[محمد توفيق الصواف]

قراءة في مسرحية
(ملك مغربي) لـ (جبرائيل بن سمحون)
محمد توفيق الصواف
فَتَحَ كتب دينهم، وبعد أن قرأها بإمعان، أخرج منها زيَّ المسـيح اليهودي المنتظر (الماشيح) وملامحَه، فارتدى الزي، ورسم الملامح على وجهه قناعا، ثم أتاهم، في غفلة وعي، زاعما لهم أنه هو (الماشيح) المنتظر، وأنه قد بُعث في زمانهم، ليقودهم إلى فلسطين، حيث سيؤسس بهم وبمن سـبقوهم إليها من يهود العالم، جنة اليهود على الأرض!!!
في البداية، تردد كثيرون منهم في تصديقه، وخصوصا الأمهات اللواتي كن يعتقدن أن (الماشيح) سيكون أحد أبنائهن.. لكنه، وبفن الخداع الذي برع فيه، أقنعهم ببيع ممتلكاتهم، وبحزم أمتعتهم، ثم الجري وراء سراب وعده لهم.. ذلك الوعد الذي زرعه في وجدانهم وعقولهم وهماً يقول: إنهم باتباعه، سيدخلون الجنة التي حكت لهم عنها كتبهم الدينية.
ولما كانت الفكرة اليهودية الشائعة بين كثير من يهود البلدان العربية، ولا سيما يهود المغرب، تقول: " إن اليهود سيهاجرون إلى الأرض المقدسة على متن السحاب الذي سيقلهم إليها، بمعجزة (الماشيح)، فقد صعدوا جميعا إلى أسطح منازلهم، ومعهم أمتعتهم وأموالهم، وانتظروا السحاب الذي سيمتطون صهوته… ولم يطل انتظارهم كثيرا، إذ كان الذي خدعهم قد أعدَّ كلَّ ما يلزم لنجاح خطته، ومن بين ما أعدَّه سـحابةً سوداءَ كبيرة من الكذب، أرسلها قريبا منهم، ثم دعاهم إلى امتطاء صهوتها مع ما يحملون، ولما أجابوه إلى طلبه فرحين، سقطوا جميعا من فوق تلك الأسطح، ولقوا مصرعهم.!
هذه خلاصة مكثفة جدا، لمضمون مسرحية بعنوان (ملك مغربي = ميلخ موركائي)، التي كتبها، في تسعينات القرن العشرين، البروفيسـور (جبرائيل بن سمحون)/أستاذ الأدب في جامعة تل أبيب، مستمدا شخصياتها وأحداثها ورموزها من الحكايا اليهودية التي كانت شـائعة بين يهود المغرب قبل تهجيرهم إلى فلسطين؛ وذلك لينتقد، من خلال تلك الرموز الواقعَ السيئ الذي يعيشه اليهود الشرقيون عموما، في إسرائيل، بعد هجرتهم إليها، واقع التمييز العنصري والخواء الروحي والحضاري.. ثم ليشير في نهاية تلك المسرحية، وبشكل رمزي، إلى النهاية المأساوية التي انتهت إليها هجرة اليهود الشرقيين إلى فلسطين.. فالسقوط الجماعي الذي أودى بحياتهم في نهاية المسرحية أراد مؤلفها أن يقول من خلاله: إن هجرة يهود البلدان العربية والإسـلامية إلى فلسطين، جريا وراء سراب الدعاية الصهيونية التي ضللتهم وخدعتهم، كانت ـ أي هذه الهجرة ـ أشبه بانتحار جماعي لأولئك اليهود، ليس على المستوى المادي فقط، بل على المستويين النفسي والإنساني أيضا …
في حوار أجرته معه صحيفة هآرتس الإسرائيلية، بعد نشر المسرحية، قال بن سمحون الذي هاجر مع أسرته من المغرب إلى فلسطين، وهو في التاسعة من عمره:
" في سنوات الخمسينات والستينات من هذا القرن، شاعت بين اليهود المغاربة بشكل خاص، واليهود الشـرقيين، في إسرائيل، بشكل عام، نكتة تقول: (سئل طفل من اليهود الشـرقيين، ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر، فـأجاب: أريد أن أصبح يهوديا غربيا). " ويضيف بن سمحون موضحا: "كانت تلك النكتة تعبيرا عن مدى القهر الحضاري والمادي والنفسـي الذي كنا نعاني منه نحن اليهود الشرقيين، في إسرائيل، ولكن هذه النكتة تحولت اليوم إلى أمنية حقيقية تسعى أجيالنا الجديدة إلى تحقيقها واقعا.".
ويستطرد البروفيسور بن سمحون قائلا:
" في معظم البلدان العربية، والمغرب من بينها، كانت كل أم يهودية تعتقد أن المسيح اليهودي المنتظر قد يكون واحدا من أبنائها، طبقا للمعتقد الأسطوري الذي كان شائعا بين يهود تلك البلدان؛ وحين هاجرت تلك الأمهات إلى إسرائيل، فوجئن بأن عليهن تجرع اعتقاد آخر فرضه اليهود الغربيون فيها على يهودها الشرقيين، وهذا الاعتقاد يقول: إنكم أيها اليهود الشرقيون من جنس أدنى.. وهكذا، كان علينا أن ننزل من سماء الكرامة والمساواة التي كنا نتمتع بها في الدول العربية، إلى حضيض المهانة والذل في إسرائيل/ مملكة التمييز العنصري بين اليهود الغربيين والشرقيين … ".
هذه هي إسرائيل، كما يصورها أحد سكانها اليهود.. إسرائيل التي لا تكفُّ عن النفخ، في بوق إعلامها، بين كل فترة وأخرى، زاعمة أن من تبقى مـن اليهود في البلدان العربية يعيشون أوضاعا سيئة، ويُعَامَلُون من قبل سلطات تلك البلدان، معاملة أدنى من باقي مواطنيها غير اليهود..
ولأسباب دعائية محض، وبهدف تشويه صورة العرب في العالم، تصرخ تلك الأبواق الإعلامية طالبة من الحكومات العربية السماح لمن بقي من اليهود في بلدانهم، بالهجرة إلى إسرائيل.. ولماذا؟ ليدخلوا جنة المساواة والحرية التي تزعم إسرائيل أن يهودها يتقلبون فيها، على اختلاف جنسياتهم!!!
وفي بعض أوساط اليهود الذين مازالوا يعيشون في مجتمعاتنا العربية، ثمة من انطلت عليه أكاذيب أجهزة الإعلام الإسرائيلية، حول وَهْمِ المساواة بين اليهود في إسـرائيل، وتَعَرُّضِ من بقي منهم في البلدان العربية للظلم.. ولتبديد الوهم بالحقيقة ما أمكن، وتبديد الكذب بمعطيات الواقع الملموسة، تم الرجوع إلى مسرحية بن سمحون، وإلى ما قاله في المقابلة التي أجريت معه عقب ظهورها.. وذلك على خلفية القناعة بأن من الأفضل دائما، الوصول إلى الحقيقة من فم الذين وقعوا ضحية الكذب، ثم كشفوه بأنفسهم، بعد فوات الأوان. فالبروفيسور بن سمحون وأسرته من بين ضحايا الكذب الصهيوني الذين جروا وراء سراب دعايته المضللة.. تلك الدعاية التي أوهمتهم بأن هجرتهم إلى فلسطين تعني دخولهم جنة اليهود على الأرض، ولم يكتشفوا أنهم خُدعوا، وبقسـوة وخسة، إلا بعد أن وصلوا إلى تلك الأرض، ليجدوا أن الجنة التي وعدتهم الصهيونية بها، لم تكن في الواقع إلا جهنم التمييز العنصري التي مازالوا يتلظون في نارها، منذ لحظة وصولهم إلى اليوم..