1987، وفي الشهرين الأول والثالث من عام 1988، وأن وجوده في المغرب لم يكن عابراً، لا يسمح له بالاستقرار الكافي لإبداع قصيدة، بل كان وجوداً يتمتّع بشيء من الاستقرار الزمني والنفسي بحيث يتمكّن من الإبداع الشعري. وهذا كلّه يعني أن صلته بالمغرب كانت قوية متكرّرة راسخة، وهي الصلة نفسها التي رأيناها في سارد رواية (كريمة) ،إذ كانت إشاراته وأوصافه للأمكنة في المغرب تدلّ دلالة واضحة على أنه لا يعرف المغرب معرفة زائر أو سائح، بل معرفة خبير مدقّق. ولاشكّ في أن معرفة العتيـبة بالأمكنة المغربية تسرَّبت إلى رواية (كريمة) بوساطة السارد الذي فضح نيابته عن الروائي العتيـبة باستخدامه معارف الروائـي الذي يختفي وراءه. ولو اختير عنوان (أبي يوسف) للرواية لافتُضح أمر المختفي ،وابتدأ خيط جديد من التحليل يتعلّق بالرواية السيريّة، أو الرواية التي تضمّ قدراً من سيرة صاحبها ،كما هي حال الروايات الأولى للروائيين في الغالب الأعم.‏

أما التشابه الفلسفي بين الروائي (مانع) وأبي يوسف فواضح من رؤيا كلٍّ منهما للعالم. فأبو يوسف شخصية روائية لا تتصف بكتابة الشعر فحسب، بل تملك رؤيا الشاعر للعالم، وهي رؤيا تنطلق من أن الإنسان خيِّر، يستحقّ أن يعيش بأمان بعيداً عـن الظلم وضرورات الحياة المادية، حالم بالحب والحنان، لا يتنصّل من مسؤولياته، ولا يكفّ عن مساعدة الآخرين. وتطيف بهذه الرؤيا مكوِّنات رومانسية عامة في رواية (كريمة)، كالبكاء والموت والانتقام والكراهية والغيرة والمبالغة والانصراف إلى علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل والعفو والتسامح وما إلى ذلك. تلك أيضاً رؤيا سعيد مانع العتيـبة الشاعر كما تُعبِّر عنها دواوينه، وإنْ لبست – إضافة إلى ما سبق – اللبوس القومي العربي، وتخلّت عن بعض المكوّنات الرومانسية المبثوثة في رواية (كريمة). ولعلّ دراسة مستقلّة عن رؤيا العتيـبة تضفي مزيداً من التحديد على قضية التطابق الفلسفي بين رؤيا الشاعر ورؤيا الشخصية الروائية، وتفضح الروائي المختفي وراء السارد في حال اعتماد (أبي يوسف) عنواناً للرواية.‏

إن العلاقة بين الروائي والسارد حتمية، ولكنها علاقة إبداعية تخضع لشروط الإبداع الروائي وإجراءاته. وقد حرص مانع سعيد العتيـبة على أن يُبْعِد القارىء عن التشابه بينه وبين شخصية أبي يوسف، باختيار كريمة عنواناً للرواية. بيد أن تفكيك نص الرواية يحيل إلى أن الرغبة شيء وتجسيدها شيء آخر، ومن ثَمَّ يفتح كوّة الرواية السيرية، ويزرع الصوى أمام ملامحها في رواية (كريمة).‏

ثالثاً : السّارد والمسرود‏

تبدو العلاقة بين السارد والمسرود في رواية (كريمة) واضحة أول وهلة. ولكن إنعام النظر فيها يشير إلى أنها شائكة، أو أقرب إلى أن تكون ملتبسة، كما هي حالها دائماً في السرد الروائي التقليدي. ذلك لأن السارد في رواية (كريمة) اتخذ وضعية السارد العالم بكل شيء. وهذا السارد هو صاحب الرؤيا من خلف بحسب مصطلح بويون، والرؤيا غير المبأّرة، أو التبئير في درجة الصفر، بحسب مصطلح جنيت(16) . بيد أن تودوروف اهتم به أيضاً، وحرص على توضيح طبيعته التي تبدو مقبولة في أثناء تحليل رواية (كريمة) .فهو يعدُّ هذا السارد أكثر علماً من الشخصية الروائية، بل إنه يقول أكثر مما تعلمه هذه الشخصية. وقد دلّتني تجربة تحليل النصوص الروائيـة على أن هذا السارد العالم بكلّ شيء مراوغ، لا يخلص لطبيعته وحدها، بل يتلوّن أحياناً فيبدو سارداً مساوياً في علمه لما تعلمه الشخصية، ويـبدو في أحايين أخرى أقلّ علماً مما تعلمه الشخصية. ويخيَّل إليَّ أن السارد في رواية (كريمة) مراوغ جداً، لا يكتفي بالتلوُّن، بل يسعى إلى أن يشمل علمه الشخصيات الروائية كلّها، سواء أكانت رئيسة (كريمة – أبو يوسف – مجاهد) أم ثانوية (الأميرة – سلمى – علي …). ولاشكّ في أن المسرود تأثّر بهذا التلوُّن، فبدت الحكاية الروائية المسرودة متلوّنة بألوانه، ومتّصفة بصفاته، ومتأثّرة بطبيعته. ومن المفيد توضيح هذا الأمر انطلاقاً من المقطع الروائي الآتي :‏

(رغم كل ساعات العمل الطويلة التي كان يقضيها أبو يوسف سواء في مقر الشركة أو في المنشآت نفسها .. إلا أنه كان دائم الابتسام والرضا .. يذكر التعب ويتظاهر بالارتياح. وكانت كريمة مواكبة لهذا التطور الجديد الذي حدث ومساهمة إلى حد ما في جعل ساعات الراحة لأبي يوسف أشبه ما يكون بالمهرجان .. سواء بتنوع المشروبات التي تعدّها أو الوجبات التي تطلب من الطباخ أن يجهزها .. ولكنها بدأت تلاحظ أن أبا يوسف لم يعد ذلـك المهتم بها والمتأثر بجمالها .. وهي ترفض بكل تأكيد أن ينظر إليها كخادمة أو جارية. إنها كريمة عبد الرحمن التي يجب أن تحمل اسمه وتصبح زوجته ثم بعد ذلك تقوم بتدميره انتقاماً لأبيها .. ولم تتورع وهي تحاول إيقاعـه في مصيدتها من الظهور أمامه بملابس النوم الشفافة .. بل وأحياناً بملابسها الداخلية حينما كانت تترك باب غرفتها مفتوحاً بحيث لا مفر لديه من رؤيتها وهو يصعد إلى غرفته المجاورة أو ينـزل منها. كانت كريمـة تدرك خطورة سلاح الإغراء على أبي يوسف .. وتعرف أيضاً أنها سيدة هذا السلاح الأولى.. فهي ذات جسم رياضي متناسق .. وأنوثتها لا تقاوم .. وتعجبت كيف لم تستطع رغم مرور أكثر من سنة على معرفتها بالرجل من الإيقاع به. صحيح أنه مصر على النظر إليها بعين الأب، ولكنها لم تفهم كيف يبقى على إصراره وهي تصارحه بأنه لن يكون أباً ولن تكون هي ابنته …)(17) .‏

يدلّ المقطع السابق على أن السارد انتقل من أبي يوسف إلى كريمة، وآثر في خواتيم المقطع أن يمزج بينهما. وما فعله السارد في هذا المقطع يمكن عدُّه نموذجاً لما فعله في الرواية كلّها. فهو غير راغب في التّستُّر وراء إحدى الشخصيات الرئيسة الثلاث (أبو يوسف – كريمة – مجاهد)، بغية سرد الحوادث من وجهة نظرها، بل هو راغب في الانتقال من شخصية إلى أخرى لينقل للقارىء وجهات نظر الشخصيات جميعها في الحدث الروائي. وهذا الانتقال حدَّد علاقته بالحكاية المسرودة، إذ بدا مشرفاً مسيطراً على تنظيم تقديمها للقارىء، يحجب منها ما يرغب في تأخيره وإخفائه، ويُقدِّم منها ما يرى وجوب تقديمه. ولهذا السبب لم ير في المقطع السابق أية ضرورة لتفصيل القول في ساعات العمل الطويلة التي قضاها أبو يوسف في شركته ومنشآته، لأن هذا التفصيل لا يخدم الحكاية الروائية، تبعاً لدورانه حول جانب العمل عند أبي يوسف، وهو جانب لا تلتفت إليه رؤيا رواية (كريمة)، على الرغم من إشاراتها الكثـيرة إلى أهمية مشروعه في المغرب، وترجُّح هذا المشروع بين الربح والخسارة، وإسهام أبي يوسف ومجاهد وغيرهما في الحديث عنه وإعلان الاهتمام به. ذلك لأن الروايـة مهتمّة برصد جوانب العلاقات العاطفية والإنسانية والأدبية عند أبي يوسف ليس غير، وما الإشارات الغزيرة إلى العمل إلا المسوّغ الروائي لوجود أبي يوسف في المغرب بعيداً عن وطنه الإمارات(18). ولهذا كلّـه قدَّم الساردُ المسرودَ في بداية المقطع في هيئة (التلخيص)، تلخيص ساعات العمل الطويلة المرهقة في عبارة واحدة. ولعلّ هذا التلخيص خدم غرض السارد في منح أبي يوسف صفة جديدة فوق صفاته الروائية، هي صبره على العمل الطويل دون أن يشعر الآخرون المحيطون به بإرهاقه وقدرته على أن يُبْعِدهم عن تعبه الخاص بإظهار الارتياح، نقيض التعب.‏

ثم إن هذا التلخيص خدم السارد في شيء آخر له علاقة أساسية بالحكاية المسرودة، هو موقف كريمة من انصراف أبي يوسف إلى العمل ساعات طويلة بغية إنقاذ شركته ومنشآتـه. ولهذا السبب انتقل إلى كريمة مباشرة، وراح ينص على أنها واكبت انصراف أبي يوسف إلى العمل، من خلال تأمينها الطعام والمشروبات له عندما كان يعود إلى (فيلا الراحة). بيد أن هذه المواكبة ليست غير محاولة شكلية من محاولات شكلية كثيرة في الحكاية المسرودة للتقرُّب من أبي يوسف، في حين كانت محاولاتها الجوهرية تكمن في إيقاعه في حبائل جسدها، بغية السيطرة عليه ثم الانتقام منه. وهذا هو مسوّغ انتقال السارد بسرعة من المحاولة الشكلية لتأمين الطعام والشراب لأبي يوسف إلى المحاولة الجوهرية وهي إيقاعه في حبائل جسد كريمة. ولاشكّ في أن حديث السارد، في المقطع السابق، عمّا فعلته كريمة للإيقاع بأبي يوسف يتسم بالحرص على التفصيلات والأمثلة والنـتائج ،حتى إذا انتهى ذلك كله أعلن السارد استمرار المشكلة الروائية، وهي بقاء أبي يوسف ينظر إلى كريمة نظرة أب، وبقاء كريمة ترفض هذه النظرة منه. ومن البديهي القول إن المزج في آخر المقطع خدم الحكاية المسرودة، فأبقاها في حاجة إلى الاندفاع إلى الأمام، وأبقى السارد مستمراً في تنظيم تقديمها للقارىء.‏

بيد أن علاقة السارد بالمسرود في المقطع السابق لا تقتصر على الانتقال من شخصية إلى أخرى، بغية السيطرة على المسرود، وتقديمه للقارىء بحسب الهدف الروائي … بل تمتدّ إلى أن هذا السارد يعلم الحركة الداخلية للشخصيات التي يتنقَّل بينها، ولا يكتفي بمعرفة حركتها الخارجية. ومن ثَمَّ برزت في المسرود ألفاظ تدلّ على دخيلـة شخصيتي أبي يوسف وكريمة، وهي :‏

أبو يوسف : يتظاهر – مصرٌّ على .‏

كريمــة : تلاحظ – ترفض – تدرك – تعرف – تعجبت – لم تفهم.‏

تشير الألفاظ السابقة – وهي أفعال في الغالب الأعم – إلى أن السارد لم يكتف بالحلول في دخيلة أبي يوسف، أو كريمة، بل حلَّ في دخيلة الشخصيتين معاً ،وكان في أثناء حركته الخارجية بينهما يلج إلى دخيلتهما بالتناوب ،ويعرض ما يتظاهران به، أو ما يلاحظانه، أو يعرفانه، أو يفهمانه … دون أن يترك لهما فرصة التعبير عن ذلك بأنفسهما في المقطع. وهذا ديدنه أيضاً في الحكاية الروائية كلّها، مما يعني أن علمه أكبر من علم شخصياته منفردةً ومجتمعةً ،وأنه مسيطر على حركتها الخارجية والداخلية، معبِّر عن وجهات نظرها بلغته نفسها، وهي لغة غير قادرة، بداهةً، على أن تمنح الشخصيات تمايزاً أسلوبياً في المسرود.‏

وما من شكّ في أن سيطرة السارد على المسرود في رواية (كريمة) تُعبِّر عن شكل من أشكال الرواية العربية التقليدية مازال سائداً رائجاً، تبعاً لإيمانه بأن الرواية ليست شيئاً غير الحكاية التي تروي خبراً مفصَّلاً عن شيء محدَّد، وأن الشخصيات التي تنهض بهذه الحكاية تتمايز بصفاتها وأنواعها ليس غير، وتخضع فيما عدا ذلك لهدف الرواية ومغزاها، وتتحرّك داخل الحكايـة بإرادة السارد، فتبدو دمى أو أشبه بالدمى بين يدي سارد صارم. ويبدو المسرود في هيئته العامـة حكاية أفكار وليس حكاية أفعال، لأن الشخصيات تتكلّم ولا تفعل ،وحين ينتهي كلامها ينتقل السارد بها إلى موقف آخر لتتكلّم من جديد، أو يهملها لينـتقل إلى شخصية أخرى كان أهملها، فيجعلها تنطق وتحاور الآخرين … وهكذا بدا المسرود في رواية (كريمة) في حاجة إلى شيء من الحرية الفنية، بحيث يبدو فعل الشخصية نابعاً من آرائها ومواقفها ودخيلتها ونظرتها إلى الحياة، وتبدو لغتها، تبعاً لذلك، خاصة بها وحدها، معبِّرة عن مستواها الفكري، عاملة على تمييزها من الشخصيات الأخرى.‏

افتتاحية الرواية :‏

تُقاس افتتاحيّة الرواية استناداً إلى وظيفتها، وهي إدخال القارىء عالم الرواية التخييلي بأبعاده كلها، من خلال تقديم الخلفيّة العامة لهذا العالم والخلفيّة الخاصّة بكل شخصية ليستطيع ربط الخيوط والأحداث التي ستُنسج بعدُ(19). وهذا يعني أن الافتتاحيّة وحدة وظيفيّة أساسيّة من وحدات الرواية، تُمهِّد لما سيأتي بعدها وتفعل فعلها فيه، فضلاً عن أنها تُقدِّم للقارىء المسوغات التخييليّة للحوادث اللاحقة في المجتمع الروائي. وتشير الروايات ذات البناء المتماسك إلى أن الاكتفاء بفقرة صغيرة في عدد قليل من الأسطر لا يستطيع تجسيد وظيفة الافتتاحيّة، ما يعني أن الافتتاحيّة تحتاج إلى شيء من التفصيل يتيح للروائي فرصة بناء نص ذي وحدة وظيفيّة أساسيّة. فافتتاحيّة (بين القصرين) لنجيب محفوظ بلغت تسعاً ومائة صفحة في خمسة عشر فصلاً(20)، في حـين اكتفى فلوبير في (مدام بوفاري) بأربعين صفحة. وإذا كان هذا كله يدلُّ على أن افتتاحيّة الرواية ليست واحدة في الروايات وإن كانت لها وظيفة مشتركة، فإنه يُشجِّع على تعرُّف أساليب الروائيين العرب في بناء الافتتاحيّة الروائيّة. وسأحلِّل هنا افتتاحية الرواية في ثلاثة نصوص لعبد الكريم ناصيف ونص واحد لكوليت خوري ؛ لأنها نموذجات فنية تستحق إنعام النظر.‏

يمكنني القول، بادىء الأمر، إن الطابع العام لروايات عبد الكريم ناصيف طابع رمزيّ، يتيح للمناهج النقدية المعنيّة بالتأويل فرصاً ذهبيّة لتفسير دلالاتها ومعرفة صلاتها بالواقع العربيّ. ولكنّ هذا الطابع لا يمنع من تحليل هذه الروايات من وجهة نظر المنهج البنيويّ ،بعيداً عن أي تأويل أو ربط للنصوص بمرجع خارجيّ. صحيح أن هذا المنهج لا يخدم الناقد الولوع بأحكام القيمة وبالوظيفة الاجتماعيّة التربويّة للنص الروائيّ، ولكنّ الصحيح أيضاً أنه يصف بناء الرواية، ويخدم القارىء في تعرُّف أدبيّتها. ولا تشكو روايات عبد الكريم ناصيف من القدرة على مواجهة المنهج البنيويّ، بل إن الناقد البنيويّ سيلاحظ فيها تدقيقاً ينم على أن صاحبها معني أساساً ببناء رواية فنية، وأن الرمز لديه ليس بديلاً من الواقع أو خشية من تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقيّة، بل هو سعي فني إلى تخليص هذا الواقع من آنيته والارتقاء به إلى عالم التخيُّل، ذلك العالم القادر على التعبير عن جوهر الواقع وآلية حركته. ولا أشكّ في أن تحليل الافتتاحية في روايات ناصيف يؤكد هذا الأمر، ويعزِّز اهتمام النقد العربيّ بهذه الافتتاحيّة(21)، وينبّه على أنها وحدة وظيفيّة رئيسة في النصوص الروائيّة المعترف بجودتها. فما أمر هذه الافتتاحيّة في ثلاث روايات لعبد الكريم ناصيف هي: البحث عن نجم القطب(22)، المد والجزر _ الصعود(23)، المخطوفون(24) ؟.‏

حرص عبد الكريم ناصيف في رواياتـه الثلاث على أن تقتصر الافتتاحيّـة على الفصل الأول من الرواية، مع اختلاف واضح في عدد صفحات كل فصل.‏

ففي : البحث عن نجم القطب استغرقت الافتتاحيّة اثنتين وعشرين صفحة‏

وفي : الصعود استغرقت الافتتاحيّة ثماني عشرة صفحة‏

وفي : المخطوفون استغرقت الافتتاحيّة ثلاثاً وثلاثين صفحة‏

فإذا تذكَّرنا تواريخ انتهاء عبد الكريم ناصيف من كتابة رواياته الثلاث (البحث عن نجم القطب : 1980، الصعود : 1985، المخطوفون : 1987)، لاحظنا ذلك الميل إلى إطالة الافتتاحية داخل الفصل الأول من الرواية. والسؤال هنا : ما مسوِّغات إطالة هذه الافتتاحية ؟. أزعم أن هذه الإطالة نابعة من الحاجة الفنية إلى جعل الافتتاحيّة وحدة وظيفيّة أساسيّة في الرواية .‏

ذلك أن نقاد الرواية والعاملين في الحكايات الشعبيّة والأساطير(25) لاحظوا أن النصوص التي حلّلوها تتشبَّث بعدد من الوحدات الوظيفيّة الأساسيّة والفرعيّة. و( كلمة " وظيفيّة " تشير هنا إلى وظيفة هذه الوحدات على نحو مباشر في إطار بناء العمل)(26)، دون أن يكون القصد من التحليل الانتهاء إلى أن (لكل عمل أدبي وحداته المستقلّة عن الأعمال الأدبيـة الأخرى)(27)، بل القصد هو (الوصول إلى وحدات وظيفية أساسية يمكن استخدامها في تحليل الأعمال الأدبية قديمها وحديثها على السواء)(28). وقد اجتهد البنيويون في هذا الاتجاه ،وانتهوا إلى أن العمل القصصي يضمُّ أربع وحدات وظيفيّة، هي : الخروج والعقد والاختبار والانفصال عن المجتمع والاتصال به(29). ويهمني القـول هنا إن وحدة الخروج تبرز بجلاء في افتتاحية الرواية الجيِّدة، وتغيم أو تتلاشى في الروايات الضعيفة. وكنتُ لاحظتُ ذلك في أثناء تحليلي رواية (المتألق) لعبد النبي حجازي، كما لاحظته سيزا قاسم ونبيلة إبراهيم في الثلاثية وحضرة المحترم لنجيب محفوظ. ويمكنني ترسيخ هذه الملاحظة إذا قلتُ إن عبد الكريم ناصيف عُني بوحدة الخروج في رواياته الثلاث.‏

ففي رواية (البحث عن نجم القطب) ثلاث شخصيات رئيسة، تبرز كلها في الافتتاحيّة راغبة في الخروج من أسر المرحلة السابقة إلى رحاب مرحلة جديدة. فراضي بن طالب الغفران خرج من مرحلة الفقر والكفاح، وتاج الملك خرجت من مرحلة الحريم، وأبو صفوان خرج من مرحلة الصراع بين الإبقاء على زوجه القديمة التي شاركته أيام الفقر والزواج من أخرى تلائم حياة الغنى والرفاه. تتباين الأسباب والخروج واحد تعرضه الكلمات الأولى في الافتتاحية : (لم يعد ثمة ما يخيـف. المستقبل مشرق زاه، السماء تفتح أبوابها على مصاريعها)(30).‏

وفي رواية (الصعود) شخصية رئيسة هي حاتم سعد الدين، تخرج في الافتتاحية من الحياة المدنيّة إلى الحياة العسكريّة، كما تخرج من دفء المنـزل ورعاية الأم إلى مشكلات الحياة السياسية والعسكريـة. ويخرج أدهم وخلدون والحزب من مرحلة الاضطراب إلى مرحلة الانقلاب، وتخرج الأم من مرحلة الاعتماد على ابنها حاتم إلى مرحلة الاعتماد على نفسها.‏

وتتعدَّد شخصيات رواية (المخطوفون)، لكنّها كلها تخرج مـن مدنها وقراها إلى الشاطـىء الآخر. فقبطان السفينة ومساعده رستم يخرجان من مرحلة الحِلِّ والتَّرْحال حالمين بالشاطىء الآخر. والشاعر هايل يخرج من عالم المستنقعات والأوحال إلى عالم الأحلام الجميلة. ورشيقة المحامية تخرج من أرض الظلم والجور إلى أرض الحلم، أرض العدالة. وسماح تخرج من ماضيها التعس إلى حاضر تحلم به. كما يخرج حازم من خيبة آماله في الاستقلال إلى الحلم ذاته. ويخرج زيد شيخ الشباب من معاناته من البطالة إلى الحلم بالعمل. كذلك الأمر بالنسبة إلى عوض الشاوي وصديقه مصباح والعريس. ولذلك يبدو تعميم الافتتاحية المذكور على لسان مصباح صحيحاً : (عوض. اسمع. الناس هنا مثلنا. كلهم مثلنا. رحلوا على أمل الخلاص من الفقر.. الجوع .. الحرمان.. كلهم يحكون عن الحياة الأفضل .. المستقبل الأحسن الذي ينتظرنا هناك على الشاطىء الآخر)(31). والصحيح أيضاً أن الشخصيات المذكورة في افتتاحية (المخطوفون) تتباين في الأسباب التي دفعتها إلى الخروج من مرحلتها السابقة، لكنّها تشترك في تحديد الهدف من الخروج، وهو الوصول إلى الشاطىء الآخر. وهي بذلك تختلف عن افتتاحيتي (البحث عن نجم القطب والصعود). ففي هاتين الروايتين خروج ،لكنّه خروج من مرحلة معروفة إلى مرحلة لم تحدّدها الافتتاحية. أما رواية (المخطوفون) فقد حدّدت ما قبل الخروج وذكرت الهدف. بل إنها جعلت الخروج رحلة، وأكّدت هذه الكلمـة إلى أن أصبحت لازمة إيقاعيّة للافتتاحيّة كلها، كما غدت السفينة وسيلة هذه الرحلة – الحلم. بذلك بدأت الافتتاحية : (رفعت السفينة مراسيها وبدأ الجسر الخشبي بالتحرك فاصلاً السفينة عن رصيف الميناء)(32)، وبه نفسه اختتمت هذه الافتتاحية : (السفينة للجميع، والرحلة حق لكل من يرغب فيها)(33) .‏

إن الخروج نقطة انطلاق من مرحلة سابقة تتصف بالاستقرار إلى مرحلة جديدة تكتفي الافتتاحية بالتمهيد لها أو الإشارة العامة إليها. وإذا كنتُ عددتُ الخروج في الافتتاحية وحدة وظيفيّة أساسيّة فلأن مسار الرواية يعتمد عليها ويتحدَّد تبعاً لها. إذ لا بدَّ للشخصيـة من أن تنطلق من نقطة ما باتجاه نقطة أخرى، وإلا فما معنى وجودها في الرواية ؟.‏

والواضح أن وحدة الخروج الوظيفيّة تتحكَّم في بناء الافتتاحية، فتدفع السرد إلى أن يعلنها في الحاضر ثم يتركها ليوضِّح مسوِّغاتها في الماضي. وهذا ما جعل وظيفة الافتتاحيّة مقصورة على إدخال القارىء عالم الرواية التخييليّ وتوضيح الخلفيّـة العامّـة لهذا العالم والخاصّة بكل شخصية لـه. وليست هذه الخلفيّة العامّة والخاصّة غير تحديد مرحلة الاستقرار السابقة على الخروج. ولهذا السبب اعتاد الروائيون أن يبدؤوا افتتاحياتهم بالحاضر، (في لحظة من لحظات حياة الشخصيات، ثم يعودون إلى الوراء لإعطاء القارىء الخلفيّة اللازمة وإدخاله عالم الرواية الخاص)(34). وليست لذلك ترجمة غير تركيز السرد على الماضي، ماضي الشخصيات قبل إعلان الخروج. وإذا كان الروائيون يشتركون في التركيز على الماضي في افتتاحياتهم(35)، فإنهم يختلفون في بناء هذه الافتتاحيات تبعاً لعدد الشخصيات التي يذكرونها وللرواة الذين يختارونهم للنهوض بالسرد في الحاضر والماضي .‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 12 / 2009, 17 : 11 AM   رقم المشاركة : [6]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
- منظور الرّاوي والرّوائيّ


استقلّت الرواية بنفسها، وشكَّلتْ مجتمعها الفنيّ الخاصّ بها وحدها، ولبست اللبوس الحديث، حين نجحتْ في التمييز بين الأحداث الحقيقيّة والحوادث المتخيَّلة. فكلُّ حدث يدخل الرواية يصبح متخيَّلاً وإنْ كانت أصوله حقيقيّة ؛ لأنه خضع للصوغ اللغويّ والمخيّلة الروائية. ومن ثَمَّ أصبح من اليسير التمييز بين روايـة مبنيّة استناداً إلى (منظور الراوي)، وأخرى مبنيّة استناداً إلى (منظور الروائيّ). فالمنظور الأول تخييليّ والمنظور الثاني حقيقيّ. الأول يبتدع ويُحلِّق بأجنحة الخيال، والثاني ينسخ ويجهد في إحياء الواقع الحقيقيّ والتاريخيّ. ولكلّ منهما شؤون وشجون، يحسن تحليلها والإفادة من نتائـجها في التمييز بين الروايات. وقد اخترتُ، هنا، روايتين لعبد الكريم ناصيف وسلطان القاسمي، تُمثِّلان المنظورين المذكورين (الراوي والروائي)، وتستطيعان، بمستواهما الفني، الدلالة على جانب آخر من بناء الرواية العربيّة.‏

منظور الرّاوي :‏

إذا أنعمنا النظر في رواية عبد الكريم ناصيف (الطريق إلى الشمس، تشريقة آل المرّ)(1)، انطلاقاً من أنها نصّ مغلق على نفسه ،مكتف بقوانينه، لاحظنا الهيمنة المطلقـة للراوي العالم. وإذا كان السرد هو الفعل الذي ينـتجه الراوي عادةً، فإننا نغامر من البداية بالقول إن السرد يطغى على العرض – وهو كلام الشخصيات – في رواية (الطريق إلى الشمس) .وقد نتج من هذا الطغيان فقدان التوازن داخل نصّ الروايـة بين السرد والعرض. فالكـثرة الكاثرة من النصّ سردية، والجزء القليل الباقي كلام مباشر للشخصيات الروائية، اعتدنا تسميته حواراً تمييزاً له من كلام الشخصيات ونجواها داخل السرد نفسه. والأمل أن تُفهَم الإشارة إلى فقدان التوازن على أنها إشارة وصفية وليست حكم قيمة سلبياً أو إيجابياً. إنها وصف يُحدِّد الطابع العام لرواية (الطريق إلى الشمس)، ويعلن أهمية تحليل السرد لفهم منظور الراوي والتبئير، وما يرتبط بذلك من مظاهر سردية.‏

إن الهيمنة المطلقة هي منظور الراوي في (الطريق إلى الشمس)، أو نظرتـه المتحكِّمة في صياغة السرد. ففي السرد علامات كثيرة تدلّ على أن الهيمنة المطلقة هـي الشكل الذي يُدرك الراوي بوساطته العالم الروائي. أولها الإخبار عن الحوادث. فهو محيط بالحوادث كلها، عالم بتفصيلاتها، حريص على أن يُقدّمها للمرويّ لـه، سواء أتمت في زمن واحد أم في أزمنة مختلفة، وفي بيئة واحدة أم بيئات عدّة. وثانيها معرفة حاضر الشخصيات وماضيها، سلوكها الخارجي وأفكارها ونجواها الذاتية. وفي السرد أفعال كثيرة تدل على معرفة الراوي بدخيلة الشخصيات، أبرزها : (يعلم – يشعر – يتساءل)(2). وتُسْتَعمَل هذه الأفعال منفية أحياناً، فعزيز لا يعلم أو لا يدري أو لم يكن يتساءل، وما إلى ذلك(3) من الدلالات على أن الراوي أكثر معرفة من الشخصيات .وثالثها التعليق والتوضيح والشرح والتفصيل. وقد استعمل الراوي لفظة (الحقيقة) مدخلاً إلى التعليـق على أمر ذكره في السرد. وعلى الرغم من أنه أهمل هذه اللفظـة أحياناً، فإن هذا الإهمال لم يحجب وظيفة التعليق التي تبدو أثيرة لدى الراوي. فقد استعملها في الصفحة الأولى من الرواية مرتين، حين ذكر آذار والمصاطب الجبلية. واستمر يستعملها بعد ذلك، ويُخصّص لها في الغالب الأعم مقاطع سردية مستقلة.‏

وليس لتعليق الراوي في (الطريق إلى الشمس) مناسبة محدَّدة .ويُخيَّل إليَّ أنه يُعلِّق على الأمور ليعطي ما يجري في الحاضر امتداداً في الماضي. تلك حاله في أثناء سيطرة المجاعة على سكان أم العيون. فقد اهتدى السكّان إلى حلٍّ لهذه المجاعة هو (جني النباتات)، فعلَّق الراوي على هذا الحل قائلاً : (فالمرأة تمضي إلى الأرض تجمع من خيراتها نباتات تغذي، درنات، حبوباً، ثماراً، بعضها يؤكل وبعضها الآخر يطهى .في البداية حين لم يكن الإنسان قد اكتشف النار لم تكن المرأة تطهو شيئاً مما تجمعه، كما لم يكن الرجل يفعل ذلك بما يأتي به من صيد، كله نيء يؤكل ليرد غائلة الجوع، تماماً كما يفعل أخوتـه من الحيوانات الأخرى. لكن الإنسان تطور، اكتشف النار، صنع الأواني، اخترع الأدوات التي يطهى بها الطعام، وراح يشق طريقـه المختلف بما ميزه عن سائر الحيوانات الأخرى، وجعلـه سيد الكون بلا منازع)(4) .‏

والراوي، في أحايين أخرى، يُعلِّق ليُوضِّح شيئاً. فقد نصّ على أن (الأعشاب الطويلة) تحول أحياناً بين النساء وبحثهنّ عن (الفطر والكمأة والعكّوب). ولكنه لم يكتف بذلك لاعتقاده بأن حيلولة الأعشاب دون عثور النساء على الفطر والكمأة قضية غير واضحة وغير مسوّغة لدى المرويّ له، ولهذا السبب راح يشرح الفروق بين الفطر والكمأة والعكّوب في التخفي داخل التربة(5). وربما علّق الراوي على شيء ليُعلّل حدوثه، كما هي حال إشارته إلى أن سكّان أم العيون لا يملكون المال. فقد علّل ذلك بأنهم أبناء الطبيعة(6). ومهما يكن الأمر فإن تعليقات الراوي نوع من التدخُّل في المحكيّ، ينم على رغبته في التوضيح والشرح والتعليل، انطلاقاً من أنه يَعْلم ويُعلِّم. ومن ثَمَّ لجأ في عدد غير قليل من مواضع التعليـق إلى افتتـاح تعليقه بلفظة (الحقيقة)(7)، وهي الدليل على أنه ينظر إلى العالم الروائي نظرة العالم الذي يملك وحده الحقيقة، ويستطيع البوح بها في المكان الروائي الذي يراه مناسباً .وادّعاء الحقيقة إرث قديم يسعى الراوي في (الطريق إلى الشمس) إلى التذكير به، وإحياء استعماله.‏

العلامات الثلاث السابقة (الإخبار عن الحوادث – معرفة أحوال الشخصيات – التعليق والشرح) واضحة في السرد، تدل على أن الراوي يدرك عالمه الروائي إدراك هيمنة مطلقة، ويجعل هذه النظرة، أو المنظور، تتحكَّم في صياغة السرد كله، من بداية الرواية إلى نهايتها. ولابدّ من أن نقبـل الراوي على هذه الصورة، بعيداً عن أي حكم قيمة سلبي أو إيجابي. ذلك لأن هذه الصورة تدلّ على طبيعة الراوي في السرد الروائي التقليديّ. وقد اختار راوي (الطريق إلى الشمس) أن يُقدِّم سرداً تقليدياً ،وسمح لنفسه أن يتحكّم بصياغته. وهذا الاختيار معروف شائع، يُشكِّل جزءاً من أسلوبية الرواية التقليدية. وليس من النقد مضاهاته ومقارنته باختيارات أخرى، كالراوي الممثَّل وتعدُّد الرواة … بل يكمن النقد في الاعتراف به أسلوباً، له جمالياته وروّاده في الرواية العربية، ومن ثَمَّ تحليله لتحديد خصائصه وتباينه بين الروائيين.‏

أعتقد، انطلاقاً مما سبق، بأن منظور الراوي في (الطريق إلى الشمس) يمتاز من المنظور السائد في الرواية التقليدية بخمس سمات، هي :‏

1 – إنه منظور واسع وليس ضيِّقاً ذاتياً. ذلك لأن الراوي لم يقتصر على وجهة نظر عزيز، وهو الشخصية المحورية، بل امتدّ إلى وجهات نظر الشخصيات الأخرى، وهي كثيرة في الرواية. كما أنه لم يقتصر على حدث النـزوح من الريحانة إلى أم العيون، بل امتدّ إلى حياة القبائل العربيـة في بادية الشام، راصداً عاداتها وتقاليدها وطبيعة الحِلِّ والتَّرحَال عندها. كما امتدّ إلى ثورة الشريـف حسين على العثمانيين، ورافق الجيش العربي من العقبة إلى دمشق، وتوقّف عند بعض المعارك التي خاضها ،وطبيعة علاقاته بالانكليز. ولم يكتف منظور الراوي بهذا كله، بل راح يشمل العلاقات العاطفية بين عدد من شخصيات الرواية، ويُصوّر أفراح النازحين وأتراحهم، ويلاحق حياتهم الجديدة في أم العيون من جوانبها الاقتصادية والاجتماعية. وباختصار، فقد اتسع منظور الراوي اتساعاً كبيراً، فبدا شاملاً الجوانب الأسرية والاجتماعية والإنسانية والوطنية والقومية، راغباً في أن يُعبِّر السرد عنها كلها من خلال حكاية عزيز وأسرته .‏

2 – إنه منظور ذو معرفة مطلقة متعدّدة الزّوايا. ذلك لأن الراوي في السرد التقليديّ يعرف الحوادث والمشاعر والأفكار ،ويُقدّمها للمرويّ له بعد حدوثها. أما الراوي في (الطريق إلى الشمس) فتبدو معرفته الكلية متعدّدة الزوايا، لأنه يُقدّم الحوادث والمشاعر والأفكار مباشرة كما تعيها الشخصيات. ويحرص من أجل ذلك على التّدرُّج ؛ أي تقديم هذه الحوادث والمشاعر كما تعيها إحدى الشخصيات، ثم تقديمها كما تعيها شخصية أخرى. وأبرز الأمثلة على ذلك تفكير عزيز في شمس في أثناء مشاركته في القتال، ثم تفكير شمس في عزيز في الزمن نفسه، وما لقيته من صعوبات في سبيل الاستمرار في انتظار عودته إليها . وتشمل المعرفة المطلقة زوايا أخرى كثيرة، كالزراعة والصيد والعادات والتقاليد والقتال والمناخ والشِّعر الشعبي والفصيح والأمثال، وما إلى ذلك مما يشير إلى الذاكرة الثقافية للراوي، وهي ذاكرة يمتاز بها الرواة في روايات عبد الكريم ناصيف الأخرى. ويتصل بهذه الذاكرة الثقافية إيرادُ أبيات من الشعر الفصيح والشعبي تُعبِّر عن موقف أو تُعزِّز حدثاً، وذِكْرُ وثائق تاريخية كالرسالتين المتبادلتين بين سليم الأطرش وسلطان الأطرش، واستعمالُ نصوص من مذكِّرات صبري البديوي مع النص في الهامش على ذلك(8)، وكأن الراوي دارس منهجي يعرف أسس البحث وما تقتضيه من أمانة علمية.‏

3 – إنه منظور منحاز في لبوس حياديّ. فالراوي في السرد التقليدي حيادي أو منحاز إلى قيم إحدى الشخصيات الروائية، ولكنه لا يكون حيادياً ومنحازاً في الوقت نفسه. أما الراوي في (الطريق إلى الشمس) فيتخذ لنفسه لبوس الحيادي ،ويروح يُصوّر المواقف ويُقدّم الشخصيات من غير إيحاء بموافقته عليها أو اختلافه عنها. تلـك حاله في أثناء تصوير أبي شعيب وهو يُعذِّب عزيزاً ويهينه في المخفر. فهو لا يبدي في هذا التصوير انحيازاً إلى أبي شعيب أو عزيز، بل يسرد الموقف وهو بعيد عنه، مرتفع فوقه، وكأنه شاهد عليه ليس غير. ولم يختلف الأمر في موقف سابق معاكس، تمكّن عزيز فيه من إهانة أبي شعيب أمام سكّان الريحانة بإيقاعـه أرضاً. فقد صوّر الراوي الحـدث بحيادية لا أثر للانحياز فيها. كذلك الأمر حين غزا البدو قرية الصابرة، وحين عضَّ الجوع سكّان أم العيون، وحين اكتشف عزيز أن الفارس الملثم بنت وليس ذكراً. ففي هذه المواقف كلها يبدو حياد الراوي أصيلاً لا يغمز من قناته شيء.‏

ولكن إنعام النظر في الرواية يقودني إلى أن هذا الحياد لبوس يخفي وراءه انحيازاً كاملاً للقيم التي يمثّلها عزيز ومَنْ يتصل به من أهل وجيران وأحبة وأصدقاء. فللشر في الرواية مصدر واحد هو المستعمر التركي. وأبو شعيب في الرواية واحد من ممثّلي هذا المستعمر. فهو يلاحق عزيزاً ويُعذّبه ويحرق منازل الريحانة ويقود شبابها إلى حرب (الترعة). والدرك في شوارع (سَلَمْيَة) هم الذين قادوا (عمران) أخا عزيز إلى حرب الترعة حيث مات وهو ضعيف البنية غير صالح للقتال. أما عزيز وأهله وجيرانه وأصدقاؤه فهم في الرواية مصدر الخير. لا يصدر عن أحدهم شرّ أو ظلم أو فعل قبيح. وإنْ شذَّ بعضهم، كعليا زوج عمران، عاد إلى رشده سريعاً ولم يُخلِّف وراءه أذى. لا يختلف في هذا الطِّيْب مَنْ بقي في الريحانة ومَنْ هاجر منها إلى أم العيون ،كما لا تختلف فيه الصابرة عن قبيلة أبي نوّاف … وهذا كله جعل الرواية تطرح قيمتين متناقضتين : الخير والشرّ، وتُشجِّع المروي لـه بشكل غير مباشر على أن ينحاز إلى الخير. وهذا – في رأيي – هو موقف الانحياز لدى الراوي، وهو موقف غير مباشر يتخذ من الحياد وسيلـة للتعاطف مع الطّيّـبين الصابرين الذين هاجروا بأموالهم وأنفسهم دفعاً للشرّ عنهم.‏

4 – إنه منظور موضوعي متعدِّد التبئيرات. فالراوي يسرد الحوادث ويُقـدِّم الشخصيات بضمير الغائب، وهـذا السرد موضوعي لأنه لا يُحيل إلى أي متكلّم، ويجـعل الخطاب غير مباشر. وهو، بذلك، يختلف عن الحوار الذي يتصف بالذاتية لأنه يحيل إلى متكلّم محدَّد وخطاب مباشر. وقد استند السرديون إلى هذا التقسيم في أثناء حديثهم عن التبئير أو الزاوية التي يرى الراوي منها الحوادث والشخصيات. ومن ثَمَّ نصُّوا على أن السرد الموضوعي لا يضم أي تبئير ،أو هو – حسب مصطلحاتهم – تبئير في درجة الصفر. أي أنه سرد لا يُحدّد الراوي فيه زاوية ينظر منها إلى الحوادث والشخصيات. بيد أنني لاحظتُ أن المنظور الموضوعي للراوي في (الطريق إلى الشمس) لا ينصاع لما قرّره السرديون، بل يخالفهم في أنه متعدِّد التبئيرات. فيه تبئير في درجة الصفر، وتبئير خارجي، وتبئير داخلي ثابت ومتغيِّر ومتعدِّد .ومنطلق الملاحظة عندي هو أنني لم أجعل الضمير النحوي معياراً وحيداً للكشف عن التبئير في السرد، بل أضفتُ إليه الضمير اللساني، أي المبئِّر الذي يُقدَّم المحكيُّ أو الموضوع المبأَّر من وجهة نظره أو زاوية رؤيته. وهذه ثلاثة مقاطع سردية تُوضّح ما قلتُه :‏

أ – (أكثر من مرة كانوا قد تداولوا فيما بينهم أمر الرحيل إلى الشرق. فالسهول هناك واسعة يمكنهم أن يزرعوها مئات الأمداد من الحنطـة والشعير، يمكن أن يربوا فيها الماعز والأغنام ..)(9). هذا المقطع السردي غير مبأَّر، لأن الراوي فيه لم ينظر إلى الحدث المحكيّ من زاويـة أيـة شخصية من شخصيات الرواية، بل تركه عاماً موضوعياً.‏

ب – (كان زي الرجلين الغريب، بذلك السروال الأسود والكوفية السوداء والعقال الثخين قد لفت نظر الدرك. وحين أجابهم أبو خليل عن سؤالهم " من أنت ؟ " لفت انتباههم أيضاً لهجته الغريبة. وإذ طلبوا الهويات ولم تقدم لهم فرح الدرك لوقوعهم على صيد ثمين ..)(10). هذا المقطع مبأَّر تبئيراً خارجياً، لأن الراوي سرد المحكيَّ من وجهة نظر الدرك، وقصره على السلوك الخارجي لهم ولم يُقدِّم للمرويِّ له أيَّ شيء يتعلّق بدخيلتهم.‏

ج – (كان يعلم أن المعركة صعبة وغير متكافئة، لكنه لم يكن قادراً على التراجع، فالاستسلام يعني الذل، والذل هو الموت بعينه : " إذن مت عزيزاً رافع الرأس " .وأحس بدفقة هائلة من القوة تملأ صدره، رأسه، ذراعيه.)(11). هذا المقطـع مبأَّر تبئيراً داخلياً ؛ لأن الـراوي سرد المحكيَّ من وجهة نظر عزيز وحدها، راصداً دخيلته في أثناء مواجهة الحدث الخارجي. والتبئير الداخلي هنا ثابت لأنه رصد دخيلة شخصية واحدة، ولكن السرد في (الطريق إلى الشمس) ضمَّ أمثلة أخرى للتبئير الداخلي المتعدِّد رُصِد الحدثُ المحكيُّ فيها من دخيلة شخصية ثم أخرى ثم ثالثة : (فالمصاب الجديد أنسى نرجس مصابها القديم. بل لم تعد تحس أن لها ركبة توجعها، فأطلقت العنان ليديها تلطمان وجهها ولفمها يولول ولعينيها تسكبان الدموع. أبو خليل حاول تهدئتها، لكنه لم يستطع. هو نفسه كان ممزق القلب، يجيء لمداواة الفتاة فيفقد الفتى)(12). لقد انتقل التبئير الداخلي المتعدّد في هذا المقطع من نرجس إلى أبي خليل، ولكنه كعادة التبئيرات في (الطريق إلى الشمس) جَمَعَ بين التبئير الخارجي والداخلي.‏

ومهما يكن أمر هذه التبئيرات فإنها كلها واضحة في السرد الموضوعي بضـمير الغائب. وهذا يقودنا إلى أن الدلالة النحوية لضمير الغائب ليست معياراً وحيداً للتبئير، لأنها وحدها تدلّ على اللاتبئير أو التبئير في درجة الصفر. ومن المفيد أن نضيف معياراً آخر يراعي الضمير اللساني أو زاوية نظر المبئِّر إلى الموضوع المبأَّر .فهذا الضمير يدلّ على أن الراوي في (الطريق إلى الشمس) نوَّع الصيغ السردية من خلال تعدُّد التبئيرات، فقدَّم سرداً موضوعياً خالياً من التبئير، وآخر من زاويـة نظر إحدى الشخصيات، سواء أكان التبئير خارجياً أم داخلياً، ما يشير إلى أن منظور الراوي موضوعي يستعمل في السرد ضمير الغائب وحده، ولكنه يصوغ السرد يحيث يؤدي ضـمير الغائب ما يؤديه ضمير المتكلّم من تبئير.‏

5 – إنه منظور ملتحم بوجهات نظر الشخصيات. ذلك أن الراوي، كما سبق القول، منحاز للقيم التي تمثِّلها الشخصيات الخيِّرة في الرواية، ولم تكن حياديته في أثناء تصوير المواقف المناهضة لهذه القيم غير لبوس لا يُخفي انحيازه لعزيز وأهله وأصدقائه. وقد عبَّرت الرواية عن هذا الانحياز بتخصيص جزء قليل من مساحتها للحوار الذي قدَّمت الشخصيات من خلاله بعضاً من وجهات نظرها في الحوادث والشخصيات. وتركت للسرد، وهو المهيمن، فرصاً وافرة للتعبير عن جوانب من وجهات نظر الشخصيات لم يتح للحوار التعبير عنها. إضافة إلى أن الرواية سمحت للسرد بتقديم التفصيلات الخاصة بوجهات نظر الشخصيات وأبعادها وخلفياتها، فبدا السرد المعبِّر تعبيراً مباشراً عن منظور الراوي ملتحماً بوجهات نظر هذه الشخصيات. يدلّ على ذلك أمران : أمر واضح هو عزوف الراوي طوال الرواية عن التعبير عن وجهات نظر الشخصيات العثمانية المناهضة لعزيز وأهله. وأمر يحتاج إلى توضيح هو جَعْل الشخصيات تُعبِّر عن تفصيلات وجهات نظرها وأبعادها في السرد بوساطة كلامها ونجواها الذاتية.‏

وههنا أميّز بين الحوار وكلام الشخصيات ونجواها بالقول إن الحوار يحتاج إلى متحاورين. فإذا تكلّمت الشخصيـة دون أن يكون هناك مَنْ يحاورها أُطلق على ذلك مصطلح (كلام الشخصيات). وإذا حدَّثت الشخصيـات نفسها حافظت على المصطلح الشائع (النجوى الذاتية). ويمكنني القول بعد هذا التمييز إن الحوار في (الطريق إلى الشمس) استقلّ بنفسه. أما كلام الشخصيات والنجوى فقد حرص الراوي على أن يدمجهما في السرد، ويجعل الشخصيات تُقدِّم تفصيلات وجهات نظرها من خلالهما، معبِّراً بوساطة ذلك عن التحام منظوره بها.‏

ومن المفيد أن نلاحظ هنا تنوُّع الصيغ السردية الدالة على التحام منظور الراوي بوجهات نظر الشخصيات. من ذلك مثلاً المقطع الآتي : (أحس بالاستغراب، لكن استغرابه زال وهو يعيد التفكير فيرى أن سلوكهن ينسجم مع ذواتهن " أليست المرأة كائناً أنانياً ؟ إذن لماذا يفكرن به إن كان لا يريد الزواج أبداً ؟ لماذا يهتممن به وهو غير ذي نفع لهن ؟ " وحل محل الاستغراب نوع من الراحة والاطمئنان)(13). يضمّ المقـطع السابق كلاماً لعزيز ميَّزه الراوي من السرد بوضعه بين علامتي تنصيص. ولابدّ من أن نلاحظ في هذه الصيغة السردية التي يُميَّز كلام الشخصية فيها من السرد إمكانية نسبة الكلام إلى عزيز بتحويل الضمير من الغائب إلى المتكلّم من غير أن يتغيّر شيء في المعنى. وقد توافرت هذه الإمكانية هنا، بحيث نستطيـع تجسيد التحويل على النحو الآتي : (أليست المرأة كائناً أنانياً ؟ إذن لماذا يفكِّرنَ بي إن كنتُ لا أريد الزواج أبداً ؟ لماذا يهتممن بي وأنا غير ذي نفع لهنّ ؟). هـذه الإشارة إلى التحويل ضرورية، لأن السرد قدَّم كلام الشخصيات بصيغتين أخريين : ذكر في الأولى كلام الشخصيات بضمير المتكلّم مع المحافظة على تمييزه بعلامتي تنصيص .وذكر في الثانية نصَّ كلام الشخصية بضمير الغائب أو المتكلّم من غير علامتي تنصيص. وفي هذه الصيغة الأخيرة يكثر اللبس، ويبدو التحويل معياراً لتمييز كلام الشخصية من كلام الراوي، كما هي الحال في المثالين الآتيين : الأول منهما قابل للتحويل فيُعَدُّ كلاماً لعزيز، والثاني غير قابل للتحويل فيُعَدُّ كلام الراوي.‏

- (أحس عزيز برغبة شديدة في البكاء. أين أم يونس تستقبله بذراعيها المفتوحتين ؟ أين أبوه بجلاله ومهابته ؟ أين نرجس ؟ الإخوة، الأطفال ؟ ماذا حل بهم، أين أراضيهم ؟.)(14)‏

- (لا يملك عزيز إلا أن يقف بارد الجسم، موهن الأطراف، كأنما يحمل على ظهره أثقال الأرض كلَّها. أمسكه حامد بيد وأمسكته سعدى باليد الأخرى. دفء ما تسرَّب إلى راحة يده عبر مسام الكف التي أطبقتها سعدى على يده. حنان ما .. راحة ما ..)(15)‏

إن تنوُّع الصيغ السردية، وخصوصاً تلك التي خلت من علامتي التنصيص، يدلّ على اقتراب منظور الراوي من كلام الشخصيات، حتى إنهما يلتحمان فيعسر تمييز أحدهما من الآخر. يُعزِّز ذلك ما لاحظتُه من غزارة النجوى الذاتية في السرد، ومن حرصٍ على التنوُّع نفسه في الصيغ السردية، وعلى الإتيان بفعلٍ دالٍّ على النجوى، هو في الغالب الأعم : (تساءل)، وأحيـاناً : (فكَّر)، يمنع التداخل بين النجوى وكلام الراوي .على أن مقاطع النجوى تشير إلى أمر آخر، هو عناية منظور الراوي بمنظور عزيز. إذ إن هذه المقاطع انصرفت – غالباً – إلى نجوى عزيز الداخلية، فدلّت على أن منظور الراوي واسع، يشمل الشخصيات الروائية كلَّها تقريباً، ولكنه يركِّز في أثناء ذلك تركيزاً واضحاً على وجهة نظر عزيز، ويبدو أكثر التصاقاً بها وقرباً من قيمها ونظرتها إلى العالم المحيط بها، حتى إنه سما بها فجعلها مثالاً للتمرُّد على الظلم والظالمين، وللشجاعـة والمـغامرة والتوق إلى المعالي، وللبراءة، ولعفة النفس حتى إن النساء يتهافتنَ عليه، فضلاً عن صفاته الخَلْقية التي جعلت بنيته قوية قادرة على تحمُّل الصعاب.‏

أخلص مما سبق إلى أن (منظور الراوي) مفهوم فنيّ يشير إلى التحكُّم في السرد. وقد دلَّ هذا المنظور في (الطريق إلى الشمس) على راو مهيمن ذي منظور واسع ومعرفة مطلقة، فضلاً عن موضوعيته وتعدُّد تبئيراته والتحامه بوجهات نظر الشخصيات الروائية. ولا بدَّ من أن نتابع التحليل لنلاحظ اختلاف (منظور الروائي) عن (منظور الراوي) .‏

منظور الروائي :‏

ليست العلاقة بين الحقيقيّ والمتخيَّل جديدة، ولا خاصّة بالرواية التاريخية. فقد عرف النقد الواقعيّ ذو الاتجاه الاجتماعيّ ضروباً من محاولات تقنين الحقيقيّ في الرواية عموماً، والرواية التاريخية خصوصاً. ولم يكن غريباً أن يبذل أتباع هذا النقد الوقت والجهد في تعديل النظرة إلى التاريخ خارج الرواية وداخلها، وأن يهتموا – كما هي حال جورج لوكاتش في كتابه : الرواية التاريخية – بالتبئير التاريخي، دون أن يستعملوا هذا المصطلح، تبعاً لاهتمامهم المباشر بصانعي التاريخ الحقيقيين، ونبذهم التاريخ الرسمي وتشكيكهم في تمثيله الماضي. ولكن الغريب أن تتطوّر الروايـة التاريخية خارج الحقل الواقعيّ، وأن تنمو في اتجاه تفسير الحاضر وفهم آلياته من خلال الماضي نفسه، مكوِّنةً جماليتها الخاصة، وردود أفعالها على الحاضر، وكأنّ الروائيين أصبحوا راغبين في قراءة ما لم يقله التاريخ بأكثر من رغبتهم في إعادة إنتاج ما سطَّرته كتب التاريخ.‏

وقد تعقَّدت العلاقة بين الحقيقيّ والمتخيَّل نتيجة ذلك كله، وبرزت الحاجـة إلى قراءات روائية وتحليلات ترجع إلى المفهومات الواضحة المحدَّدة التي تُعين على فهم أساليب الرواية في هضم التاريخ وتحويله إلى التاريخيّ، وتقنين ألوانه وتبئيراته. وقد رأيتُ من المفيد أن أستند هنا إلى نموذج محدَّد،هو رواية (الأمير الثائر) للشيخ الدّكتور سلطان بن محمّد القاسميّ، دون أن أتنازل عن الضبط المنهجيّ وما يستدعيه من دقّة في استعمال المصطلحات.‏

بداية التاريخ، نهاية الرواية :‏

كتب الدّكتور سلطان بن محمّد القاسميّ المقدمـة الآتيـة لروايته (الأمير الثائر)، وذيَّلها بتوقيع (المؤلِّف) : (إن قصة الأمير الثائر هي قصة حقيقيّة، فإن كل مـا جاء فيها من أحداث وأسماء شخصيات ومواقع موثّقة توثيقاً صحيحاً في مكتبتي، ولا يوجد بها أي نوع من نسج الخيال أو زخرف الكلام. أقدِّمها للقارىء العربي ليطَّلع من خلالها على جزء من تاريخه في الخليج العربي)(16).‏

لاشكّ في أن الرواية، أية رواية، لا تحتاج إلى مقدمة، لأنها تُقدِّم نفسها بنفسها للقارىء، فتضعه في مجتمعها، وتستطيع التأثير فيه من خلال قدرتها على إمتاعه وإقناعه .ولكنّ الروائيين يخالفون السائد أحياناً، فيكتبون لرواياتهم مقدّمات تشي، عادةً، بما يعتمل في دخيلتهم حول الموضوعات التي يرغبون في تقديمها(17) .وما رواية (الأمير الثائر) إلا نموذج لهذا الأمر. فقـد كتب سلطان بن محمّد القاسميّ لهذه الرواية مقدّمة تشي بمجموعة من رغباته التي تخصّ العلاقة بين الرواية (وهي الجنس الأدبي الذي اختاره شكلاً للتعبير) وتاريخ الأمير مهنا (وهو الموضوع الذي رغب في تقديمه للقارىء). ولابدَّ من تحليل المقدّمة لتوضيح الرغبات الكامنة وراءها ،وما يرتبط بهذه الرغبات من دلالات العلاقة بين الرواية والتاريخ، أو بين الشكل والمضمون .‏

يستطيع القارىء بسهولة ملاحظة الهدف الأساسي من كتابة هذه المقدمة، وهو القول إن رواية الأمير الثائر (قصـة حقيقية). وهذا الهدف هو جوهر الخطاب الذي وجَّهه سلطان بن محمّد القاسميّ لقارىء روايته. فهو يرغب في أن يزوّده بمعرفة محدّدة تلزمه في أثناء قراءة الرواية، هي أنه مقبل على قراءة (قصة حقيقية) وليس مقبلاً على قراءة (قصة متخيَّلة). ولهذه الرغبة مسوّغ معروف، هو أن القارىء يطالع على غلاف الكتاب كلمة (رواية)، فيهيّىء نفسه لقراءة أحداث متخيَّلة ابتدعتها مخيّلة الروائي، ووظّفت من أجل دلالاتها شخصيات معيّنة. في حين أن سلطان بن محمّد القاسميّ كتب أحداثاً حقيقية غير مبتدعة، اعتقد أنه من المفيد – كما سنرى لاحقاً – أن يطَّلع القارىء عليها. وإذا تحرّرنا من الضغط الأسلوبي الذي سلَّطه سلطان بن محمّد القاسميّ على قارىء نصّه، فإننا سنكون قادرين على الشروع في توليد الأسئلة واقتراح الإجابات لتفسير هذا العمل. ذلك لأن القول إن روايـة الأمير الثائر (قصة حقيقية) يعني أن سلطان بن محمّد القاسميّ يوحي لقارئه بأنه مجرّد سارد للأحداث التي سيطالعها القارىء بعد فراغه من قراءة المقدمة. والإيحاء نفسه يعني التّنصُّل من مسؤولية المسرود، والاكتفاء بمهمّة السارد، وكأننا أمام صوغ آخر للعبارات الحكائية العربية القديمة. فحين يبدأ راوي الحكاية بالقول : (كان أو ما كان)، فإن هذه العبارة التي افتتح بها السرد تعني قولـه للقارىء المتلقّي: (إن الأحداث التي سأسردها عليك حدثت في الماضي أو لم تحدث). وكأن هذا السارد بدأ سرده بتشكيك المتلقّي بوقوع الأحداث .وهذا التشكيك هو سبيل السارد إلى إقناع المتلقّي بأنه ليس مؤلّف هذه الأحداث، ومن ثَمَّ فهو غير مسؤول عن صحتها لأنه مجرد راو لها. وفي إحالة الأحداث إلى الماضي فائدة أخرى للسارد، هي منحه حريّة السرد، لأن المتلقّي لا يعرف هذا الماضي، ولا يستطيع إنكار ما يسرده الراوي عليه. ولهذا السبب لم تختلف دلالة العبارة الحكائية العربية الأخرى : (في قديم الزمان وسالف العصر …). فهي تعني أن سارد الحكاية يقول لمن يستمع إليه، من بداية السرد، إنني سأروي لك شيئاً حدث في الزمن الماضي، وعليك أن تفهم الأحداث المروية في ضوء هذا الماضي، ولا تمتدّ بها إلى الحاضر. والراوي، بتلك الإحالـة الصريحة إلى الماضي ،يتنصَّل من مسؤولية ابتداع الأحداث، ويفوز بحريّة السرد حين يعلن أنه مجرد وسيط بين الأحداث والمتلقّي.‏

هل يختلف عمل سلطان بن محمّد القاسميّ عن دلالات العبارات الحكائية؟. لا أعتقد ذلك. فقد كتب مقدمة توازي العبارة الحكائية العربية القديمة، وقال فيها للقارىء المتلقّي : (انتبه قبل القراءة إلى أن الأحداث التي ستقرؤها بعد فراغك من المقدمة هي أحداث حقيقية، لم أبتدعها لك، بل اكتفيتُ بنقلها إليك من كتب التاريخ إلى الصفحات القابلة). وهو يعزّز مهمة الوسيط بين كتب التاريخ والقارىء المتلقي حين يدوِّن بعد العبارة السابقة ما يلي : (إن كل ما جاء فيها من أحداث وأسماء شخصيات ومواقع موثّقة توثيقاً صحيحاً في مكتبتي). فهذه العبارة الجديدة تُعزّز قوله السابق للقارىء المتلقي إن القصة التي سأسردها عليك حقيقية، وتضيف إلى هذا التعزيز شيئاً آخر، هو النص على مصدر الأحداث المسرودة. ذلك لأن القول إن هـذه الأحداث موثّقة توثيقاً صحيحاً في مكتبتي يعني أن سلطان بن محمّد القاسمي يبيّن لقارئه أن السماع ليس مصدر الأحداث المسرودة، بل التدوين هو مصدرها. وهناك فارق بين السماع والتدوين، فالسماع لا يوحي بالثقة، في حين يوحي التدوين بالثقة، لأن القارىء قادر على الرجوع إلى الكتب التاريخيـة للتأكـد من صحة المسرود. ولاشكّ في أن هدف سلطان بن محمّد القاسمي ليس دفع القارىء إلى كتب التاريخ ليتأكد بنفسـه من صحة الأحداث المسرودة، بل هدفه هو مجرد الحصول على ثقة القارىء بصحة المسرود. وهذه الثقة ضرورية للإمساك بتلابيب القارىء في أثناء القراءة ،بحيث لا يحيد عن الاقتناع بأن الأحداث حقيقية، وعليه أن يصدّقها على أنها شيء من تاريخ الخليج. ومن ثَمَّ كانت هناك رغبة أخرى وراء العبارة الجديدة، هي تقديم الحقيقة التاريخية في حدود المسرود في النص، بحيث يتحوّل هذا النص إلى مصدر آخر لتاريخ الخليج. وعلى الرغم من أهمية هذه الرغبة وخطرها فإنني سأؤجّل تحليلها ومناقشتها، تبعاً لارتباطها بنص الرواية وخوفاً من أن ينحرف التحليل الراهن للمقدمة عن قصده.‏

لا أظن بأن القارىء سيرجع إلى كتب التاريخ ليتأكد من صحة الأحداث المسرودة في النص. وهذا الموقف من القارىء لا علاقة له بوجود هذه الكتب التاريخيـة في مكتبـة سلطان بن محمّد القاسميّ، و هو حاكم الشّارقة ومكتبته خاصّة به وحده. أي أن عدم عودة القارىء إلى الكتب التاريخية للتأكُّد من صحة الأحداث لا يحكمها كونُ السارد في موقع المسؤولية السياسية، ولا كونُ مكتبته خاصّة به وحده وليست مكتبة عامّة يستطيع القارىء ارتيادها إذا رغب في تنفيذ التأكُّد. بل يكمن عدم العودة في شيء آخر، هو أنها عودة مستحيلة تبعاً لكون الأحداث المسرودة في النص غير مجموعة في كتاب من كتب التاريخ. ولو كانت الأحداث المسرودة في (الأمير الثائر) موجودة في أيّ كتاب من كتب التاريخ لما كانت هناك حاجة إلى أن يُتعب سلطان بن محمّد القاسميّ نفسه بنسخها ثانية، وتقديمها للقارىء ليطَّلع عليها .وعلى الرغم من أن هذا الأمر سيكون موضع تحليل لاحق، فإنني لا أستبق النتائج ولا التحليل حين أقول إن نص الرواية شيء وكتاب التاريخ شيء آخر، سواء أكان هناك كتابُ تاريخٍ يسرد ما ضمّته الرواية أم لم يكن، وسواء أكان المسرود في الرواية موجوداً في كتاب واحد من كتب التاريخ أم لم يكن.‏

أما العبارة التي تلت العبارة الثانية، وهي القول : إن الأحداث (لا يوجد بها أي نوع من نسج الخيال أو زخرف الكلام) فعبارة صحيحة إذا ربطناها بالأحداث وأسماء الشخصيات والمواقع، وغير صحيحة إذا ربطناها بنص الرواية بما فيه من أحداث وشخصيات ومواقع. وسأؤجّل الحديث عن جانبها غير الصحيح إلى تحليل نص الرواية، وأكتفي هنا بجانبها الصحيح .ذلك لأن سلطان بن محمّد القاسميّ لم يبتدع هذه الأحداث، ولم يُسمّ الشخصيات، ولم يُعيّن الأمكنة، بل وجد ذلك كله مبثوثاً في كتب التاريخ، فجاء به إلى الرواية، وصرَّح بذلك اعترافاً بالحق. وهذا الكلام لا يناقض ما سبق قوله في أثناء تحليل العبارتين السابقتين، ولا يمسُّه في شيء، لأن استمداد المادة التاريخية شيء، وتقديمها شيء آخر. فالمادة صحيحة تاريخياً ،والرواية التي ضمّت هذه المادة صحيحة فنيّاً لا تاريخياً .ولابدَّ من التمييز بين هذين الأمرين في أي حديث عن الرواية التاريخية، أو عن أية علاقة بين الرواية والتاريخ، فحين تبدأ الرواية ينتهي التاريخ. وإذا كان المؤرخون يتحدثون عن (التعليل التاريخي)، فإن الأدباء والنقّاد يتحدثون عن (التعليل الفنّي)، وليست هـناك إمكانية – في رأيي – لتبادل المواقع، وتوظيف الخبرات. وإذا كان سلطان بن محمّد القاسميّ يختم مقدّمته ببيان الغرض الذي يهدف إليه، وهو خدمة القارىء العربي، وتحفيزه بوساطة تقديم جزء من التاريخ إليه، فإنه يوقِّع هذه المقدّمة بالمؤلّف، ولا يوقّعها بسلطان. فهو مؤلّفٌ بين الأحداث الحقيقيـة، وليس مجرّد مقدِّم لها. وفي كلمة (المؤلِّف) تكمن بداية الجانب غير الصحيح في العبارة، فنحن أمام (رواية) و (مؤلِّف) أو روائي، ولسنا أمام مؤرِّخ وكتاب تاريخي. ومع كلمة (المؤلِّف) التي ذُيّلتْ بها المقدّمة تبدأ الرواية، وينتهي التاريخ. وهذا – أيضاً – شأن القصص والروايات الواقعية التي ظهرت في الثلاثينيات والأربعينيات، وهي تُدوِّن عبارات من نحو : من ملفات القضاء – من محاضر الشرطة … فحين كان القاص والروائي ينتهي من تدوين هذه العبارة أو تلك يبدأ يكتب قصة أو رواية ليس لها معيار غير الفن، سواء أكانت مستمدّة من ملفات القضاء أم من ملفات التاريخ.‏

لعبة الرواية، ذوبان التاريخ :‏

تبدو العلاقة بين الرواية والتاريخ شائكة أوّل وهلة، ولكنّ إنعام النظر فيها يقود إلى سؤالين أساسيين : أوّلهما سؤال التخييل، وثانيهما سؤال الحقيقـة. وهذان السؤالان يسيران في خطّين متوازيين، ويملكان إجابتين مختلفتين. فسؤال التخييل يستبعد سلطان بن محمّد القاسميّ، ويضع الروائي (المؤلِّف الذي وقَّع المقدّمة) بدلاً منه. والمراد، هنا، أن سلطان بن محمّد القاسميّ لبس لبوس الروائي من اللحظة التي رضي فيها باستعمال الشكل الروائي في تقديم المادة التاريخية الخاصة بالأمير مهنا. وهذا الشكل الروائي شكلٌ تخييلي إبداعي، يُقدِّم حقيقة فنية احتمالية، تُعبِّر عن صدقها الفني بأساليبها الثلاثة المعروفة : الإمتاع والإقناع والتأثير، وهي وسائل أسلوبية كما هو معروف في النقد الأدبي. أما سؤال التاريخ فيستدعي أن يلبس سلطان بن محمّد القاسميّ لبوساً آخر، هو لبوس المؤرِّخ. وهذا اللبوس يفرض الأمانة العلمية في تقديم الحقيقة الموضوعية، وسرداً مباشراً لا أثر للتخييل فيه. وإذا كان المؤرِّخ مضطراً، أحياناً، إلى استعمال مخيّلـته في ترميم بعض الثغرات في الحقائق التاريخية، فإن مخيّلته تستند إلى سياق تاريخي، بحيث يبدو الترميم الذي تنهض به مخيّلته منسجماً والدلالات العامّة والخاصّة للمرحلة التاريخية. ومن ثَمَّ تبدو مخيّلته مقيَّدة وليست مطلقة كما هي حال مخيّلة الروائي.‏

هكذا تبدو العلاقة بين الرواية والتاريخ علاقة بين حقيقتين فنية وموضوعية. وهاتان الحقيقتان لا تجتمعان مادامت كلٌّ منهما تسير في خطٍّ موازٍ للآخر. وترجمة ذلك بالنسبة إلى روايـة الأمير الثائر هي : إذا لبس سلطان بن محمّد القاسميّ لبوس الروائي فالواجب الأدبي يحتم عليه أن ينصاع لمرجعية الرواية، وهي التخييل. والتخييل في أبسط صوره هو ابتداع مجتمع روائي ذي حوادث وشخصيات وعلاقات في زمن معيَّن ومكان محدَّد. وإذا لبس سلطان بن محمّـد القاسميّ لبوس المؤرِّخ الراغب في تقديم حوادث فترة زمنية برز فيها الأمير مهنا، وكان له تأثير فيها، فالواجب التاريخي يفرض عليه أن ينصاع لمرجعية التاريخ، وهي الحقيقة الموضوعية للواقع الذي يؤرِّخ له. ولا أعتقد بأن هناك إمكانية للجمع بين اللبوسين، والإخلاص لمرجعيتهما، فالتاريخ تاريخ، والروايـة رواية، ولا مجال للإبقاء على نقاء عنصريهما دون جور على أحدهما.‏

والمشكلة في هذه النتيجة التي تبدو لي دقيقة هي أننا لا نستطيع – إذا آمنا بها وصدَّقناها – أن نُصنِّف رواية (الأمير الثائر) بين الروايات التاريخية، على الرغم من أن رائحة التاريخ تفوح منها، وتُشكِّل بنيتها، شأنها في ذلك شأن سلسلة الروايات الممتدّة من جرجي زيدان إلى أمين المعلوف. بل إن المشكلة في هذه النتيجة تبدو أكثر خطورة في عالم النقد الأدبي، لأنها تقول صراحة إنه ليس هناك رواية تاريخية، وإن المفهوم السائد لهذه الرواية يطرح إشكالات لا حلَّ لها. وما فعله المعترضون على كتابة جرجي زيدان سلسلة روايات (تاريخ العرب والإسلام) لا يخرج عن اللجوء إلى المرجعية التاريخية، وملاحظة اختلافها كليّاً أو جزئيّاً عمّا ورد في بعض الروايات، ما سمح لهم بالحكم على هـذه الروايات بمخالفة التاريخ، والإساءة أحياناً إلى العرب والإسلام. ومَنْ يرجع إلى الأعمال الكاملة لزكي الأرسوزي في المواضع التي تحدَّث فيها عن لواء اسكندرون في نهايات الثلاثينيات سيكتشف شيئاً مغايراً لما سجَّله حنا مينة في روايته (بقايا صور). ولا يختلف الأمر إذا لجأنا إلى المرجعية التاريخية في النظر إلى روايـات نجيـب محفـوظ التاريخيـة : عبث الأقدار (1939) – رادوبيس (1943) – كفاح طيبة (1944)، أو الروايات التاريخية لنجيب الكيلاني (قاتل حمزة /1971 مثلاً)، ومحمّد فريد أبو حديد (زنوبيا ملكة تدمر /1941 – صلاح الدين الأيوبي /1946 – أبو الفوارس عنترة /1947)، وكرم ملحم كرم (لويس الرابع عشر /1936 – صقر قريش /1948 – أبو جعفر المنصور /1954)، ومعروف الأرنـاؤوط(18)، وعلي الجارم(19) ، وعلي أحمد باكثير(20)، وغيرهم. وهذا كله يدفعنا إلى القول إن الإبقاء على مفهوم المرجعيتين المختلفتين، أو الخطّين المتوازيين، سيحافظ على الإشكالية، ويرسِّخ مفهوماً غير سليم للرواية التاريخية، ويدفع القرّاء إلى الاعتقاد بأن التاريخ انتقل إلى الرواية، وبأنه هدف في الرواية التاريخية، وبأن الرواية مجرّد وسيلة لبلوغ هذا الهدف. وفي ذلك إهانة للرواية، وإساءة للتاريخ، واستمرار للخلل في مفهوم الرواية التاريخية.‏

تبدو نتيجة المشكلة التي عددتُها دقيقة منطقيّةً من وجهـة نظر الخطّين المتوازيين والمرجعيّتين المختلفتين، فإذا نفينا المرجعية التاريخية، وأبقينا المرجعية الروائية وحدها، بدت المشكلة زائفة، وزال الخلل عن مفهوم الرواية التاريخية. ولاشكّ في أن الإبقاء على المرجعية الروائية وحدها يطرح قضية الحدود، حدود الرواية وحدود التاريخ، مادامت المادة الروائية تاريخية وليست مادة مختلقة. وأفضِّل، ههنا، استعمال عبارة: لعبة الرواية، ذوبان التاريخ ؛ لأنها – في رأيي – دالة على قضية الحدود، مفسِّرة لها، عاملة على ترسيخ معيار نقدي للرواية التاريخية في ألوانها كلها.‏

2 – 1 : يلاحظ قارىء رواية (الأمير الثائر) أن المادة التاريخية الخاصة بالأمير مهنا مسرودة سرداً واضحاً مباشراً .وهذا الشكل من السرد الواضح المباشر لون من ألوان الرواية التاريخية، وليس تاريخاً للأمير مهنا. ذلك لأن خمس عشرة سنة من حياة مهنا، أمير بندر الرق، اختُزلتْ في مائة صفحة تقريباً(21). وهذا الاختزال ليس تلخيصاً، بل هو تبئير(22). إذ إن الراوي (النائب عن الروائي داخل نصّ الرواية) لم يلاحق حياة الأمير مهنا من جوانبها كلها، بل اكتفى بحياته السياسية – العسكرية، وهي حياة تُبْرز نزوعه العربي، ورغبته في الاستقلال عن الفرس وحلفائهم الأتراك، ومصالحهم التجارية مع الهولنديين والانكليز. ومن ثَمَّ كانت هناك متابعة متلاحقة طوال الرواية لمحاولات الأمير مهنا السيطرة على التجارة في الخليج، ومحاربته الفرس، ومقاومته النفوذ التجاري للهولنديين، حتى تمكَّن الباشا التركي في بغداد من شنقـه ، وإرسال رأسه إلى (كريم خان زند) حاكم الفرس. ولو لم يكن هناك تبئير لما اختار الراوي طريقة تقديم الحوادث في الرواية، ولما انتقى المعلومات التي رسّخت وجهة نظره في النزوع العربي عند الأمير مهنا. ولا بأس في أن نمتدّ إلى خارج التبئير لنثبت التبئير نفسه.‏

أشار الراوي إشارات سريعة إلى أمور تخصّ الأمير مهنا، أبرزها : مقتل والده ووالدته ووفاة ابنته. فقد غضب الأمير مهنا حين علم بأن والده ناصر، أمير بندر الرق، سيشارك في الحملة على البصرة. وكان يعلم أن شباب المنتفق الذين تسربلوا بالنـزوع العربي، وبينهم صديقه الشيخ ثامر، سيضطرون إلى الدفاع عن البصرة، ومواجهة والده. ولهذا السبب حاول منع والده من المشاركة في الحملة بالقوة، فاستلَّ سيفه كما استلَّ أبوه سيفه، وحين وقع سيف الأمير مهنا على الأرض إثر ضربة من سيف أبيه، وتظاهر أبوه بأنه سيهوي بسيفه على ولده، طعن أحد أتباع الأمير مهنا الأمير ناصر والد مهنا في خاصرته، فخرَّ صريعاً. وشاهدت والدة الأمير مهنا الحدث، فدفعها ابنها إلى المنـزل ليبعدها عن المشهد فاصطدم رأسها بحجر، وماتت(23) . أما ابنة الأمير مهنا الوحيدة، حديثـة الولادة، فقد نسيتها أمها على الرمال عندما دهمت المكان مجموعة من رجال الأمير حسين أخي الأمير مهنا، (وقد اتُّهـم الأمير بأنه تركها هناك متعمداً لأنه أراد ولداً بدلاً من البنت)(24). هذه الإشارات الثلاث إلى مقتل والد مهنا ووالدته وابنته الوحيدة، تكملها إشارة رابعة إلى أن الأمير مهنا قتل أخاه الأمير حسين الذي تولّى إمارة بندر الرق بعد أبيه، وتبع أسلوبه في التحالف مع الفرس والهولنديين والانكليز. كما قتل الأمير مهنا أيضاً، في أثناء هجومـه على منـزل أخيه حسين، بعضاً من أقاربه وأتباعه وحرّاسه(25).‏

تحتاج هذه الإشارات، في نصّ الرواية، إلى متابعة لمعرفة أثرها في شخصية الأمير مهنا ؛ لأنها أحداث جسام في أسرته، مرتبطة به، مؤثِّرة في سلوكه. ولكن الراوي لم يلتفت إليها بغير الإشارات العابرة، ولم يسع إلى توظيفها في بناء شخصية مهنا، وفي ترسيخ صورته الروائية لدى أتباعه وأعدائه. والأحداث نفسها – من جانب آخر – جزء مهم من التاريخ الحقيقي للأمير مهنا. فهل يعني ذلك أن الراوي اختار بعضاً من التاريخ ولم يختر التاريخ كله ؟. إن التبئير هو زاوية تقديم الحوادث التي اختيرت من جانب دون آخر من التاريخ. فالأحداث الأسرية الجسيمة غير مرغوب فيها، لأن الراوي يريد التركيز على الجانب السياسي – العسكري في منطقة الخليج، وعلى اللمعـة العربية التي بزغت في وسط التهافت الأجنبي التجاري على المنطقة، وضعف السيطرة الفارسية والتركية عليها. ولهذا السبب اكتفى الراوي بإشارات سريعة عابرة إلى الحوادث الأسرية، وراح يتابع أحداثاً أخرى سياسية – عسكرية تُجسِّد التركيز وتُعلنه. وهذا كله يعني أن تاريخ الأمير مهنا ومنطقة الخليج خلال خمس عشرة سنة لم ينتقل كله إلى الرواية، بل انتقل بعضه إليها. وحين انتقل هذا (البعض) اختير جانبه السياسي – العسكري وحده وسُلِّط الضوء الروائي عليه انصياعاً لرغبة الراوي، وكأن التاريخ يذوب ويصير في الرواية تاريخياً تبعاً للعبة الروائية التي تنصاع لرغبة الروائي ويجسّدها الراوي.‏

2 – 2 : إن التاريخ غير التاريخيّ(26). التاريخ أحداث تـمّت في الماضي، وشخصيات حقيقية نهضت بهذه الأحداث وأصبحت عنواناً عليها. أما التاريخيّ فهو أحداث اختيرت من التاريخ حسب تبئير الروائي، ووظِّفت في الرواية تجسيداً لغرض روائي ماض أو راهن أو مستقبلي. بل إن الأحداث التي اختيرت من التاريخ حسب تبئير الروائي لم تُنْسخ من كتب التاريخ، ولم تنتقل إلى الرواية بقضّها وقضيضها، بل قام الروائي بتفكيكها وإعادة تركيبها بما يلائم الغرض الذي يرمي إليه، أو بحسب دواعي التخييل إذا أردنا الدقة في التعبير النقدي. وتبعاً لذلك نفينا المرجعية التاريخية وحافظنا على المرجعية الروائية ؛ لأننا لا نملك خطّين متوازيين، أو مرجعيتين مختلفتين، بل‏

نملك مرجعيـة واحدة، هي المرجعية الروائية التي يُشكِّل التخييل عمودها الفقري(27).‏

أما الهيكل الخارجي لهذا التخييل فيتشبَّث بالإيهام، إيهام القارىء بأنه يقرأ تأريخاً حقيقياً. ووسيلة هذا الإيهام حوادث وشخصيات تاريخية حقيقية، ينثرها الراوي بشكلها ومضمونها، أو بمضمونها وحده في الغالب الأعم. ومن ثَمَّ يصعب أحياناً، ويستحيل غالباً، أن يطابق القارىء بين ما ورد في كتب التاريخ وما ورد في الرواية. فالتاريخي في الرواية يؤخذ بدلالاته العامة ورؤياه وقيمه، والتاريخ يؤخذ بحقيقته الموضوعية وزمنه. التاريخي في الرواية احتمالي فني، والتاريخ خارج الرواية حقيقي موضوعي. ومن ثَمَّ فالرواية لا تنوب عن التاريخ، ولا ينوب التاريخ عن الرواية، لأنهما حقلان مختلفان، جمالي ومعرفي. بل إن التاريخ لا يُسْتَقى من الرواية ؛ لأنها نصّ فنيّ يطرح رؤيا ولا ينسخ معرفة. فالنـزوع العربي لدى الأمير مهنا لا نصَّ عليه في تاريخـه الحقيقي كما أعتقد، ولكن مجمل سلوكه في أي تعليل تاريخي ينم على هذا النـزوع. وقد التقط الروائي سلطان بن محمّد القاسميّ هذا النـزوع ضمن اهتمامه بالتعليل التاريخي لسلوك الأمير مهنا، ورغب في تسليط الضوء عليه لأن ظروف منطقة الخليج في الحاضر واحتمالات المستقبل لا تختلف عن الظروف التي عاش فيها الأمير مهنا. وهذه الظروف تحتاج إلى نزوع عربي أصيل يتمرّد على محاولات الهيمنة الغربية والإقليمية كما تمرَّد الأمير مهنا في القرن الثامن عشر.‏

وإذا كانت تلك رؤيا رواية (الأمير الثائر)، فإن الروائي سلطان بن‏

محمّد القاسميّ لم يترك أمر استنباطها لذكاء القارىء، بل راح ينصّ عليها صراحة(28)، ويُدوِّن في عنوان الرواية كلمة معاصرة دالة، هي : (الثائر)، لتأكيدها في وجدان القارىء قبل دخوله الرواية. وإذا افترضنا بأن تاريخ الأمير مهنا ينصّ على نزوعه العربي، فإن أمر الرؤيا لا يختلف لأن الروائي سلطان بن محمّد القاسميّ رغب في التركيز على شيء في تاريخ هذا الرجل يخدم الحاضر والمستقبل، ولم يكن راغباً بأية حال من الأحوال في نسخ تاريخ هذا الرجل، أو نقله من كتب التاريخ إلى الرواية. ومن ثَمَّ فإن رواية (الأمير الثائر) رواية تاريخية، تُقدِّم رؤيا فنيّة تخصّ الحاضر والمستقبل، ولكنها تتوسّل إلى هذه الرؤيا باعتماد شيء من تاريخ منطقة الخليج العربي، تراه أكثر فاعليّة في وجدانات القرّاء من كتب التاريخ نفسها. وما قدَّمته الرواية مما يخدم الرؤيا المذكورة هو حدود التاريخ، أو هو التاريخي في الرواية بعد ذوبان التاريخ الحقيقي وانصياعه للعبة التخييل الروائية. وسواء أكان هناك تاريخ مكتوب للأمير مهنا أم كان هذا التاريخ مبثوثاً في تضاعيف كتب التاريخ الخاصة بمنطقة الخليج، فإن رواية (الأمير الثائر) تكتب هذا التاريخ بأسلوبها، وتطرحه برؤياها، وتعدّه التاريخ الفنيّ للأمير مهنا.‏

2 – 3 : إن الرواية التاريخية ليست تاريخاً، ولكنها تتعامل مع التاريخ. وهذا التعامل يفرض عليها حدوداً، هي قيود لها، لا تعرفها الرواية الفنية. أوّل هذه الحدود والقيود أن تبقى الرواية مخلصة لطبيعتها الفنيّة ولا تتحوّل إلى كتاب من كتب التاريخ، وثانيـها أن تستعير من التاريخ دون أن تحوِّر فيه، وثالثها أن تنتقي من التاريخ دون أن تتلاعب بسياقه وحقائقه ودلالاته. ولا أظنّ بأن الأمور الثلاثة السابقة كافية وحدها لترسيخ مفهوم دقيق للرواية التاريخية. ذلك لأن الروائيين يملكون إمكانات كثيرة للاستعارة من التاريخ الحقيقي دون أن يخرجوا عن الأمور الثلاثة. وكلّ إمكانية تطرح أمام القارىء لوناً من ألوان الرواية التاريخية، بحيث تبرز الحاجة إلى نوع من تقنين هذه الألوان، وتحويلها إلى معيار يُقاس به اللون أو درجته في الرواية التاريخية. فرواية (الأمير الثائر) لسلطان بن محمّد القاسميّ مختلفة عن رواية (أرض البطولات) لعبد الرحمن الباشا، وعن رواية (حسن جبل) لفارس زرزور، وعن رواية (خطط الغيطاني) لجمال الغيطاني، على الرغم من أن هذه الروايات كلها روايات تاريخية. وهذه السلسلة من الروايات التاريخية المختلفة عن رواية الأمير الثائر مقترنة بسلسلة أخرى من الروايات التاريخية تتفق مع رواية الأمير الثائر، كروايات نجيب محفوظ ومحمّد فريد أبو حديد ونجيب الكيلاني وكرم ملحم كرم ومعروف الأرناؤوط وعلي الجارم وعلي أحمد باكثير .فما معيار الاتفاق والاختلاف الذي يسمح للمحلّل والقارىء بالتمييز بين كل لون منها مادامت كلها تنتمي إلى دوحة واحدة، هي دوحة الرواية التاريخية ؟.‏

يبدو لي أن الروائيين مختلفون أو متفقون بحسب قدراتهم الفنية وعلاقتهم بالمادة التاريخية وموقفهم من الحاضر :‏

أ – علاقة الروائيين بالمادة التاريخية :‏

تحدَّثتُ، سابقاً، عن علاقة الروائي بالمادة التاريخية، ويمكنني أن أضيف هنا كثافة الحضور التاريخي في الرواية أو توسُّطه أو ضعفه. فكلما ارتفعت نسبة المادة التاريخية اضطر الروائي إلى التقيُّد بالأحداث الحقيقية والشخصيات والأمكنة والأزمنة، وضعفت في الوقت نفسه قدرته التخييلية الروائية. وهذا ما فعله سلطان بن محمّد القاسميّ وجرجي زيدان ومعروف الأرناؤوط، إذ قدَّموا المادة التاريخية واضحة مباشرة، وجعلوها تشمل نصوصهم الروائية، وقيَّدوا أنفسهم بالأحداث والشخصيات والأمكنة والأزمنة. ومن ثَمَّ كان سلطان بن محمّد القاسميّ – على سبيل التمثيل لا الحصر – مضطراً إلى تحديد السنوات كلما تقدَّمت الأحداث في روايته، من نحو قوله : (في بداية سنة 1753 – الخامس من يوليو 1754 – الحادي عشر من ديسمبر سنة 1754 – مارس من سنة 1755 – يونيو 1755 – 8 يونيو 1756 – اكتوبر سنة 1756 – نوفمبر سنة 1756 – يناير 1757 – نهاية سنة 1758 – منتصف 1761 – السادس من أبريل سنة 1762 – نهاية سنة 1762 – فبراير 1763 – منتصف 1763 – في الثلاثين من ديسمبر 1764 …)(29). وعلى الرغم من أن هذا التحديد للسنوات والأشهر والأيام يُذكِّرنا بكتب التاريخ التي رصفت مادتها بحسب السنوات، فإنه في الرواية تعبير عن التقيُّد بالأحداث الخارجية، والالتزام بالأمانة العلمية، والدقة في استخدامها، دون أن يكون الروائي سلطان بن محمّد القاسميّ مجبراً على التقيُّد والالتزام ؛ لأنه روائي في (الأمير الثائر) وليس مؤرِّخاً.‏

يمكنني القول، بعد ذلك، إن الالتزام الدقيق بأحداث التاريخ الحقيقية، وشخصياته، وأمكنته وزمانه يشير إلى لون من ألوان الرواية التاريخية ذي معيار محدَّد هو الالتزام والأمانة والدقة في التعامل مع المادة التاريخية. ولا يكتمل هذا المعيار دون أن نلاحظ أثره في فنيّة الرواية، وهو أثر سلبي غالباً، لأن تغليب الحقيقي سيضيّق الخناق على المتخيَّل، فلا يترك له فرصة ابتداع الأحداث والأزمنة والأمكنة والشخصيات الرئيسة (على أقل تقدير). وإذا استُلَّتْ هذه العناصر الفنيـة من التخييل فلن يبقى غير الهيكل العام للرواية، وهو تقسيم النص إلى فصول، والإفادة من الفراغات (البياض) بين الفصول للقفز الزمني والانتقال من حدث إلى آخر، وابتداع بعض الشخصيات الثانوية والهامشية. وهذه كلها أمور مشتركة بين الروائيين الذين يغلِّبون الحقيقي على المتخيَّل. وعلى الرغم من ذلك فإن هؤلاء الروائيين سيقدّمون ألواناً متباينة من الرواية التاريخية. ويرجع سبب تباينهم إلى أمرين يُعبِّران عن قدراتهم الفنيّة، هما : التبئير واللغة الروائية.‏

ب – قدرات الروائيين الفنيّة :‏

إذا اختارت مجموعة من الروائيين الأحداث نفسها فمن المتوقَّع أن يُقدِّمها كلُّ واحد منهم من منظور أو وجهة نظر أو تبئير مختلف. وهناك على الأقل ثلاث درجات للتبئير(30)، هي اللاتبئير (أو : التبئير في درجة الصفر)، والتبئير الخارجي، والتبئير الداخلي. ففي اللاتبئير يكون الراوي أكثر علماً من الشخصيات، وفي الخارجي أقل علماً منها، وفي الداخلي مساوياً لما تعلمه. فإذا كان الروائيون يختلفون بحسب التبئير الذي اختاروه فإنهم يختلفون أيضاً حين يختارون تبئيراً من هذه التبئيرات. ففي اللاتبئير الذي اختاره الروائي سلطان بن محمّد القاسميّ تقديم للأحداث تقديماً تصاعدياً، يبدأ بمقدّمة تُعرِّف بالموقع الجغرافي والزمني والاقتصادي والتاريخي السياسي لبندر الرق، وبأسرة الأمير مهنا، ثم تترك الأحداث تتوالى إلى قتل الأمير مهنا في آخر صفحات الرواية. ولكن فارس زرزور الذي اختار التبئير نفسه في رواية (حسن جبل)، وكان لديه تغليب للحقيقي على المتخيَّل، قدَّم الأحداث بعد زمن نهايتها، ثم استدعاها شيئاً فشيئاً. ولهذا السبب يلاحظ قارىء روايته ورواية (الأمير الثائر) أنه أمام روايتين تاريخيتين مختلفتين من زاوية تقديم الحوادث. وهما مختلفتان أيضاً في اللغة الروائية، لغة السرد بمكوّناته كلها. فلكلٍّ منهما قدرة على السرد تنبع من موهبتهما وتمرُّسهما في الكتابة. وليس هناك شكّ في أن الحوادث المبأَّرة تُقدَّم بوساطة السرد، وترتفع بالإمتاع، أو تنخفض فيه، بحسب قدرة الروائي السرديـة، سواء أكان يصف أم يُصوِّر أم يعرض الحوادث أم ينمِّي الشخصيات أم يخترق الأمكنة، وما إلى ذلك مما لا سبيل إلى تفصيله في هذا المقام.‏

ج – موقف الروائيين من الحاضر :‏

يرغب الروائي أحياناً في الالتزام بالمادة التاريخية وتغليب الحقيقي على المتخيَّل، ولكنه يُقدِّم الحوادث تقديماً يضمن له إبراز الرؤيا التي يريدها كما فعل سلطان بن محمّد القاسميّ. وقـد يلتزم روائي آخر بالمادة التاريخية وتغليب الحقيقي على المتخيَّل ولكنه لا يملك رؤيا، كما هـي حال فارس زرزور في (حسن جبل)، فتبدو روايته مختلفة عن سابقتها. وإذا كانت الرؤيا تعبيراً عن موقف، فالموقف نفسه متباين بين الماضي والحاضر والمستقبل. وقد يلجأ الروائيون في أثناء تعبيرهم عن مواقفهم إلى أمور أخرى إضافة إلى ما سبق الحديث عنه. فمنهم مَنْ يُبْقي المادة التاريخية بمضمونها وهيكلها الخارجي، ولكنه يُقدِّمها بوساطة منظور يضمن إيحاءها بالحاضر، كما فعل الغيطاني في خططه. ومنهم مَنْ يهمل التاريخ الرسمي، ويلتفت إلى حركة المجتمع في الماضي، أو حركة (الذين تحت) بحسب تعبير جورج لوكاتش(31) ، ليُعبِّر عن صانعي التاريخ، ويطرح رؤياهم الاجتماعية السياسية. ومنهم مَنْ يلتزم بالمادة التاريخية دون أن يُغلِّب الحقيقي على المتخيَّل، أو المتخيَّل على الحقيقي، بغية تقديم رؤيا تخصّ الماضي وحده، كما فعل نجيب محفوظ في (رادوبيس). وقد يغلِّب الروائي المتخيَّل على الحقيقي، فيذوب التاريخ، ويبرز الفنّ ومعه رؤيا تخصّ الحاضر وحده دون المستقبل، كما فعل نجيب محفوظ في الثلاثية والقاهرة الجديدة، وعبد الرحمن الباشا في (أرض البطولات). وهذا كله يُعلي من شأن الرؤيا، ويُقرِّبها من درجة المعيار المعبِّر عن موقف الروائي مما يرويه.‏

**‏

تلك، في رأيي، الملامح العامـة لمنظور الراوي ومنظـور الروائي. الأول فنيّ داخليّ ذو معرفة مطلقة، والثاني خارجيّ يبحث عن علاقة الرواية بالتاريخ. وقد آثرتُ الحديث عن هذين المنظورين دون الخوض في الموازنة الدقيقة بين النصوص الروائية، رغبة في تقديم الإطار العام لقضايا هذين المنظورين. وقد انتهيتُ من محاولتي إلى الاعتقاد بأن التحليل النقدي يجب أن يميِّز بين ألوانٍ من الرواية التاريخية، ويضع لكلّ لونٍ منها معياراً وصفياً يكفل التمييز، ويعين على التحليل، ويوضِّح الموقف، ويُعرّي الوظيفة. كما انتهيتُ إلى أن الروايـة التاريخية تحافظ على قدرتها التخييلية، أو تتنازل عن بعضها، بحسب المادة التاريخية التي استعارتها من التاريخ، وتبعاً لتقيُّدها بها وتعاملها مع شكلها ومضمونها. كما سعيتُ، استناداً إلى رواية (الأمير الثائر)، إلى تقديم نموذج لتحليل مقدّمة الرواية، ولتجسيد العلاقة بين الرواية والتاريخ. ونبَّهتُ من خلال النموذج نفسه على أن الرواية التاريخية ذات مرجعية فنيّة، وأنها ليست مصدراً لمعرفة التاريخ، بل هي مصدر للرؤى الفنيّة الخاصة به. ولم تكن نتائج تحليلي رواية (الطريق إلى الشمس) تخص هيمنة الراوي المطلقة وحدها، بل كانت توضيحاً لإدراك الراوي العالم الروائيّ وطبيعة تدخُّله في المحكيّ.‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 12 / 2009, 22 : 11 AM   رقم المشاركة : [7]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]- بناء الفضاء الرّوائيّ

الفضاء الروائي والمكان الروائي مصطلحان بينهما صلة وثيقة وإنْ كان مفهومهما مختلفاً. فالمكان الروائي حين يُطلَق من أيّ قيد يدلُّ على المكان داخل الرواية، سواء أكان مكاناً واحداً أم أمكنة عدّة. ولكننا حين نضع مصطلح المكان في مقابل مصطلح الفضاء بغية التمييز بين مفهوميهما فإنـنا نقصد بالمكان المكانَ الروائيَّ المفردَ ليس غير، ونقصد بالفضاء الروائي أمكنةَ الرواية جميعها. بيد أن دلالة مفهوم الفضاء لا تقتصر على مجموع الأمكنة في الرواية، بل تتسع لتشمل الإيقاع المُنظِّم للحوادث التي تقع في هـذه الأمكنة، ولوجهات نظر الشخصيات فيها. ومن ثَمَّ يـبدو مصطلح الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من مصطلح المكان.‏

ولاشكّ في أن هناك تبايناً بين الروائيـين العرب في بناء الفضـاء الروائي. فقد أخفق بعضهم في ربط الأمكنة بالحوادث ومنظور الشخصيات أو وجهات نظرها. والنتيجة الواضحة لهذا الإخفاق هي الاكتفاء بتقديم مكان جامد لا حياة فيه. ونجح روائيون آخرون في أن يجعلوا الأمكنة الروائية متكاتفة تؤثّر في الحوادث وتتأثّر بها، وتسهم في تطور الشخصيات التي تحلُّ فيها أو تخترقها. والروائي، في حالي الإخفاق والنجاح، يُقدِّم المكان الروائي بوساطة الوصف في الغالب الأعم، لأن هذا الوصف هو وسيلة اللغة في جعل المكان مُدْرَكَاً لدى القارىء. وقد يلجأ الروائي إلى وسائل أخرى غير الوصف في تقديم المكان الروائي. بيد أنه في الوسائل كلها مطالب بأن تُفضي أمكنته الروائيـة إلى فضاء يحيط بها ويُنظِّم حركتها ويجعلها أكثر عمقاً وإيحاء من دلالاتها المكانيّة الضَّيِّقة. وسأُقدِّم، هنا بغية توضيح أساليب الروائيين في بناء الفضاء الروائي، تحليلاً لروايات برز فيها الانتقال من المكان إلى الفضاء ، وأخرى اخترقت المكان وسعت إلى تشكيل الفضاء الروائيّ، وهي أربع روايات لأحمد زياد محبّك ونبيل سليمان وعبد الفتاح صبري وفاضل السباعي .‏

أوّلاً : من المكان إلى الفضاء‏

المعروف أن المكان الروائيّ هو المكان اللفظيّ المتخيَّل ؛ أي المكان الذي صنعته اللغة انصياعاً لأغراض التخييل الروائيّ وحاجاته. وهذا يعني أن أدبيّة المكان، أو شعريّته، مرتبطة بإمكانات اللغة على التعبير عن المشاعر والتصورات المكانيّة، مفضية إلى جعل المكان تشكيلاً يجمع مظاهر المحسوسات والملموسات، ومكوِّناً من مكوِّنات الرواية يؤثِّر فيها ويتأثَّر بها. وإذا كان الوصف قادراً على تقريب المكان من القارىء، تبعاً لرسمه صورة بصريّة تجعل إدراك المكان بوساطة اللغّة ممكناً، فإن هذا الوصف مجرد تمهيد لاختراق الشخصيات المكان بوجهات نظرها الخاصة، ومحاولتها بناء فضاء روائيّ يضبط إيقاع الأمكنة الروائيّة التي اخترقتها الشخصيات وتفاعلت معها.‏

والواضح بالنسبة إليَّ أن بناء المكان في رواية (الكوبرا تصنع العسل)(1) لأحمد زياد محبّك يحتاج إلى إنعام نظر ؛ لأن الأمكنة تبدو أول وهلة موزَّعة لا يضبطها ضابط روائيّ. فهناك غرفة الآلة الكاتبة، وهي غرفة العمل التي تجمع الشخصيتين الرئيستين رياض ووداد. وهناك أيضاً غرفة المدير، والمقصف، والقبو الذي يضم ثلاجة الموتى، والشارع والرصيف والحافلة الكهربائيّة وما إلى ذلك. وهذه كلها متناثرة في الرواية، لا يشير ظاهرها إلى شيء لافت لنظر القارىء. ولكن إنعام النظر فيها مجتمعة يقود القارىء إلى أن أحمد زياد محبّك معني في أثناء بناء المكان بالمكان المغلق، فإذا انتقل إلى مكان مفتوح نظر إليه من مكان مغلق غالباً، ومن موقع المكان المفتوح نادراً. ويقود إنعام النظر أيضاً إلى أن محبّك لجأ إلى الوصف في أثناء تقديم المكان والانتقال إلى الفضاء الروائيّ.‏

أ – المكان المغلق :‏

اختار أحمد زياد محبّك المكان المغلق ميداناً لحركة شخصياته الرئيسة والثانويّة. فمكان عمل الشخصيات هو المديريّة، وهي مكان مغلق آثر أحمد زياد محبّك تضييقه، فقدَّم غرفتين منه فحسب، هما غرفة الآلة الكاتبة حيث يعمل رياض ووداد، وغرفة المدير. أما غرفة الآلة الكاتبة فقد كان هناك وصفان لها، ورد أولهما على لسان رياض قبل انتقال وداد إلى هذه الغرفـة : (هناك صفّان من الطاولات، أربع على طول الجدار الأيسر ،وثلاث على طول الجدار الأيمن ،والطاولات كلها أمامي، بعضها وراء بعض، في رتلين متوازيين)(2). وورد الوصف الثاني لغرفة الآلة الكاتبة على لسان رياض أيضاً بعد انتقال وداد إلى الغرفة : (طاولتي في عمق المكتب، كما هي، في موضعها، ولكن أصبح وراءها غابة عميقة ممتدّة، هي لوحة جدارية كبيرة لصقتها على طول الجدار، من يرها يحسب نفسه في غابة. وعلى طاولتي وضعت أصيصاً ترتفع فيه شجرة لبلاب، تلتف حول جذع أخضر، في حلقات ودوائر صاعدة ،أوراقها زاهية الخضرة .أمام الجدار المواجه للداخل إلى المكتب وزعت أربع طاولات، ووضعت مقابلها، وأمام الجدار الآخر، ثلاث طاولات، وعلى كل طاولة وضعت إلى جوار الآلة الكاتبة أصيصاً فيه زهر الهوى، وقد تدلّت أغصانه الرقيقة الناعمة، وهي من اللطف بحيث تكاد تدعوك إلى احتضانها إشفاقاً عليها من الانكسار)(3).‏

إن الاختلاف بين صورتي غرفـة الآلة الكاتبـة لا يكمن في استعمال الوصف الموضوعيّ في المرة الأولى، والوصف الذاتيّ في المرة الثانية، بل يكمن في الدلالة على أن الغرفة التي بقيت سنوات طويلة دون أي تغيير وتبديل انتقلت إلى حال جديدة بعد حلول وداد فيها. وليس التغيير ههنا تغييراً في ترتيب الطاولات، ولا زيادة في الجوانب الجماليّة النابعة من الصور والأصص، ولكنه تغيير في طبيعة العلاقات المكانية، لأن وداداً لم تُبدّل شكل الغرفة فحسب، بل أضفت على وجود رياض فيها بهجة ومتعة لم يعرف لهما طعماً من قبل. كما غيّرت وجهة نظر منى وهيام وسناء ودلال فيها، وفي الدوام الإضافي لطباعة التقرير السنويّ، وفي الموقف الإنسانيّ من صالح الموظف المريض الذي توفّي بعد ذلك. ولهذا كله بدا تغيير شكل الغرفة دالاً على بداية التغيير في العلاقات المكانيّة، أو العلاقات بين المكان والشخصيات والحوادث، تبعاً للخوف الذي صاحب الموظَّفات في الغرفة من التحاق وداد ذات السمعة السيئة بغرفتهنَّ، والقلق الذي ساور رياضاً من المشكلات المحتملة الناجمـة عن تقاعس وداد في العمل، أو عن الأقاويل التي يُروّجها إسماعيل عن وداد وما ستفعله بعد انتقالها إلى غرفة الآلة الكاتبة. وليس غريباً أن يكون الوصف الثاني إرهاصاً بالحوادث القابلة في السياق الروائي ؛ لأنه تجسيد لاختراق شخصية وداد غرفة الآلة الكاتبة، وإحيائها العلاقات المكانيّة فيها تمهيداً لبناء الفضاء الروائيّ.‏

أما غرفة المدير، وهي المكان الذي يلي غرفة الآلة الكاتبة في الأهميّة الروائيّة، فقد ورد وصفها منجَّماً ثلاث مرات في الصفحات 13 / 14 / 16 على الرغم من أنها مكان مغلق لم يدخله رياض طوال الروايـة غير مرة واحدة. قال في المرة الأولى : (المدير في عمق المكتب، قابع وراء طاولته الكبيرة، نظارته على عينيه، يبدو منهمكاً في كتابة شيء ما. خمسة مقاعد موزّعة في شبه قوس أمام طاولته، وداد في المقعد الأول على الطرف الأيسر من الطاولة. وداد تنفث الدخان، وسيكارتها بين أناملها، وليس أمامها على المنضدة الصغيرة وسط المقاعد سوى منفضة سكائر، وضعت إلى جوارها حقيبة يدها. بيني وبين عمق المكتب مسافة أجدها شاسعة ،أطأ خلالها السجاد الفاخر ،وأنا أدخل في جو دافىء دفئاً زائداً لا ضرورة له)(4). وبعد سرد وحوار تابع الوصف فقال : (المدير ما زال يكتب. هو من غير شك قاعد على حشية فوق الكرسي، أو لا بد أن يكون قد رفع الكرسي الدوّار، أو لعله قصَّ أرجل الطاولة التي أمامه. مع ذلك يبدو جذعه، وهو مكبّ على الطاولة، مثل زورق صغير تائه في لجة من الأوراق والملفات والمصنفات والأقلام والهواتف الثلاثة، بالإضافة إلى جهاز استدعاء السكرتيرة. تظن نفسك الحوذي الذي يقود العربة، وما أنت إلا كمسمار صغير في عجلتها أيها الغر الذي ما يزال دون عمر ابني عماد)(5). وبعد سرد وحوار أكثر طولاً من سابقـه ورد القسم الثالث من الوصف : (المكيف البارز من الجدار في زاوية المكتب وراء المدير ينـز، ينـز. وداد تنفث دخان سيكارتها بصمت. الستائر على النوافذ مسدلة، الدفء الزائد يخنق الأرجاء)(6).‏

ورد وصف غرفة المدير على لسان رياض، كما ورد الوصف السابق لغرفـة الآلة الكاتبة على لسانه أيضاً، ولكن موقع رياض ووجهة نظره في أثناء الوصف مختلفان جداً. فغرفة الآلة الكاتبة مكان أليف بالنسبة إليه ؛ لأنه مكان عمله طوال ثلاثين سنة. أما غرفة المدير فهي مكان معاد بالنسبة إليه ؛ لأنه كان قدَّم طلباً للاستقالة من وظيفته، وافق الوزير عليه ولكن المدير ربط تنفيذ الاستقالة بالعثور على بديل لرياض. وقد دخل رياض غرفة المدير وهو يحمل موقف النفور، ولذلك اصطبغ وصفه الغرفة بصباغ دال على موقفه. ولم يكن من المفيد أن يُقدِّم وصفه الغرفة دفقة واحدة، ثم يفرغ للحديث مع المدير ؛ لأنه يعلم ما يريده منه قبل دخوله الغرفة. ومن ثَمَّ لجأ إلى حيلة روائيّة تُطيل مدّة بقائه في غرفة المدير بحيث يُقدِّم موقفه من خلال وصف المكان دون أن يبدو هذا الوصف متصلاً. وكانت الحيلة هي تفرُّغ المدير لصياغة قرار نقل وداد إلى غرفة الآلة الكاتبة، وقطع هذه الصياغة مرات لمحادثة رياض حول قضية وداد، ودعوته إياه للانتظار ريثما يفرغ من إعداد القرار الخاص بها. والواضح أن الوصف بدأ بالإشارة نفسها إلى الجو الخانق والدفء الزائد، ما يوحي بطبيعة الموقف النفسي لرياض في أثناء اختراقه غرفة المدير.‏

غير خاف، بعد ذلك، أن وصف المكان المغلق يتسم بالتركيز على الأشياء المبصَرَة في غرفة الآلة الكاتبة وغرفة المدير على حدّ سواء ؛ لأن الأشياء المبصَرَة واضحة دائماً، بل إن جزئيّاتها محدَّدة تبعاً لقرب المبصِر الواصف منها. ومسوِّغ ذلك كلّه معروف، هو الرغبـة في تقريب موجودات الغرفتين من إدراك القارىء. ولكن الإدراك المرغوب فيه هنا إدراك ذاتي وليس موضوعياً ؛ أي أنه إدراك معبِّر عن وجهة نظر معيَّنة يريد الواصف (الراوي / رياض) نقلها إلى القارىء ليُمهِّد للحوادث القابلة، ويعلن موقفه من الشخصيات في الحاضر الروائيّ .‏

ب – المكان المفتوح :‏

ليس هناك اهتمام كبير بالمكان المفتوح في رواية (الكوبرا تصنع العسل)، ولكنّ الراوي عرض بعض الأمكنة المفتوحة، كالشارع ومُتَنَزَّه السَّبيل ومدينة حلب، مؤثراً تقديم هذه الأمكنة من خلال أمكنة أخرى مغلقة. فقد قدَّم الشارع من داخل السيّارة مرة، ومن داخل المقصف أخرى. كما قدَّم مُتنَـزَّه السبيل من داخل منـزل أخت وداد، ومدينة حلب من داخل بهو المديرية. قال في وصف مُتنـزَّه السبيل : (من وراء زجاج النافذة تتألّق مصابيح متنـزه السبيل، مرسلة أضواءها الزاهية إلى أشجار الصنوبر والسرو الباسقة، وهي مندَّاة برذاذ نيسان الناعم، فتتألق خضرتها، وتسكب الأضواء على البِرْكة، وهي تتوسط المتنـزه، فتشارك الأمواج تراقصها البهيج. أطياف الرواد من الرجال والنساء والصبايا والشباب تتهادى في دروب المتنـزه، خلال مروج مزهرة، تتراكض فوقها خيالات أطفال يمرحون ويتنادون، نسمات نيسان تنعش أرواحهم)(7).‏

لقد بدأ الوصف، كما هو واضح، بتحديد موقع الواصف (الراوي / رياض)، وهو موقع مرتفع بعيد عن المتنـزَّه. وتحديد الموقع ضروريّ لأن الراوي سيصف ما يقع تحت بصره من عل، ما يسمح بتقديم الجزئيّات المبصَرَة أطيافاً (أطياف الرواد من الرجال والنساء والصبايا والشباب)، ولا يُقدِّمها مجسَّمة كبيرة كما فعل في أثناء وصف غرفتي الآلة الكاتبة والمدير، تبعاً لقرب الجزئيّات الموصوفة من عين الراوي الواصف. والملاحظ أيضاً انه كرّر في وصف المكان المفتوح ما فعله في المكان المغلق من تقديم وصف ذاتي غير موضوعي، تخالطه مشاعر الراوي الواصف وأحاسيسه ليُعبِّر بوساطـة هذا الوصف عن الحال الشعوريّـة له، وهي حال السعادة والاطمئنان في أثناء وجوده في منـزل أخت وداد.‏

الفضاء الرّوائيّ :‏

سعى أحمد زياد محبّك في أثناء تقديم أمكنة روايته المفتوحة والمغلقة إلى بناء الفضاء الروائي استناداً إلى مجموعة من الأمكنة في روايته، واتسم تبعاً لذلك بالسمات الآتية :‏

أ – التشبُّث بالعلاقات المكانيّة :‏

اتضح من خلال الحديث عن الأمكنة المغلقة والمفتوحة حرص الراوي على الوصف الذاتي، وابتعاده عن الوصف الموضوعيّ. أو، إنْ شئنا الدقّـة، الوصف الموضوعيّ الذي يخالطه وصف ذاتي، ويمتزج به، ويبدو عنصراً من عناصره. ذلك لأن رواية (الكوبرا تصنع العسل) لم تُقدِّم رواة واصفين، بل قدَّمتْ واصفاً واحداً هو رياض، ومن ثَمَّ لم يكن هناك تعدُّد في وجهات النظر الروائية من خلال وصف الأمكنة، بل كانت هناك وجهة نظر واحدة، وحال شعوريّة تتغيَّر وتتبدَّل بحسب وضعها الروائي النفسيّ. فالراوي يشعر بالضيق في المقصف(8)، فيُقدِّم وصفاً معبِّراً عن هذا الضيق، يضم الرعد المقعقع، والمطر الذي يضرب الزجاج، والبروق التي تقدح. وحين كان الراوي يشعر بالسعادة قدَّم وصفاً لمدينة حلب يضج بالحب. فهي رائعة، تشمخ بقلعتها التي تضم البيوت حولها كالأم. بيد أن تبدُّل الحال الشعوريّة للراوي الواصف ليس خاصاً، بل هو عام معبِّر عن تبدُّل الحوادث المحيطة به، وتغيُّر علاقاته بالشخصيات عموماً، وبوداد خصوصاً. وليست العلاقات المكانيّة شيئاً آخر غير العلاقة بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، مصبوغةً بصباغ المشاعر.‏

ب – التشبُّث بالحال الشعوريّة :‏

إن الحال الشعوريّة للراوي الواصف تُعبِّر من جانب آخر عن وجهة نظر محدَّدة كما لاحظتُ غير مرة. وهذا الحرص على وجهة نظر واحدة طوال الرواية نوع من تضييق المجتمع الروائي ؛ لأن الحياة الروائيّة المتسعة تضم تعدُّداً في وجهات النظر، وصراعاً بينها، يقود إلى شيء غير قليل من المتعة ونمو الشخصيات. وليس في رواية (الكوبرا تصنع العسل) شيء من ذلك كله. فالراوي واحد، والشخصيات الأخرى تنضوي تحت لوائه الروائي لولا بعضٌ من التمرُّد تبديه وداد، وتتضح من خلاله وجهة نظرها التي بدت مطابقة وجهة نظر رياض الراوي، وغير مخالفة لها في شيء، ما فوَّت على القارىء مرة ثانيةً فرصة ملاحقة صراع روائي توافرت أسبابه ولكنها وئدت حين لجأ الراوي إلى المطابقة بين وجهتي نظر الشخصيتين الرئيستين، وحين عثر على حل سريع لقضية وداد المرتبطة بإسماعيل والمدير.‏

ج – خلق الامتدادات المكانيّة :‏

لم يكن المكان المفتوح ضمن الاهتمامات الأساسيّة لرواية (الكوبرا تصنع العسل)، ولكن الراوي رغب في الانتقال من المكان إلى الفضاء، ومن ثَمَّ سعى إلى خلق نـوع من الامتداد المكاني في ذهن وداد، فحدَّثها عن الحافلة الكهربائيّة (الترومواي) التي كانت إحدى وسائل المواصلات داخل مدينة حلب. وهذا الحديث لم يكن وصفاً للحافلة فحسب، بل تحديداً للأمكنة التي تمر فيها(9)، من وراء القلعة إلى حي الجميليّة. وقد استند الراوي في هذا الحديث إلى الذاكرة الروائيّة بغية تثبيت هذا الشكل من أشكال المواصلات في ذهن وداد، وهذا ما منح المكان نوعاً من الامتداد من المكان المغلق الأثير لدى الراوي إلى المكان المفتوح الهامشيّ لديه. والواضح أن الرغبة في خلق الامتدادات المكانيّة لم تكن عرضيّة ؛ لأن الراوي عاد إلى الحافلة نفسها وذكر من خلالها شارع القوتلي ومحتوياته (سينما حلب وسينما فؤاد وسينما الشرق التي أضحت الكندي ،ومقهى النجمة ،ومحلات الألبسة والمرطبات والصحف …). ولم يكن رجوع الراوي إلى أمكنة أخرى ليست لها وظيفـة روائية غير خلق الامتداد المكانيّ في ذهن وداد ؛ لأنها من الجيل الذي فاتته معرفة هذه الأمكنة.‏

هذا ما فعله أحمد زياد محبّك في رواية (الكوبرا تصنع العسل) في أثناء سعيه الجادّ إلى بناء الفضاء من مجموع الأمكنة المفتوحة والمغلقة. فقد وفَّر رباطاً واحداً نظَّم حركة هذه الأمكنة وإيقاعها، فأضفى على المكان طابع الحزن حين كان الراوي حزيناً، وطابع الفرح حين كان الراوي فرحاً، وطابع الامتداد حين كانت وداد بعيدة عن معرفة المكان، وطابع العلاقات حين كان الراوي راغباً في تحديد صلته بالشخصيات والحوادث من خلال المكان نفسه. ولكنَّ هناك سعياً آخر إلى الانتقال من المكان إلى الفضاء قدَّمه نبيل سليمان في رواية (جرماتي)(10)، ووضَّح بوساطته أسلوبه في توظيف التقنيات في بناء المكان والفضاء. ولا بأس في تحليل هذا السعي لتعزيز أساليب الروائيين العرب في بناء الفضاء الروائيّ.‏

في رواية (جرماتي) عنوانان : رئيس هو (جرماتي)، وفرعي هو (ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب). والتدقيق في هذين العنوانين يخدم القارىء في تعرُّف هدف الرواية وهو الحديث عن شيء يخصّ مكاناً محدَّداً. ذلك أن جرماتي، كما سيكتشف القارىء، قرية ؛ أي مكان جغرافيّ، ولكنها قرية غير محدَّدة جغرافياً. وما يُقدِّمه سياق الرواية عن قرب هذه القرية من (دمشق) لا يعني شيئاً في العرف النقديّ ؛ لأن استعمال اسم (دمشق) لا يُحدِّد القرية، بل يخدع القارىء الذي يطابق بين الواقع الخارجيّ والواقع الروائيّ، فيجعله يظنّ بأن جرماتي مثل (دمشق) مكان حقيقيّ، في حين أنهما ليسا كذلك في العرف النقدي والروائيّ معاً. إن (جرماتي) مكان روائيّ لا يتحدَّد قبل فراغ القارىء من قراءة الرواية، وما استعمال هذا المكان في عنوان الرواية إلا تمهيد نفسيّ للقارىء المتلقّي، يقول له إنكَ مُقبِل على قراءة شيء محدَّد عن مكان اسمه (جرماتي). ومن العبث أن يعتقد القارىء بأن العنوان الفرعيّ للرواية تكرار لا فائدة منه. ذلك لأن هذا العنوان يضمّ شيئين لا يُعبِّر عنهما العنوان الرئيس :‏

أوّلهما : عبارة (بعد الحرب). فهذه العبارة تدلُّ على أن الحديث عن جرماتي سيكون خاصاً بزمن معيَّن، هو زمن ما بعد الحرب. ولكنّ (الحرب) غير محدَّدة ؛ لأن (ال) الجنسيّة فيها تفيد العموم لا الخصوص. وعلى الرغم من ذلك فإن عنوان الرواية (جرماتي) يوحي بشيء من التحديد ؛ لأن القارىء قادر على أن يفهم منه أن الحديث عن هذا المكان سيكون مقصوراً على فترة محدَّدة من تاريخ جرماتي هي فترة ما بعد الحرب.‏

وثانيهما : كلمة (البلاد) التي تناقض صيغة (جرماتي) ؛ لأنها جَمْعُ بلدٍ، ولا علاقة لها بجرماتي القرية الواردة بصيغة المفرد. ولو جاء العنوان على النحو الآتي : (ملف البلد أو القرية التي ستعيش بعد الحرب) لما كان له معنى ومغزى، إذ إن معناه ومغزاه كامنان في تلك المغايرة بين القرية – وهي مكان له اسم محدَّد مُخصَّص – والبلاد وهيطفال ين جمع يفيد التعميم. وسيكتشف القارىء الذي يُنعم النظر في العنوان الفرعيّ أن هدف الرواية النهائيّ هو تعميم دلالة (جرماتي) وليس تخصيصها، بنقل التسمية من مكان جغرافيّ محدَّد إلى وطنٍ أكثر اتساعاً. وتلك، في رأيي، مهارة نبيل سليمان في الانتقال من المكان إلى الفضاء الروائيّ في هذه الرواية ؛ تلك المهارة التي جعلته يختار عنوانين دالين على ما سيتكفَّل السياق الروائيّ بتقديمه للقارىء. وهذا تحليل موجز لهذه المهارة يوضِّح تفصيلاتها على نحو أكثر جلاء.‏

أ – اختراق جرماتي :‏

تبدأ الرواية بالإشارة إلى صباح جديد في (جرماتي)(11). أي أنها تبدأ بإشارتين : زمنيّة ومكانيّة. وإذا قصرتُ الحديث على الإشارة المكانيّة قلتُ إن الرواية تُسمّي المكان الأساسيّ (جرماتي)، ثم تنتقل إلى تسمية الأمكنة الفرعيّـة فيه، وهي : الشارع الإسرائيليّ – جرن النبُّوعة – مربض الدّبَّابة – ساحة المدرسة. وإذا كانت التسميـة خطوة أولى باتجاه تحديد المكان الروائي فإن اختراق هذا المكان يحتاج أول الأمر إلى وصفٍ يجعل إدراك المكان بوساطة اللغة ممكناً. والواضح أن نبيل سليمان لم يغفل عن ذلك، فقدَّم بعد التسمية وصفاً للمكان، هو : (جرماتي تسقط في الحرب الماضية. البلدوزرات تمسح كرم تامر صبح وبيت أبي سميّة، تشقّ الشارع الإسرائيليّ. السكّة تمر بجرن النبّوعة على مطلّ جرماتي. حفرة كبيرة ترتقي في زاويتها الشرقية إلى السكة عبر خمس درجات. تكسو أرض الحفرة بلاطة صخرية واحدة ملساء. يتصدر البلاطة النبع المتفجِّر في فتحة كهف غائر في بطن التلّة .تتحدّر التلة بقسوة عن يمين السكة من النبوعة إلى سنديانات الشيخ إبراهيم الثلاث. تتلو السنديانات فسحة سهلية يسيرة يقتسمها كرم تامر صبح والمقبرة. تضيق السكة بعدئذ كثيراً قبل أن تفضي إلى المئذنة المضلّعة المقصوفة منذ يوم القتال الأول. انصبَّت على المئذنة من كبد السماء ثلاث كتل من جهنم أتت كل كتلة على قسم من المئذنة)(12).‏

لا شكَّ في أن صورة المكان التي قدَّمها الوصف بصريّة، تجعل القارىء يدرك محتويات الشارع الإسرائيليّ وتفصيلات جرن النّبُّوعة والسّاحة، وما يُحيط بهذه الأمكنة ويطيف بها. والمسوِّغ الروائيّ لهذا الوصف هو القول إن (البلدوزر) الإسرائيليّ في أثناء الاحتلال شقَّ شارعاً في جرماتي. ولكن نبيل سليمان وظَّف هذا المسوّغ لغرض آخر هو الإشارة إلى الدمار الذي خلَّفه الاحتلال. ولهذا السبب مهَّد للوصف بسرد عن الدمار، وذيَّله بسرد مماثل عن الدمار. أيْ أن الصورة الوصفيّة لجرماتي قدَّمت مكاناً خارجاً من الاحتلال، مملوءاً بالدمار، بغية تحديد البدايـة الزمنيّة للرواية (صباح الانسحاب الإسرائيلي) والموضوع الذي تدور حوله، وهو الدمار.‏

ولو اكتفى نبيل سليمان بالصورة البصريّة لقدَّم وصفاً للمكان الجامد ليست له دلالة روائيّة، ولكنه لم يفعل ذلك، بل جعل وصف المكان مقدّمة لاختراقه. إذ إنه طرح قبل الوصف الشخصيات التي بقيت في جرماتي ولم تغادرها، وراح بعده يعرض تباينها وتناقضها ووجهات نظرها، وقدَّم من خلال ذلك تحديداً آخر ينقل صورة المكان الجامدة إلى مكانٍ روائيّ متحرِّك. ذلك أن الباقين في جرماتي فريقان : فريق تعاون مع المحتل، وفريق قاوم المحتل. ولكل فريق من الفريقين وجهة نظر خاصة به. أما الفريق الأول فينتظر ما ستؤول إليه الأمور، وهو خائف من تعاونه السابق مع المحتل. والفريق الثاني ينتظر أن يقوم في جرماتي حكم جديد مغاير لما كان قبل الاحتلال. وتحديد هذين الفريقين هو أول اختراق لجرماتي يُحيي المكان ،يأتي بعده اختراق ثان ينهض به العائدون إلى جرماتي ،وهم فريقان أيضاً : فريق الهاربين (عبد السّتَّار – البرزغل …)، وفريق المقاومين والمهجَّرين. وسَرْعان ما انتمى الفريقان العائدان إلى الفريقين المقيمين. فالفريق المقاوم والمهجَّر انتمى إلى الفريق الراغب في جرماتي جديدة، وانتمى الفريق الهارب إلى الفريق الذي تعاون مع المحتل. وبذلك اخترقت الشخصيات المكان وحدَّدته تحديداً نهائيّاً. والمراد بذلك أن نبيل سليمان خلق جرماتي من خلال اختراق الشخصيات الروائية لها. والاختراق هنا هو دخول الشخصيات المكان، وتحديد انتماءاتها الروائية فيه. وقد وفّر هذا الاختراق فهم الشخصيات الروائية، ووضَّح حوافز الفعل لديها، وهي هنا موقفها من الدمار.‏

ب – إحياء جرماتي :‏

إذا كانت قدرة نبيل سليمان على الانتقال من المكان إلى الفضاء من الميزات الفنيّة الأساسيّة في رواية جرماتي، فإن هذه الميزة هي التي عبَّرت عن أن جرماتي / القريـة هي المكان الروائي الذي اتضح حين اخترقته الشخصيات الروائية. فقد وفّر هذا الاختراق، كما سبق القول، فرصة فهم الشخصيات وتحديد انتمائها إلى فريقين لهما موقفان متناقضان من الدمار الذي حلَّ في جرماتي. ولكنّ الروايـة لم تكتف بتحديد هذين الفريقين، بل راحت ترصد العلاقـات بينهما، وهي علاقات ذات صفات مكانيّة. فقبلان والسكماني وعبد الستّار في أعلى الهرم الاجتماعيّ، ورافع وجبر ونايف في أدنى درجات السُّلَّم الاجتماعيّ. والتقابل بين الأعلى والأدنى هو تقابل بين صفتين مكانيتين واضحتين. كذلك أمر التقابل بين الفلاحين والسلطة، وبين عمّال الورش ومستغلِّيهم. وهذه كلها علاقات مكانيّة تنمّ على ثنائيّات ضدّيّة نابعة من الثنائيّة الرئيسة التي وضّحها الاختراق، وهي ثنائيّة : التدمير – التعمير. وهذا يعني أن الاختراق أحيا جرماتي، وعرَّى التراتبيّة السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة بين الفريقين، بحيث كان الفريق الأول راغباً في الإفادة من التدمير في استغلال التعمير لصالحه. أما الفريق الثاني فكان راغباً في تعمير جرماتي جديدة مغايرة لجرماتي السابقـة على الاحتلال في علاقاتها وسلطتها وأصحاب المصلحـة فيها، ولكنه فوجىء بعودة السلطـة القديمـة (قبلان – السكماني – عبد الستّار) إلى جرماتي، ومحاولتها الإفادة من التدمير في بناء (الفيلا) والمقصف والمستودعات بدلاً من المدرسة وبيوت الفلاحين المدمَّرة. وفي أثناء المواجهة بين الفريقين تعدَّدت الأمكنة بتعدُّد العلاقات، فجرى الانتقال من علاقات جبر بالجرماتيين إلى علاقة ناهض بهم، وهي علاقة ضدّيّة كفلت طرح موضوع (الفيلا) المشرفة على جرماتي، وبناء المقصف والمستودعات، بغية تحويل جرماتي إلى منتجع سياحيّ. وكفل أيضاً الكشف عن التحولات الداخليّة التي طرأت على الشخصيات، كتردُّد زاهي، ومغادرة نايف جرماتي إلى لبنان … وهكذا أحيا الاختراق جرماتي، فبدت قضيّتها أكثر اتساعاً من مكانها الجغرافيّ الروائيّ المحدود بحدود قرية انسحب الإسرائيليون منها. كما دلَّ اتساع القضية على أمر آخر، هو الفضاء الروائي، بحيث بدأ القارىء يلاحظ أن ما جرى بين الفريقين في جرماتي كان انعكاساً لوضعهما خارجها. أو قُلْ إن جرماتي تحوّلت من مكان جغرافيّ إلى مكان رمزيّ دال على فضاء لا تخرج المواقف فيه عما جرى في جرماتي. ومن ثَمَّ لم تكن هناك حاجة إلى أن ينفي نبيل سليمان في بداية الطبعة الثانية من الرواية(13) المطابقة بين الواقع الحقيقيّ والواقع الروائيّ في روايته ؛ لأن الفضاء الروائيّ الذي نجح في تحديده فنيّاً أوحى بالمماثلة، وعبَّر عن أن الرواية ليست جرماتي، بل هي البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب كما عاشت قبلها.‏

ثانياً : اختراق المكان وتشكيل الفضاء‏

ما انتهى إليه نبيل سليمان يحتاج إلى توضيح طبيعة الاختراق وتشكيل الفضاء ؛ لأن الرواية العربيّة احتفت بالفضاء الروائيّ، وقدَّمتْ نموذجات فنيّة له، بعد إهمال المكان الروائيّ كثيراً، وبعد عناء طويل في معالجة ملامحه العامة. والواضح، استناداً إلى النموذجات الروائيّة السابقة، أن هناك روائيين عرباً جسَّدوا ما انتهى إليه النقد الروائي من تمييز بين المكان الحقيقي والمكان الروائي أولاً، وبين المكان الروائي والفضاء الروائي ثانياً. فقد لجأ هؤلاء الروائيون إلى الوصف الذي يرسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بوساطة اللغة ممكناً، وحرصوا في أثناء ذلك على تصوير المكان وبيان جزئيّاته وأبعاده. ولكنهم أدركوا أن وصف المكان غير كاف للقول إنهم قدَّموا مكاناً روائياً، لأن هذا الوصف مجرّد تمهيد لاختراق الشخصيات المكان بما تحمله من وجهات نظر متباينة في الحوادث الروائية. ومن ثَمَّ ميَّزوا بين صورة المكان والمكان الروائي، وجعلوا الوصف خطوة إجرائية أولى، تلتها خطوة ثانية هي اختراق الشخصيات المكان، وتحرُّكها في جزئيّاته، وتشكيلها الفضاء الروائي من العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، ثم الارتفاع فوق هذه العلاقات بغية توفير الإيقاع المنظِّم لها. وكان نجاحهم في ذلك دليلاً على أن الفضاء الروائي لا يتشكَّل إذا لم تخترق الشخصيـة المكان حاملة وجهة نظرها الخاصـة في علاقاته، وإذا لم تكشف عن حالها الشعورية وتسهم في رصد تحولاتها الداخلية.‏

ولا أشكّ في أن بنية رواية (الغربان لا تختفي أبداً)(14) للروائي القاص عبد الفتَّاح صبري نموذج تستحق إنعام النظر في قضية الفضاء الروائي. فهي نموذج حديث لا يعتمد الحكاية والحبكة، ولا ينصرف إلى بناء الشخصية، ولا يهتم بالنموّ الخطّيّ للزمن الروائي كما يفعل النمـوذج الروائي التقليدي. فهذه الرواية نموذج حديث يعتمد الراوي الممثَّل ذا التبئير الداخلي والسرد الذاتي، ويسعى طوال النص إلى تفتيت الحدث وخلخلة البناء اللّغويّ. والظن بأن هذا النموذج صالح للتحليل من ثلاث زوايا : زاوية الكاتب الضمني الذي حلَّ في الراوي الممثَّل وراح يُوجِّه السرد تبعاً للشخصية التي حلَّ فيها، وهي هنا شخصيـة البطل المحوري (صبحي عثمان) الذي سرد الحدث الروائي بضمير المتكلّم، وحاول إيهام المتلقّي بأنه يسرد حكايته الخاصة، بغية قيادته إلى الاعتقاد بأن هناك مزجاً بين العناصر المستمدّة من السيرة الذاتية والعناصر المتخيَّلة، ومن ثَمَّ بدت الرواية وكأنها نوع من الرواية السيرية. وزاوية اللغة الروائية المعنيّة بالاستبطان الداخلي، وتفتيت الحدث، والحرص على وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الشخصية المحورية (صبحي عثمان)، وتقديم ذلك في هيئة بناء لغويّ ذي جمل قصيرة، ليس فيه اهتمام بأدوات الربط التي تجعل السرد متصلاً، بل فيه حرص على أن يُعبِّر هذا السرد عن حدث مُفتَّت يرصد دخيلة صبحي عثمان، ويهتم بخلخلة البناء اللغوي لمواكبة الخلل في المجتمع الروائي. أمّا الزّاوية الثّالثة فهي زاوية المكان والفضاء الروائي التي سأهتمّ بها، دون أن يعني ذلك أن الزوايا الثلاث منفصلة، أو يمكن فصلها لغير الأغراض التحليلية. ومن البديهي، تبعاً لذلك، أن أستعين في أثناء التحليل بإشارات إلى الزاويتين السابقتين، وأن أسعى إلى رؤيتهما من خلال الفضاء الروائي.‏

– اختراق المكان :‏

بدأت رواية (الغربان لا تختفي أبداً) بتحديد المكان الروائي : (من هنا، من القرينين، القرية الصغيرة جداً، القابعة في إحدى زوايا الدلتا الواسعة)(15). وهذا التحديد لافت للنظر لأنه يدلّ بوضوح على أن المكان الروائي ضيِّق. فقرية القرينين (صغيرة جداً) قابعة (في إحدى زوايا الدلتا الواسعة). ولكن (الضيق) هنا لا علاقة له بالمساحة التي يتحرّك فيها الحدث الروائي، بل له علاقة بما توحي به القرية (والريف عموماً) في الرواية بالإقبال على موضوعات ذات علاقة بالأرض والفلاح والمالك والعمدة (المختار) والمرأة في المجتمع الريفي، وما إلى ذلك من أمور بعيدة عن التنوُّع والامتداد وتعقُّد الحياة التي يوحي بها المكان المدينيّ (والرواية المدينيّة عموماً). وليس ذلك تصنيفاً ولا تفضيلاً للمكان الذي يتسم بالاتساع، بل هو إيحاء بالضيق بدأت به الرواية تمهيداً لما سيفعله صبحي عثمان عندما يخترق هذا المكان الضَّيِّق ويبعث الحياة في علاقاته، فيجعله واسعاً شاملاً مصر كلّها، متنوّعاً لا تنفصل علاقاته الاقتصادية عن علاقاته الاجتماعية والسياسية، ولا يختلف ريفه عن حضره.‏

أشار الراوي الممثَّل صبحي عثمان إلى اختراقه قريته بعد التحديد مباشرة ،فقال : (لفظتني ذات يوم وإليها أعود)(16). وقد تكفَّل السرد اللاحق باسترجاع الماضي الذي قاد إلى هرب صبحي عثمان من قريته القرينين. وحين انتهى من ذلك في نهاية القسم الأول من الرواية(17) رجع في بداية القسم الثاني إلى الحاضر الروائي بادئاً بعبارة مماثلة للعبارة الافتتاحيّة، هي : (أعود إليك يا بلد)(18) .وهذا يعني أن الرواية بدأت بالحاضر الروائي ثم اعتمدت على النسق الزمني الهابط في تجسيد الاسترجاع. ولما فرغت من الاسترجاع عاد الزمن إلى الحاضر ثانيةً وبدأ النسق الزمني الصاعد، وهو زمن أكثر طولاً وتنوُّعاً، لأنه استمرّ حتى نهاية الرواية (بين ص 29 – 76) ،وهي نهاية مفتوحة تُوحي باستمرار المأزق الروائي. بيد أن القضية لا تكمن في التلاعب بالأنساق الزمنية وحدها، بل تكمن في الوقت نفسه بتجسيد الاختراق من خلال الاسترجاع، وتشكيل الفضاء من خلال الحاضر.‏

والظن بأن دخول صبحي عثمان قرية القرينين عبَّر عن اختراق المكان بإحياء علاقاته التي كانت مستورة قبل الاختراق. أو قل إن قرية القرينين كانت ساكنة لا يعلم المتلقّي شيئاً عن العلاقات التي تحكمها وتسيطر عليها، وعندما اخترقها صبحي عثمان تخلخل سكونها وشرعت العلاقات التي تحكمها تتضح. وكلّما أوغل صبحي في الاختراق زاد وضوح العلاقات المكانية، فبدت قرية القرينين مكاناً (معادياً) لأن السرد الاسترجاعي أماط اللثام عن أن (صميدة شعبان) ذا الأصل الوضيع قتل بديعة (المجنونة) لأنها فضحت أسراره النسوية المخزية، وكشفت عمله في تهريب المخدِّرات. ولـمّا كان صبحي عثمان هو الوحيد الذي سمحت له بديعة بالاقتراب منها والتواصل معها فقد اتهمه صميدة بقتلها وأدخله السجن، ثم وفّر له فرصة الهرب من القرية. فبدا (صميدة شعبان)، نتيجة ذلك، بؤرة إشعاع العداء في القرينين، وهي بؤرة جعلت المكان الروائـي المعادي (طارداً) بدلاً من أن يكون (جاذباً)، تبعاً لنجاحها في القضاء على بديعة رمز التحرُّر من الرضوخ، وإبعادها صبحي عثمان المؤهَّل من خلال قبول بديعة له لأن يكون رمزاً ثانياً للثورة على سيطرة صميدة على القرية، ونشره الفساد فيها.‏

وإذا كانت جماليّة المكان لا تـتجسّد من خلال تحديد اسمه وأبعاده وصفاته فحسب، بل تتجسّد من خلال الطريقة الفنية التي قُدِّم بها، فإن الواضح بالنسبة إليَّ أن حرص الراوي الممثَّل على اختراق المكان وإحياء العلاقات السائدة فيه هو الطريقة الفنية التي قُدِّم فيها الراوي الممثَّل مقهوراً، وصميدة قاهراً، وبديعة موضوعاً للقهر. وبالتالي ارتبـط المكان بعلاقات محدَّدة بين الشخصيات القاهرة والمقهورة، ولكنه ارتباط مُقدَّم من وجهـة نظر الراوي الممثَّل ليس غير. فهو السارد مالك السرد الذاتي، ومن خلاله نعرف بديعة كما نعرف صميدة، ونقرأ عن القهر والسيطرة والعداء كما نقرأ عن دخيلة الراوي المضطربة الهائمة التي لا تعرف الاستقرار على حال واحدة. ويمكنني القول باختصار إن السرد الذاتي قدَّم، في أثناء الاسترجاع، مكاناً معادياً طارداً ذا علاقات قهر تراتبيّة(19)، يقبع في قمّتها صميدة شعبان الفاسد المفسد تاجر المخدّرات، وفي أدناها أناس يجب أن يرضخوا ويستكينوا أو يغادروا القرية ويتغرّبوا. مَنْ يتكلَّم يُقتَلْ، ومَنْ يتعاطفْ ويتهيّأ للتَّكلُّم يُتَّهمْ ويُسجن ويُطرد. وهذا الذي يحدث في قرية القرينين يحدث في مصر كلّها حسب التصريح المباشر للراوي الممثَّل(20). تلك هي طبيعة المكان الروائي، ولكنها طبيعة أراد لها الراوي الممثَّل أن تكـون تمهيداً للفضاء الروائي، ولذلك قصرها على القسم الأول من الرواية، وهو قسم استرجاعي.‏

– الفضاء الرّوائيّ :‏

إذا لم يكن الفضاء الروائي يتشكَّل من مكان واحد، بل يحتاج إلى أمكنة عدّة ذات بنية نابضة بالحركة والفعل، متماثلة في علاقاتها وطبيعتها ودلالتها، بحيث يبدو الفضاء إطاراً لحوادثها وصراعاتها ووجهات نظرها. فإن حرص الراوي الممثَّل صبحي عثمان على تشكيل هذا الفضاء منطلقاً من المكان الروائي بعد توضيح طبيعته. ولهذا السبب رجع في بداية القسم الثاني إلى عبارة كان القسم الأول بدأ بمثيل لها، ولكنها عودة إلى العبارة بعد تشبُّعها بمشاعر قهرٍ لم تعرفها العبارة الافتتاحيّة التي بدأ بها اختراق المكان الروائي.‏

بدأ القسم الثاني بعبارة (أعود إليك يا بلد)، وهي عبارة مشبعة بمشاعر القهر النابعة من طبيعة العلاقات المكانية المعادية في قرية القرينين، ومن تلك الغربة القسرية التي امتدّت سنوات دون أن تخلع من قلب الراوي الممثَّل صبحي عثمان حبَّ القرية والرغبة في العودة إليها. بدأ القسم الثاني بعبارة مؤذنة بحال شعورية جديدة هي مواجهة القهر الذي استكانت له القرية، والانتقام من الرأس القاهر المسيطر. وهذا يعني أن عودة الراوي الممثَّل مدفوعـة بالعلاقات المكانية المعادية التي قدَّمها الاسترجاع، وبقرار فرديٍّ بعدم الرضوخ لقرار الطرد، وبعزم على الانتقام من صميدة الرأس المدبّر. ولكن السرد الذاتي اللاحق سرعان ما كشف عن شيء جديد أضافه الراوي الممثَّل إلى العلاقات المعادية، هو نجاح القهر في اغتيال الطبيعة الجميلة، وفي الامتداد من تجارة المخدِّرات إلى تجارة النقود المزيَّفة، ومن مصر إلى إسرائيل، ومن حاكم قاهر محلّيٍّ إلى دوائر سيطرة مركزية. وإذا كان ذلك كلّه إيذاناً بتشكيل الفضاء الروائي، وهو إطار الأمكنة والشخصيات والحوادث والعلاقات ،فإن الحاجة الروائية تقضي بتجسيد الفضاء من خلال نموّ الحدث الروائي. وقد لجأت الرواية إلى تنمية حدثها مستعينة بوسيلة (التّسلُّل)، فجعلت الراوي يتسلّل إلى منـزله، ويقابل أمه خفية، ثم يستعين بصديقه (زكريا إسماعيل) المقرَّب من صميدة في التسلُّل إلى بؤرة الفساد في صـورة النادم على ما مضى، الراغب في أن يعمل لدى صميدة.‏

ومن الواضح أن (التسلُّل) المعبِّر عن عدم توافر الإمكانية للمواجهة المباشرة مع الفساد أتاح الفرصـة الروائيـة للانتقال من المكان العام (القرية) إلى المكان الخاص (منـزل صميدة) الواسع (الحقول والبراري والمدن والنهر). ومن العلاقات المحدودة (علاقات صميدة بالقرية) إلى العلاقات المتشعِّبة (علاقات صميدة بدوائر النفوذ في مصر، وإسرائيل، وتهريب النقود المزيّفة إلى جانب المخدرات). وهذا الانتقال جعل الأمكنة تتعدَّد (القرية – المنـزل – الجسر – النهر – المدرسة الزراعية – شاطىء الرياح – الجبل – القبو – طنطا – البحيرة – الاسكندريـة – الشرقيـة – المنصورة …)، والشخصيات يزيد عددها (زكريا إسماعيل – متولي بقر …)، والحوادث تتشعَّب (نقل الحقائب السوداء – علاقة صبحي بزوجة صميدة ثم قتلها معه). وبرزت، ضمن هذا الفضاء الروائي الجامع لذلك كله، الحال الشعورية لصبحي عثمان، تلك الحال التي بدأت تتغيّر من الاضطراب والتردُّد إلى الاستقرار على رأي محدَّد، هو قتل صميدة دون توجيه تهمة لأحد. وقد نفّذ قراره، ولكنه اضطر إلى قتل زوجة صميدة أيضاً، وظن بعد نجاته وإعلانه الحزن على مقتل صميدة أنه قضى على رأس الفتنة ومصدر الفساد، ولكنه اكتشف في العزاء ابناً لصميدة مؤهَّلاً لخلافتـه دون أن يعلم بأمره لسكنه بعيداً عن القرية، وهذا ما يوحي بدلالة محدَّدة، هي أن الانتقام الفردي لا يحلّ مشكلة الفساد، ولا يقضي على جذوره وامتداداته.‏

ومن الواضح بعد ذلك كلّه أن الفضاء الروائي في (الغربان لا تختفي أبداً) لم يعرف تعدُّد وجهات النظر، بل بقي محكوماً بوجهة نظر واحدة، هي وجهة نظر صبحي عثمان، ما جعله فضاءً أحادياً، فضلاً عن حاجته إلى الاتساق. إذ إن الشخصيات المعادية (وخصوصاً صميدة ومتولي) مدانة في سلوكها الجنسي، ولكن شخصية صبحي عثمان غير مدانة على الرغم من ممارستها السلوك نفسه. كما أن الحل الوجودي للقهر باغتيال القاهر حلٌّ فرديٌّ. وهذا الحلّ الذي تردَّد بطل مطاع صفدي في جيل القدر (1960) وثائر محترف (1961) في تنفيذه ،نضج لدى عبد الفتَّاح صبري ،فدفع بطله إلى تنفيذه دون أن يناقشه أو يتردّد في شرعيته، ثم جعله يوقن بعدم جدواه بعد معرفته بأن هناك ابناً لصميدة، وانتهى في آخر عبارات الرواية إلى أن (يولول) ويندب حظّه وحظّ قريته، موحياً مرة أخرى بأن الاغتيال ليس حلاً للفساد.‏

ثالثاً : بناء الفضاء‏

أما رواية (الطبل)(21) لفاضل السباعي فلا نتعرّف من خلالها طريقة السباعي الفنية في بناء فضاء روايته فحسب، بل نسعى في الوقت نفسه إلى تلمُّس الجديد في هذا البناء قياساً إلى السائد في الرواية العربية. ذلك أن قارىء رواية (الطبل) يعتقد بأن فاضل السباعي لم يُعْنَ بالمـكان الروائي. ومصدر هذا الاعتقاد خلو رواية (الطبل) من مقاطع وصفية تحيط بالأمكنة التي تُشكّل الفضاء الروائي، وهي : مبنى الهلال – مبنى الإدارة المركزية – منـزل عثمان العطّار – الحديقة العامة – الشـوارع المجاورة لمباني الوزارة. وهذا الاعتقاد غير صحيح، لأن عناية فاضل السباعي ببناء الفضاء الروائي في رواية (الطبل) تبدو متميّزة قياساً إلى ما قدَّمه في روايتيه الضخمتين (ثم أزهر الحزن) و (رياح كانون).‏

ويمكنني توضيح ذلك بالقول إن فاضل السباعي أدرك أن الوصف هو الوسيلة الرئيسة لتقديم المكان الروائي. وقد اعتاد استعماله في تصوير المكان، والتعريف بأشكاله وأحجامه وجزئياته، وتفنّن في ربطه بعد ذلك بالحوادث والشخصيات ،حتى إن الوصف أصبح لديه مكوّناً من مكوّنات الرواية ،أو عنصراً من عناصر بنائها. وهو محقّ في ذلك، لأن المكان الروائي ليس زينة، بل هو خالق للمعنى داخل الرواية(22). ومن ثَمَّ لم يكتف بمكان واحد في رواياته، بل راح يُعدِّد الأمكنة ليـخلق فضاءً روائياً، دون أن يتخلّى عن الوصف، لأن اللغة وحدها هي التي تجـعل إدراك المكان الروائي ممكناً.‏

وليس هناك ما يشير إلى أنه خرج عن المألوف الروائي في روايته (ثم أزهر الحزن). فقد قدَّم فيها وصفاً موجزاً للدار العربيـة التي سكنتها الأسرة، قائلاً : (ففي دارنا العربية صحن وسيع وبركة وليوان. وفي صحن الدار حوض مزهر يوازي حائط الغرفة الكبرى التي كنا نسمّيها بالقاعة. كان أبي، يوم وُلدتْ لـه أختي البكر، قد قام إلى هذا الحوض، وغرس فيه عوداً من الكرمة. ثم انثنى يقول لأمي وهو ينفض التراب عن يديه :‏

- هذه الدالية لصغيرتنا نورة.‏

وغرس، بُعيد ولادة سليمى، شجيرة ياسمين. ثم كان من نصيبي شجيرة ورد. فلما أقبلت رابعة كان الحوض قد ضاق بشجيراته الثلاث الناهدات، فوسّعه وأضاف إليه شجيرة رمان)(23).‏

يدلّ هذا المقطع بوضوح على أن الوصف مجمل بالنسبة إلى الدار، ومفصَّل بالنسبة إلى الحوض. فقد ذكر موضع الحوض (يوازي حائط القاعة)، ومحتوياته من الأشجار. ولم يكن وصـف الحوض في الرواية هدفاً، بل كان تعبيراً عن وضع الأسرة، مرتبطاً بأفرادها، دالاً عـلى طبيعة حياتها. فهي تنتظر ابناً ذكراً يزرع له الأب شجرة تفاح تدين لها شجيرات البنات بالطاعة(24). ويبدأ الأب ييأس بعد إنجاب البنت الخامسة، ثم ما يلبث يعتقد بأن ابنه الذكر لن يأتي إلى الدنيا وهو على قيد الحياة. وتتحقّق نبوءته، فيموت قبل ولادة زوجته بعلاء، وتروح (أعراف الشجيرات الخمس تترنح جزعاً)(25)، مشاركة الأسرة حزنها على الأب الذي قضى قبل رؤيته ابنه علاء. وحين يولد علاء تفرح الأسرة ويعود إلى (الشجيرات صداح العنادل والعصافير)(26).‏

إن الحوض مكان روائي يُعبِّر عن أحلام الأسرة وتطوراتها، فلا يبدو مكاناً جامداً، بل يـبدو معادلاً لمشاعر الأسرة، يفرح حين تفرح ويحزن حين تحزن. وعندما وُلد علاء انتهت مهمـة هذا المكان الروائي، وبدأت مهمة مكان روائي ثان هو الغرفة التي أجَّرتها الأسرة للمعلمة زينب. وقد تجلّت هذه البداية في وصفٍ مجملٍ لغرف المنـزل، ومفصَّلٍ للغرفـة (المربّـع – العلّيّة)(27) التي تنوي الأسرة تأجيرها للمعلمة.‏

هكذا تشكَّل الفضاء الروائي في (ثم أزهر الحزن) من أمكنة عدّة، بعضها في الدار العربية، وبعضها الآخر في الدار الحديثة التي اشترتها الأسرة(28)، وبعضها في الشوارع والمكتبة والجامعة. وكلّ مكـانٍ يحمل معه تطوراً من تطورات الأسرة وحياتها، حتى يغدو الفضاء الروائي دالاً على حركة الحوادث والشخصيات وعلاقاتها. أي أن تعدُّد الأمكنة في رواية (ثم أزهر الحزن)، وارتباط كلّ مكان منها بحدث من الحوادث الروائية، وإسهامه في الدلالة على جانب من طبيعة الشخصيات وعلاقاتها داخل الأسرة وخارجها، موظَّف للتعبير عن الحكاية الروائية التي ترصد تطورات أسرة تُوفّي عائلها وخلَّف وراءه زوجة وابناً وبُنيّات خمساً صغاراً. وكأن تعدُّد الأمكنة لبَّى الحاجة الجمالية الخاصة برصد تطورات الأسرة، وكان وصف كلّ مكان منها، مجملاً أولاً ومفصَّلاً بعد ذلك، سبيل الراوي إلى جَعْل القارىء يرى البيئة المختارة وهي تتغيّر وتتبدّل.‏

هذه، بإيجاز، عناية فاضل السباعي بالفضاء الروائي في رواية (ثم أزهر الحزن). إنها عناية تدلّ بوضوح على أنه استند إلى الوصف في بناء فضاء روايته. وسبق القول إن الروائيين اعتادوا اللجوء إلى الوصف في بناء فضاءاتهم الروائية. ولم يختلف فاضل السباعي عنهم في شيء غير رغبته في إيجاز الوصف وتوظيفه. وعلى الرغم من ذلك كله فإنني أعتقد بأنه بنى فضاء رواية (الطبل) على نحو آخر جديد مغاير لمـا فعله في (ثم أزهر الحزن). وأولُ ما نلاحظه في هذا البناء الجديد خلُّوه من الوصف وهو الرجبة الأساسية التي يُشاد عليها الفضاء الروائي. ولئلا يكون هناك لبس أقول إن رواية (الطبل) خالية من المقاطع الوصفية للأمكنة الخمسة التي شكّلت فضاءها، وهي : مبنى الهلال – مبنى الإدارة المركزية – منـزل عثمان العطّار – الحديقة العامة – الشـوارع المجاورة لمباني الوزارة. وسنلاحظ، بعد، أن فاضل السباعي استعاض عن المقاطع الوصفية بالأرقام والصفات المفردة ودلالات الألفاظ. ولا بأس، بادىء ذي بدء، من توضيح الفضاء الروائي في رواية الطبل استناداً إلى الإجراءات الثـلاثـة الآتية : اختراق المكان وتراتبيته وتعدُّد الرؤى فيه.‏

يختلف المكان الروائي عن المكان الطبيعي الخارجي في أنـه لا يتضح إذا لم تخترقه الشخصيات الروائية. فلا استقلاليـة له عنها، لأنه لا يظهر إلا من خلال وجهات نظرها(29) وشبكة علاقاتها ورؤياها. والفضاء الروائي لا يُشاد إذا لم تتضامن وجهات النظر وشبكة العلاقات والرؤى مع بعضها بعضاً، تبعاً لارتباط هذا الفضاء بالحوادث والشخصيات. فالمكان جامد، ولكن اختراق الشخصيات له يجعله نابضاً بالدلالات والحوادث. وليست هناك وسيلة واحدة لاختراق الشخصية الروائية المكان. ولكنني لاحظتُ أن فاضل السباعي استند إلى الثنائيات المُبرزة للتراتبية وتعدُّد الرؤى، مستخدماً الأرقام والصفات المفردة ودلالات الألفاظ بدلاً من المقاطع الوصفية.‏

لننعم النظر، الآن، في ثنائية : الإدارة المركزية ومبنى الهلال. ففي الرواية كلها صفة واحدة خلعها الراوي على مبنى الهلال، هـي كونـه مبنى (ملحقاً)(30) بالإدارة المركزية. وهذه الصفـة المكانية التي وردت عرضاً في رواية الطبل جوهرية، يستند إليها بناء الفضاء الروائي كله. ذلك أنها تعني أن هناك مبنيين (مكانين) : أولهما أصل وهو الإدارة المركزية، والثاني فرع وهو مبنى الهلال. والفرع في رواية الطبل تابع دائماً للأصل. وهذه التبعية تبدو مكانية أول الأمر، ولكنـها سرعان ما تنبض بالدلالات الفكرية، فيكرّر المكان / الفرع صورة المكان / الأصل.‏

الإدارة المركزية هي المكان / الأصل. وفي هذا المكان مكانان يدلان على الأصل، هما : مكتب الأمين العام، ومكتب الوزير. وقد غيَّب الراوي مكتب الوزير في بدايات الرواية، وسمح لمكتب الأمين العام بالسيادة في السياق الروائي، وجعل الوصول إليه يحتاج إلى الصعود على الدرج، وهذه صفة مكانية تدل على العلو. كما جعل للأمين العام مكتباً آخر يحلّ فيه السكرتير، وهذا المكتب الثاني يدلّ على الأهمية. ورغب الراوي أخيراً في أن يضفي صفة الضخامة على مبنى الإدارة المركزية، فجعله في خمسة طوابق ومائة غرفة. أي أنه استخدم الأرقام للدلالة على ضخامة المكان.‏

أما مبنى الهلال فهو المكان / الفرع. والفرع أصغر من الأصل، ولكنه في رواية الطبل متماه بالأصل. فقد نُدِب عثمان العطّار لمراقبة الدوام في مبنى الهلال ،كما نُدِب الأمين العام لمراقبة الدوام في مبنى الإدارة المركزيـة. ومكتب العطّار في الطابق الثاني، كما أن مكتب الأمين العام يُرْتَقَى إليه بالدرج. وقد ألحق العطّار بمكتبه مكتباً آخر للسكرتيرة شادن، كما ألحق الأمين العام بمكتبه مكتباً للسكرتير هشام رمضان. وهذا كله يوضّح التماهي المكاني بين المبنيين، بما في هذا التماهي من علو وفخامة. وقد أضاف الراوي تماهياً آخر بين شخصي الأمين العام وعثمان العطّار، هو أنهما رُكِّبا على (مزاج واحد في السهر على تطبيق النظام، وضبط دخول الموظفين والزائرين إلى المباني وخروجهم منها بأسلوب يرضي نوازعهما الخاصة)(31). أي أنهما مشتركان في الحزم في تطبيق النظام ومراقبة دوام الموظفين.‏

ويستطيع قارىء رواية (الطبل) بعد الاطلاع على طبيعة المكانين السابقين ملاحظة شيء مهم، هو أن الأزمتين الرئيستين في الحكايـة الروائية، وهما أزمة هاني النبهاني مدير البحوث، وأزمة الشجار بين الموظفتين إكرام ونسرين، لا يمكن إقناع القارىء بهما إذا كان المكانان المذكوران يحملان ثنائية ذات صفات مغايرة لتبعيـة الفرع للأصل وتماهيه به، واشتراك شخصيتي الرئيس والمرؤوس في التشدُّد بتطبيق النظام ومراقبة الدوام. فأزمة هاني النبهاني تتعلق بمراقبة الدوام، وأزمة إكرام ونسرين تتعلق بتطبيق النظام. أي أن المكانين (المبنيين) أسهما في خلق المعنى في الحكاية الروائية عندما اخترقتهما شخصيات هاني وإكرام ونسرين وعثمان العطّار والأمين العام، وهي شخصيات متناقضـة في مفهومها للنظام والدوام.‏

بيد أن الفضاء الروائي لرواية (الطبل) لم يكن مقصوراً على مبنى الهلال ومبنى الإدارة المركزية، بل امتد إلى أمكنـة أخرى تُبرز ثنائيات جديدة :‏

أول هذه الأمكنة منـزل عثمان العطّار الذي لم يقدِّم له فاضل السباعي شيئاً مما قدَّمه لمبنيي الهلال والإدارة المركزية. ولكنه جعل عثمان العطّار يخترقـه دائماً، ويعكس في اختراقه له ما كان يلقاه في مبنى الهلال. فحين يزهو بنصره وتحقيقه وإخضاعه هاني النبهاني يرجع إلى منـزله مسروراً، فيداعب أولاده ويتباسط معهم، وحين تضيق به سبل التحقيق وينجو هاني النبهاني من الخضوع يرجـع إلى منـزله قلقاً، فيتشاجر مع زوجته ويصيح في وجه أولاده. ولم يكتف منـزل عثمان العطّار بعكس حاله غمّاً وسعادة، بل جعل موقف الزوجة والأولاد تعبيراً عن موقف الموظفين في مبنى الهلال. فقد تضايقت الزوجة ونفر الأولاد من أبيهم عثمان، كما تضايقت أم وليد منه في المبنى وسخر الموظفون من مبالغاتـه في تطبيق النظام ومراقبة الدوام. وهكذا شكَّل مبنى الهلال ومنـزل عثمان ثنائية أخرى تُرسِّخ دلالة الحكاية الروائية.‏

كذلك الأمر بالنسبة إلى الشوارع. فقـد خلع عليـها الراوي صفـة (المجاورة) لمباني الوزارة. ولم تكن هذه الشوارع أمكنة هامشية، بل كانت رئيسة لأنها موطن مخالفة النظام، ومنبع أزمة إكرام ونسرين. تلك أيضاً حال الحديقة. فهي (عامة) في الرواية من حيث الصفة المفردة، ولكنها مكان مخالفة النظام لأنها الموضع الذي التقى فيه قصي نسرين .ومن ثَمَّ شكَّلت الشوارع المجاورة لمباني الوزارة ومبنى الهلال ثنائية ضديّة، وشكَّلت الحديقة العامة ومبنى الهلال ثنائية ضديّة أخرى. وهاتان الثنائيتان تنمان على موقفين أخلاقيين متغايرين، لم يكن باستطاعة فاضل السباعي إبرازهما لولا حرصه على جعل الشخصيات بأفكارها وآرائها تخترق هذين المكانين وتجعلهما تسهمان في تقديم أبعاد أخرى لمعنى الحكاية الروائية ودلالتها.‏

وقد اكتمل الفضاء الروائي في (الطبل) حين أعلن الراوي مكاناً جديداً هو مكتب الوزير. ذلك أن تراكم اللامعقول الروائي في حكاية هاني وإكرام ونسرين لم يكن ممكناً لو لم يغفل الراوي الوزير ومكتبه. وحين اكتملت التحقيقات في قضية إكرام ونسرين، وبلغـت حدَّ اللامعقول الذي يُنفِّر القارىء من مفهوم النظام لدى الأمين العام وعثمان العطّار، وحين كاد الأخير ينجح في إخضاع هاني النبهاني، أبرز الراوي الوزير الجديد، وسمح للشخصيات الرئيسة الثلاث : الأمين العام وعثمان وهاني باختراق مكتبه. وقد دلَّ هذا الاختراق على أن الوزير يحمل مفهوماً آخر للنظام مغايراً لما اعتاده الأمين العام وعثمان العطّار. ومن ثَمَّ شرعت الحكاية الروائية نتيجة هذا الاختراق تتجه نحو الانحدار، وبدأت أمور الموظفين ترجع إلى وضعها الطبيعي. فهذا الاختراق هو الذي هدم سطوة عثمان فمرض ومات، وهو الذي سبّب إحالة الأمين العام إلى التقاعد، وهو الذي رفع مكانة هاني النبهاني، وفرَّج الكرب عن إكرام ونسرين.‏

إن الجديـد في بنـاء الفضاء الروائي عنـد فاضل السباعي في روايـة (الطبل) هو عدم الاستناد إلى الوصف. ذلك أن ضوابط المكان كما لاحظنا في روايات محبك وسليمان وصبري متصلـة بلحظات الوصف، وهي لحظات متقطِّعة تتناوب في الظهور(32) كلما رغب الراوي في طرح مكان جديد. ذلك أن راوي رواية (الطبل) طرح الأمكنة من غير افتتاحها بمقاطع وصفية تُعين القارىء على إدراكها، ولكنه لجأ إلى وسائل أخرى غير الوصف، كالصفات المفردة والأرقام والتراتبية ودلالات الألفاظ، وهي وسائل لا تلفت انتباه القارىء، ولا تعوق حركة السرد، ولا تضع الروائي الكاتب أمام مأزق اتصال السرد بعد الفراغ من المقطع الوصفي، بل تبدو عرضية للقارىء العجل، وجوهرية لمن ينعم النظر في النص ليكتشف خلفيات التشويق فيه.‏

ويقودنا إنعام النظر إلى أن خلفيات التشويق في رواية (الطبل) تكمن في أن الراوي ربط الأمكنة الروائية، وهي مكوِّنات الفضاء الروائي، بوجهات نظر الشخصيات في الحدث الروائي، فغدا ما يفعله الموظفون والموظفات في الشوارع المجاورة لمباني الوزارة وفي الحديقـة العامـة خاضعاً للمساءلة والتحقيق، ومرتبطاً بشرف الوظيفة، تبعاً لوجهة نظر عثمان العطّار ورئيسه الأمين العام. كذلك الأمر بالنسبة إلى عثمان وهاني، فهما متفقان في الحرص على النظام، ولكن كلاً منهما يحمل وجهـة نظر في تطبيقه وفهمه. وقد خلق الاختلاف في وجهتي النظـر الحدث الخاص بإذن الخروج، ولكن هذا الحدث مرتبط أيضاً بوجود مكانين / مبنيين. ولو لم يكن هناك مبنيان لما كان لهذا الحدث معنى في الحكاية الروائية. وهذا ما يؤكد ارتباط الأمكنة بوجهات نظر الشخصيات في الحدث الروائي، ويجعل الفضاء المكوَّن في هذه الرواية من خمسة أمكنة أكثر شمولاً واتساعاً بحيث يضمها بما فيها من حوادث وشخصيات.‏

أخلص من ذلك كله إلى أن الروائيّ العربيّ حرص على الوصف في أثناء تشكيل المكان في روايته، وراح يسعى إلى جعل هذا الوصف ذاتياً ليوظِّفه في اختراق المكان. ذلك أن الوصف الذاتي هو المعبِّر عن الحال الشعوريّة للشخصيّة الروائيّة، وهو يخدم الروائيّ في أثناء اختراق المكان في تحديد العلاقات المكانيّة، أو العلاقات بين المكان والشخصيات والحوادث. وقد لاحظتُ أن الروائيين لجؤوا إلى إحياء العلاقات المكانيّة، واخترقوا المكان، بغية التمهيد لتشكيل الفضاء الروائيّ. كما لاحظتُ أن بناء الفضاء لديهم لا يتشكَّل ولا يُصبح مكوِّناً من مكوِّنات الرواية إذا لم تخترق الشخصيات المكان حاملة وجهة نظرها الخاصة، وإذا لم تعمل على تحديد انتمائها فيه. ولاحظتُ أخيراً أن الروائيين قد يختلفون في الوصف البصريّ، أو في اعتمادهم رواة أو راوياً واحداً، أو في الاستناد إلى الثنائيّات الضدّيّة والصفات المفردة واستعمال الأرقام ودلالات الألفاظ، ولكنهم لا يختلفون في شيء إلا بعد اشتراكهم في القاعدة الأساسيّة اللازمة لبناء الفضاء الروائيّ. وهذه القاعدة المشتركة هي تحديد الأمكنة الروائيّة، واختراق الشخصيات لها بغية إحيائها وجعلها عاملاً من عوامل فهم الشخصيات والحوادث الروائيّة.‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 12 / 2009, 27 : 11 AM   رقم المشاركة : [8]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
- بناء السَّرد الرّوائيّ

لا يجادل أحد في أن الرواية نصّ سرديّ، وأن السرد هو الطريقة التي يروي بها الراوي القصة للقارىء. ولكن الجدال النقديّ الخصب يكمن في تحليل طريقة الراوي في رواية القصة ؛ لأن مهارة الروائي وخصوصيّة الرواية تنبعان من الراوي المختار، ومن علاقته بما يرويه، ومن الكيفيّة التي يروي فيها الحوادث الروائيّة، ولا تنبعان من الحوادث نفسها أو من الأفكار التي تضمّها الرواية، تبعاً لتوافر إمكانيّة تقديم أفكار معيَّنة وحوادث محدَّدة بمئات الطرق، بل إن جيمس جويس قال إن : (هناك خمسة ملايين طريقة لحكي حكاية واحدة حسب الأهداف التي نقصد إليها)(1). ولا أشكُّ في أن جيمس جويس لا يقصد هذا الرقم حرفيّاً، بل يقصد الإشارة إلى الإمكانات الكبيرة المتاحة أمام الرواة لرواية حكاية واحدة، وهذا ما يجعل كل طريقة من طرق سرد الرواية تعبيراً عن القدرات الفنية للروائيّ كاتب الرواية ودلالة على تفرُّده.‏

وإذا كان الكلام السابق يُعضِّد القول إن السرد فنٌّ، فإنه لا يعارض استناد الرواة الساردين إلى تقنيات محدَّدة في بناء سردهم الروائيّ ؛ أي في تقديم عالم الرواية المتخيَّل إلى القارىء، على ألا يُعْزَى نجاح السرد إلى التقنيات ليس غير ؛ لأنها وسائل أو مبادىء عامة مُتاحة للروائيين كافّة، يختلفون في توظيفها لإحداث الأثر الجماليّ في القارىء، ويحكم النقاد على نجاحها أو إخفاقها لدى الروائيين تبعاً لنجاحهم أو إخفاقهم في توظيفها في التعبير الجماليّ عن مقاصدهم الروائيّة. وقد آثرتُ، بغية تخصيص الحديث، تحليل بناء السرد في رواية (فيّاض)(2) لخيري الذهبي، بادئاً بالراوي، منتهياً إلى مظهري السرد، عاملاً على توضيح التقنية التي تنفرد هذه الرواية بطريقة استعمالها.‏

1 – الرَّاوي والشّخصيات :‏

الرّاوي في رواية (فيّاض) راو عالم بكل شيء، أو قُلْ إنه ذو معرفة مطلقة بالحوادث والشخصيات في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وفي حركتها في الزمان والمكان. ولكنه راو حياديّ غير منحاز إلى أية شخصيّة، وإن كانت شخصية فياض تستأثر باهتمامـه تبعاً لتعبيرها الضمنيّ عن القيمة الوطنيّة والقوميّة وتحولاتها المعاصرة. وتتجلّى حياديّة الراوي أيضاً في عدم تدخُّله في السرد(3)، وفي اكتفائه بمهمة الملاحظ العاكس القادر على التوسُّط بين الحدث والقارىء بوساطة ضمير الغائب.‏

أقام الراوي علاقات متباينة بشخصيات الرواية، وهي ثلاث وسبعون شخصية. اهتم بشخصيّة فياض وحدها فجعلها بؤرة السرد ومحور الحدث. أما الشخصيات الاثنتان والسبعون الأخرى فقد وظَّفها صراحةً أو ترميزاً لإضاءة أبعاد شخصيّة فياض وتحوُّل علاقتها بالفرنسيين والسلطة بعد الاستقلال، وخصوصاً شخصيّتي روجيه لوبلان وإياد الجوقدار. والواضح أن الراوي حريص على التقليد الروائيّ العريق، وهو جَعْلُ شخصية فياض واضحة أمام القارىء. أما طريقته في بناء هذه الشخصيّة الواضحة فتستند إلى ثلاثة أمور، هي تقديم شخصية فياض، ومنحها اسماً، وبيان تحوّلها.‏

ويمكنني تحليل طريقة الراوي في تقديم شخصية فياض استناداً إلى مقياسين كمّيّ ونوعيّ. إذ لجأ أول الأمر إلى نثر معلومات عنه. فهو راع كان عمره عشر سنوات حين التقطه ضابط فرنسيّ اسمه روجيه لوبلان من قلعة شيزر، وتبنّاه وعلَّمه وطوَّعه لطبيعة الحياة الفرنسيّة، فأدخله مدرسة السان جوزيف في بيروت، وأرسله بعد نيله البكالوريا (الثانويّة العامة) إلى باريس ليتلقى علومه العالية. ولم يكتف الراوي في أثناء استعماله المقياس الكمّيّ بهذه المعلومات، بل راح يُقدِّم وصفاً لهيئة فياض، فهو ذو وجه أبيض وعينين خضراوين واسعتين وشعر كستناوي(4)، خُيِّل إلى ماتيلد حين رأته أوّل مرّة أنه قادم من البلاد الاسكندنافيّة، ولكنّ روجيه أخبرها أنه شركسيّ(5). وعلى الرغم من أن الراوي قدَّم هذه المعلومات الشخصية عن فياض في افتتاحيّة الرواية، فإنه لم يُقدّمها في مكان واحد، بل جعلها منجَّمة، بحيث يتيح للقارىء المتلقّي فرصة المشاركة في جمعها ليكوِّن معرفة أوّليّة بالشخصيّة المحوريّة في الرواية .ولكنّ التراكم الكمّيّ للمعلومات المقدَّمة صراحةً عن شخصية فياض لا يؤدّي وحده إلى رؤية هذه الشخصية من جوانبها كلها، ومن ثَمَّ نحتاج إلى المقياس النّوعيّ لندقِّق في مصدر المعلومات وفي الطريقة المختارة لعرضها في السرد(6). فقد عزّز الراوي، بادىء الأمر، المعلومات الشخصية بإعادتها على لسان الشخصيات، كما هي حال عُمْر فياض حين التقطه روجيه من القلعة(7)، إذ ذكره الراوي وبعد أربعين صفحة ذكره فياض نفسه كذلك الأمر بالنسبة إلى صفات فياض الخَلْقيّة، فقد ذكرها كما رآها روجيه(8)، وبعد أربع وعشرين صفحة ذكرها الراوي نفسه ثانية(9)، وترك حسيبة بعد تسعين ومائتي صفحة تذكرها ثالثة(10). وهذا التكرار يؤكِّد الصفات الخَلْقيّة لدى القارىء، وهي صفات خارجيّة توحي بانتماء صاحبها إلى الأجانب لا العرب. ولكنها، أيضاً، تساعد الراوي على التّدرُّج في عرض شخصية فياض، بالانتقال من شكلها الخارجيّ إلى دخيلتها، ومن العامّ إلى الخاصّ في علاقاتها بالحوادث الروائيّة. وقد اتضح ذلك من خلال التركيز في البداية على أن فياضاً يأكل بهدوء كالفرنسيين(11)، ويتحلى بسلوكهم، ويتزيّا بزيّهم، ويتقمَّص أفكارهم. والفرنسيون، في الرواية، مختَزَلون في شخصية روجيه الذي تبنّى فياضاً وحاول أن يُشكِّله على مثاله، ولكنه اكتشف أنه خلق شخصاً ضعيفاً يخاف من منظر الدماء بدلاً من أن يخلق شخصاً قوياً يساعده على تحقيق حلم أجداده الصليبيين : (يا إلهي، أي فتى صنعت. لا. ليس هذا ما أريد)(12). لقد خلـق إنساناً لطيفاً لا يعرف من حاضره غير العادات والتقاليد الفرنسيّة، ومن ماضيه غير قلعة شيزر، ما جعل إياداً يسألـه مراراً: (أأنت سوري حقاً)(13)، ويخاطبه في أخريات الرواية قائلاً: (ربما كانت مشكلتكَ الحقيقيّة أنكَ لم تعايش أباكَ معايشة حقيقيّة ليربيكَ على قيمه ونظرته إلى العالم والناس والحياة. وحين انتزعكَ روجيه من عالمكَ الشيزريّ ليجعل من نفسه أباً لكَ يحمّلك قيمه ونظرته إلى الحياة انفصلت عنه رافضاً قيمه دون أن تستطيع العودة إلى قيم أبيك الشيزري. والأنكى من‏

هذا كله أنك لم تستطع تشكيل قيم معاصرة خاصة بك بعيداً عن الكتب والتاريخ)(14).‏

لقد خلق روجيه إنساناً ضعيفاً لا تجربة لديه، وحين اضطر في حفل التعارف الذي أقامه الطلبة في الجامعة لإلقاء كلمة يُعرِّف فيها بموطنه لجأ إلى الخيال، وقدَّم لزملائه الطلاب عالماً لا يمت إلى الحقيقة بصلة، عالماً يسوده الغزو وخطف النساء، ما جعل زميلاته يتهافتن عليه حباً بهذا العالم الغريب. لقد اضطر إلى إلقاء كلمة في الحفل ولم يستطع الرفض لأنه غير قادر بحسب تكوينه على أن يقول (لا) كما وصفته حسيبة بعد ذلك. وللسبب نفسه اعتنق رأي روجيه في أن الثُّوَّار مجرد أشقياء، وانصاع كثيراً للحب الذي أغدقته ماتيلد عليه. ولم يكن ذلك كله غير محاولة من الراوي لزيادة الوضوح في شخصية فياض الروائية ؛ وهو وضوح ينتقل بتدرُّج من مظهر فياض إلى علاقاته الروائيّة، وتبدو خلال ذلك الصلة العضوية بين صفاته الشخصية والحوادث الروائية. فليس له، وهو الذي لا يعرف وطنه، غير الخيال يبني به وطناً يُرضي مستمعيه. وليس له، وهو الشاب الجميل، من فخر غير تهافت النساء عليه. والظن أن التدرُّج الذي وفَّره المقياس النوعيّ أسهم في جعل شخصية فياض واضحة، ومهَّد لتحوُّلها بطريقة التدرُّج نفسها.‏

شرع فياض يتحوَّل حين تعرَّف إياداً في باريس. فقد اكتشف إياد براءة فياض وسذاجته ومعرفته بأسامـة بن منقذ والحروب الصليبيّة، وجهله التام بما يجري في سورية(15)، حتى إنه شكَّ في كونه سوريّاً. ولكنه لازمه، ودعاه إلى حفل أقامته رابطة الطلاب السوريين، وتجاهل رغبته في العزلة، وراح يناقشه في الثورة السورية على الفرنسيين، ويعرض على مسامعه أسماء الثوّار ومسوِّغات الثورة، وجعله يواجه السؤال الحاسم : من أنتَ ؟، ذلك السؤال الذي حيَّر فياضاً ودفعـه إلى البحث عن إجابة. ولم يتركه إياد، بل حفزه إلى السفر إلى الوطن ليعرفه معرفة حقيقيّة(16)، وصحبه في رحلته إلى سورية، وقاده إلى مقهى النًّوْفرة ليسمع الحكواتي يروي سيرة الملك الظاهر والمقدَّم معروف وابنه عرنوس، وزار معه المساجد والأحياء الشعبيّة، ساعياً من وراء ذلك كله إلى تعريفه بهويته الوطنيّة والتاريخيّة، وزجِّه في أتونها. ولم يكن فيّاض بعيداً عن التفاعل مع محاولات إياد. إذ بدأ يكتم أمر روجيه وماتيلد عن إياد. وحين قبل، بعد ذلك، فكرة صنع لغم وتفجيره في طريق إحدى الدوريات الفرنسيّة، اشترط أن يضمن ابتعاد روجيه عن مكان الدَّوريّة. وشيئاً فشيئاً بدأ فياض يشعر بانفصاله عن روجيه، حتى إذا جاء الكرنفال تزيّا بزيّ أسامة وهو يعرف أن روجيه سيتزيّا بالزِّيّ نفسه، وهذا الأمر أعلن انفصاله التام عنه والتحاقه بهويته الوطنيّة وتاريخ بلاده. ههنا اكتمل تحوُّل فياض من غير أن تنتهي حكايته، فقد تابع طريقه كاتباً في جريدة الصرخة، ومُنْشئاً جريدة خاصة بالاشتراك مع إياد، وهارباً من اتهامه بقتل الشهبندر، ومشاركاً في حرب فلسطين، ويائساً من استقلاله الهشّ، منعزلاً عن أسرته التي كوَّنها في أثناء اختبائه، عاكفاً على تدوين مذكراته.‏

إن شخصية فياض هي بؤرة السرد، ولهذا السبب عُني الراوي بتقديمها للقارىء المتلقّي، وجهد في توضيح ماضيها وحاضرها ومآلها إلى العزلة بعد تجربة مريرة طويلة. ولم يكرِّر هذه العناية حين قدَّم الشخصيات الأخرى، وعددها اثنتان وسبعون شخصية، انطلاقاً من أن هذه الشخصيات موظَّفة للتدقيق في أبعاد شخصية فياض، وليس لها كيان روائيّ مستقلّ. ولا شكَّ في أن تصنيف هذه الشخصيات يُحدِّد المجال الذي تحرَّكتْ فيه شخصيّة فياض :‏

أ – الشخصيات الأجنبيّة / الحاضر‏

روجيه لوبلان – رومل – هتلر – ماتيلد – ايفون – صوفي – مادلين – مدام توماسيني – إبراهام ليفي‏

ب – الشخصيات الأجنبيّة / الماضي‏

غليام لوبلان – أندرونيكوس – بوهمند – طوروس الأرمني – فيليبا – هيلينية – ثيودورا – دسبينا – ستيلا.‏

ج – الشخصيات العربيّة : الحاضر‏

حسيبة – زينب – مريم – أم إياد – أم منير – أم سعيد – وداد – نجدت – إياد – حسن – عبد الله – علي – مصطفى – حمدان الجوقدار – صياح المسدي – الشيخ عبد العزيز – أبو مسعود – أبو محمود – عبد الكريم الجوقدار – منصور الأحمد – سعيد – أبو كاعود الفوّال – حاج سعدو – وحيد بك – صلاح بك – عبد الرحمن الشهبندر – خليل بك – نبيل حمدان – [عز الدين ] القسّام – سعيـد العاص – نسيب البكري – سمعان – أبو منير – أبو سعيد – الشيخ عبد الكريم – الشيخ يوسف – رشيد عالي الكيلاني – عبد المجيد.‏

د – الشخصيات العربيّة / الماضي‏

صلاح الدين الأيوبي – نور الدين – هارون الرشيد – أسامة بن منقذ – سلطان – مسعود الكردي – ثابت – معين الدين – الغسياني – محمد علي.‏

هـ – الشخصيات العربيّة / السِّيَر الشَّعبيّة‏

السُّندباد – إبراهيم الحورانيّ – جمال الدّين شيحة – معروف – عرنوس.‏

يشير التصنيف السابق إلى أن الراوي دفع فياضاً إلى أن يُقيم علاقات معرفيّة ثقافية أو اجتماعيّة بشخصيات أجنبيّة من الحاضر والماضي، ، وأخرى عربيّة من الحاضر والماضي والسِّير الشعبية، بغية الإشارة بشكل مباشر إلى خمسة أبعاد متقابلة في شخصية فياض، هي :‏

- الشخصيات الأجنبية في الحاضر (ويمثلها روجيه لوبلان من الرجال وماتيلد من النساء) تقابل الشخصيات العربية في الحاضر (ويمثلها إياد من الرجال وزينب من النساء).‏

- الشخصيات الأجنبية في الماضي (ويمثلها أندرونيكوس) تقابل الشخصيات العربية من الماضي (ويمثلها أسامة بن منقذ).‏

- الشخصيات الأجنبية في الماضي (ويمثلها غليام لوبلان) تقابل الشخصيات العربية الرسمية (أسامة بن منقذ) والشعبية (يمثلها عرنوس).‏

يُخيَّل إليَّ أن حركة السرد كانت تهدف إلى بيان مآل الأبعاد الخمسة في شخصية فياض. فقد وضَّحت في البداية أن روجيه لوبلان (الممثِّل للاحتلال الفرنسي لسورية) حفيد غليام لوبلان (الممثّل للحروب الصليبيّة). ولكنها وضعت أسامة بن منقذ نقيضاً لغليام، ودافعاً له إلى مغادرة بلاد الشام خائباً. كما وضعت إياداً نقيضاً لروجيه ودافعاً له إلى مغادرة سورية بعد نجاحه في شدِّ فياض إلى العمل الوطنيّ. وقد أُعجب فياض بعرنوس ؛ لأنه البطل الشعبي المقابل للبطل الرسميّ أسامة بن منقذ، واستمرَّ معجباً به طوال الرواية. ولكنه أُعجب في البداية بإياد ثم انفضَّ عنه لأنه لم يره ممثِّلاً لأحلامه في استقلال الوطن. وفي المقابل أُعجب أسامة بن منقذ بأندرونيكوس لأنه رآه ينتقد الصليبيين ويعزف عن مشاركتهم في أعمالهم، وبقي معجباً به طوال حياته، ولكنه انتهى إلى العزلة والكتابة كما انتهى منتقد الحروب الصليبيّة أندرونيكوس إلى العزلة والكتابة. ويشير مآل فياض إلى العزلة والكتابة إلى أن التاريخ يكرِّر نفسه، فيجد النقيُّ المخلصُ لوطنه نفسه وحيداً في كهولته، لا يملك شيئاً غير التعبير عن سخطه بكتابة مذكِّراته. وقد جسَّد السرد هذا الأمر بإبعاده غليام لوبلان فروجيه فإياد، ومحافظته على أسامة وأندرونيكوس وفياض إلى نهاية الرواية.‏

على أن تصنيف الشخصيات يشير إلى أمر آخر، هو أن الفعاليّة الروائيّة مقصورة على الرجال. فماتيلد تابعة لروجيه، وزينب تابعة لفياض، وثيودورا تابعة لأندرونيكوس. ويمكن أن يتضح ذلك على نحو أكثر جلاءً إذا حلّلنا الأسماء الشخصيّة. ذلك أن الأسماء محكومـة باختيار الراوي، سواء أكانت متخيَّلة أم تاريخيّة، ولهذا الاختيار دلالات معيَّنة يحسن التنبيه عليها. وحين نُدقِّق في اختيار الراوي أسماء شخصيات الرواية نلاحظ استناده إلى المبادىء العامة الآتية :‏

أ – الحرص على تسمية الشخصيات الأجنبية المتخيَّلة بأسماء أجنبيّة : روجيه – ماتيلد – ايفون …‏

ب – الحرص على قرن الاسم بنسبة تزيده وضوحاً إذا كانت الشخصيـة مدار اهتمام الراوي : روجيه لوبلان – إياد الجوقدار – فياض الشيرازي – منصور الأحمد …‏

ج – إبقاء الاسم من غير نسبة إذا كانت الشخصية عارضة : نجدت – زينب – ماتيلد – ثيودورا …‏

ولو دقَّقنا في اختيار الأسماء الشخصية العربية لاكتشفنا ميل الراوي إلى الاختيار من أسماء الرسل والصحابة والتابعين (يوسف – إبراهيم – زينب – مريم – علي – حسن – سعيد)، ومن التقليد العربي الإسلاميّ القاضي بأن خير الأسماء ما عُبِّدَ وحُمِّدَ (محمد علي – عبد الرحمن – عبد الكريم – عبد المجيد – عبد الله)، أو أُضيف إلى (الدين) كصلاح الدين ونور الدين ومعين الدين وجمال الدين، أو المستمدّ من الصفات بإسقاط (ال) كمصطفى وخليل بدلاً من : المصطفى والخليل، أو من القبائل العربيّـة (إياد) أو من الأسماء المنسوبـة إلى قبائل وأشخاص (الكردي – الأيوبي – البكري)، أو من المهن (الفوّال). وقد يتخلّى الراوي عن إطلاق اسم شخصي على الشخصية الروائيّة مكتفياً بالكنية (أبو مسعود – أبو محمود – أم إياد – أم منير)، أو يجعل الاسم مسبوقاً بصفة تشير إلى المكانة الدينيّة، أو لاحقة تشير إلى المكانة الاجتماعيّة (الشيخ يوسف – الشيخ عبد الكريم – صلاح بك – وحيد بك). واللافت للنظر أن تُقدِّم الاختيارات السابقة دلالة واحدة، هي سيطرة الماضي على الحاضر. ذلك أن الأسماء والنِّسب مختارة من الماضي، وليست بينها أسماء لم تعرفها الثقافة العربيّة. فهل عكس الراوي استمرار الثقافة العربيّة القديمة حيّةً من خلال اختياره الأسماء الشخصية ؟. إن اختيار الأسماء النِّسَويّة يؤكِّد هذه الدّلالة. فالشخصية النّسويّة في روايـة (فياض) تحمل اسماً أحياناً (حسيـبة – زينب – مريم)، ولكنّ اسمها لا يُقرن بنسبة. كما أنها في الغالب الأعمّ تُسمَّى بكنيتها (أم منير – أم إياد – أم سعيد)، وكأنَّ الراوي يعتقد أن هذه الكنية كافية لوضوح الشخصية النسوية، ولا يدري أن ذلك امتداد للأعراف التقليديّة القاضية بعدم التصريح بأسماء النساء.‏

2 – الرّاوي وحركة الشَّخصيّات :‏

الراوي في رواية (فياض) عالم بكل شيء، فهو يتنقَّل بين الشخصيات بحرّيّة راصداً أحاسيسها وأفكارها وأقوالها وأعمالها وحركتها في المكان والزمان وعلاقتها بالحوادث الروائيّة. وهذا الراوي المعروف جيِّداً في الرواية الواقعيّة يبدو هنا ميالاً إلى أن يكون عاكساً لما تظهره الشخصيات من أقوال وأعمال أكثر من ميله إلى ردود أفعالها الداخليّة عليها. يشير إلى ذلك العدد المحدود من الأفعال التي تنمّ على معرفة الراوي بدخيلة الشخصيات قياساً إلى ضخامـة الرواية. فهناك نحوٌ من ثلاثين فعلاً في (486 صفحـة من القطع الكبير). والكثرة الكاثرة من هذه الأفعال ورد مرة واحدة في الرواية ليس غير، وما تكرَّر في الرواية أكثر من ثلاث مرات لا يجاوز ستة أفعال، هي على التوالي : فكَّر – تذكَّر – تمنّى – سمع – أحسَّ – تمتم. وهذا العدد الضئيل من الأفعال التي تشير إلى دخيلة الشخصيات هو الدليل على أن رؤية الراوي لشخصياته خارجيّة أساساً، وأن الرؤية الداخليّة شيء مكمِّل للرؤية الخارجيّة وليست هدفاً للراوي. كما أن الأفعال نفسها موزَّعة على شخصيات الرواية وليست خاصة بشخصية فياض، وهذا يشير إلى أن معرفة القارىء بدخيلة كل شخصية على حدة ضئيلة لا تعينه على تصوُّر طبيعتها الداخليّة وردود أفعالها على الحوادث الروائيّة.‏

يدلّ تشبُّث الراوي بالرؤية الخارجيّة على أنه راغب في الانصراف إلى سرد علاقة الشخصيات بالحوادث الروائيّة. ومن ثَمَّ لم يقتصر على علاقة فياض بهذه الحوادث، بل شملت رؤيته الخارجية الشخصيات الأساسيّة كلّها، وخصوصاً روجيه وماتيلد وإياد ونجدت وحسيبة. كما أنه لم يجعل معرفته أكبر من معرفة الشخصيات أو أصغر منها، بل جعلها مساوية لها أو ما يُسمَّى بالرؤية (مع)، ليتمكَّن من أداء مهمّة الملاحظ العاكس. وما هو أكثر أهمية من ذلك كله أنه لم ينحز إلى أية شخصية، بل ترك كل شخصية تُعبِّر عن وجهة نظرها وأفكارها من غير أن يُعلِّق عليها أو يتدخَّل لتفسيرها وتوضيحها. وهذا الأمر هو الذي سمح بوصف رواية (فياض) بأنها روايـة متعدِّدة الأصوات (ديالوجية) وليست رواية صوت واحد (منولوجيّة) كما يتبادر إلى الذهن أوّل الأمر من تسمية الرواية باسم (فياض). ولا شكَّ في أن حياديّة الراوي لا تنفي اهتمامه بفياض وتعاطفه معه. فالاهتمام يتضح من انطلاق الحوادث من فياض ودورانها حولـه ومآلها إليه. والتعاطف بادٍ من العناية بتقديم شخصية فياض وبيان تحوّلها والتذكير طوال الرواية بمستقبلها. وإذا كان تعدُّد الأصوات يشير إلى المنظور التعبيريّ للراوي، فإن تعاطفه الضمنيّ مع قيم فياض يشير إلى منظوره الأيديولوجيّ.‏

يمكنني استناداً إلى ما سبق تحديد علاقة الراوي بما رواه من خلال مظهرين أو حركتين للسرد، أوّلهما الترتيب الزَّمنيّ للحوادث الروائيّة، وثانيهما حركة السرد من حيث السرعة والبطء. وقد آثرتُ الحديث عن هاتين الحركتين لأنهما تُقدِّمان تصوُّراً كليّاً للسرد في رواية (فياض)، وهو الشيء الرئيس في شكل التعبير فيها، فضلاً عن أنه يسمح بتحليل عدد من التقنيات الفنيّة التي استعملها في بناء علاقته بما رواه.‏

أ – التّرتيب الزّمنيّ للحوادث الرّوائيّة :‏

من المفيد أن نتذكَّر، هنا، مصطلحين معروفين في نقد السرد الروائي، هما زمن الحكاية(17) وزمن السرد. يُراد بالأول الترتيب الزمني الطبيعيّ المنطقيّ للحوادث الروائيّة، ويُراد بالثاني الترتيب الزمني الذي قدَّمه السرد لهذه الحوادث. والمعروف أن الروائيـين يلجؤون، في الغالب الأعمّ، إلى بثِّ إشارات زمنيّة في نصوصهم تساعد القارىء المتلقّي على إعادة ترتيب الحوادث ليتمكَّن مـن فهمها والتواصل معها. والواضح أن خيري الذهبي جعل عُمْرَ فياض إشاراتٍ زمنيّةً. إذ التقطه روجيه من قلعة شيزر وعمره عشر سنوات، وانتهت الرواية بفياض كهلاً منعزلاً في البادرائيّة. وقد جرت الحوادث الروائية بين هذين الحدّين، أو قُلْ إن زمن الحكاية بدأ بالتقاط روجيه فياضاً من قلعة شيزر، وانتهى بعزلة فياض في البادرائيّة كهلاً. أي أن التقاط فياض هو الحدث الأول في زمن الحكاية، وأن عزلته في البادرائيّة هي الحدث الثالث عشر. وبين هذين الحدثين توالت الحوادث متسلسلة على النحو الآتي :‏

- الحدث الثاني : تربية فياض وإدخاله السان جوزيف في بيروت، وزيارته مع روجيه قلعة شيزر (هناك إشارة زمنية يمكن استنتاجها تنص على أن عمر فياض في أثناء الزيارة تسعة عشر عاماً).‏

- الحدث الثالث : زيارة روجيه وفياض منـزل نجدت، وسفر فياض إلى باريس بعد نيله البكالوريا (يمكن الاستنتاج بأن عُمْر فياض عشرون عاماً).‏

- الحدث الرابع : ما فعله فياض في باريس (حفل التعارف)، ولقاؤه إياداً، ومتابعته تحصيل العلم إلى الصف الجامعيّ الثالث.‏

- الحدث الخامس : زيارة فياض دمشق أول مرة بعد سفره إلى باريس صحبة إياد، ونزهاته مع ماتيلد. 0 هناك إشارة زمنيّة صريحة إلى أن عُمْر فياض ثلاثة وعشرون عاماً).‏

- الحدث السادس : جولات فياض وإياد في أحياء دمشق ومقهى النوفرة والبستان.‏

- الحدث السابع : إعداد اللّغم وتفجيره وما يتعلّق بذلك.‏

- الحدث الثامن : اكتشاف أمر فياض وإياد وسجنهما.‏

- الحدث التاسع : انتهاء علاقة فياض بروجيه وماتيلد، وعودتهما إلى باريس.‏

- الحدث العاشر : كتابة فياض في جريدة الصرخة، وتأسيسه جريدة خاصة به.‏

- الحدث الحادي عشر : اختفاء فياض في منـزل حسيبة بعد حرق الجريدة واتهامه بقتل الشهبندر، وزواجه من زينب.‏

- الحدث الثاني عشر : مشاركة فياض ومنصور الأحمد في حرب فلسطين، وما تلاها من سجن.‏ [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 12 / 2009, 32 : 11 AM   رقم المشاركة : [9]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]هذا هو زمن الحكاية أو الترتيب الزمني الطبيعيّ المنطقيّ للحوادث الروائيّة، ولكنّ الراوي لم يعرض الحوادث على النحو الطبيعيّ المنطقيّ، بل عرضها على نحو مخالف يُدعى زمن السرد، بادئاً بالحدث الثالث فالثاني فالأول فالخامس فالرابع، متقيِّداً بعد ذلك بالتسلسل الطبيعي المنطقـي للحوادث الباقية من السادس إلى الثالث عشر. والرسم الآتي يُوضِّح زمن الحكاية وزمن السرد :

عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]

إن التباين بين زمن الحكاية وزمن السرد يشير إلى أن الراوي اعتمد المفارقة الزمنيّة. فالحدث الذي بدأ به زمن السرد، وهو الحدث الثالث، يثير عدداً من الأسئلـة : مَنْ هـو روجيه ؟ وفياض ؟ ونجدت ؟. وما معنى هذا السرد عن العصافير الطليقة في الطبيعة والحبيسة في الأقفاص ؟ وما أهمية التركيز على الحسُّون ؟. إن هذه الأسئلة تثير فضول القارىء المتلقّي وتدفعه إلى القراءة بحثاً عن إجابات عن هذه الأسئلة. ولهذا السبب نرى الراوي يلجأ هنا إلى تقنية (الاسترجاع)، فيذكر الحدث الثاني الخاص بزيارة قلعة شيزر موضِّحاً من خلاله أهداف روجيه وأحلامه، ثم يعود ثانية إلى الحدث الأول ليوضِّح التقاط فياض من قلعة شيزر. وهكذا تبدو تقنية (الاسترجاع) موظَّفة لغرض جماليّ هو تلبية حاجة التشويق لدى المتلقّي ؛ تلك الحاجة التي لا تتحقّق كاملة لأن هناك أسئلة بقيت معلَّقة، وأخرى أبرزتها العودة إلى الماضي، وثالثة أثارها توالي الحوادث الروائيّة في الحاضر، وهذا ما خلق الحاجة إلى تقنية أخرى تستشرف المستقبل، وتتمكّن من الإجابة عن الأسئلة القديمة المعلَّقة والجديدة الطارئة، فتربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. وقد اختار الراوي تقنية (الاستشراف)، ووظَّفها لشدِّ القارىء المتلقّي إلى مستقبل الحوادث في نوع من الاستباق الزمني.

وإذاً، فالترتيب الزمنيّ للحوادث الروائيّة محكوم بعد تحديد نقطة الانطلاق بتقنيتين : تقنية الاسترجاع التي تستعيد الحوادث التي وقعت قبل نقطة الانطلاق، وتقنية الاستشراف التي تعلن الحوادث التي ستقع في المستقبل قبل وقوعها زمنيّاً. ويوضح الرسم الآتي التَّصوُّر العامّ لحركة السرد استناداً إلى هاتين التقنيتين :

عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]

إن حركة زمن السرد، كما يوضِّح الرسم، تشير إلى أن الحوادث الروائية التي وقعت في الماضي قليلة، ولهذا السبب كان عدد الاسترجاعات في رواية فياض قليلاً لا يصل إلى عشرة استرجاعات. ولو نسبنا هذه الاسترجاعات إلى أمكنتها في السرد لاكتشفنا أن نصفها يغطي ماضي الحدثين الأول والثاني، وأن المفارقة الزمنيّة بين زمن الحكاية وزمن السرد تضيق في بعض الاسترجاعات لتغطِّي ما وقع قبل الحاضر بيوم واحد، وتتسع أحياناً لتغطّي تسع سنوات. وقد لجأ الراوي إلى استرجاع ماضي القصة مستنداً إلى ذاكرة روجيه، ملماً في أثناء ذلك بتعرُّفه ماتيلد وزواجه منها وقدومهما إلى سورية، وظنّ روجيه أن حياة هذه المرأة في الجزائر وقدومها معه إلى سوريـة، نبوءتان تدلان على قرب تحقيقه الأحلام التي غذّتها فيه قراءته مذكِّرات جدِّه غليام لوبلان. [/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 12 / 2009, 37 : 11 AM   رقم المشاركة : [10]
الدكتور سمر روحي الفيصل
ناقد وأستاذ جامعي، عضو شرف

 الصورة الرمزية الدكتور سمر روحي الفيصل
 




الدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud ofالدكتور سمر روحي الفيصل has much to be proud of

رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل

[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
- علاقات الشّخصيّة الرّوائيّة

وقفتُ، في أثناء تحليلي الروايات السابقـة، وخصوصاً روايات عبد الكريم ناصيف وسلطان القاسميّ، عند منظور الرّاوي والرّوائيّ وما بينهما من تباين. ثم توقّفتُ في أثناء تحليلي رواية (فياض) لخيري الذهبي عند علاقة الرّاوي بالشخصيات، وتصنيفها وتسميتها في حدود بناء السرد والمشهد. وسأسعى هنا إلى التركيز على العلاقات وحدها، فأحلِّل علاقة الشخصية بالزّمن فالرّاوي فالرّحلة الرّوائيّة، وأجهد في بيان علاقة الشخصية بأساليب البناء دون غيرها من العلاقات الرّوائيّة.

الشّخصيّة والزَّمن :

تثير رواية (العصفوريّة)(1) للدكتور غازي القصيبي شيئاً غير قليل من الحوار النقديّ ؛ لأنها تطرح أوّل مرّة ذلك المزيج من التخييل والخيال الجامح والواقعيّة، فتبدو للمتلقّي غريبة عمّا هو سائد في الرواية العربية، سواء أكان بناء الشخصية الروائية مصدر الغرابة أم كانت لغة السرد هي المصدر. يُضاف إلى ذلك أنها رواية (حمَّالة أوجه)، تأخذ بيد المتلقّي إلى مستوى واقعيّ، ولكنّها سَرْعان ما تزجُّه في الترميز أو تخرج به من الواقعيّـة إلى الخيال الجامح الذي يتعامل مع الأشياء التي تُشبه الخرافة، أو هي هي. ويُخيَّل إليَّ أن هذه الرواية تحتاج إلى حديث خاص يسبر أبعادها، ويضع غازي القصيبي حيث يجب أن يُوضع بين الروائيين العرب. والظّنّ بأن التمهيد لهذا الحديث يحتاج إلى توضيح الزمن الروائيّ في (العصفوريّة)، تبعاً لأهميته في الإشارة إلى جوانبها المختلفة، فضلاً عن أنه يُمهِّد لتحليلي علاقة الشخصية بالزمن في رواية (ثم أزهر الحزن) لفاضل السباعي.

في رواية (العصفوريّة) قسمان : مدخل ومخرج. أما المدخل فيمتدُّ ثلاثاً وتسعين ومائتي صفحة، في حين يقتصر المخرج على صفحتين. يبدأ المدخل بالبروفسور في العصفورية، ويدور المخرج حول اختفاء هذا البروفسور من العصفوريّة. وما بين البدايـة التي يستدعي البروفسور فيها الدكتور سمير ثابت، والنهاية التي يكتشف فيها الدكتور نفسه اختفاء البروفسور، حوار طويل يمتدّ إحدى وتسعين ومائتي صفحة، يتحدَّد في نهايتها الزمن الذي استغرقه الحوار بينهما، وهو عشرون ساعة(2). وتحديد زمن الحوار لم يكن غير حيلة أسلوبيّة تُوهم بالزمن الروائيّ، وتسعى إلى إضفاء صفة المعقوليّة على الحوار الطويل بين الشخصيتين الوحيدتين في رواية العصفوريّة.

بيد أن قارىء رواية العصفورية يدرك بسهولة أن الزمن الروائي طويل جداً قياساً إلى زمن الحوار المحدَّد بعشرين ساعة. ذلك لأنه يلاحظ أن الراوي (البروفسور) في أثناء حواره مع الدكتور سمير ثابت يستعيد سيرة حياته كلها، وهي حياة ممتدّة في الزمن، مملوءة بالحوادث. بل إن هذا القارىء يعتقد بعد فراغه من قراءة الرواية أن الحوار، وهو الحاضر الروائي، وسيلة لاستعادة الماضي الروائي، وتعليل لاختفاء البروفسور في خواتيم الرواية. وهذا يعني أن الزمن الروائي في (العصفوريّة) يضمّ الحاضر والماضي الروائيين، ولكنّ الحاضر المحدَّد بعشرين ساعة يحتوي الماضي الطويل بوساطة تقنية الاسترجاع دون أن ينفصل عنه. والمراد بذلك أن البروفسور يسرد في الحاضر الروائيّ حكايته على الدكتور سمير ثابت، وفي أثناء هذا السرد يسترجع شيئاً من ماضيه ثم يتركه إلى الحاضر. وهكذا ينتقل الزمن الروائي من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى الحاضر، بحيث يبدو الحاضر منطلق الزمن وقاعدته ومنتهاه، كما يبدو على مستوى المضمون وسيلة لتقديم حكاية البروفسور وتثبيتها عند الدكتور سمير ثابت ليكون شاهداً على مسوّغ الاختفاء في نهاية الرواية.

إن حكاية البروفسور هي الوسيلة الوحيدة لتحديد زمن استرجاع الماضي أو مداه. ذلك لأن الراوي (البروفسور) يعترف في بداية حواره مع الدكتور سمير ثابت بأن عمره خمس وأربعون سنة. وهذه الإشارة الزمنية توحي بأن البروفسور في الحاضر الروائي يبلغ الخمسين من عمره على أقل تقدير. أما الحوادث التي يسردها الراوي (البروفسور) فترجع بداياتها الأولى إلى تلقّيه العلم في أمريكا، وكان آنذاك شاباً لا يجاوز العشرين أو الخامسة والعشرين من عمره في الحدِّ الأعلى. وعلى الرغم من أن حوادث الحكاية لا تُحدِّد زمن تلقّي العلم بدقة، فإنها تُصرِّح من خلال علاقة البروفسور بسوزي بأن الراوي البروفسور كان آنذاك شاباً تملؤه الحماسة. كما يُصرِّح الراوي نفسه من خلال حكايته مع فرحة ربيع(3) بأنه رآها قبل سفره إلى أمريكا، وكان آنذاك فتى، فأحبَّها، ثم بعد عودته من أمريكا وفجيعته بسوزي لقي فرحة ربيع ثانية واقترن بها. وعلاقة البروفسور بسوزي وفرحة ربيع تدلُّ دلالة واضحة على أن مدى الاسترجاع يمتدُّ من الشّباب الأول للبروفسور في أمريكا إلى الحاضر الروائيّ والبروفسور في الخمسين من عمره على أقلِّ تقدير. وهذا يعني أن مدى الاسترجاع طويل يبلغ نحواً من ربع قرن.

ههنا تتضح اللّعبة الرّوائيّة الدّقيقة في رواية (العصفوريّة). فقد رغب الروائي في أن يسرد حكاية شخصيّته لأنها تملك تجربة طويلة مريرة على المستويين الخاصّ والعامّ. فهذه الشخصية تنتقل – على المستوى الخاصّ – من مصحّة مونتري إلى العصفورية في لبنان، ثم مصحّة بلاكبول في انكلترة، فمصحّة جنيف. وهي – على المستوى العامّ – تنتقل من تجربة تقديم العون للثورة في عربستان 48 إلى تقديم العون نفسه للثورة في عربستان 49، فعربستان 50، وأخيراً عربستان 60. وتجربة البروفسور – في مستوييها العام والخاص – مريرة، قادته بعد ذلك إلى الاختفاء من الدنيا والسّياحة في الفضاء الخارجيّ .

والواضح أن البروفسور يسرد تجربته الخاصّة بانتقاله بين المصحّات. وقد قادته هذه التجربة الخاصّة إلى ما بدأ به من ضرورة تقديم العون للأمّـة العربيّة لتنهض من تخلُّفها وتتمكّن من اللّحاق بالأمم المتقدِّمة، ومن القضاء على إسرائيل. وهذا الأمر جعله ينتقل من التجربة الخاصّة بالمصحّات إلى التجربة الخاصّة بالانقلابات. فقد قدَّم العون (نصف مليار دولار) لصلاح الدين المنصور في عربستان 48، ولكنّ هذا الضابط تحوَّل بعد نجاحه في الانقلاب إلى دكتاتور. ثم قدَّم عوناً ماليّاً مماثلاً لمناضل من عربستان 49 هو برهان سرور، فإذا بهذا المناضل يتحوَّل بعد نجاحه في الانقلاب إلى دكتاتور أيضاً. ثم التقى ضياء المهدي الذي بدا رجل دين محافظاً راغباً في نشر العقيدة في عربستان 50، فإذا به يتحوَّل بعد نجاحه في الانقلاب إلى راغب في نشر العقيدة بقوّة السّلاح، ويروح يتلهّى بمحاربة عربستان 49 المجاورة له بدلاً من الانصراف إلى محاربة أعداء بلاده. وقد خلص البروفسور من تجارب الانقلابات الثلاثة إلى أن الديمقراطيّة هي الحلّ النهائيّ للأمّة العربيّة، فساعد عربستان 60 على تجسيد هذه الديمقراطيّة، ولكنّه اكتشف بعد نجاح التجربة أن ضابطاً تمكَّن من الانقلاب على الحكم الديمقراطيّ، وتسنّم الحكم في عربستان 60، فيئس الرّاوي البروفسور، وهجر الدُّنيا مختفياً في الفضاء الخارجيّ .

إن مدى الاسترجاع طويل في رواية العصفوريّة كما هو واضح من سرد وقائع المصحّات والانقلابات. ولكنّ الحوادث المرويّة بوساطة الاسترجاع هي الغرض الأساسيّ من الرواية، بل إنها المعبِّرة عن رؤيا غازي القصيبي لواقع الأمة العربية. ولو لجأ القصيبي إلى الزمن الحاضر وجعله خطّياً لما كان لرواية العصفورية ذلك الرونق والتشويق والقدرة على مزج الخاص بالعامّ في تجربة الراوي البروفسور. وما فعله الروائي غازي القصيبي هو البدء بالمزج بين الخاص والعامّ، فافتعل موضوع الحوار في العصفورية، وجعل زمنه بطيئاً (عشرون ساعة)، وسمح للراوي البروفسور في أثناء ذلك باسترجاع ماضيه ثم العودة إلى الحاضر في نوع من التناوب بينهما، بحيث يبقى القارىء المتلقّي يتابع الحاضر ويتلقَّى من خلاله الماضي الذي سيُعلِّل النهاية نفسها، وهي نهاية تضمُّ مغزى الرواية ورؤيا الروائيّ.

ومن المفيد أن نلاحظ أن التناوب بين الماضي والحاضر لم يعرف قطع أحدهما للبدء بالثاني. أو قُلْ إن القَطْعَ لم يكن وسيلة الرّاوي لتجسيد التناوب. ذلك لأن هناك وسيلتين أساسيتين حلّتا محل القطع، ونجحتا في مزج الماضي بالحاضر، وإضفاء التماسك الفنّيّ على الرواية كلّها. أما الوسيلة الأولى فهي الاستشراف الحقيقيّ، وأما الثانية فهي الاستطراد.

أمّا الاستشراف – وهو تقنية زمنيّة كما هو معروف(4) – فيعني الإشارة إلى حوادث ستقع في مستقبل السرد، أو في الزّمن اللاحق للسرد. وهذا الاستشراف غير متداول في الرواية العربية بكثرة، ولعلّ رواية (فياض) التي حللتُها في أثناء حديثي السابق عن بناء السرد، أكثر الروايات العربية استعمالاً لهذا الاستشراف. وربّما رجع عدم اهتمام الرواية العربية بالاستشراف إلى أنها، في الغالب الأعمِّ، ما زالت رواية خطّيّة، تسرد الحوادث من بدايتها إلى نهايتها، أو تتلاعب قليلاً بهذه الحوادث تقديماً وتأخيراً، دون أن تشير عموماً إلى حوادث لم تقع بعدُ. وما فعله غازي القصيبي هو اللجوء إلى عبارة تدلّ على الاستشراف، بحيث تُهيِّىء هذه العبارة القارىء لتلقّي حادثة ستقع في السرد اللاحق. وهذه العبارة الاستشرافيّة هي – غالباً - : (سوف أحدّثك عن ذلك فيما بعد)(5). ووصْفُ الاستشراف بأنه (حقيقيّ) نابع من أن الراوي يُجسِّد هذا الوعد، فيُحدِّث الدكتور سمير ثابت بعد العبارة الاستشرافيّة بصفحات تطول أو تقصر بما وعده به. والاستشراف الحقيقيّ في هذه الحال نقيض الاستشراف الكاذب الذي يُقدِّم الراوي فيه عبارة استشرافية، ولكنّه لا يُحقِّق مضمونها في السرد اللاحق. والراوي يستفيد من الاستشراف الكاذب في شدِّ القارىء إلى النّصّ، وتشويقه إلى الحوادث اللاحقة فيه. أما الاستشراف الحقيقي فلا يهدف إلى التشويق أساساً، بل يهدف إلى تهيئة المتلقي للحوادث اللاحقة، ومزج المروي في الماضي بالمروي في الحاضر بغية ربط حلقات السرد، وجعل الرواية مترابطة تُجسِّد التماسك الفني. فالعبارة الاستشرافيّة المذكورة قبل قليل وردت في الصفحة العشرين من رواية العصفورية، ومفاد هذه العبارة الاستشرافية أن الراوي سيُحدِّث الدكتور ثابت عن تعيينه وزيراً للشؤون الهامّة في عربستان 49. وبعد مائتي صفحة(6) يُجسِّد وعده، فيحدِّثه عن تعيينه وزيراً للشؤون الهامة في عربستان 49، وما فعله في أثناء تولّيه الوزارة وبعد تخلّيه عنها. وتجسيد العبارة الاستشرافية يدلُّ على أن ذاكرة الروايـة جزء من تقنيتها الزمنيّة ؛ لأن الراوي لا ينسى شيئاً وعد بتنفيذه، وهذا ما يضفي على النص المصداقيّة الداخليّة، ويجعل المتلقي أكثر انتباهاً للعبارات الاستشرافية، وأكثر دقة في تتبُّعها، ومن ثَمَّ يربط حاضر الحوادث بالسابق واللاحق منها.

ولم يكن الاستطراد غير وسيلة أخرى تكمل مهمّة الاستشراف الحقيقيّ. والاستطراد هنا هو الخروج من سرد الحوادث إلى قضايا ثقافيّة ذات لبوس تخييليّ حيناً، وخرافيّ أحياناً. والقضايا التي ذكرها الراوي في أثناء الاستطراد كثيرة جداً، كعلاقته بالمتنبي والزعماء السياسيين، وزواجه من جنّيّة ثم من فراشة من الكائنات الفضائيّة، وزيارته عبقر الشعراء وموطن الكائنات الفضائية، وما إلى ذلك. وتبرز في أثناء الاستطرادات السُّخرية العلنيّة والمبطَّنة من قضايا المجتمع والإنسان. ويعتمد الراوي في استطراداته على شعر المتنبي كثيراً، ويغوص أحياناً في نقاش فقهيّ وطبّيّ، أو يتلاعب بالألفاظ ويتفنّن في تفسير الأمور وإحالتها إلى مراجعها. وذلك كله جعل رواية (العصفورية) متميِّزة في استعمال الإشارات الثقافيّة، وتضمينها، وإحالتها إلى شيء أساسيّ في بنية الرواية. ولولا الاستطراد الذي لجأ إليه الراوي لما كانت هناك إمكانية لتقديم هذا التنوُّع في الإشارات الثقافيّة. بيد أن الشيء اللافت للنظر هو استعمال الاستطراد بين الاسترجاع والاستشراف، بحيث بدا عاملاً رئيساً في المزج بين الماضي والحاضر، وفي التمهيد للحوادث في السرد اللاحق. ومن ثَمَّ انتفى القطع من نصِّ الرواية، فبدت متماسكة مترابطة الحلقات.

ومن المفيد القول إن علاقة الشخصية بالزمن الروائيّ في رواية (العصفورية) تُنبىء عن مهارة في ضبط الزمن الروائي، وتُقدِّم شكلاً فنياً أشبه بالسيرة الفنية للشخصيّة الروائيّة. صحيح أن هذا الضبط ساعد القصيبي على تقديم رؤيا سوداء لحال الأمة العربية، وأن رواية (ثم أزهر الحزن) لفاضل السباعي التي سأتابع من خلالها تحليل علاقة الشخصية بالزمن، تُعبِّر أيضاً عن رؤيا اجتماعيّة رومنتيّة تختلف عن مثيلاتها الأوربيات في احتجاجها على الواقع ومطالبتها بحقوق القلب وارتباطها بالطبيعة(7). ولكنّ الصحيح أيضاً أن اهتمامي بتحليل علاقة الشخصية بالزمن في روايـة (ثم أزهر الحزن) لا يرجع إلى رؤيتها الرومنتيّة، بل يرجع إلى ريادتها(8) في (اللاشخصية) ؛ أي في قدرة فاضل السباعي على إخفاء (أناه)، وابتعاده عن التغنّي بعواطفه الخاصة، بغية الانصراف إلى خدمة المجتمع الروائيّ. ويمكن أن أضيف، بالنسبة إلى (ثم أزهر الحزن) والرواية العربية السورية قبل عام 1967، ما كان معروفاً عن ضعف الاتجاه الواقعيّ وسيادة المجتمع المحافظ الآخذ بالتحرُّر الاجتماعيّ، وما نجم عن ذلك من صراع بين القيم التقليديّة الرّاسخة والجديدة الوافدة. ففي ظلال هذه الدلالة العامة نستطيع فهم (ثم أزهر الحزن) على نحو أكثر دقة، فضلاً عن تحليل علاقة الشخصية بالزمن فيها.

الواضح أن فاضل السباعي انتصر لقيم المجتمع الجديد ؛ قيم العمل والاعتماد على النفس والحب والتماسك الأسريّ والعلم. ولكي يُجسِّد انتصاره لهذه القيم جعل خاتمـة رواية (ثم أزهر الحزن) مغلقة، وانتقل بالشخصيات من الحزن إلى الفرح، ومن الخوف إلى الأمن. ومهما يكن أمر الجانب المضموني في هذه القيم، فإن السؤال الفني الذي يهمّني هنا هو : كيف عبَّر فاضل السباعي عن القيم، أو : ما طبيعة الشكل الفنيّ الذي اختاره للتعبير عن القيم التي انتصر لها في بداية الستينيات ؟. ذلك أنه اختار أسرة من حيّ شعبيّ، وراح يمنحها ما يعتقده المجتمع المحيط بها ضعفاً، وهو وفاة عائلها مخلِّفاً وراءه خمس بُنيّات، كُبراهنَّ في الخامسة عشرة، وصغراهنَّ لم تُكمل السابعة. كما خلَّف جنيناً في بطن زوجه الشابة ذات الثلاثة والثلاثين عاماً، وراتباً تقاعديّاً بسيطاً لا يُقيم أود الأسرة. ثم عدل بمنظاره من رصد الأسرة كلها إلى رصد فرد منها، هو (هالة) البنت الثالثة التي توفّي والدها وعمرها أحد عشر عاماً. وجعل خاتمة الرواية خاتمة للأسرة عموماً وهالة خصوصاً، مُطلقاً على القسم الأول الخاص بالأسرة عنوان (الحزن)، وعلى الثاني الخاص بهالة عنوان (الحب)، وعلى الثالث الخاص بهما معاً عنوان (الفرح)، منطلقاً في اختيار العنوان من طبيعة الحوادث المعروضة في كلّ قسم من الأقسام الثلاثة، محافظاً في أثناء ذلك على ارتباط الحوادث الروائيّة وسببيّتها.

وميزة فاضل السباعي الفنية هنا كامنة في مخالفته السائد آنذاك في الرواية العربية السورية. إذ لم يلجأ إلى الحبكة التأريخيّة التي تضمن عرض الحوادث من بدايتها إلى نهايتها مروراً بأزمتها وتعقُّدها، بل لجأ، أول مرة في الرواية العربية السورية، إلى جعل الرواية تبدأ من الثلث الثاني للرواية ؛ ذلك الثلث الذي عنونه بالحب، ثم رجع إلى البداية التأريخيّة وراح يعرض الحوادث مرتَّبةً ترتيباً زمنياً وسببيّاً، حتى إذا غطّى ما وقع في الثلثين المذكورين ووصل إلى الحاضر الروائي تابع النسق الزمنيّ الصّاعد إلى نهاية الرواية المغلقة على تتويج الأم كوثر أمّاً مثلى، وفوز هالة بسمير بعد حبّ وفراق ولوعة. وهكذا كان في (ثم أزهر الحزن) نسقان : صاعد وهابط
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]


ولم يكتف فاضل السباعي بالنسقين الهابط والصاعد في أثناء تقديمه الحوادث الروائيّة، بل ابتعد عن الرواية تاركاً لإحدى شخصياتها فرصة سرد الحوادث سرداً مباشراً بضمير المتكلّم بدلاً من ضمير الغائب الأثير لدى الروائيين السوريين آنذاك. ولو دقّقنا في شخصية هالة، وهي الراوية المختارة لسرد الحوادث، للاحظنا أن (أناها) الروائيّـة نوعان أو نمطان : نمط الأنا الشاهدة ونمط الأنا المشاركة. فبوساطة الأنا الشاهدة سردت هالة الحوادث التي راحت تترى على أسرتها، وبوساطة الأنا المشاركة راحت تسرد علاقتها بسمير ودراستها وعملها وكلّ ما يتعلّق بأحاسيسها ومشاعرها. وقد بدأت الرواية بالأنا الشاهدة، واستمرّت هذه الأنا قويّة طوال القسم الأول (الحزن)، ولكنها بدأت تضعف في القسمين الثاني (الحب) والثالث (الفرح) لتحلَّ الأنا المشاركـة محلَّها، وكأنّ مرتكز الرواية انتقل من الأسرة إلى فرد واحد فيها، كما انتقلت الأسرة نفسها من البيئة الشعبيّة ودار الأحزان إلى بيئة حديثة ودار ممهِّدة للأفراح.

على أن هذا الانتقال كان كبيراً بالنسبة إلى أسلوب عرض الحوادث. ذلك أن الأنا الشاهدة رصدت الأسرة في القسم الأول (الحزن) ضمن بيئتها الشعبيّة، مشيرة إلى تعدُّد الزوجات وصراع الضرات وعلاقات الجوار والموقف الاجتماعيّ العامّ من الأسر التي لا عائـل لها، فضلاً عن عادات الأسرة وتقاليدها الخاصة بالإنجاب والعمل والعلم. ولكنّ أسلوب العرض في القسم الثاني (الحب) أضعف الأنا الشاهدة حين قصرها على الأسرة دون عادات البيئة الحديثة وتقاليدها، وكأنّ الأسرة سكنت (طابقاً) في بناء خال من السكَّان بعيد عن العمران. ومسوّغ الرواية في ذلك واضح، هو التركيز على (هالة) انطلاقاً من أنها موئل التغيير في المجتمع الروائي، المعبِّرة عن حقوق القلب وعمل المرأة وصورتها الداخليّة، بدلاً من حقوق المجتمع وصورته الخارجيّة.

ومهما يكن أمر الأنا الروائيّة فإنها بنمطيها صوت واحد وحيد في الرواية، هو صوت شخصية هالة الذي رافق القارىء المتلقي ابتداءً من السطر الأول وانتهاءً بالسطر الأخير، وقدَّم له الحوادث في شكلها الخارجيّ وانعكاساتها الداخليّة. والميزة الفنيّة التي أتاحها استعمال نمطين للسرد نهضت بهما راويـة واحدة، هي الاكتفاء بالرصد الخارجيّ في أثناء استعمال الأنا الشاهدة، ومزج الرصد الخارجيّ بالداخليّ في أثناء استعمال الأنا المشاركة، تبعاً لكون هالـة تعرف عن نفسها ما لا يعرفه الآخرون عنها ؛ ولأنها ترى ما يحدث لأسرتها وتشارك فيه. ومن ثَمَّ توسَّل أسلوب العرض برؤيتين : رؤية من الخارج اصطنعتها الأنا الشاهدة، ورؤية (مع) اصطنعتها الأنا المشاركة لتسرد الحوادث التي تخصُّها وحدها.

وعلى الرغم من أن هالة، وهي الشخصية المحوريّة في (ثم أزهر الحزن)، كانت فرداً من أفراد الأسرة في القسم الأول، فإن رصدها كان عاماً شاملاً أفراد أسرتها ولم يكن مقصوراً على فرد دون آخر. وقد عكست الأمر في القسم الثاني، فسلَّطت الضوء الروائيّ على نفسها وجعلته باهتاً في الأمور المتعلِّقة بأسرتها. وإذا كان اعتماد الأنا الشاهدة والأنا المشاركة اعتماداً وظيفيّاً وليس مجرّد تقنية روائيّة شكليّة، فإن الفرصة التي ضيَّعها فاضل السباعي هي تعدُّد الأصوات الروائيّة القادرة باختلافها وتباين وجهات نظرها ورؤاها على خلق عالم روائيّ يوازي العالم الحقيقيّ ويُوهم به. أما اختزال الأصوات الروائيّة في صوت واحد فقد وفَّر له فرصة خلق شخصية هالة، ولكنّه في الوقت نفسه ترك القول السرديّ يتنازل عن ديمقراطيته وانفتاحه على الشخصيات الروائيّة الأخرى بغيـة معرفة منطوقها وآرائها(9) وعلاقاتها، فضلاً عن أفكارها وأحاسيسها وما يقود إلى تناقضها وصراعها مع بعضها بعضاً أو مع المجتمع المحيط بها. وهذا هو السبب الذي جعل المرء يلاحظ أن رواية (ثم أزهر الحزن) لا يميزها الصراع، بل تميّزها الحكائيّة التي تُعبِّر عن وعي هالة، وهو وعي ذاتي للمجتمع الروائيّ وليس وعياً موضوعيّاً له.

ولا أشكُّ في أن جوهر الصوغ الروائيّ يكمن في طبيعة علاقات الراوي بالشخصيات(10). ولأن رواية (ثم أزهر الحزن) تضمّ علاقة اتحاد بين الراوية وشخصية هالة، فإن البناء الزماني فيها ارتبط بتطور وعي هالة لذاتها. فقد بدأت تسرد حوادث الرواية وعمرها اثنان وعشرون عاماً، بعد تخرُّجها في الجامعة وتطوُّر علاقتها بسمير وزواج أختيها سليمى ورابعة. فزمن القصّ، إذاً، هو الحاضر الروائيّ، ولكنّه حاضر مجمَّد ؛ لأن الراوية تركته عائدة إلى ما قبل أحد عشر عاماً لتسرد الحكاية من بدايتها. وكان تقديم الماضي نوعاً من المذكِّرات المسرودة بوعي الحاضر ونضج هالة فيه، ولم يكن تقديمه بالوعي الذي كانت الشخصية نفسها تملكه وهي، بعدُ، صغيرة لا تجاوز أحد عشر عاماً. ولا تعليل لذلك غير الاهتمام بالتعاقب التاريخيّ لحوادث الحكاية، وهو تعاقب واضح جداً مؤرَّخ بالأعوام والشهور وفصول السنة تأريخاً دقيقاً ينم على تصميم زمنيّ محكم .[/align]
[/cell][/table1][/align]
الدكتور سمر روحي الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الرواية العربية، الرؤيا، البناء


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قصص الخيال العلمي - سمر روحي الفيصل الدكتور سمر روحي الفيصل دراسات أدبية 1 18 / 09 / 2010 41 : 07 PM
بين القصة المغربية والمغاربية ـــ سمر روحي الفيصل الدكتور سمر روحي الفيصل نقد أدبي 0 08 / 06 / 2010 47 : 08 PM
أسلوب الجاحظ - د.سمر روحي الفيصل الدكتور سمر روحي الفيصل دراسات أدبية 2 27 / 05 / 2010 32 : 12 AM
دائرة الرواية المضادّة ـــ د.سمر روحي الفيصل طلعت سقيرق كتبوا عني 0 31 / 07 / 2009 47 : 03 PM
أدب الأطفال وثقافتهم قراءة نقدية - د.سمر روحي الفيصل الدكتور سمر روحي الفيصل دراسات أدبية 10 13 / 07 / 2009 53 : 01 AM


الساعة الآن 27 : 01 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|