'...أما عن رواية موسم الهجرة إلى الشمال فيقول ديفز أن الطيب صالح أتاه ذات يوم وأخبره بأنه يكتب رواية جديدة. و أصبح يجد على مكتبه كل بضعة أيام جزءاً من الرواية بخط اليد.
و بعد فترة وجيزة كانت موسم الهجرة قد اكتملت، وفي نفس الوقت كانت الترجمة نفسها قد اكتملت (ص 84)(12).
يقول ديفز ' كان الطيب غير متأكد من قبول القراء لبعض الفقرات ذات الإيحاءات الجنسية في الرواية '، وقد قرَّر بعد حين عدم تضمينها.
و يضيف ' في وقت من الأوقات كدنا أن نضمنها في الترجمة الإنجليزية ولكننا عدَّلنا عن ذلك ' ثم يضيف إضافة مذهلة فيقول ' في مكان ما في أوراقي المبعثرة أنا أحتفظ بهذه الفقرات كتبت على صفحتين بخط الطيب صالح.... وفي يوم من الأيام ربما تجد هذه الصفحات طريقها إلى بيوتات المزايدة Auction ويقوم بشرائها أحد المليونيرات المولعين بالاحتفاظ بمثل هذه الغرائب بمبلغ كبير من المال' (ص 84) (13).
فها هو يلعب دور 'الموجه' مرة أخرى، و يشارك الأديب الطيب صالح في النقاش و التفكر حول 'الفقرات ذات الإيحاءات الجنسية'، و حتى حين لم يجرأ الأديب على تضمينها في الرواية رغم التشجيع، فإن الموجه احتفظ بها لحين إشهار و اشتهار تلميذه النجيب، و لحين تطبيع فكرة تداول الجنس في النصوص الأدبية العربية و تقبلها، تلك التي كان هو مؤسسها و مهندسها و متتبعها حتى نهاية المطاف...
و كإحاطة بكل جوانب مهمته انتقل أيضا إلى لبنان من أجل صناعة أدباء أتباع لبنانيين...بل وحتى مغاربة تواجدوا هنالك...و قد عمل على صقل جوانب هويتهم حتى ما يعود للأصل فيها إلا شذرات لا تصمد لحفيف الأيام تنصرم:
'...وإبان إقامته في بيروت سيتناول المؤلّف تجربة مجلة «شعر» التي كان يمتلكها يوسف الخال ويشير إلى أن ربطت بينهما صداقة مكّنته من التعرّف على الكثير من الكتّاب اللبنانيين، ومما يذكره في هذا الصدد عن شخصية يوسف الخال، أنه كان يستبدّ به عشق الحياة، وكانت شقّته تمتدّ أمامها حديقة صغيرة مليئة على الدوام بالكتاب اللبنانيين.
وغير اللبنانيين الذين كانوا يؤمّون بيروت حينها، وبذلك فإنه سوف يتعرّف على الكاتب المغربي محمد زفزاف، وزكريا تامر الذي على حدّ تعبيره، تبيّن أنه واحد من أفضل كتّاب القصّة القصيرة باللغة العربية، أطلقه يوسف الخال من خلال إصدار مجموعته الأولى «صهيل الجواد الأبيض»، وفيما بعد وفي لندن سيترجم له «النمور في اليوم العاشر»...'(14).
و حتى الخليج ما فاته هو المحنك المدرب أن يعرج عليه من أجل استكمال الرسالة و إتقان القيام بها:
'...ولعل المحطّة الخليجية في ذكريات المؤلّف تشكّل مرحلة مهمّة في حياته، إذ يذكر أنه قضى جانباً من حياته بدولة الإمارات العربية المتحدة فالتقى كلاً من المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، والمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وذلك بعدما اقترح عليه عز الدين إبراهيم العمل على ترجمة إنجليزية لبعض كتب الحديث النبوي الشريف.
وقد دعم الشيخ زايد رحمه الله هذا المشروع، كما قام بالتعاون مع حكومة الشارقة في مشروع مماثل يتلخّص في إنتاج تسجيل للقرآن الكريم على شرائط كاسيت، وفي هذا الصدد يقول أيضاً: «قضيت جانباً من حياتي في الخليج، وبصورة أكثر تحديداً فيما أصبح الآن دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد أردت منذ وقت طويل أن أقدّم مجلداً من القصص القصيرة من هذه»...'(15).
اقترح عليه القيام بدور مترجم عادي...أي النقل من لغة إلى أخرى...لكنه لم يهتم و لم يقم بذلك....
و خاصة و أن المطلوب نقل أركان الهوية الدينية الإسلامية إلى الغرب... القرآن و السنة النبوية...و لقد كان من الطبيعي أن لا يقوم بذلك، إذ مهامه 'الرسالية' كانت تقتضي هدم هياكل تلك الأركان من النفوس و تقويضها، وخاصة من نفوس النخبة العربية المثقفة المقتدى بها حتى تنتفي تلقائيا من نفوس العوام التابعين المقتدين...
و قد أبان بموقفه هذا عن مقصوده من تواجده هنالك في الخليج العربي، إذ هو 'تقديم مجلد من القصص القصيرة'، أي الدفع بالأدباء إلى مسار يوفر إعادة تشكيل عقولهم،
و ذلك حتى تتوجه إلى إنتاج قصص يتماشى مع المطلوب من ضرورة الكتابة على نمط الفكر الغربي، ذلك الذي يؤدي إلى إحداث تغييرات في عقول و أفهام القراء العرب المسلمين حتى ينساقوا و تنهار مقاومتهم...
فهذا 'العلامة' 'المعلمة'، و هذا المثابر المرابط في سبيل هدفه كان على نجيب محفوظ أن يرد له ـ مع أمثاله ـ الجميل، فلقد فعل و كال له الثناء و المديح، و لعله توسط له أيضا من أجل الفوز عند بني جلدته من العرب:
'...حتى أن نجيب محفوظ وإدوارد سعيد اعتبراه «رائد الترجمة من العربية إلى الإنجليزية». حيث إنه أصدر نحو ثلاثين مجلّداً ضمت الكثير من النتاج الإبداعي القصصي والروائي العربي، وقد توّج مسيرته الطويلة هذه بالفوز بجائزة «الشخصية الثقافية لجائزة الشيخ زايد للكتاب»...'(16).
إذ من الطبيعي أن يَمُنَّ الفائز على من كان السبب في فوزه...حيث قدم نجيب محفوظ لذلك الكتاب الذي ألفه دنيس جونسون ديفز 'ذكريات في الترجمة'(17)، ثم و رفع من قيمته، و جعله بالغ الروعة و سببا للسعادة استشعرها هو و ملأت كيانه منذ تعرف على مؤلفه أي منذ ستين عاما، تلك المدة التي اقتضاها 'صنعه'، و تطلبها التأكد من إعادة تشكيل كيانه و عقله، و من بعد ذلك إعلانه الفائز المتوج!!!:
'...ومما يجدر التنويه إليه في الختام أن الأديب المصري نجيب محفوظ حائز جائزة نوبل، قدّم لهذا الكتاب قبل وفاته، حيث نوّه إلى أنه يعرف المؤلّف منذ عام 1945، وهو أول من ترجم عملاً له، ثمّ ترجم العديد من رواياته، وختم قائلاً:
«والحقيقة أن دنيس بذل جهداً لا يضاهى في ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية وترويجه.. يسعدني كثيراً أن كتب دنيس هذا الكتاب البالغ الروعة، وأتمنى أن يحظى قارئه بنفس القدر من السعادة الذي حظيت به من معرفتي بمؤلّفه على مدى ستين عاماً»...'(18).
ثم لقد وجد ذلك المستعرب من ينعته منا ـ و بسذاجة ـ بأنه صاحب ' نزعة رسالية'، و بأن القدر هو الذي كان يدفع به على الدوام إلى الشرق الوسط....و ذلك من 'حظ' الأدب العربي... إنه الناقد عزت عمر صاحب المقال إذ يقول:
'...ولكن فيما يبدو من السيرة، أن القدر كان يدفع به على الدوام باتجاه الشرق الأوسط والترجمة، ومن المؤكّد أن هذه المصادفة القدرية ستكون من حظ الأدب العربي الذي قيّض له مترجم ذو نزعة رسالية لا يأبه للصعاب التي كانت تعترضه سواء في نشر المادة المترجمة، أو في التعامل مع الناشرين المتبرمين دائماً، هذا بالإضافة إلى الصعاب السياسية وظروف الحرب والثورات وغير ذلك...'(18).
و لعله فعلا كان صاحب 'رسالة' ذلك المستعرب، و قد كُلف بها من طرف من كان و ما زال يعنيهم استلاب الأمة العربية الإسلامية، و ذلك حتى تسير في الركب الذي يراد لها أن تنخرط فيه دون تردد و لا تساؤل...
و مما يمكن من المساعدة على فهم و استيعاب مهمة صناعة الأدباء ـ تلك التي أوكلت إلى هذا المترجم ـ الإطلاع على هذا الحوار الذي أجراه معه عبد الوهاب أبو زيد، ونشر في موقع اليوم الالكتروني بتاريخ 2007-06-21م بعنوان:'لقاء مع دنيس جونسون ديفز...العرب غير واعين بأهمية الترجمة'(19).
فلقد كان توجيهه للمهمة منذ البداية، أي بمجرد الانتهاء من التكوين الأكاديمي النظري في جامعة كامبردج، و من التكوين التطبيقي في البي بي سي، إذ بعد ذلك مباشرة ولد الوعي بضرورة 'فعل شيء ما' من أجل توجيه تلك 'النهضة' التي بدأت في العالم العربي كما ورد في المقال:
'... درست اللغة العربية في جامعة كامبردج. فيما بعد، وحين كنت أعمل مع إذاعة البي بي سي العربية أدركت أن نهضة ما قد بدأت في العالمالعربي. قرأت بعض القصص التي كتبها محمود تيمور وتوفيق الحكيم...'(20).
'... بعد ذلك بفترة قصيرةذهبت إلى القاهرة، حيث تسنى لي أن أتعرف على كل من له صلة بالعالم الأدبي. أحسست بأنعلى أحد ما أن يقوم بشيء ما، غير أنني تساءلت: أين سأعثر على ناشر لمثل هذاالنوع من العمل؟.... كان الكتاب الذي نشرته مطابع جامعة أكسفورد يحتوي على قصص لحقي وقصة لنجيبمحفوظ من بين آخرين.
و منذ ذلك الحين أصبحت مهتما بكتاب من المغرب وتونس وفلسطينوسواها من البلدان...'(21).
و لقد أجاب ببساطة في هذا الحوار حين سئل:
'...ما الذي يميز الأدب العربي في اعتقادك؟...'(22).
أنه لا يراه المتميز أصلا:
'...لا أرى أنهمتميز، و لكنني أظن أنه لا يزال يواجه بعض المتاعب. فلكي تفهم الأدب العربي لا بد لكمن أن تفهم الإسلام...'(23).
لكنه رأى أن المتاعب التي تواجه الأدب العربي منبثقة من ارتباطه بالإسلام...إذ أن وجوب استيعاب الإسلام من أجل استيعاب الأدب العربي مسألة تؤرق الغرب الذي يمثله هو...و لذا فقد تصدى هو منذ البدء من أجل خلق الانفصام بين القيم و المبادئ الإسلامية وبين تلك النصوص الأدبية المنتجة من طرف الأدباء العرب المُوجََّهون...
ثم حين سئل:
'...لماذا لا يدعم العرب مثل هذه المشاريع؟'(24).
أجاب بنرجسية مفرطة و باعتداد بالذات متفاقم:
'...ذلك بسبب قلة الوعي، لا بد من العمل معشخص على معرفة كافية، وكما يقول المثل العربي القديم «أعط الخبز لخبازه». وفي هذهالحالة أنا هو الخباز...'(25).
و رغم وضوح تصريح بكونه هو الخباز الذي عجن عجينة الأدب العربي و شكلها منذ البداية، و بالرغم من الاتهام الصريح للعرب بقلة الوعي!فإن المحاور العربي عبد الوهاب أبو زيد لم يعلق و لم يستأ...بل و أكمل الحوار معه و كأن شيئا لم يكن و لم يُقَل....
و لعل ثالثة الأثافي و مكملة الصورة هي الكلمات الأخيرة مما قاله دنيس جونسون ديفز في هذا الحوار:
'...بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، أصبح هنالك المزيد منكتب الأدب العربي الحديث. لقد صنع الأدب العربي الحديث لنفسه مكانة من لا شيءتقريبا. إنني أعمل حاليا مع 77 كاتبا من أنحاء مختلفة من العالم العربي. إنني بحاجةالآن للعثور على محفوظ آخر'(26).
فهكذا يبدو و كأن 'المترجم الرسالي' لم يكل بعد و لم يتوقف عن القيام بما أوكل إليه من مهام و هو الشيخ في السابعة و السبعين من عمره، إذ ولد سنة 1922، فما زال هنالك من هم في طور الإنشاء و التشكيل و العجن و الخبز على يديه من الأدباء العرب، أولائك الذين يمكن أن يحصلوا على رضا الأسياد، و يمكن أن يتوج واحد منهم ذات يوم كما توج نجيب محفوظ، و ذلك إن هو حفظ الدرس جيدا، و إن سار مخدر الحواس بثقة و يقين على المسار المرسوم !!!
إذ هو الأمر كما صرح دنيس جونسون ديفز، فهو ما يزال دائب البحث عمن يمكن أن يكون 'نجيب محفوظ' آخر يتم ما بدأه الأول من سلخ الأدب من مقومات الهوية، و يجعله ذلك الإبداع الأدبي المسخ الذي يعين على إتلاف تلك المقومات من أنفس و عقول المتلقين المستهلكين المسلمين.
و لقد كانت لجريدة أخبار اليوم المصرية يوم 4 فبراير 2007 وقفة مع ما نشر في مجلة العربي في ذات العدد رقم 577 الخاص بنجيب محفوظ(27)، إذ كتب الكاتب السيد حسن جغام مقالا بعنوان ' عودة إليجائزة نوبل لنجيب محفوظ'،وتطرق فيه للمقال إياه، ذلك الذي كتبه دنيس جونسون و المتطرق إليه أعلاه: 'عبقرية استشراف المستقبل'.
و كان مما حز في نفس الكاتب هو ذكر ذلك المستعرب لكونه استُدعِيَ في القاهرة من طرف سويدية زوجة السفير الفرنسي لدى تونس للتداول حول من يستحق جائزة نوبل من العرب:
' وكانت معها قائمة بأسماء المرشحينالمحتملين، ومن بينهم أدونيس، ويوسف إدريس، والطيب صالح، ونجيب محفوظ، وسألتني أولاعما إذا كنت أشعر أن هناك أي كاتب آخر من العالم العربي يستحق النظر في إمكانيةفوزه بالجائزة...'(28).
و يتعجب السيد حسن جغام من البساطة و السطحية التي تمت بها عملية انتقاء المتوج بالجائزة حسب رواية السيد دنيس جونسون قائلا:
'...و هذه الإشارة في اعتقادنا تضيف بلبلة إلي ما سبق منكتابات مرتجلة حول هذا الموضوع.
وإن أول ما يلفت الانتباه في رواية السيد 'جونسون' انه لم يذكر اسم هذه 'السيدة السويدية' ولم يذكر دورها في 'لجنة الجائزة' والذي يبعث علي الترتيب أكثر من هذه الأسئلة هو ما يلي:
ما الذي يجعل 'لجنةالجائزة' تترك المؤسسات الثقافية، ونحن نعلم أن الأكاديمية السويدية لها تبادل علميمع عدد من الجامعات العالمية والعربية، وكذلك لا نشك في أن لها أدوات عمل أكثر جدوىفي اتخاذ قرارات مثل هذه.. المفروض أن تكون هذه الأساليب هي المرجع والمرجعية للبحثعن كاتب عربي أو غير عربي يستحق جائزتها.. أو هل تترك كل ذلك ونلتجيء إلي هذه 'السيدة السويدية' النكرة تجوب القاهرة وتسأل عمن يستحق الجائزة؟!'(29).
و يبدو و كأن السيد جغام غير قادر على تصديق ما صرح به صانع الأدباء العرب، إذ يبدو و كأنه مؤمن حتى النخاع بتفوق العرب الأدبي، و بجدارة أحدهم ممثلا في نجيب محفوظ في الحصول على تلك الجائزة 'العالمية المميزة'، إذ هو 'تزييف للتاريخ' حسب قوله أن يقال مثل هذا القول، حتى و لو صدر ممن اعترف له حتى نجيب محفوظ نفسه ب 'دوره الرائد' في بناء الأدب العربي...
إنه الوهم العربي... و يجثم كغلالة تمنع من وضوح الرؤية، و من التغلغل بين ثنيات الأحداث المتواترة عبر السنين ابتداء من فترة الاستعمار و إلى الآن...
فالكاتب ينفي حتى تأثير مساندة كامب ديفد و دور إسرائيل بالرغم من أنه قرأ في المقال ما يفيد علاقة تلامذة دنيس جونسون بالكيان الصهيوني منذ فترة تأسيسها... ترجمة أبا إيبان لإنتاج محمود تيمور المذكورة سابقا نموذجا...
فالمهم بالنسبة للسيد جغام هو تفادي البلبلة و 'تشويش الأذهان' و ليس التوصل إلى الحقيقة و الاستفادة منها و من تداعياتها و الانطلاق من جديد، إذ يقول:
'...انطلاقا منهذه الاستفسارات التي دفعتني إليها ما ساورني من ضعف هذه الرواية، إضافة إلي ماقرأناه قبل سنوات وظل يتردد من حين لآخر مثل ما قيل عن كاتب إنجليزي هو الذي رشحنجيب محفوظ للجائزة، وكذلك الادعاء الذي يقول: أن إسرائيل هي التي كانت وراء منحنجيب محفوظ للجائزة لأنه بارك اتفاقية 'كامب دافيد'.. وروايات أخري لا يتسع لهاالمقام تدعي مثل هذا القول أو ما يشبهه.
هذه الروايات جميعها بما في ذلك الروايةالأخيرة أعني رواية السيد جونسون يمكن في نظري أن تحدث بلبلة تعمل علي تشويشالأذهان، وتساعد علي إبعاد الحقيقة وبالتالي تزيد في زيف التاريخ...'(30).
ثم و الكاتب يتابع مسيرته الدفاعية بلا هوادة عن استحقاق العرب للجائزة و عن نبوغهم الأدبي:
'... وهذا ما دفعني إلي القول باني اعتقدت أنه ثم القول الفصلفي هذه المسألة.
أما خلاصة الفصل المتعلق بجائزة نوبل الوارد في كتابي 'طهحسين.. قضايا ومواقف' هو أن احد أبناء مصر الذي غادرها منذ أواخر الخمسينيات منالقرن الماضي هو الذي ناضل باصرار وإيمان من اجل أن يرشح كاتبا عربيا لجائزة نوبل،وأول من رشح طه حسين سنة 1967 فعملت رياح السياسة ضده، فأعاد الكرة مرة ثانية مرشحانجيب محفوظ ليعلن للغرب انه ليس هناك طه حسين فقط يستحق جائزة نوبل.. فكان له ماعزم عليه ولكن ليس ببساطة اختصار هذه الفقرة الأخيرة.. وكان هذا الذي سميته 'الجنديالمجهول' الذي كان وراء جائزة نوبل للعرب، هو الدكتور عطية عامر رئيس قسم اللغةالعربية بجامعة استكهولم وصاحب عشرات الكتب في النقد والتحقيق والأدب المقارنباللغة العربية والسويدية والفرنسية...'(31).
إذ لا بد و أن يكون العربي ذلك الذي رشح نجيب محفوظ... الدكتور عطية عامر مثلا...رغم أن نجيب محفوظ نفسه لم يذكره و لم يشر إليه...!!!!
قمة الإيمان ب'السمو العربي'...و لو أنه الطرح المجرد من الأدلة و البراهين...
و لعل القبط كانوا أكثر موضوعية في الحكم عليه من بني جلدته العرب، إذ رغم فرحتهم بفوزه و إكبارهم له، إلا أنه وصفوه بما هي موجودة فيه من نعوت و صفات، و ذلك دون مواربة و لا تدليس و لا تنميق لواجهته التي تراد الصقيلة حتى ما تثير الشكوك...
ففي مقال بعنوان:' سيرة نجيب محفوظ – تاريخ اللبرالية العربية الموؤدة' بقلم حميد كشكولي المنشور بتاريخ 2 ـ 9 ـ 2007 في الموقع الإلكتروني 'منظمة أقباط الولايات المتحدة الأمريكية' ورد الآتي:
'...فمن مميزات الراحل العظيم التي تقربه ' أو أرى من المفروض أن تقربه' من الشيوعيين،وهي كثيرة، منها أن الإسلام السياسي والعروبة العنصرية قد فرزا نفسيهما عنه، عبرإدانة بعض كتاباته وخاصة رواية ' أولاد حارتنا'، وكذلك محاولة اغتياله الجبانة منقبل شاب إسلامي متطرف، ومقاطعته من قبل القوميين بعد تأييده لإبرام اتفاقية كامبديفيد، والصلح مع إسرائيل التطبيع الثقافي.
و من المميزات التقدميةوالإنسانية الأخرى لنجيب محفوظ هي أن آفاقه الفكرية أرحب من آفاق اليسار التقليديفي العالم العربي، وقد كان ينتقد كل الخرافات الدينية والقومية والوطنية السخيفة،فلم يتغن مثل بعض الكتاب السفهاء ' بعطور روث بلاده ' المنعشة، ولم يدع ُ الناس إلىتفضيل الفول الوطني الشريف على ' لماكدونالد الصليبي والغربي الفاسد'. و لم ينجروراء الشعارات القومية من قبيل 'تحرير القدس عبر طهران أو بغداد'، و 'قتل الأعداءوالغرباء والخونة'، ولم يطمع يوما في مكرمة رئيس أو فرعون، بل أن إبداعه أغناه عنكل قصور الفراعنة، و ذهب الرؤساء، وجاه الدنيا والسلطان...'(32).
إذ ذكروا انتقاده لكل 'الخرافات الدينية' كأحد مناقبه التي من أجلها يستحق التبجيل... كما هو الأمر بالنسبة لتنكره لمقومات الوطنية، و حتى لتلك القومية، و لكل الوشائج العقدية التي يمكن أن تجعله مهتما بما يقع في بلاد العرب و المسلمين...
و على صفحة من موقع 'مكتب برامج الإعلام الخارجي' وزارة الخارجية الأمريكية ـ النسخة العربية ـ نشر مقال بعنوان:' الكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ ـ سعى جاد للتوفيق والتفاهم بين الشرق والغرب' ل من لورين مونسن، المحررة في نشرة واشنطن ـ بتاريخ 21 يناير 2007 ـ (33)و قد كتبت فيه:
'... وقد اجتذبت محاضرة ألقيت أخيرا عن حياة محفوظ ونتاجه الأدبي جمهورا كبيرا غصّتبه القاعة الكبرى للبنك الدولي في واشنطن. وقد جرى تنظيم المحاضرة وما رافقها مننشاط تحت رعاية مؤسسة موزاييك، وهي مؤسسة خيرية تهدف إلى زيادة المعرفة بالتراثالأدبي العربي وفهمه وتقديره.
وتحدث عريف الحفل الذي أدار المحاضرة روني حماد، وهو من البنك الدولي، عنالمضامين الاجتماعية التي شكلت أدب محفوظ وأعماله، وتطرق في حديثه إلى المجتمعالعربي فقال 'إنه آخذ في التكيف مع قوى العولمة ويحاول التوفيق بين الثقافة الدينيةوالعلمانية والتنوع والديمقراطية. ..'(34).
فالسعي الحثيث نحو التوفيق بين الثقافة الدينية و بين العلمانية، أي تقزيم و الدين و تبني العلمانية من طرف المجتمع العربي هو ما أثار إعجابهم هم الأمريكيين، و كذا حاز اهتمام و إعجاب مقدم المحاضرة المسيحي روني حماد...و كأن هذا ممكن !!و كأن العلمانية ليست سلخ الدين من كل مناحي الحياة غير ما يتم منه داخل أسوار أماكن العبادة من طقوس...و إذا اختزلنا الدين في هذا أو يمكن أن نطلق عليه اسم الدين أصلا؟؟؟
و تتابع 'من لورين مونسن في المقال:
'...وقال المحاضر الرئيسي روجر ألن، أستاذ اللغة العربية والأدب المقارن في جامعةبنسلفانيا، إن محفوظ دمج بين تقاليد العالم العربي وعاداته وبين تلك التي للغرب. و وصف ألن صديقه محفوظ الذي حافظ على صداقته 39 عاما بأنه كان 'بيروقراطيا منظماجدا. فقد احتفظ بملف عن كل شخصية كتب عنها لكي يعود إليها في أعماله القديمة' ويقدمها بصورتها الصحيحة في أعماله اللاحقة. ..'(35).
فهذا الأمريكي الصديق لنجيب محفوظ منذ 39 عاما مدحه بكونه دمج بين 'تقاليد' العالم العربي و عاداته و بين تلك للغرب...و كأن اقتباس مقومات الآخر و خلطها مع تلك للذات محمدة و شيمة تحسب للمبدع الأديب...و كأن الذوبان في الغير مع التأكد من حماية ذلك الآخر لنفسه من كل ما يمكن أن يشوبه من مؤثرات ليس من قبيل السذاجة و التفاهة و حتى الحمق...
ثم و يظهر المقال أيضا كيف أصبح الشك من مناقب نجيب محفوظ، بل ولعله هو الذي رفعه في عين المحاضر المتحدث باسم الفكر الأمريكي...و لعل التوفيق بين الشك و الإيمان هي من'الإنجازات' الخارقة للعادة المستحيلة حتى، و التي حققها أيضا بنبوغه المتألق ذلك الأديب المصطفى المختار، الشيء الذي أهله لنيل المباركة و التبجيل منهم:
'...و أضاف 'ألن' أنه لعل ما كان أكثر أهمية هو 'أنه (محفوظ) كان ذا حس إنساني عميقنتيجة دراسته الإنسانية. و كان شكاكا لكنه كان مؤمنا مخلصا حاول التوفيق بينالمعتقدات الدينية التقليدية وفكر القرن العشرين وواقعيته. وكان فكاهيا عظيما' صاحبظرف وفكاهة...'(36).
ثم و يبدو أنها التقية مارسها نجيب محفوظ بمباركة عرَّابِيه حين التعبير عن أفكاره 'النيرة' ذات العمق الغربي في لجة ظلام الشرق الأوسط المتخلف:
'...و قال ألن، كان محفوظ إلى جانب ذلك كله مهتما اهتماما شديدا بالسياسة 'وعبّر فيبعض كتبه ورواياته عن آراء سياسية، وأن لم تكن أفضل ما عنده.' فقد عمد محفوظ بسببالرقابة المنتشرة في مصر إلى التعبير عن أفكاره بشكل رمزي، وهو أسلوب انتهجه الكتابومنتجو الأفلام السينمائية في كثير من أرجاء العالم الإسلامي. ..'(37).
و في المقال أيضا ما يبين بأن صانعيه يصفونه بصدق....و يضفون عليه من النعوت ما يفيد بأنه مثال التلميذ الطيع المنقاد لأسياده المنفذ للتعاليم و للتوصيات، و لذلك جوزي أحسن الجزاء:
'...وعثر محفوظ في شبابه على قائمة طويلة من الكتب والروايات الأوروبية الهامة وقرأمعظمها. و قال ألن إن محفوظ 'درس بشكل منهجي شامل كل كتاب قرأه ونقب باحثا عنأساليبه ولغته' ثم قرر بعد ذلك أن يكتب روايات معاصرة'، وعمل بقراره ذاك على 'تغييرمجرى الأدب العربي.' ..'(38).
و دائما هو نفس الإعجاب بالقدرة من الأديب المتوج على إنكار ذاته و سلخها من جلدها الحقيقي ثم و إلباسها لبوس الآخر:
'... وتساءلبعض المثقفين ممن يجيدون العربية عما إذا كان محفوظ قد كتب مقلدا الروايات الغربية،لكن الإجماع يرى أن تبنيه الأساليب والأدوات الأدبية الغربية في خدمة رواية مصريةمحضة إنما يدل على رغبة في دمج ولحمة العناصر الشرقية والغربية...
و وصف ألن الأديب المصري محفوظ بأنه 'كان رجلا امتد متخطيا الحدود بين التقليديةوالحداثة...'(39).
إعجاب يبدو مبررا، إذ أنتجه في نفوس المعجبين إعجابه هو أولا حد الوله بالحضارة الغربية، تلك التي أغناه بريقها المشع الذي سلط عليه منذ شبابه عن كل نور يمكن أن يأتيه من أي جانب أو مصدر:
'...و قال ألن في رده على أحد الأسئلة إنه متفق مع القائلين بأن محفوظ 'كان معجبا جدابالحضارة الغربية' وقال إنه وصفها في وقت من الأوقات بأنها الحضارة 'الوحيدةالقادرة على البقاء لأنها تضم تأثيرات من كثيرات غيرها وتجسدها' (40).
و هكذا و بعد هذا العرض حول ذلك الأديب الذي 'تُوجنا' بتتويجه و انتشينا بذلك حتى النخاع، يبدو و كأن التروي و التأني قبل الحكم على أي فعل تجاهنا يجب أن يكون المستحضر و المستدام العمل على تفعيله، و ذلك قبل الاندلاق على عتبات الفاعل شاكرين ممتنين مبايعين على الطاعة و على حفظ الدرس و تطبيق توصياته...
ثم و يبدو و كأن التتبع للمسارات الثقافية و الفكرية و الأدبية لدينا و للانتاجات و الإبداعات النابعة منها لا بد و أن يكون الإلزامي، و ذلك حتى يتحرر ذلك المسار من كل المؤثرات الدخيلة التي يمكن أن تجعله الهجين المدنس بالشوائب، و حتى تفقده الاستقامة المطلوبة وفق معايير الهوية و مقتضياتها.
************ ********* ********* ********* ********* ****
الهوامش
1 ـ مجلة العربي ـ العدد 577 ـ ديسمبر 2006 ـ ص:92.
2 ـ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا
[ للتسجيل اضغط هنا ]
3 ـ دينس جونسون ديفز ـ 'ذكريات في الترجمة' ـ تقديم نجيب محفوظ ـ ترجمة كامل يوسف حسين ـ اليربوع للطباعة والنشر والتوزيع ـ دبيّ ـ 2007.
4 ـ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
5 ـ 10 ـ المرجع نفسه.
11 ـ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
12 ـ دينس جونسون ديفز ـ 'ذكريات في الترجمة' (باللغة الإنجليزية) ـ مطبعة الجامعة الأمريكية ـ القاهرة ـ 2006.
13 ـ المرجع نفسه.
14 ـ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا
[ للتسجيل اضغط هنا ]
15 ـ 16 ـ المرجع نفسه.
17 ـ دينس جونسون ديفز ـ 'ذكريات في الترجمة' ـ تقديم نجيب محفوظ ـ ترجمة كامل يوسف حسين ـ اليربوع للطباعة والنشر والتوزيع ـ دبيّ ـ 2007.
18 ـ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
19 ـ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]. com/issue/ page.php? IN=12424&P=8
20 ـ 26 ـ المرجع نفسه.
27 ـ 31 ـ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
32 ـ http://www.copts. com/arabic/ index.php? option=com_ content&task=view&id=1266&Itemid=28
33 ـ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]. state.gov/ xarchives/ display.html? p=washfile- arabic&y=2007&m=January&x=20070121152923lia meruoy0.3965069
34 ـ 40 ـ المرجع نفسه.