نزوح
نـــزوح
لم تكن محاور المدينة مؤمنة بشكل تام، لنتمكن من الخروج مِنها بنفسٍ مُطمئنة، حملنا حقائبنا خِلسةً عن عيون الليل، نتلمس الأرض بأيدينا خوفاً من وجود لغمٍ، يًفاجئنا بانفجار! الموت لم يكن يرهبنا بقدر ما كانت تُرهبنا الحياة بعاهةٍ مُستديمة، تجعلنا اتكاليين، نستعطِفُ كوب الماء، والتحاف غطاء السرير قبل الخلود للنوم.. كانت لحظات عصيبة تلك التي تلاحقت فيها الأنفاس، وتجمدت فيها حركات العيون حتى التصحر في الأحداق، والتهاب الحروف في الحناجر، ليُفاجِئنا سالم بِمعبرٍ آمنٍ، يحتضن خوفنا، ويدعنا نمر ببعضٍ من أمان!!
غادرنا آخر نُقطة من مدينتنا الحبيبة لوجهةٍ مجهولة الهوية،نبحث عن حكايات تتكون في المنفى، لتصير تاريخاً.. تفقدنا جوازات السفر، وما اكتنزناه من ذكريات ، لجانب وثائق هامة غالبنا دمعنا بانشغالنا تفقد السماء الحالكة، كُنا نبحثُ عن نجمة شاردة تشاطرنا الهجرة، وتؤنس طريقنا الذي قد يمتد حتى السماء!
عصفت بنا رياحٌ عاتية، أرغمتنا على التوقف دقائق، لنستمتع بزمجرة الطبيعة ، فتسري في النفس أنسامٌ باردة توقظُ الخاطر لِنواكب المسير بجرأة واستبسال حتى نهاية المطاف.
نجونا من القصف مرات عديدة، على امتداد النظر لم نُصادف أي حاجز، اللهم إلا حواجز الخوف القابعة في نفوسنا والتي غالبتها رياحُ كانون وزمجرة الغيوم الواعدة مطراً.
وسط تلاحق الأنفاس انتبه حُسام لبصيص ضوء قادمٍ من بعيد باتجاه مُعاكس، مما اضطره لأن يستوقف سالم ويسأله الإنتظار حتى يتبين أمر ذاك النور الذي يقترب شيئاً فشيئاً!!
وسط تكهناتٍ مُضطربة بدأ الضوء بالتلاشي، فقد اتخذ مُنعطفاً بعيداً عن مسيرنا، هدأت الأنفاسُ، ليبدأ سالم بِمُتابعة القيادة بحذر، وفي خُلد كل مِنا بدأت صفحات الأيام الجميلة، تنفتح رويداً رويداً.
غالبتُ دمعتين حارتين، ملأتا عينيّ التهابا، توسل قلبي إليهما بأن يدعاني أرى سماءنا لآخر مرة بصفاءٍ.. فأودِعُ السِحاب الواعد مطراً أُمنياتي بالعودة، وحضن وسائد الوئام في منزلنا الصغير، الذي استودعته وجعي ومرار تجاربي.. إلا أنني استسلمت مُرغمة لِبكاءٍ داخلي
ليحضن كفي تيك الدمعتين بحرقة و أنين، رافقتهما تنهيدة طويلة، وجمٌ من خواطِرٍ لاتنتهي..
مرت الدقائق ساعات، وسالم يتجه بنا نحو الحدود، حيث نهاية الوجود!!
كانت الحياة ترتسم أمامي كما دفتر تلميذة أوشكت صفحاته على النهاية
في كُل صفحة منه تركت مُدرستها توقيعها مُرفق بعباة أحسنت أو ثابري أو إلى الأمام،، دفتري كانت صفحاته مليئة بعبارات إلى الأمام إلى الأمام،، والسيارة تتقدم بنا إلى الامام،، والصفحات تنقلب،، والدفتر على وشك أن ينتهي.. عِندما استمهلنا حاجز من بعيد .. أرغمنا على تغيير اتجاه المسير، فنحن لا نعلم هل الحاجز داعشي أم نصراوي.
تناولت مِنديلاً من حقيبتي التي كانت آخر ما حملته يدي قبل المُغادرة من غُرفتي، ووداع جُدرانها بِكُلِ ما فيها من آلامٍ وأحزان
أفراحٍ ومسرات.. مسحت ما تبقى من دمع غسل الوجنتين، ليرتسم أمامي طيفه قبل الرحيل.. كم كان يُشبه الأيام بغدره.. وساعات الإنتظار بنزقه
جاءني بعضاً من رائحة عطره.. حملتها لي الريح الباردة عبر الأجواء الشتوية.. بينما سالم مازال يقود بنا السيارة ببطئ، باحثاً عن مفر من ذلك الحاجز مجهول الهوية..
تسللت أيامه لذاكرتي خِلسةً.. تباً للآلام كيف لها أن تعبر دونما أن يستوقِفها حاجز أو يقصِفها عابرٌ ناريٌ، قبل أن تخترق صدورنا لتقتلنا
أو تفتك بضلوعِنا فتحرِقُنا!
تمكن سالم من الإفلات من الحاجز ببراعة تامة، كان كما البحار وسط عاصفةٍ هوجاء، تأني في القيادة، رافِعاً شراع التحدي حتى الوصول إلى شاطئ الأمان.. عادت الدموع لِتُجدد ألم العيون، أي أمان
والوطن على شفا أن ينفجر.. تبادلنا نظرات اتهام.. وشيء من عتب وتساؤل.. لِما نُغادر.. لِما نستسلم.. رُبما في البقاء تضحية بأحلامِنا
وربما في المُغادرة تضحية بحبنا.. كما فعل سامي.
لقد غادرنا سامي إلى قلب الوطن.. كان عليه أن يُخضِبَ صحف كل صباح بذكر شهيد أو أكثر، وكان علينا المُغادرة لملاحقة الأنفاس خارج الوطن الساكِن في أعماقنا.. وتدوين مُنغصات الحياة حين تكون بطل الأخبار على فضائيات العالم، فتضيق بك الدائرة حتى لن تعد تتسعك رقعة خيمة. أو يستظِلُك فيُّ شجرة.. ويكبرُ حجم الألم في داخلنا.. لِتتسع المسافات الدامية بين شرايين الأرصفة العتيقة.. لقد خرقوا اتفاق وقف إطلاق النار.. أسرع ياسالم، أو عُدّ بِنا نواجه الموت .. ولتنكسر أقلامنا..وتذهب مُهمتنا أدراج الرياح.. عُد بِنا نلحق بسامي.. ونكتفي بتغريداتٍ نتناقلها عبر وسائل التواصل المُنتشرة.. أسرع ياسالم.. سابق الريح لِتنجو.. أسرع يا سالم.. أسرع .
حل مساء الدروب باكياً.. يغسِلُ الدماء التي انسكبت إثر مواجهاتٍ عنيفة.. كُنت أتخيل الجُثث مرمية، وقد شوه ملامِحها غضب التحدي..
لا شك وأن هطول المطر سيمُد الجميع بشيء مِن الطاقة، والاستيعاب.. المطر يمنحني الأمل والتفاؤل، رغم ضبابية سحابه، وغضب سمائه!!
بدأت الطريق تبدو هادئة، غير مُطمئِنة.. حين تناول حُسام كوب قهوة بارد.. مُلقي بجواله جانباً.. تعبنا مِن مُتابعة الطريق الممتد .. استلقى كلٌ مِنا ليستريح بإغماض قصير.. أيقظ من جديد ذكريات الماضي.. ليقترب إلى مسامعنا صوت مروحيات قادمة باتجاهنا. تابع يا سالم، قال حُسام هادِئاً، المنطقة مكشوفة، وليس بإمكاننا سوى المُتابعة!
حلقت المروحيات فوقنا دونما إزعاج، كانت تسير عكس اتجاهنا
لا شك وأنها ذاهِبة إلى المدينة التي خرجنا مِنها، قلبي معك يا مدينتي
قلوبنا معها.. تناوبنا الدُعاء.. والسيارة تتجه بنا نحو المنعطف الأخير
لنقترب من نُقطة الحدود..
كانت المناطق الحدودية مضطربة ومزدحمة، لك أن تتخيل حصول انفجار في كُل لحظة، ولك أن تستعد لمغادرة وطنك، وتعده بعودة إن تيسر لك ذلك، أبرزنا جوازات السفر بعد انتظار دام ساعات، تمكنتُ خِلالها رصد قصص التشرد، وحكايات اللجوء..
جمعت صور الأطفال الذين افترشوا الأرض في حاسوبي، وصور النساء اللائي كُن ضحايا أبي لهب، وضحايا الجاهلية المُستفحلة، لتلفظها الديار ضحية لاأمل لها بِمصافحة الكبرياء من جديد..
أنهينا اجراءات السفر، لنستقل السيارة مُغادرين، نرصد حكايات الوطن عن بُعد،، واعدين العودة وإن أضنانا المسير..
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|