التسجيل قائمة الأعضاء اجعل كافة الأقسام مقروءة



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,862
عدد  مرات الظهور : 162,370,222

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > جداول وينابيع > الخاطـرة > كلـمــــــــات
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 02 / 03 / 2009, 37 : 07 PM   رقم المشاركة : [1]
هشام البرجاوي
ضيف
 


قد جاء المساء...

دلف إلى غرفة المكتب، بعد أن استشعر فتور خيوط الشمس، أنفق النهار في قراءة كتابات عتيقة، أنعشت ذكريات لفتها ابتسامة الزمن السريعة. الشرفة التي كان جالسا بها تطل على حديقة مسيجة، غير أن علوها كان يسمح برؤية المارة، أحدهم يتحدث عبر الهاتف المتنقل، و الآخر يحث خطاه، كلهم هكذا، يدركون الهدف الذي يتوجهون صوبه، إلا هو، لا يزال سؤال الوجود يرهقه، لكنه لم يعثر على جواب يقنعه بالإقبال على الحياة انطلاقا من أفكار أفلاطانوية. أحلام العظمة و الإختلاف تخامره حينا و تهزأ منه حينا، تلج نطاق وعيه رويدا رويدا. لم يساوره شغف التأمل في حركاتها، فهي آتية تمشي الهوينى، تختال ملتحفة مئزر الحياء. هي الأحلام إذا، تداعب لواعج الماضي على الرغم من أن الناس يعتقدون أن الحلم يتسم بطبيعة غائية تلقيه إلى المستقبل، و قد تسيطر أحلامه عليه، لكنها تبقى بعيدة عنه و في بعض الأوقات، فإن الحلم يفضل التناقض مع الواقع. كل الغموض يتبدد، عندما يلقي بجسده المنهك فوق الأريكة، يدير زر الشاشة، و يمضي يسبح عبر القنوات التي حرمته كثرتها من سهولة و انسيابية الإختيار. لا شيء يستهوي الذهن، سوى استدماجه اليومي لأوجاع البؤساء التي تتبارى حولها كبريات الفضائيات الإعلامية.
يدق منتصف النهار، الطفلة تنتظر أباها عند بوابة المدرسة، ما إن ترمق سيارته حتى تعتزل زميلاتها و ترتقي الرصيف استعدادا لاستعمال ممر الراجلين، تصل الطرف الآخر من الشارع و تجري كي تتمكن من الإرتماء بين ذراعي والدها، كلما رأته تزداد التصاقا به، تحضنه إلى أن يتلعثم الأب نابسا بجمل متقطعة تفهم منها الطفلة أن أنفاسه تكاد تتوقف. قبل أن يدخلا إلى السيارة، تطلب منه أن يضعها على سقفها، و تهمس في أذنه كما العادة :" لقد حصلت على درجة التفوق في امتحانات الدورة الأولى"، لا يوجد أي ارتباك إبداعي مهما أتقن الوصف العاطفي يستطيع التعبير عن السرور الذي يملأ وجدان الوالد و هو يتفانى في إبداء الإصغاء إلى كلمات طفلته. ركبا معا السيارة، و حظيت الإبنة بشرف تشغيل المحرك، و تدشين انطلاقة متجددة نحو الأفق السعيد. ما أجمل بساطة بناء الترادف بين عمليات سهلة جدا و بين ابتسامة المستقبل. "وعدتني، أن نتناول الغذاء مع خالتي إكرام". " أتذكر الوعد، لكن يتعين عليك أن ترافقيني إلى الجامعة لأحضر أوراق الطلاب من أجل تصحيحها".
أثناء الطريق، يقترح الوالد ارتشاف ربع الساعة الفاصل بين الجامعة و المدرسة للإنصات إلى الحديث الأملود لطفلته، كان يحرص كل الحرص على إشعارها باهتمامه بحياتها طالما وافقت على اقتسام أحداثها معه، " ما آخر أخبار المدرسة؟"، تبتسم الطفلة و تتربع في حضن أبيها، تبقي يدا واحدة على مقود السيارة، و تلعب بأصابع الثانية ثم تضعها فوق كتفها، تفاصيل الحوار التأثيثية قد تكتسي سذاجة مادية، لكنها تحظى بأولوية انطباعية مؤثرة. " اليوم سألتنا المدرسة عن الهوايات الرياضية لكل واحد منا، و وزعت علينا قائمة بأسماء الرياضات، لم يلفت انتباهي أي منها، فاخترت السباحة". الصيف لا يزال لدى نقطة الإستئذان، غير أن الطفلة استطردت بعد أن انطفأ حماسها إلى الموضوع :"عندما يحل الصيف، سأتعلم السباحة"، نظرت إلى مرآة السيارة، فالتقت عيناها بعيني والدها، كان يؤشر كما هي عادته دائما إلى الموافقة التامة. و يؤكد موقفه بجملته المحفوظة :"لا اعتراض". يصلان إلى الجامعة، و قبل أن يطفىء الوالد المحرك، تختطف الطفلة المفاتيح و تسبقه إلى المكتب، تعرف المسلك المؤدي إليه بدقة. يتبادل الأب بعض التحايا الجاهزة مع الزملاء، تستوقفه أستاذة العلاقات الدولية، الجزائرية الأصل الدكتورة لبنى إخيضر، المشكل مشهور، الطلاب يرفضون الحضور إلى الإمتحانات، " لا داعي للتصعيد دكتورة لبنى، سأدمج مادتي القانون الإداري و القانون الدولي ضمن مجزوءة واحدة"، تومىء له بالموافقة. كان يعتقد بقوة أن الصديقة الدكتورة لبنى أستاذة متميزة، لكن التوتر السياسي بين المغرب و الجزائر ارتد عكسيا على علاقاتها بالطلاب المغاربة. يتبادلان أطراف الحديث عن الحياة المهنية و عندما يبدأ سرد الحياة الخاصة الذي يتميز بالطول الممل لدى النساء و بتعدد المفاهيم و التحليلات الفارغة، يستدرك اللحظة :"دكتورة لبنى، هكذا هي الحياة، صعود و هبوط، سألحق بطفلتي قبل أن تعبث بمحتويات المكتبة مثلما حدث مرارا و تكرارا، و سأعرج عليك في قطاع الأساتذة حالما أنتهي من توضيب أوراق الطلاب". يسير بخطى سريعة نحو المكتب، ليجد الطفلة قد اختفت عبر أعمدة المكتبة، لابد أنها خطتها المعهودة، يقترب من النافذة، ليفاجأ بها قد أصبحت متساوية معه في القامة، في الواقع أفزعته خلال المرات الأولى، غير أنه يتقمص الفزع منذ وقت ليس بالقصير، يتقمص الفزع، مثلما يتقمص البشر أدوارهم الرتيبة في هذه الحياة التي استهلكتها الكآبة و التي يتشابه مفعول السعادة فيها مع المفعول التشخيصي للمواد المنبهة.
بدأ المشوار نحو منزل الخالة إكرام في منطقة :"تمارة" القريبة من الدائرة المركزية للعاصمة الرباط، و قد بلغ الأب و ابنته محطة السيارات الأساسية حيث استودعا السيارة، و استكملا الطريق سيرا على الأقدام. استوقفهما محل لبيع البوظة، اقتنت الصغيرة ما راقها من المأكولات الأخاذة المعروضة في واجهة المحل، واصلا عبر ممر الحديقة، و على امتداد البصر لوح الوالد إلى المنطقة التي احتضنت حديقة الحيوانات قبل سنوات، حولها النمو الديمغرافي قسرا إلى مساحات مهيأة للأنشطة العمرانية، الفضاءات الخضراء تتضاءل، و الطبيعة تحتضر بعيدا عن الأنظار، و الإنسان الذي اجتاحته المدنية لا يهتم سوى بالتكاثر و التكيف مع معضلات الشغل و السكن و الحقوق التي يلفظها التكاثر المستمر للجنس البشري. كانت الأفكار تتلاطم في ذهن الأب و هو يتملى بمحادثة ابنته عن عالمها الخاص، الإهتمام المتبادل جوهري بالنسبة إلى التربية على تحمل المسؤولية و بالنسبة إلى الحفاظ على دفىء العلاقات الإنسانية التي تسمو كثيرا فوق الرابطة العضوية في حالة الأبوة، تماما مثلما تسمو على الإعتقادات الجنيالوجية التي استفحلت في التراث العربي، لم يكن رئيس الوزراء التركي أردوغان مخطئا أو مستهترا عندما قال للعالم:"أنا رئيس دولة و لست زعيم قبيلة" في تلميح راسخ المعيار إلى زعماء القبائل العربية المسماة مجازا دولا سياسية. لقد غاب عن عصر الأنوار مفهوم أفضت إليه العروبة و هو مفهوم :"الدولة-القبيلة". انحسرت الأفكار عندما طلبت الصغيرة من والدها أن يحملها، و مثلما جرت به العادة، تركت يداها آثار البوظة على قميصه، لا فسحة للإعتراض، كل أقمصته مرصعة بخاتم ابنته. ذلك كان جزءا يسيرا من خصوصيته الأبوية. وصلا أخيرا إلى المنزل، لم يتأخر انتظاره، فقد صادف مجيئه موعد قدوم أخته من الثانوية التي تعمل بها، تبادلا التحية، أعطته المفاتيح، و غادرت الباحة الخارجية للمنزل المتاخم لجدار مبنى المقاطعة، من أجل اقتناء الطعام. لا شك أن من مساوىء ولوج المرأة لسوق الشغل هو قضية الطبخ، فالمزاوجة بين العمل و إعداد أكلات منزلية ظاهرة موسمية و نادرا ما نجد امرأة موظفة تتميز بالحس الفني في الطبخ، فالحياة آلة و كل الرغبات معبأة سابقا في أكياس بلاستيكية. فتح الأب الباب و توجه مباشرة إلى غرفة الجلوس، نوى إدارة زر التلفاز إلا أن موضوعات الأولى في جريدة استرعت انتباهه فاستغرق في تصفحها. بعد دقائق، سمع المنبه الصوتي لباص مدرسي، كانت ابنة الخالة إكرام، جاءت بخطى متسارعة نحو الخال و سلمت عليه، ثم التحقتى بصديقتها، الطفلتان أخيرا مشغولتان. عادت الأخت من مطعم قريب و تناول الجميع الغذاء الجاهز في وجوم. رفعت المائدة، و عند جلوس الأخوين لمسامرات ما بعد نصف يوم من العمل، استخرج الأخ ورقة رسمية من جيب بنطلونه، و لوح بها في الهواء :"مفاجأة أختي العزيزة، لقد حسمت مشكلة ترقيتك المهنية"، لمع السرور في عيني الخالة إكرام ثم اختطفت الورقة و قرأتها و كانت تعابير محياها تؤشر إلى شعور فرح عميق :"مهما فعلت يا دكتور، ستظل تحت رعايتي، لا تنس أنك أخي الصغير الذي كنت ألاعبه ذات يوم و..."، "لا داعي لإنهاء أجوبتك المألوفة، سأكمل أنا، أنا أخوك الصغير الذي لاعبته و غيرت ملابسه و اصطحبته إلى الحمام...هذه الأمور حفظتها جيدا". تبادلا أطراف الحوار عن المستجدات المهنية و تناولا قبسا من الماضي، كان الوقت يمر، ثم وصلت المرحلة الحاسمة، "لعبة السكرابل"، يتواجه الشقيق و شقيقته، و تنطلق مسيرة تكوين الكلمات. حظ اللمسة الأخيرة يتحالف مع الشقيقة، قبل دقائق من مناداة الأب لطفلته :" قد جاء المساء...".
هي الحياة، تمنح الحظ للذين لا يؤمنون بالحظ، و تعادي دائما من يعتقد بأنها تستحق أن تعاش.

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
  رد مع اقتباس
قديم 09 / 04 / 2009, 31 : 01 PM   رقم المشاركة : [2]
الشاعر عمر القاضي فلسطين
كاتب نور أدبي ينشط
 





الشاعر عمر القاضي فلسطين is on a distinguished road

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: فلسطين

رد: قد جاء المساء...

المشوار نحو منزل الخالة إكرام في منطقة :"تمارة" القريبة من الدائرة المركزية للعاصمة الرباط، و قد بلغ الأب و ابنته محطة السيارات الأساسية حيث استودعا السيارة، و استكملا الطريق سيرا على الأقدام. استوقفهما محل لبيع البوظة، اقتنت الصغيرة ما راقها من المأكولات الأخاذة المعروضة في واجهة المحل، واصلا عبر ممر الحديقة، و على امتداد البصر لوح الوالد إلى المنطقة التي احتضنت حديقة الحيوانات قبل سنوات، حولها النمو الديمغرافي قسرا إلى مساحات مهيأة للأنشطة العمرانية، الفضاءات الخضراء تتضاءل، و الطبيعة تحتضر بعيدا عن الأنظار، و الإنسان الذي اجتاحته المدنية لا يهتم سوى بالتكاثر و التكيف مع معضلات الشغل و السكن و الحقوق التي يلفظها التكاثر المستمر للجنس البشري. كانت الأفكار تتلاطم في ذهن الأب و هو يتملى بمحادثة ابنته عن عالمها الخاص، الإهتمام المتبادل جوهري بالنسبة إلى التربية على تحمل المسؤولية و بالنسبة إلى الحفاظ على دفىء العلاقات الإنسانية التي تسمو كثيرا فوق الرابطة العضوية في حالة الأبوة، تماما مثلما تسمو على الإعتقادات الجنيالوجية التي استفحلت في التراث العربي، لم يكن رئيس الوزراء التركي أردوغان مخطئا أو مستهترا عندما قال للعالم:"أنا رئيس دولة و لست زعيم قبيلة" في تلميح راسخ المعيار إلى زعماء القبائل العربية المسماة مجازا دولا سياسية. لقد غاب عن عصر الأنوار مفهوم أفضت إليه العروبة و هو مفهوم :"الدولة-القبيلة". انحسرت الأفكار عندما طلبت الصغيرة من والدها أن يحملها، و مثلما جرت به العادة، تركت يداها آثار البوظة على قميصه، لا فسحة للإعتراض، كل
الشاعر عمر القاضي فلسطين غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كل النساء .. أنت رشيد الميموني قصيدة النثر 30 12 / 11 / 2022 24 : 12 PM
(( ... لست .. ككل النساء ... )) عادل سلطاني شعر التفعيلة 7 05 / 04 / 2021 16 : 04 AM
حفل المساء محمد بوحوش قصيدة النثر 3 20 / 07 / 2012 38 : 10 AM
هذا المساء محمد جادالله محمد فضاءات الزاجل والنبطي والشعبي 5 15 / 05 / 2012 53 : 02 AM


الساعة الآن 48 : 12 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|