تفسير
الدُرُّ النظيم من معاني الذكر الحكيم
إعراب وتحليل لغوي
اختيار وتأليف :
عبد القادر الأسود
بين يدي الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين ، ولا حول ولا قوّةَ إلا بالله العظيم . اللهم صلِّ على سيّدنا محمّد في الأولين ، وصلِّ على سيّدنا محمّد في الآخرين ، وصلِّ على سيّدنا محمد إلى يوم الدين ، وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين بحقِّ قدرِهِ ومقداره العظيم ، وبعد .
فهذه دُرَرٌ تصيّدتُها من تفاسير الأئمَّةِ الأعلامِ من كبار المفسرين المشهود لهم بسَعة العلم ودقّة الفهم والموثوق بدينهم وورعهم وتقواهم ، وما كان لي فيها سوى أني تشوّفت إلى شرفٍ يَرفع إليه هذا الكتابُ الكريمُ مَن اشتغل به ونظر فيه ، وإنما هو طيبٌ مَسَسْتُهُ تَطيُّباً بذاكي نَشْرِهِ ، وفائدةٌ لي وللمؤمنين تشوّقتُ إليها . ذلك أنّي نظرتُ في تفاسير هؤلاء السادة الكبار، فرأيتُ بعضَهم قد توسّع ما قد تَقصُرُ عنه هِمَمُ الضُعفاءِ ، من أمثالي ، وبعضَهم قد أوجز بحيث بِتنا نتطلّع إلى المزيد ، فاعتمدتُ منهاجاً وسطاً بين الفريقين ، بحيثُ تَطمئنُّ النفسُ وترتاح العين ، فيروّي ظمأ المبتدئين من طلبة العلم ، والله الكريم أسأل أن يتقبّل مني هذا العمل ويجزل لي الثوابَ وأنْ ينفع به المؤمنين ويجعله لي خيراً جارياً إلى يوم الحساب ، إكراماً لمن أَنزله عليه وشرّفه به وأمَّتَه ، وأثنى فيه عليه فقال : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) . وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
كفر زبد ، لبنان ، في : الثاني عشر من المحرم عام 1432 للهجرة .
الموافق للثامن من كانون الأول 11 20 للميلاد
عبد القادر الأسود
فضل القرآن الكريم وتلاوته :
القرآن الكريم هو كلامُ الله المنزل على رسوله محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ المتعَبَّد بتلاوته ، والمنقول إلينا نقلا متواترًا .
وهو الكتابُ الْمُبِين الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وهو المعجزةُ الخالدة الباقية المستمرة على تعاقبِ الأزمان والدهورِ إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومن عليها .
وهو حبلُ الله المتينُ والصراطُ المستقيمُ والنورُ الهادي إلى الحقِّ وإلى الطريقِ المستقيم ، فيه نبأُ ما قبلَكم وحكمُ ما بينكم وخيرُ ما بعدَكم ، هو الفصلُ ليسَ بالهَزْل ، مَن تَرَكَهُ من جبّارٍ قصَمَه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله ، مَن قال به صدق ، ومن حَكَم به عَدَل ، ومن دعا إليه فقد هدى إلى صراطٍ مستقيم .
وهو وثيقة النبوَّة الخاتمة ، ولسانُ الدين الحنيف ، وقانونُ الشريعةِ الإسلاميّة ، وقاموسُ اللّغة العربيّة ، هو قدوتُنا وإمامُنا في حياتنا ، به نهتدي ، وإليه نحتكمُ ، وبأوامرِه ونواهيه نَعملُ ، وعند حدودِه نقف ونلتزم ، وسعادتنا في سلوكِ سُننه واتّباعِ مِنهجِه ، وشقاوتُنا في تَنَكُّبِ طريقِه والبُعد عن تعاليمه .
وهو رباطٌ بين السماء والأرضِ ، وعهدٌ بين الله وبين عباده، وهو منهاجُ اللهِ الخالد ، وميثاقُ السماء الصالحُ لكلِّ زمان ومكان ، وهو أشرفُ الكتب السماويّة ، وأعظمُ وحيٍ نَزَل من السماء .
ولقد رفع اللهُ شأنَ القرآنِ ونوَّهَ بعلوِّ منزلتِه فقال سبحانه : { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى } 1 ، ووصفه ـ سبحانه وتعالى ـ بعدّة أوصاف مبيّنًا فيها خصائصَه التي مَيَّزَه بها عن سائرِ الكتب فقال : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2
وقال أيضًا : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } 3 .
وقد بين لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن الإنسان بقدر ما يحفظ من آي القرآن وسوره بقدر ما يرتقي في دَرَجِ الجنة ، وذلك فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : "يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارقَ ورتِّلْ كما كنت ترتِّل في دار الدنيا فإن منزلتَك عند آخرِ آيةٍ تقرأُ بها " 4 .
كما وضح لنا صلى الله عليه وآله وسلم أن قراءة القرآن يطيب بها الْمَخْبَرُ والْمَظْهر فيكون المؤمن القارئ للقرآن طيبَ الباطن والظاهر، إن خبرت باطنه وجدته صافيًا نقيًّا، وإن شاهدت سلوكَه وجدتَه حسَنًا طيّبًا. فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأَتْرُجَّةِ : ريحُها طيبٌ وطعمُها طيبٌ ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة : لا ريح لها وطعمها حلو ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيحَانَةِ : ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة : لا ريح لها وطعمها مر " 5 .
ويخبرنا عبد الله بن مسعود أن من أحب القرآن يحبه الله ورسوله فيقول: " من أحب أن يحبه الله ورسوله فلينظر : فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله " 6 .
وإن من أجلِّ العبادات وأعظم القربات إلى الله - سبحانه وتعالى –
تلاوة القرآن الكريم ، فقد أمر بها سبحانه وتعالى في قوله : { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } 7 ، كما أمر بها النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيما رواه أبو أمامة ـ الله عنه ـ حيث قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول:"اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"8 .
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بما أعدَّه الله لقارئ القرآن الكريم من أجرٍ كبير ، وثواب عظيم وذلك فيما رواه عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : " من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول " الم " حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " 9.
كما بين صلوات الله وسلامه عليه أن من جوَّد القرآن وأحسن قراءته ، وصار متقنًا له ماهرًا به عاملا بأحكامه فإنه في مرتبة الملائكة المقربين، وذلك فيما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها – قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : " الماهر بالقرآن مع
السَّفَرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعْتَعُ فيه وهو عليه شاقٌ له أجران " 10 .
كما أن الله ـ عز وجل ـ يوضح لنا في محكم كتابه أن الذين يداومون على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار ويعملون بأحكامه ، ويحذرون مخالفته أولئك يوفيهم الله ما يستحقونه من الثواب ويضاعف لهم الأجر من فضله .
يقول سبحانه : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} 11.
والرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يبين لنا أن خير َالناس وأفضلهم الذي يشتغل بتعلُّم القرآن الكريم أو تعليمه وذلك فيما ثبت عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " 12.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى
الله عليه وآله وسلم ـ : " إن الذي ليس في جَوْفِهِ شيءٌ من القرآنِ كالبيتِ الْخَرِبِ " 13 .
.................................................. ....
1 ـ سورة طه: 4.
2 ـ سورة المائدة: 15، 16.
3 ـ سورة النحل: 89.
4 ـ رواه الترمذي، رقم: 2915 في ثواب القرآن، وأبو داود رقم: 1464 في الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، ورواه أيضًا أحمد في المسند "2/ 192"، وإسناده حسن، انظر جامع الأصول "ج: 8، ص502".
5 ـ أخرجه البخاري "9/ 58" في فضائل القرآن، ومسلم رقم : 797، باب فضيلة حافظ القرآن، والترمذي 2869، باب ما جاء في مثل المؤمن القارئ للقرآن وغير القارئ، وأبو داود 4830، والنسائي "8/ 124، 125"، وابن ماجه 214، انظر جامع الأصول "ج: 2، ص453".
6 ـ قال الهيثمي في مجمع الزوائد "ج: 7، ص165" باب فضل القرآن، رواه الطبراني ورجاله ثقات.
7 ـ سورة النحل: 89.
8 ـ رواه الترمذي، رقم: 2915 في ثواب القرآن، وأبو داود رقم: 1464 في الصلاة،
باب استحباب الترتيل في القراءة، ورواه أيضًا أحمد في المسند "2/ 192"، وإسناده حسن ،
انظر جامع الأصول "ج: 8، ص502".
9 ـ سورة المزمل: 20.
10 ـ جزء من حديث ، أخرجه مسلم في باب: فضل قراءة القرآن.
11 ـ سورة فاطر: 29، 30.
13 ـ غاية المريد في علم التجويد (ص: 13)
12ـ أخرجه البخاري في فضائل القرآن "9/ 66، 67"، وأبو داود رقم 1452، باب ثواب قراءة القرآن، والترمذي رقم 2909، 2910 في ثواب القرآن، انظر جامع الأصول "ج: 8، ص508.
13 ـ أخرجه الترمذي ح رقم 2914 في ثواب القرآن، ورواه أيضًا أحمد في المسند رقم 1947، ورواه الحاكم "1/ 554" وصححه .
آدابُ التلاوة
لتلاوة القرآن الكريم آدابٌ كثيرة وعديدة ينبغي على قارئ القرآن أن يتأدب بها وهي :
1 ـ أن ينوي العبادة والتقرب إلى الله تعالى بتلاوة قرآنه ، وتطبيق ما يرد فيه من أحكام .
2- أن يستقبل القبلة ما أمكنه ذلك .
3- أن يَسْتَاكَ تطهيرًا وتعظيمًا للقرآن .
4- أن يكون طاهرًا من الحدثين .
5- أن يكون نظيف الثوب والبدن .
6- أن يقرأ في خشوع وتفكر وتدبر .
7- أن يكون قلبُه حاضرًا؛ فيتأثر بما يقرأ تاركًا حديث النفس وأهواءها.
8- يستحب له أن يبكي مع القراءة فإن لم يبكِ يتباكى .
9- أن يزين قراءته ويُحَسِّنَ صوتَه بها ، وإن لم يكن حسن الصوت حسنه ما استطاع بحيث لا يخرج به إلى حد التمطيط.
10- أن يتأدب عند تلاوة القرآن الكريم، فلا يضحك ، ولا يعبث ولا ينظر إلى ما يلهي بل يتدبر ويتذكر كما قال سبحانه وتعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } .
كما أن على سامع القرآن الكريم أن يقبل عليه بقلب خاشع ويتفكر في معانيه، ويتدبر في آياته، ويتعظ بما فيه من حكم ومواعظ، وأن يحسن الاستماع والإنصات لما يتلى من قرآن حتى يفرغ القارئ من قراءته ، قال تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
كيفيةُ تلاوةِ القرآنِ الكريمِ:
لقد شرع الله ـ سبحانه وتعالى ـ لقراءة القرآن صفة معينة وكيفية ثابتة، قد أمر بها نبيه عليه الصلاة والسلام فقال : { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}، أي اقرأه بتؤدة وطمأنينة وتدبر ، وذلك برياضة اللسان ، والمداومة على القراءة بترقيق المرقق وتفخيم المفخم وقَصْرِ المقصور ومدِّ الممدود وإظهارِ المُظهَر وإدغامِ المُدغَم وإخفاءِ المَخفيِّ وغَنِّ الحرف الذي فيه غُنّة وإخراجُ الحروف من مخارجها ، وعدم الخلط بينها ، كل ذلك دون تكلُّف أو تمطيط .
ولقد أكد الله ـ عز وجل ـ الفعل وهو " رتِّل " بالمصدر وهو "ترتيلا" تعظيمًا لشأنه واهتمامًا بأمره .
كما قال سبحانه : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } ، أي لتقرأه على الناس بترَسُّلٍ وتمهُّل فإن ذلك أقرب إلى الفَهمِ وأسهل للحفظ ، والواقع أن هذه الصفة لا تتحقق إلا بالمحافظة على أحكام التجويد المستمدة من قراءة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والتي ثبتت عنه بالتواتر والأحاديث الصحيحة ، فلقد ثبت أن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال : " كانت قراءته مدًّا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمدُّ ببسم الله ، ويمدُّ بالرحمن ، ويمدُّ بالرحيم " 1.
وقد نقلت إلينا هذه الصفة بأعلى درجات الرواية وهي المشافهة حيث يتلقى القارئ عن المقرئ ، والمقرئ قد تلقاه عن شيخه ، وشيخه عن شيخه وهكذا حتى تنتهي السلسلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المؤكد أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد علَّم أصحابه
القرآن الكريم كما تلقَّاه عن أمين الوحي جبريل ـ عليه السلام ـ ولقَّنهم إيّاه بنفس الصفة ، وحثّهم على تعلُّمها والقراءةِ بها ، فلقد ثَبَتَ أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ سمع عبد الله بن مسعود يقرأ في صلاته فقال : " من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عَبْدٍ " 2.
ولعل المقصد ـ والله أعلم ـ أن يقرأه على الصفة التي قرأ بها عبد الله بن مسعود من حسن الصوت وجودة الترتيل ودقة الأداء .
ولقد خصَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ نفراً من الصحابة أتقنوا القراءة حتى صاروا أعلامًا فيها منهم : أُبَي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وغيرهم .
فكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يتعاهدهم بالاستماع لهم أحيانًا، وبإسماعهم القراءة أحيانا أخرى كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة.
فلقد ثبت عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأبيّ بن كعب : " إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك " قال : آلله سَمَّاني لك ؟ قال : " الله سمَّاك لي"قال أنس:فجعل أُبيّ يبكي" 3 .
كما ثبت عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال لي النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : " اقرأ علي القرآن " قلت : أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " إني أحِبُّ أن أسمعه من غيري " فافتتحت سورة النساء فلما بلغتُ : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } 4 قال : " حسبُك " فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرفان " 5 .
ويحتمل أن يكون الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد أحب أن يسمعه من غيره ؛ ليكون عرض القرآن سنة يحتذى بها ، كما يحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه وذلك لأن المستمع أقوى على التدبر ونفسه أخلى وأنشط من القارئ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها 6 .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم آمرًا الناس بتعلم قراءة القرآن وبتحري الإتقان فيها ، بتلقيها عن المتقنين الماهرين : " خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي بن كعب " 7
وكلُّ هذا يدلُّ على أنّ هناك صفةٌ معيّنة ، وكيفيّة ثابتة لقراءة القرآن لا بد من تحقيقها ، وهي الصفة المأخوذة عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وبها أنزل القرآن ، فمن خالفها أو أهملها فقد خالف السنة وقرأ القرآن بغير ما أنزل الله .
وصفة القراءة هذه هي التي اصطلحوا على تسميتها بعد ذلك بالتجويد
.................................................. .........
1 ـ أخرجه البخاري، انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري "ج: 9، ص91، كتاب فضائل القرآن .
2 ـ رواه أحمد والبزار والطبراني، وفيه عاصم بن أبي النجود وهو على ضعفه حسن الحديث، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، ورجال الطبراني رجال الصحيح، انظر مجمع الزوائد للهيثمي "ج: 9، ص287..
3 ـ رواه مسلم في باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل ج: 2 ص 195 .
4 ـ النساء: الآية: 41.
5 ـ أخرجه البخاري، في باب: من أحب أن يستمع القرآن من غيره، ح رقم 5049، وله فيه ألفاظٌ أخرى، كما رواه مسلم في باب : فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظه للاستماع، "ج: 2، ص195".
6 ـ انظر فتح الباري "ج: 9، ص94".
7 ـ أخرجه البخاري في باب: القرَّاء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ح رقم 4999، "ج: 9، ص46".