قاص وأديب
|
بيوت غزّيّة ـــ د.حسن حميد
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:100%;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]
البيت الأول:
جدران, ونوافذ, وأبواب, وسقف, وقطعة لباد, ومشاتل حبق ونعناع, وأبوان, وثمانية أولاد, ومذياع, وتلفاز, وكتب مدرسية, وبطانيات, وفرش, وخريطة فلسطين منسوجة بالخيطان على رقعة خيش, سبحات معلقة على مسمار في الجدار, صورة لرجل شيخ (بالأبيض والأسود), القرآن الكريم في حقيبة بيضاء مثل الثلج تعلو النافذة الخشبية, دالية في إهاب التبرعم, مدفأة تلملم نارها بالكفين, كلام,و نداءات, وأسئلة, أرواح تجري هنا وهناك, صخب الأطفال ومشاداتهم, وصوت الأم المتهدج يرجو الهدوء.....
فجأة, كتلة حديد, وهجة نار, تنقض على السقف فيتهاوى بعنف وارتجاج مذهلين, تميل الجدران, تتداخل, تصير قطعة اللباد رداءً يقطر دماً لأطفال ثمانية وأبوين, وكتب مدرسية, وبطانيات, وفرش, وخريطة فلسطين, وسبحات ملونة, وقرآن كريم, ودالية مبرعمة, ومدفأة لا نار فيها, وتلفاز أخرس... وبيت لم يعد بيتاً لولا صوت مغنية يصدر عن مذياع بني اللون, يصرخ «نرفض نحن نموت».
البيت الثاني:
مساحة واسعة, جدران متآخية, شجيرات زيتون وليمون وكرمى... وخلقٌ من البشر, أطفال, وصبايا, وشبان, ونساء, وشيوخ يتوافدون.. فيحتشدون تباعاً داخل المساحة الواسعة, وجنود سمان ثقال يرتدون الحديد والكاكي... ينهرون, ويصرخون, وقد لفّهم الاضطراب, يأمرون الخلق المحتشدين بالوقوف قرب الجدار الطويل... ثم وحين يستقيم المشهد لهم... يطلقون الرصاص بجنون وعصبية, وهم يتقافزون لكأن الرصاص يصيبهم هم أنفسهم, والأجساد, أمامهم, تتلوى, وتنحني, ثم تتهاوى, فيلوذ بعضها ببعضها الآخر قرب الجدار الطويل : رصاص صخّاب, وأصوات راطنة يحمس بعضُها بعضَها الآخر من أجل المزيد من القتل, ودمٌ يسحّ من تحت الأجساد المتعانقة, يجري مثل السواقي... خطا الجنود, وأحذيتهم الوالغة بالدم تنسحب بعيداً, وقد انطفأت الحركة, وتلاشت التأوهات, والأنّات وهمهمات الأطفال التي تنادي الأمهات اللواتي احتضن الصغار الصغار, عيون مفتوحة مثل إيقونات الكنائس, ورؤوس مشقوقة مثل الأرغفة, وصدور تفور بدمها مثل النوافير, وأرض تسابق نفسها لاهثة كي تمتص الدم, كي لا تبدو الفاجعة أكثر...
و ركام عجيب يغطي الأجساد, وفي المقدمة يد طفلة ترتدي معطفاً زهري اللون... متدلية مثل شريطة حرير علقت برسغها ساعةٌ خمريةُ اللون... عقاربها تدور, وفي داخلها ديك له عرف فجري اللون يهتز وينتفض... لكأنه يوشك على الصياح.
البيت الثالث:
واجهة حجرية, وسقف توتياء, وشجرة كينا عالية, وحطام كثير, ونافذة غادرت حائطها عنوة, فتدلت نحو دالية العنب المعرّشة, وابريق تنكي مال على جنبه بعدما ديس, ودمية بلاستيكية مقطعة, وملابس مدرسية, وأقساط, ومناديل, ومرآة مكسورة, وحقيبة نسائية محترقة, وجرة ماء متشظية, وشجرة رمان دائرية الشكل دلت أغصانها قليلاً نحو الأرض كي ترتشف الدم الجاري... وكي تلجأ إليها بضعة طيور من الدجاج والبط, وكلب صغير تبقّع لونه الأبيض بالدم, وثلاثة أرانب سود, وقطة قمرية اللون, وفي الطرف الداني يبدو قميص أبيض ممسوك من طرفه بحجرين أسودين, كُتب عليه بالدم: انتقل أهل هذا البيت إلى المشفى منذ دقائق, ومن هناك انتقلوا إلى المقبرة.. المعذرة, لا يوجد أحد!.
البيت الرابع:
عجوز فرعاء وسط غبار ينبعث عالياً, أجاعيدها هي كل وجهها, تبدو كأنها حاطبة الزمن... تقف في صدر كومة من حجارةٍ ورقاقةِ باطون مستطيلة, وحيطان متهدلة مثل قبة قميص... كانت قبل قليل تشكل البيت البادي في الصورة التي تحملها العجوز بيدها وتلوح بها, وصوتها المخنوق يهمهم: راح الولد, وراح البيت... وتدفع الصورة إلى الضوء بعيداً عن الغبار... فيبدو شاب طويل عريض يتصدر واجهة البيت المضاءة, لكأن البيت يشير إلى الشاب الذي كان, ولكأن الشاب يشير إلى البيت الذي كان أيضاً... والعجوز تحاول الصعود جاهدة نحو أعلى الكومة... وصوتها يتلوى بين سحب الغبار... شجياً:
ع الندى يا بيضا
شوفيلي حالك..
ع الندى يا بيضا
حالي من حالك...
ع الندى يا بيضا...
البيت الخامس:
حبل غسيل طويل مثقل بالثياب البالية الساكنة... وأحذية مغموسة بالدم مبعثرة هنا وهناك لكأنها كانت في طراد... وكلب يدور حول نفسه وينبح نباحاً ليس هو كالنباح... ودم يقطر من آخر ظهره, إنه يدور مثل مروحة كي يصل خطمه إلى جرحه, ولكن هيهات!!...
ثياب بليلة بالحزن, مشدودة إلى الحبل... مثل شاهدة قبر... فوق جرف انهدامي, غار فيه البيت, والأولاد, والأبوان, والجدة... وإلى جواره شارة سوداء كتب عليها بالدهان الأبيض:
الأب: محمد الداهش: لن يذهب إلى عمله في الميناء
الأم زينب العطية: لن تذهب إلى السوق بعد الآن
الأولاد الذكور والإناث: علي, وسامي, وحسين, وحسن, ومحمد, وفاطمة, وسمية, وآمنة لن يذهبوا إلى المدرسة ثانية لأنهم أخذوا الشهادة قبل قليل.
ملاحظة: الجرف الانهدامي من هندسة الـ f16.
البيت السادس:
قبة وسيعة ملوّنة يعلوها هلال نحاسي كبير تدحرجت على الأرض مثل كرة ثقيلة, ثم استقرت إلى جوار شجيرات الزيزفون المحاذية لساقية الماء الناحلة... قربها اثنان, شيخ قصير أشيب يرفع صوته مؤذناً الله أكبر الله أكبر... وشيخ قصير أشيب أيضاً... يحاول شد طرف سجادة بدت ألوانها المتداخلة... ولكن هيهات فالركام المتعاظم في علوه وامتداده يحول دون سحبها... يحاول مرة ثم مرة... ولكن السجادة لا تطاوعه, والركام لا ينفك عنها... فيجالسها, وقد نظّف طرفها... ثم ينحني عليها ويقبّلها...
البيت السابع:
جرس فضي كبير واسع يكاد يضيء, وحبال غليظة مبرومة مشدودة إليه ربطاً, ودمارٌ هائل يبدي ما تحته من خشب صقيل عسلي اللون, وإيقونات سحّت ألوانها, وشموع مطفأة.. وثياب القساوسة السود ابتلت بالدم...
هنا.. وفي المقدمة تماماً , راهبة تنحني على صليب ذهبي اللون... رهّاج, ويدها... تجول في صدرها مثل بندول الساعة وصوتها الراجف يبحّ راجياً:
أبانا الذي في السماء....
[/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|