(3)
[grade="ff0000 000000 008000 ff0000 000000"]المطر والرجل والوحل[/grade]
*
*
*
كان صباح الثلاثاء ماطراً، ودخلت أم سعد وهي تقطر ماء. كان شعرها مبتلاً، وينقط على وجهها، فيبدو
وكأنه تراب مسقي. تناولت معطفها، فيما وضعت المظلة الكالحة في الزاوية كما يوضع السيف المتعب،
وقالت:
-هذا ليس مطراً، السماء، يا ابن عمي، تكب سطولاً. وابتسمت، ولكنني رأيت شريطاً من الوحل الأحمر
يطوق طرف ردائها وهي تستدير. قلت لها:
-ماذا يا أم سعد؟ هل وقعت؟
وبسرعة التفتت إلي:
-وقعت؟ أم سعد لا تقع. لماذا؟
-ثمة وحل على تنورتك.
حكت الوحل بإصبعها الخشنة، ثم تركته لشأنه حين أحست أنه ما زال طرياً، وقالت:
-طاف المخيم في الليل..الله يقطع هالعيشة.
واهتز الجبل أمامي، ثمة دموع عميقة أخذت تشق طريقها إلى فوق،لقد رأيت أناساً كثيرين يبكون. رأيت
دموعاً في عيون لا حصر لها، دموع الخيبة واليأس والسقوط. الحزن والمأساة والتصدع. رأيت دموع
الوجد والتوسل. الرفض الكسيح والغضب المهيض الجناح. دموع الندم والتعب. الاشتياق والجوع
والحب، ولكنها أبداً أبداً لم تكن مثل دموع أم سعد: لقد جاءت مثلما تتفجر الأرض بالنبع مثل أول الأبد،
مثلما يستل السيف من غمده الصامت، ووقفت هناك على بعد لحظة واحدة من بريق العين الصامدة.
عمري كله لم أرى كيف يبكي الإنسان مثلما بكت أم سعد. تفجر البكاء من مسام جلدها كله. أخذت كفاها
اليابستان تنشجان بصوت مسموع. كان شعرها يقطر دموعاً. شفتاها، عنقها، مزق ثوبها المنهك،
جبهتها العالية، وتلك الشامة المعلقة على ذقنها كالراية، ولكن ليس عينيها.
-ولو يا أم سعد؟ أنت تبكين؟
-أنا لا أبكي يا ابن عمي. أود لو أستطيع. لقد بكينا كثيراً. كثيراً..كثيراً. أنت تعرف. بكينا أكثر مما
طافت المياه في المخيم ليلة أمس، وذات صباح كان سعد قد ذهب .انه يحمل مرتينة الآن، وتشتي عليه
ماء ورصاصاً. لا أحد يبكي الآن، ولكنني يا ابن عمي، صرت امرأة عجوزاً. صرت أتعب. أمضيت كل
الليل غارقة في الوحل والماء. عشرون سنة…
وصل النشيج إلى حلقها فاعترض الكلمة. فرشت راحتيها أمامي وابتلعت الغصة التي كدت أسمع صوت
سقوطها في صدرها المملئ بحطام العذاب والأسى..
-ماذا أقول يا ابن عمي؟ في الليل أحسست بأنني قريبة من النهاية..ما النفع؟ أريد أن أعيش حتى
أراها. لا أريد أن أموت هنا، في الوحل ووسخ المطابخ..هل تفهم ذلك يا ابن عمي. أنت تعرف كيف
تكتب الأشياء، أنا لم أذهب إلى مدرسة في عمري؟ ولكننا نحس مثل بعضنا. يا ربي! ماذا أقول؟ أمس
في الليل فكرت بذلك جيداً، ووجدت الكلمات المناسبة، وفي الصباح نسيتها..طيب! أنت تكتب رأيك، أنا لا
اعرف الكتابة، ولكنني أرسلت ابني إلى هناك..قلت بذلك ما تقوله أنت.أليس كذلك؟.
شعرت بذلك النصل الذي ينبثق فجأة من أحضان الكلمة البسيطة، وينقذف في صدورنا بسرعة الرصاصة
وتصويب الحقيقة، ولوهلة رأيت شريط الوحل الداكن الذي كان يتدلى على طرف ثوبها شيئاً يشبه تاج
الشوك.
-تعالي يا أم سعد .اجلسي هنا. أنت متعبة فقط، وربما كان شوقك لسعد وقلقك عليه هما اللذان يصدعان
رأسك .وكذلك الطقس أنت تشعرين بالتعاسة لأنك تعرفين بأن المطر سيستمر طوال النهار، وستعملين
في جرف الوحل طوال الليل. تعالي اجلسي، لا تسمحي لذلك كله أن يهدمك".
جلست، وتنفست الصعداء مثلما يفعل الإنسان حين يريد أن يهيل على الغيوم السوداء في صدره هواء
نقياً:
-"لا، يا ابن عمي. أتعرف ماذا كان يفعل سعد حين يطوف المخيم؟ كان يقف ويتفرج على الرجال وهم
يجرفون الوحل، ثم يقول لهم: " ذات ليلة سيدفنكم هذا الوحل". ومرة قال له أبوه: لماذا تقول ذلك؟ ماذا
تريدنا أن نفعل؟ هل تعتقد أنه يوجد مزراب في السماء وأن علينا أن نسده؟ وضحكنا كلنا، ولكنني نظرت
إليه رأيت في وجهه شيئاً أرعبني، كان منصرفاً إلى التفكير وكأن الفكرة راقت له، كأنه سيذهب في
اليوم التالي ليسد ذلك المزراب.
-ثم ذهب؟.
-ثم ذهب.
ونظرت إلى مباشرة..كان ثمة ارتداد لا يصدق. تراجع طوفان الدموع الذي كانت تسبح فيه و أشرقت
كما يضاء الشيء من الداخل.
-أتعرف، ي ابن عمي؟ أنا لست قلقة عليه. لا. هذا ليس صحيحاً. قلقة. قلقة وغير قلقة. ربما كان
لديك، أنت الذي ذهبت إلى المدرسة، اسم لهذه الحالة..فأمس فقط جاء رفيقه وقال لي انه بخير.
-جاء عندك؟
-لم أر وجهه. كان الليل ثقيلاً، وكنا نشتغل بالوحل والماء حين جاء ووقف بجانبي. كان عملاقاً، يخزي
العين، وقال لي: " سعد يسلم عليك. انه بخير. وسيهديك غداً سيارة " ثم ذهب.
-يهديك سيارة؟
-أجل. ألا تعرف؟ يعني انه سينسف سيارة.
-وهل فعل؟
-ماذا؟ سعد لا يقول شيئاً ثم لا يفعله. أنا اعرفه جيداً. وفي الخارج، شقت الشمس طريقها وسط الغيوم
الداكنة مثلما يشق المحراث ثلماً في الأرض، وقذفت حزمة دفء في الغرفة. أكانت الصدفة أن سقطت
الشمس على وجهها وهي جالسة هناك؟ لقد ابتسمت، وبدت قوية وشابة كما كانت تبدو دائماً.
لقد انتظرت حتى المساء لاسمع نبأ سقوط سيارة إسرائيلية في كمين مقاتلين. وارتقبت بلهفة أن أسمع
تلك التتمة الرائعة للخبر: "وعاد الفدائيون إلى قواعدهم سالمين ". لست ادري لماذا مضيت من توي
إلى المخيم، وفي مستنقع الوحل شهدت أم سعد واقفة مثل شارة الضوء في بحر لا نهاية له من الظلام،
وقد رأتني قادماً، فلوحت بيديها، كان صوتها أعلى من صوت الرعد المدوي في سقف السماء، وانهمر
الصدى من كل صوب كالشلال:
-ارأيت ؟ قلت لك إن سعد سيهدي أمه سيارة.
وكان المطر ينهمر، ولم يكن رذاذه الصاخب في تلك اللحظة إلا تطاير الماء أمام زورق صامد يشق
طريقه كالقدر.
*******************
يُتبع