[د. رجاء بنحيدا]

قراءة وتحليل " شيء كالظل / بقلم د رجاء بنحيدا.
إن أول ما يطالعنا في ديوان الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري (الذي هو في مجمله عبارة عن مجموعة قصائد تتنوع بين القصيرة والطويلة تتصدرها عناوين ) عنوانه- شيء كالظل-
هذا العنوان هو بمثابة بداية -على المستوى الكاليغرافي -إذ له الصدارة ، حيث يبرز متميزا بشكله وحجمه ،
فيحصل أول لقاء بين القارئ والنص ، لكنه -على المستوى الإبداعي - بمثابة نهاية ، بمعنى أنه آخر كلمة أو جملة يكتبها المبدع .
فالقصيدة لا تولد من عنوانها ، وإنما العنوان هو الذي يتولد منها ، فالعناوين في القصائد " بدعة حديثة ،
كما قال الأديب عبد الله الغدامي - أخذ بها شعراؤنا محاكاة شعراء الغرب - والرومانسيون منهم خاصة -
وقد مضى العرف الشعري لخمسة عشر قرون أو تزيد دون أن يقلد القصائد عناوين ، ومن النادر أن نحدد هوية القصيدة بعنوان ، وإذا حدث ذلك فإن العنوان يكون صوتيا لا دلاليا - كأن يقال لامية العرب ، لامية العجم ، سينية البحتري ، وهذا أقرب إلى روح الشعر ، لما يحمله من إشارات صوتية هي من صميم الصياغة الشعرية .
وعلى العموم ، فإن الصدارة التي يحتلها العنوان على صفحة الديوان تجعلنا نتساءل عن علاقته بقصائد الديوان
، فإما أن تكون علاقة جزء بكل ، أي أنه يحيل إلى قصيدة معينة في الديوان ، أو أن يكون اختزالا مركزا لهذه القصائد ، أو أن يراعي من وجهة أخرى أهدافا تجارية تسويقية ، ولكني أستبعد هذا الطرح الأخير .
لذلك يجب تحليله والوقوف عنده وتفكيكه باعتباره عتبة الديوان ومدخله الرئيسي .
فالعنوان مركب من خبر لمبتدأمحذوف تقديره ' هذا ' وشبه جملة من جار ومجرور تدل على السراب والعدم أو إن صح التعبير عن اللا شيء . ولكن لماذا اختار الشاعر هذا العنوان ومزج في تركيبه بين هذين العنصرين الذين أغنى دلالته التعيينية / المعجمية حين اقترن الشيء باللا شيء فتولدت إيحاءات دلالية جعلتنا نُبحر في قصائد الديوان بلهفة وشوق شديدين ، لأن الكتابة تنطلق من فرضية البحث عن المعنى لأمن فرضية نقلها، وهذا البحث مرتبط بتحرير اللغة من سلطة المدلول ، وتحرير الذات من سلطة امتلاك الحقيقة المطلقة ، بخلاف النقل الذي يفترض ذاتا عارفة تحمل رسالة الحقيقة ، وتقيم علاقة تواصلية بين مرسل محدد في الزمان والمكان هو المؤلف ، وبين جمهور مستهلك لا يتذوق المعنى ولا يحاول البحث عنه .
إن الكتابة بشكل عام تحرر المؤلف من وهم القديس حامل الحقيقة ،وتعريه تماماً من كل مكانة ميتافيزيقية ليتحول إلى حامل انصوص متعددة أصولها متلاشية ، منسية ، والنسيان هنا ليس سلبا أو خطأ ، ولكنه قدرة إيحائية ، لأن الشاعر يتكلم كما لو كان يتذكر ، ونذكره ناتج عن فعل النسيان ، وفي المقابل القارئ يقرأ لأنه ينسى النصوص التي قرأها من قبل ، ليتذكرها أثناء القراءة ، أو بعبارة أصح فإن النصوص (عامة )تستدعي نصوصا أخرى مختزلة بشكل لا شعوري في ذاكرة القارئ .
فالظل في عتبة العنوان شيء يمنحه الشاعر للقارئ لكي يستدعي المنسي المتراكم عبر السنين ، فيصبح العنوان كنص صغير فضاء مليئا بالفجوات والفراغات تتحرر فيه الدلائل من معناها المعجمي الذي يكبله ، فتتحول إلى دوال متعددة المعاني قد تظهر وتبرز مع كل قراءة لهذا النص .
قراءة للديوان 1- على المستوى الكاليغرافي :
تتأسس هذه العلاقة من خلال الفضاء الذي تشغله الكتابة داخل صفحات المجموعة الشعرية ، حيث يشغل الفضاء أكثر من لطخات الكتابة ، وهذا يوحي على المستوى الشكلي أن النص يُخبِّئ أكثر مما يُظهر ، لأن وراء السواد فضاء أرحب ينتظر من القارئ ملأه ،يحيل إلى الفراغ أو إلى كتابة أخرى أساسها المحو الذي يكشف إيقاع ومعنى كل من المكتوب المثبت ، والمكتوب الخفي .
تؤكد استراتيجية البياض والسواد على انزياح يشمل أيضا طريقة الكتابة ورسم الكلمات ، ومن ثم يمكن القول أن هذا النوع من القصيدة الكتابية يمثل انزياحا مضاعفا ، أو إن صح القول انزياح على انزياح، ينتصب الأول في الكلام نفسه ، وينتصب الثاني في طريقة تشكيل الكلام والكتابة تشكيلا معينا على الصفحة ، لذا يجب على القارئ أن يعير للفراغ والبياض من الاهتمام ما أعاره للكلام ، لأن القصيدة ليست كلمات فحسب ، وإنما هي علامات وظواهر مكانية يجب قراءتها ، ولعل هذا ما جعل الشاعر المعاصر يتحرر من سيمتيرية القصيدة العمودية ذات الشطر ليبحثرلهاعن شكل جديد يجعل القارئ يقرأ ما بين السطور .
وعبد الرفيع جواهري من الشعراء المعاصرين الذين خرجوا من معمارية القصيدة التقليدية ، ليؤسس بناء معماريا جديدا يساير تموجاته العاطفية ، لأن الشاعر يواجه الخطوط ( اللون الأسود) بنفس القلق الذي يواجه به الفراغ اللون ( الأبيض ) ، وهذا الصراع لا يمكن أن يكون إلا انعكاسا مباشرا أو غير مباشر للصراع الداخلي الذي يعانيه .
يقول عبد الرفيع الجواهري في قصيدته نافذة للدخول :
مهلا
وأنت تلمس الورق
فبين لونه ولون الحبر
قلب ٌ
على
وشك
السقوط .
إن مساحة البياض في هذه الأبيات تعادل لمعنى الظل في الديوان ، وهذا الظل هو فراغ بياضي ، والشاعر جعل من هذا الفراغ تعبيرا عن كثافة المعنى لأن البياض يمكن أن يتخلل الكتابة ذاتها للتعبير عن أشياء محذوفة أو مسكوت عنها داخل الأسطر .
فالشاعر قد اهتم اهتمام كبيرا بفضاء الصفحة الشعرية ، فما أن يفتح القارئ هذه المجموعة حتى تسبق العين القراءة قبل اللسان ، وإذا بالبصر يمتلئ بياضا يخترق القارئ لا ليجعله يقتحم دلالة القصيدة ، وإنما لي غمسه في دائرته الشعرية وهي دائرة الوهم والسديم .
وهكذا فقارئ " شئ كالظل " يضيع في الطرقات التي تقوده إلى نهاية القصيدة لا يعرف كيف ينهي هذه النصوص الشعرية أو إلى أين سينتهي به الأمر ، حيث يحاصره البياض من فوق ومن تحت و في الجانب الأيسر من الصفحة الشعرية ، حتى كاد الأسود بدوره أن يصبح بياضا ، والنسق الذي وظفه الشاعر بكثرة هو النسق المألوف الذي تبدأ فيه الأسطر من اليمين ، وتبقى الجهة اليسرى مسرحا لكل ما يحدث من نبوءات وتقعرات ،ونظرا لاختلاف الأسطر من حيث طولها ، وفقا لرؤية الشاعر تشكيلا ودلالة ، ونجد الشاعر في بعض الأحيان يصب بعض القصائد في مربعات ومستطيلات متساوية أو في مثلثات مختلفة الأشكال .
يقول عبد الرفيع الجواهري في قصيدة "الوردتان ":
الطفلة تنظر الوردة
والوردة تنظر الطفلة
نبتت في خد الطفلة وردة
وبخد الوردة طفلة .
إن ما يلفت الانتباه في مقاطع النصوص الشعرية للديوان هو انتظامها في شكل مربعات ومثلثات مما يبين
أن الشاعر يمزج بين التخطيط والمعمار وبين الحالة الاضطرابية النفسية ، ا ومما يدل على ذلك أيضا استعماله بكثرة لفعل المضارع في قصائده ، هو فعل يدل على الحركة والدينامية ، كما يدل على التوتر والاضطراب
يقول الشاعر في قصيدة تحت عنوان " الحمار "
لا ..
لا تصرخ
فأنا مخلوق سمعي
صوتي أقبح أصوات الأرض
لكني أعشَقُ صوت نهيقي
إن هذه القصيدة عبارة عن شكل هندسي مختلف ، حيث جاءت على شكل مثلث ذي زاوية حادة ومحددة ، وربما يهدف الشاعر من هذه الأشكال الهندسية أن يشكل كتابة متحررة تحمل مجموعة من القيم الأصيلة كما تلعب دورا في إغناء دلالات النص المنغلقة بفعل اللغة التي وظفها الشاعر حيث تحتاج إلى قراءات متعددة قصد فهم المعنى الذي ينطوي عليه النص ، فالقصيدة عند عبد الرفيع جواهري تركيب معقد يتداخل فيه اللون الأبيض والأسود إضافة إلى العروض والإيقاع والصور والدلالات .
فبهذه الأشكال الكتابية الهندسية تنضاف إلى القصيدة معاني أخرى لم يعلن عنها الشاعر صراحة بل فسح المجال للمتلقي كي يشاركه العمل الإبداعي ، ومن هنا تكتسي القصيدة شعريتها ، لأن الشعرية لا تكتسي من التماثل بقدر ما تنشأ من التباين والاختلاف بين مستويات النص الشعري ،
ويتجلى ذلك في مجموعة عبد الرفيع جواهري حين زاوج بين التشكيل والكلام وبين البياض والسواد ، فجاءت برداء مختلف للقصيدة يحمل في طياته ثورة ضد القصيدة العمودية ، والإيقاع الكلاسيكي ، حيث تحول المفهوم الدلالي للإيقاع الذي لم يعد مرتبطا بالجانب الزمني فقط ، ولم يبق خاضعا التنغيم والسمع والتكرار الصوتي فقط ، بل أصبح مرتبطا بالجانب المكاني ، وغَدا إيقاعا بصريا يتحقق باللون ( الأبيض أو الأسود ) و بتشكيل كلامي في فضاء القصيدة .

[علي ابو حجر]

الشكر لك على هذه الدراسة .

أنا لم أقرا الديوان .. ولكن أشعر أن هذه الدراسة جادة وقيمه .

حفظك المولى .

[ناز أحمد عزت العبدالله]

الدكتورة رجاء بنحيدا


زادك الله

بكل تقدير

شكرًا جزيلاً

[د. رجاء بنحيدا]

اقتباس  عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] المشاركة الأصلية كتبت بواسطة علي ابو حجر الشكر لك على هذه الدراسة . أنا لم أقرا الديوان .. ولكن أشعر أن هذه الدراسة جادة وقيمه . حفظك المولى .

حفظك الباري الرحيم
أيها الأخ الكريم
دائم الحضور في متصفحي .
طابت كلماتك ، وطاب حضورك
الذي يسرني كثيرا .
تحيتي واحترامي .