[طلعت سقيرق]

[align=justify]
نحار في التعريف والتوصيف ووضع النقاط على الحروف حين نتحدث عن عالم الثقافة والأدب ، ولست هنا في وارد فتح صنابير السؤال على الفن الغث الذي يشكل فوضى عصرية تداخل الأشياء ببعضها !!.. بل أركز على الأدب والثقافة بشكلهما الرفيع ، وأفترض أنهما يواجهان بشكل ما ، ويقفان في وجه الركاكة والتفاهة وسخف ما يصدر من فن هابط !!.. فهل تستطيع الفضاءات المفتوحة على الأدب والثقافة عربيا أن تقف في وجه هذا التردّي ؟؟!!..
في مساحة الصورة المطروحة عربيا يبدو الأمر أشبه ما يكون بسبحة تدحرجت حباتها وضاعت في كل سبيل ، ولست أقول هذا من باب اليأس أو الإفراط في التشاؤم ، فالعناوين المثارة ، والمواضيع المطروحة ، والإبداعات المنتجة ، لا تشكل في أحسن الأحوال رادعا بسيطا ولا أقول مواجها قويا لما هو غث هابط متصف بالتفاهة .. بل على العكس تماما نلاحظ أن الانصراف للتافه يكون أقوى ألف مرة ، كون أنّ الاهتمام به يلقى الكثير من المال والجهد والالتفات !!.. وكأنّ المال العربي يريد أن يبني عالما ثقافيا متهافتا مفرغا من كلّ شيء تمشيا مع هجمة العولمة التي تعتمد على نسف الجذور والأساسات والتاريخ ، لتكون نسخة مشوهة تصدّر إلى الحاضر والمستقبل ما لا يبني أو يعطي ما يمكن الاستناد عليه أو الرجوع إليه ثقافيا .. حتى تصير كل الأبواب موصدة أمام عالم ثقافي وأدبي عربيين يعتمد عليهما !!..
وحتى لا تبقى الصورة مجرد كلمات في الفراغ ، وحتى لا تتشظى المسألة ، لنأخذ المطروح أدبيا وثقافيا في وسائل الإعلام من تلفزة وصحافة وإذاعة ، كونها الشيء المقابل أو ما يفترض أنه مواجه لما يطرح من فن رخيص !!.. وسنبتعد عن الكتاب ، كونه صار سلعة ، أكثر منه مرجعا ثقافيا ، ابتعد الناس عنه أو أبعدوا بشكل ما .. فالتوازن المطلوب يعني أن نطرح ثقافة وأدبا يشدان المتابع أكثر مما يشده الفن الرخيص .. وللأسف فإن هذا الأمر معكوس تماما ،فالغلبة لما هو رخيص وتافه تكاد تكون طاغية .. فلماذا ..
نأخذ القريب من شعر وقصة ومسرح وسينما ونقد وفن تشكيلي ومسلسلات وما إلى ذلك ، ونتحدث بتوسع هنا وباقتضاب هناك ، لنرى كيف تبدو جوانب الصورة أمام هجمة الفن الرخيص وتسخير العقول والنفوس، وعري اللحم له ..
فإن أخذنا الشعر على سبيل المثال نلاحظ انصراف الشعراء الحقيقيين عن قول الشعر أو كتابته ، وترك الحبل على الغارب لصبية يتقافزون على حبال ما يسمونه شعرا ظلما وعدوانا ، مما جعل القراء زاهدين بكل الشعر والشعراء .. والمشكلة المضحكة أن صبية الشعر لا يعجبهم في بعض الأحيان أن تقول عن قصيدة ما ، من باب التأدب إنها جيدة ، بل هم يريدون ببساطة أن تجعل كل قصيدة من قصائدهم متميزة .. وحين تسأل رؤساء التحرير والمسؤولين عن الثقافة: لماذا تنشرون شعرا رديئا إلى هذا الحد ؟؟...يكون الجواب المباشر : أعطنا شعرا جيدا لشعراء جيدين ، بالله عليك ابحث لنا عن قصائد جيدة لننشرها ، نحن مضطرون لنشر ما ترى من شعر رديء !!.. وأقول دائما لماذا لا تبحثون عن الشاعر الجيد ، بدل الجلوس بانتظار قدومه ؟؟.. ومن سوء طالع الشعر أن كل شويعر يظن أنه شاعر أين منه نزار قباني أو محمود درويش أو عمر أبو ريشة ؟؟... وإذا أخذت قصيدة النثر فحدث ولا حرج عن قصيدة ضيعت ملامح اللغة والشعر والشعور ، وأيقظت عالما لا معنى له من صف الكلام المشعور !!..
وليست القصة في حال أحسن .. وأزمتها الأكبر في القصة القصيرة جدا التي صارت مركب من لا مركب له !! .. وهكذا المسلسلات والمسرحيات والأغنيات.. وعلى ذكر الأغنيات فقد آثر البعض من المطربين الجيدين التنازل عن الجودة من اجل الانتشار فهو أجدى وأكثر إغراء وإثراء !!.. أما النقد ، فالويل ثم الويل منه وفيه وعليه !!
كل كتابنا ومبدعينا وأدبائنا وفنانينا يريدون نقدا واحدا لا يقدح على الإطلاق .. فهم ميالون إلى النقد الذي يمدح ويجعل كل واحد منهم أعلى قليلا من المتنبي ، وليست بعيدة تلك القيامة التي قامت على محمود درويش لأنه قال : المتنبي أفضل منا جميعا !!.. ووصل الأمر بأحد الشعراء للقول : كان على درويش أن يعترف بأن المتنبي أفضل منه ، وليس أفضل منا !!.. أليس في الأمر ما يدعو إلى السخرية !!.. كذلك تعود مبدعونا على مصادرة الآراء التي لا توافق هواهم، فهم لا يريدون أن يسمعوا آراء الآخرين التي تخالف قناعاتهم .. !!.. هذه القناعات المبنية على نرجسية لا أساس لها.. وبصدق أسأل : حين يكون الأديب آو المبدع أو الفنان على ثقة بنتاجه ، فما ضره أن يقول الآخرون ما يقولون حول عمله ، ألا يستفيد من كل كلمة تقال ، حتى وإن كان في القول تجن ٍ قد يزيد عن الحد .. ؟؟.. ما مشكلتنا مع أحادية الرأي ، وما مشكلتنا مع النقد الذي يضر الكاتب والقارئ والحركة النقدية حين يتوجه مباشرة إلى رفع أي عمل – وإن كان تافها – إلى الأعلى ؟؟.. أليس في هذا تخريب للذوق لا يختلف في مبناه ومعناه عن توجه الفن الهابط ؟؟..
لا داعي لأن أقول أشياء كثيرة عن الفن التشكيلي الذي صارت لوحاته طلاسم لا يفهم أولها من آخرها .. ولا داعي للحديث عن مسرحيات يحضرها أهل الفنانين والمدعوين .. أو عن أمسيات القراء فيها أكثر من الجمهور ، وعن محاضرات لا تقدم شيئا لأنها لا تجد ما تقدمه أو من تقدم له في القاعة ..!!.. ولن أطيل عن تلفزة مفرغة من كل معنى ، خاصة حين تكون برامجها ثقافية ، إذ تتناول كل شيء إلا الثقافة .. !!..
نحن نفتح الباب للفن الهابط .. نحن نزرع الشوك في بستان العمر لجيل يفتح عينيه على التفاهة ويستسيغها بما تثير من غرائز .. والحل في نسف ثقافة مصنوعة مبتسرة ، والبحث عن ثقافة وأدب حقيقيين ، وقول كلمة النقد بجرأة بعيدا عن جبر الخواطر !!.. لأن جبر خاطر هذا أو ذاك يدمر جيلا وراء جيل .. وسنكون الخاسرين في كل الأحوال ، لأن الزمن سيطرح ما مدح من غث ، وسيدير ظهره لنا غير آسف !!..
[/align]