الأخ العزيز الأستاذ محمد الصالح الجزائري .
كم أنا الآن في غبطة وسرور , حينما طلبت منك نقد قصيدتي , والتي ظهر بها ثلاث هنات , كانت للضرورات الوزنية , وتقولون بأنها خفيفة , وبفضل نوجيهاتكم السامية , ركزت على دراسة الضرورات الشعرية للإلمام بها جيداً , فوجدتها كثيرة جداً, ولكن عدم التصريح بها سيكون هو الأفضل , ورغبت أن أخدم القراء بما درسته منذ يومين فقط , وأرجو أن يكون ذلك مقبولاً لديكم ولدي السادة الشعراء فأقول :
إن الذهب النقي هو الأفضل , وللذهب عيارات ومقاييس , ولا يتقنها إلا من مارس مهنة الصياغة , والصياغة الشعرية تشبه صياغة الذهب والمعادن الثمينة .
يتحدث النقاد كثيراً عن العيوب الشعرية , وعن الضرورات لصالح الوزن , وأنا متأكد من قولي , بأن فطاحل الشعراء في جاهليتهم وما بعدها ولهذا اليوم لا تسلم قصائدهم من الهنات مهما حاول الشاعر اجتنابها , والسبب في ذلك هو :
1 ــ النحو وقواعده والصرف وقواعده , واللغة العربية ودقتها , وعندما نضع هذه المقاييس الدقيقة أمام الإيقاع الشعري الموسيقي بشكل خاص , فلا بد من أن تتداخل الأمور وتتزاحم الأولويات في النسج اللغوي مع النسج الشعري , وكل من النحو وإلإيقاع يريد إبراز قوته وإثبات وجوده , ولما كانت اللغة مرنه إلى حد ما , وكان الإيقاع بالوزن الشعري أكثر صرامة وأكثر دقة ــ والأستاذ محمد الصالح يدرك ذلك ــ فلا بد من أن نرجح كفة الإيقاع الشعري وما يتطلبه من مقاطع عروضية , على حساب القواعد العربية صرفها ونحوها ونطقها واختلاس بعض حروفها أو زيادة بعض مقاطع كلماتها , لأن الشعر أرقى من النثر وبه حساسية أعمق . فماذا ينبغي للشعراء فعله ؟
فما عليهم إلا أن يستمروا على قرضه لينعم الإنسان بلحن قادر على جلب السرور لقلوب المستمعين , وذلك بضبط الوزن على حساب النحو والصرف .
ولكنهم يقولون ( الشعر ديوان العرب ) فكيف يصح كسر اللغة نحوها وصرفها , ؟ أليس بهذا إلحاق بضرر اللغة ؟
نعم , لذا عند استعمال الضرورات الشعرية , فيتجنب الشاعر الماهر والقدير جميع أنواع الضرورات التي أثبتت لدى الدارسين , ليكون صياغة الشعر من العيار الثقيل , وإن اضطر للضرورة الوزنية فعليه أن يختار ما اختاره الأولون والمحدثون مما يلي بيانه :
نظم لنا الزمخشري البيتين الآتيين . وبهما بعض الضرورات الشعرية يقول فيهما :
ضرورة الشعر عشرٌ عدّ جملتها ـ قطعٌ ووصلٌ وتخفيفٌ وتشديدُ مدّ وقصرٌ وإسكانْ وتحركة ـ........ ومنعُ صرف وصرفٌ تم تعديدُ
ولاختاصر الشرح نقلنا لكم هذه الابيات الشعرية , والمشار إلى كلمات الضرورة بالخط الأحمر :
1 ـ القطع: جعل همزة القطع وصلاً , ومثاله: قال الفرزدق : وكيف يؤم الناس من كانت امهُ* تدينُ بأن الله ليس بواحد ِ
2 ــ الوصل: جعل همزة الوصل قطعاً : قال عبدالرحمن بن حسان بن ثابت: فلذا أغتربتُ في الشام حتى * ظن أهلي مرجماتُ الظنون ِ
3 ــ التخفيف : تخفيف الحرف المشدد : تخفيف الحرف المشدّد : ويكثر استخدامه في روي القوافي المقيدة ( المنتهية بحرف صحيح ساكن ) ولم يجيزوه ويستسيغوه في حشو البيت الشعري , ومثاله: قول أمرئ القيس : يُعل ّ به بردُ أنيابها * إذا النجم وسط السماء استقلْ فقد خفف التشديد في (استقلّ) 4 ــ والتشديد * تشديد الحرف المخفـّف : وغالباً ما يستخدم ذلك في كلمتي (دم و فم) ، ومثاله قول الشاعر : أهان دمّك فرغاً بعد عزّ ته ِ * يا عمرو بغيك إصراراً على الحسد ِ فقد شدّد كلمة (دم) وهي مخففةٌ أصلاً . 5 ـ المدّ: مدّ المقصور : وهو أقل شيوعاً من قصر الممدود ، وغير محبذ في بعض الكلمات ، كقول الشاعر : سيغنيني الذي أغناك عنـّي * فلا فقرٌ يدوم ُ ولا غناء ُ يريد (ولا غنىً ) فمدّها فأصبحت (غناء ) وكقول أم البرّاء بنت صفوان في مدح الامام علي حاشا النبيّ لقد هددت قواء نا * فالحقّ أصبح خاضعاً للباطل ِ فقد مدّت( قوى) وجعلتها( قواء) 6 ــ والقصر: ومثاله: يقول أبو نواس : لا قلتُ شعراً ولا سمعتُ غنا ............ .ولا جرى في مفاصلي السكرُ 7 ــ الإسكان : تسكين المتحرك : قال أبو العلاء المعري: وقد يقالُ عثار الرجْل ِ إن عثرت * ولا يقالُ عثار الرَجْل ِ إن عثرا سكَن الجيم في كلمة ( الرّجُلِ) لضرورة الوزن ويكثر تسكين , هوَ وهيَ إذا سبقتا بحرف الواو لتصيران( هوْ وهيْ ) فأخطأتهُ المنايا قِـيس َ أنملة ٍ * ولا تحرّزَ إلا وهْو مكتوبُ
8 ــ والتحريك : وتحريك الساكن فهو كثير جداً ومنها : تباً لطالب دنياً لا بقاء َ لها * كأنما هيَ في تصريفها حُـلـُُمُ فقد حرك اللام في ( حلـْم ) الساكنة اصلاً . ومثال ذلك أيضاً قول المتنبي في رثاء جدته : لئن لذ ّ يوم الشامتين بيومها * فقد ولدت مني لأنفهـِم ِ رغما فقد حرك ميم (أنفهم ) بالكسر امرئ القيس : تطاول َ ليلك َ بالإثمد ِ * ونام َ الخلي ّ ولم ترقد ِ فقد كسر دال ( ترقد ) وهو فعل مضارع مجزوم بحرف الجزم ( لم 9 ــ الممنوع من الصرف: قال امرؤ القيس : ولمّا دخلت الخدر خدر عنيزة ٍ * فقالت لك الويلات إنّك فاضحي
10ــ وصرف الممنوع : قال الشاعر: مقري الوحش: والروض جامعُ والأزاهرُ حوله ... ............. وقناديل الإترنج لاحت في الغد
ومن الضرورات الشعرية أيضاً ما يلي : * حذف الشرط وجواب الشرط : ومثاله قول الشاعر :رؤبة بن العجاج، أبو الجحاف قالت بنات العمّ يا سلمى وإن * كان فقيراً معدماً قالت : وإنْ فقد حذف فعل الشرط وجوابه من قوله ( وإن) بمعنى وإن كان فقيراً معدماً أرضى به . وكقول إبراهيم بن هرمة : احفظ وديعتك التي استُودعتها * يوم الأَعارب إن وُصلْت وإن لم ِ بمعنى وإن لم توصل فاحفظها، فحذف الفعل والجواب . ، ومثال ذلك قول الشاعر أبي ذؤيب الهذلي : فقلت: تَحَمَّلْ فوق طوقك إِنها* مطَّبعة من يأْتها لا يضيرها فقد حذف الفاء من (إنها) الواجب اقترانها بالفاء لأنها جملة اسمية ، ومن (لا يضيرها ) لانها جملة فعلية منفية .
ومثال الثاني قول الشاعر محمدعباس الدراجي : أما بنوها الطاهرون صحائفٌ* لولا كتاب الله كادت ترفع ُ فقد حذف الفاء من جواب (أما) الواجب اقترانها بالفاء وهي (صحائفٌ) . * تنوين المنادى المبني على الضم : ومثال ذلك قول جميل بثينة : ليت التحية كانت لي فأشكرها * مكانَ يا جملٌ حيّيت يا رجلُ فقد نون (جمل ) وهو منادى مبني على الضم لأنه نكرة مقصودة . وكقول الشاعر : سلامُ الله يا مطرٌ عليها * وليس عليك يا مطر ُ السلام ُ فقد نون( مطر ) وهو منادى مبني على الضم لأنه علم . وقد ينون المنادى المبني على الضم تنوين فتح ٍ ، كقول عدي بن أبي ربيعة ( المهلهل ) : ضربتْ صدرَها إِليَّ وقالت: * يا عديّاً لقد وقتْك الأَواقي فقد نون (عدي ) تنوين فتح وهو منادى مبني على الضم لأنه علم .
* حذف نون التوكيد الخفيفة : كقول الشاعر : يميناً لأُبغضُ كلّ امرىءٍ * يزخرفُ قولاً ولا يفعل ُ فقد حذف نون التوكيد من الفعل (أبغض ) الواجب تأكيده بها لأنه جوابُ قسم ٍ ، مثبتٌ ، متصلٌ باللام ومستقبلٌ . وقد تحذف نون التوكيد الخفيفة عند الوقف عليها وتستبدل بالف ، كقول الاعشى : وإياك والميتاتِ لا تقربَنَّها * ولا تعبدِ الشيطان، والله فاعبدا فقد حذف النون من (فاعبدن) وعوض بدلها (الفاً) وكقول مساور بن هند العبسي : يحسبه الجاهل ما لم يعلما* شيخاً على كرسيه معمّما فقد حذف النون من (يعلمن) وعوض بدلها (الفاً) . * الجزم بأداة الشرط (إذا) : وهي أداة جزم غير عاملة ، فلا تجزم فعل الشرط وجوابه ، وتعامل كأداة جازمة ٍ في الشعر ، كقول عبد الرحمن بن حسان : استغن ما أَغناك ربك بالغنى * وإذا تصبْك َ خصاصة ٌ فتجمّل ِ فقد جزم بإذا فعل الشرط (تصبْ) . وأما الضرورات القبيحة : 1-ترخيم المنادى : إذا كان علماً غير مركب ٍ ، زائداً على ثلاثة احرف ٍ كقول زهير بن ابي سلمى : يا حارِ لا أُرْمَيَنْ منكم بداهية * لم يَلْقَها سُوقةٌ قبلي ولا ملِكُ فقد رخم (حارث ) وهومنادى علم غير مركب ، زائد على ثلاثة أحرف فصار (حار ( وكقول الشاعر : يا مروَُ إِنّ مطيتي محبوسة ٌ * ترجو الحِباءَ وربُّها لم ييأَس ِ فأصل (مرو ) قبل الترخيم (مروة) .
تنبيه :
يجب الانتباه الى أنّ ترخيم المنادى المختوم بالتاء جائزٌ وكثيرٌ جداً ولم يميزوه عن مقصودهم من الضرورة القبيحة، ومثاله قول امرئ القيس : أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلـّل ِ * وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي وقول جميل بثينة : ألا ليت أيام الصفاء ِ جديدُ * ودهراً تولى يا بثينَ يعودُ وقول كثيـّر عزة : وقد زعمت أنـّي تغيـّرت بعدها * ومن ذا الذي يا عزّ ُلا يتغيـّرُ
حذف حرف من كلمة ٍ أو حذف كلمة ٍ بأكملها : كحذف نون (لكن ، اللذان ، اللتان ) واذا الفتى طرح الكلامَ معرّضاً * في مجلس ٍ أخذ الكلامَ اللذ ْ عنى فقد حذف الياء من (اللذي) فصارت (اللذ ) ، وربما حذف أكثر
، وربما حذفت كلمة أو أكثر من البيت الشعري ، كقول المتنبي : فقلْ في حاجة ٍ لم أقضِ ِ منها * على شغفي بها شروى نقير ِ فأصل الكلام ( فقل ما شئت َ) وحذف الكلمتين لضيق المقام . 3-إشباع حركة حرف صحيح ٍ في الحشو : كقول الشاعر : أخاك أخاك إنّ من لا أخا لهُ * كساع ٍ الى الهيجا بغير سلاح ِ فقد أشبع فتحة الخاء في (أخ ) في (لا أخا) فصارت (اخا) . وفي رأيي أن ( أخا ) هنا منصوبة بتنوين الفتح ( لا أخاً ) لأنه يجوز تنوين اسم لا النافية للجنس كقولهم (لا أباً لكم ) وليس في البيت شاهد ٌ . أما اشباع الهاء في الرفع والجر فكثيرٌ ولا عيب فيه ، ومثاله في البيت السابق (لهُ) فهي بمثابة (لهو ) عروضياً . واشباع حرف الرويّ أيضاً مما لا اشكال فيه ، وهنا فقط يجوز اشباع الحرف الصحيح في نظري ولا يجوز في الحشو مطلقاً لأنه يسبب كسر الكلام ونبوّه ِ ، ومثاله في البيت السابق ( سلاح ِ ) فهي بمثابة ( سلاحي ) عروضياً . وهذا بيت للشاعر إبراهيم بن علي ابن الهرمة يقول : وأنت من الغوائل حين ترمي... ومن ذمّ الرجال بمنتزاحِ والشاعر هنا يريد القول ( بمنتزحٍ ) دون الألف , ولم تألف العرب قلب الحركة مداً بل حافظت على الحركة اللغوية دائماً , ولكن للضرورة الشعرية , أباح لنفسه هذا التغيير . وأخذتُ من الكتاب النحوي للعلامة عمر بن ثابت الثمانيني هذا البيت صفحة 233 ,: محمد تفدِ نفسك كل نفسٍ .. إذا ما خفت من شيء نبالا
فلام الأمر قد حذفت في كلمة ( تفد) والأصل (لتفد) مثل ( ليضرب زيدٌ عمراً ) ولا يجوز نحوياً أن نسقط اللام , ولو قلت لغير الضرورة الشعرية ( زيدٌ عمراً ) لم يجز , لكن تقويم الوزن الشعري اضطره إلى ذلك . ثم الإخلال بالتركيب الصرفي كقول الشاعر : تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ** نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
فالصحيح (( الدراهم )) و (( الصيارف )) وختاماً أقول إن المثل القائل : ( يحق للشاعر ما لا يحق لغيره ) هو قول سديد , ولكن بالمعقول الذي إن نفع فلا يضر بسلامة اللغة والنحو والعروض ) المراجع : نقلت ونسقت وجمعت بتصرف , واعتمدت على كتاب عمر الثمانيني في النحو , وعلى كتب العروض وبالأخص كتاب النظرية الحديثة للنبر الشعري,غالب الغول/ وكتاب الكافي في العروض والقوافي ,وبعض أساتذة النحو والعروض ومنهم الأستاذ شاكر الغزي , وركزت على معلومات وتطبيقات شعرية, فلعلها تفيد الدارس والمهتم ,
أديب وشاعر جزائري - رئيس الرابطة العالمية لشعراء نور الأدب وهيئة اللغة العربية -عضو الهيئة الإدارية ومشرف عام
رد: غالب الغول/ مختصر الضرورات الشعرية
[align=justify]على كلّ مريدي الشعر وطالبيه ودارسيه وقارئيه أن يستفيدوا مما طرحته أخي الغالي الأستاذ الغول..هذا مرجع مهم ، نعود إليه متى احتجنا، دون عناء أو بحث طويل..فشكرا لك أخي الغالي شكرا جزيلا..والحمد لله أننا نستفيد من بعضنا البعض حتى نفيد غيرنا من الشعراء..تحيتي واحترامي..[/align]
يا أخي الغالي الأستاذ محمد الصالح , قال الله تعالى لنا جميعاً ( وما اوتيتم من العلم إلا قليلا ) فالعلم واسع , وما علينا إلا أن نثقف أنفسنا بقدر المستطاع , وعلينا ان نبذل جهدنا ليأخذ منا هذا الجيل الصاعد , وجزاك الله خيراً وبارك الله لنا فيك أيها الأخ العزيز .
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
رد: غالب الغول/ مختصر الضرورات الشعرية
[align=justify]أخي الغالي غالب.. أسعد الله أوقاتك بكل خير..
ما أروع هذا الجهد وما أكثر فائدته.. وعسى أن نرى ثمار انتفاع شعراء العمودي، على الأقل، بهذا الملف الثمين..
بارك الله بك، وجزاك خيراً، وأفاد بك على الدوام..
مع محبتي وتقديري لشخصك الكريم شاعراً ومُعلِّماً..[/align]
أشكرك أخي الغالي الأستاذ القدير محمد توفيق الصواف على ثنائك وطيب كلامك , أرجو الله سبحانه أن يمن عليك بالصحة والسعادة , وكل عام وأنتم بخير يا أخي العزيز .